وقفات مع سورة الأنفال

 بقلم الأستاذة سهى عرابي

 

توقفنا مع غزوة بدر وذكرنا أهمية الوفاء والولاء للدولة الإسلامية واحترام قوانين الحرب والسلم لديها ومعنى الهدنة وشرط الوفاء والالتزام به .

ذكرنا قصة فيها من المعاني العظيمة التي تجعل دين الإسلام ينظر للمرء المسلم وما قدم من تضحيات قبل الهجرة 

وتضحيات الصحابة في بدر وكيف كان الرسول عليه الصلاة والسلام يأخذها بعين الاحترام والرحمة 

وتعلمنا كيفية فهم الدوافع وراء حادثة بعينها وعدم الحكم على الشخص عند أول أساءة 

إنها قصة حاطب 

اطَّلعنا في سيرة رسول الله صلى الله عليه وسلم على أمورٍ عجاب، قلَّ أن يجود الزمان بمثلها! فها هو موقف لرجل أفشى سرًّا عسكريًّا خطيرًا للدولة الإسلامية، كان من الممكن أن يكون له أشدُّ الأثر على أمنها واستقرارها!

إنه موقف حاطب بن أبي بلتعة رضي الله عنه الذي أرسل رسالة إلى مشركي مكة يُخبرهم فيها أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قد جهَّز جيشًا لفتحها، مخالفًا بذلك أوامر القائد الأعلى للمسلمين رسول الله صلى الله عليه وسلم، ومُعرِّضًا جيش المسلمين لخطر عظيم!

كيف يكون ردُّ الفعل المناسب في أية دولة في العالم؟!

إن القتل هنا عقاب مقبول جدًّا مهما كانت ملابسات الحدث.. وهذا ما رأينا بعض الصحابة يقترحه.. لكن ماذا فعل رسول الله صلى الله عليه وسلم؟!

إنه بعد أن أمسك بالخطاب الخطير، وعلم ما فيه أرسل إلى حاطب رضي الله عنه، وسأله في هدوء: «‏يَا ‏حَاطِبُ،‏ ‏مَا هَذَا؟» قَالَ حَاطِبُ: يَا رَسُولَ اللهِ؛ لَا تَعْجَلْ عَلَيَّ، إِنِّي كُنْتُ امْرَأً ‏مُلْصَقًا فِي ‏قُرَيْشٍ، ‏‏وَلَمْ أَكُنْ مِنْ أَنْفُسِهَا، وَكَانَ مَنْ مَعَكَ مِنَ ‏ ‏المُهَاجِرِينَ ‏لَهُمْ قَرَابَاتٌ‏ ‏بِمَكَّةَ ‏يَحْمُونَ بِهَا أَهْلِيهِمْ وَأَمْوَالَهُمْ؛ فَأَحْبَبْتُ إِذْ فَاتَنِي ذَلِكَ مِنَ النَّسَبِ فِيهِمْ أَنْ أَتَّخِذَ عِنْدَهُمْ يَدًا يَحْمُونَ بِهَا قَرَابَتِي، وَمَا فَعَلْتُ كُفْرًا وَلَا ارْتِدَادًا وَلَا رِضًا بِالْكُفْرِ بَعْدَ الْإِسْلَامِ. فَقَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم‏: ‏«لَقَدْ صَدَقَكُمْ». قَالَ‏ ‏عُمَرُ: ‏‏يَا رَسُولَ اللهِ؛ دَعْنِي أَضْرِبْ عُنُقَ هَذَا المُنَافِقِ. 

قالَ: «إِنَّهُ قَدْ شَهِدَ‏ بَدْرًا؛ ‏وَمَا يُدْرِيكَ لَعَلَّ اللهَ أَنْ يَكُونَ قَدِ اطَّلَعَ عَلَى أَهْلِ بَدْرٍ ‏ ‏فَقَالَ: اعْمَلُوا مَا شئتُمْ فَقَدْ غَفَرْتُ لَكُمْ» ].

إن المبرر الذي ذكره حاطب قد لا يقبله الكثيرون، بل إن عمر بن الخطاب رضي الله عنه وكلنا يعلم ورعه وفطنته وعدله لم يقبله، ورأى أن يُقتَل بهذا الجُرم، فكيف يسوغ أن يحاول حماية أهله على حساب جيش كامل، ثم كيف يعصي أمرًا مباشرًا لرسول الله صلى الله عليه وسلم؟!

ومع كل هذا إلاَّ أن رسول الله صلى الله عليه وسلم رحمه رحمة واسعة، وقَبِلَ منه عذره في صفح عجيب، وعفو نادر، وقدَّر موقفه، وعذره، ولم يُوَجِّه له كلمة لوم أو عتاب، بل إنه رفع من قدره، وعظَّم مكانته، وقال لعمر وعمر يعلم ذلك: «إِنَّهُ قَدْ شَهِدَ‏ بَدْرًا؛ ‏وَمَا يُدْرِيكَ لَعَلَّ اللهَ أَنْ يَكُونَ قَدِ اطَّلَعَ عَلَى أَهْلِ بَدْرٍ ‏فَقَالَ: اعْمَلُوا مَا شئتُمْ فَقَدْ غَفَرْتُ لَكُمْ!!»

إن العدل شيءٌ، والرحمة شيء آخر..

إن العدل قد يقتضي أن يُعَاقَب حاطب بن أبي بلتعة

 بصورة أو بأخرى، ولكنَّ الرحمة تقتضي النظر إلى الأمر بصورة أشمل، فنرى مَن الذي فعل الفعل، وما تاريخه، وما سوابقه المماثلة، وما أعماله السالفة، وهل هو من أهل الخير أم من أهل الشرِّ، وما الملابسات والخلفيات لهذا الحدث..

إن العلاج العاقل يقتضي كظم الغيظ، والتدبُّر في رويَّة وهدوء..

إن الرحمة تقتضي عدم الانسياق وراء عاطفة العقاب، وتلتزم بالبحث الحثيث عن وسيلة تُخرج صاحب الأزمة من أزمته..

العدل درجة عظيمة.. 

ولكن الرحمة أعظم!!

الفرق بين الاثنين تلحظه في قول الله تعالى:

 {وَلَوْ يُؤَاخِذُ اللهُ النَّاسَ بِمَا كَسَبُوا مَا تَرَكَ عَلَى ظَهْرِهَا مِنْ دَابَّةٍ} [فاطر:45]. 

فمن العدل أن يأخذ الله عباده بذنوبهم، ومن الرحمة أن يؤخِّرهم إلى أجل مسمى..

تلحظ الفرق بين الاثنين في قوله تعالى أيضًا: {وَمَا أَصَابَكُمْ مِنْ مُصِيبَةٍ فَبِمَا كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ وَيَعْفُو عَنْ كَثِيرٍ} [الشورى:30]، 

فمن العدل أن يصيب اللهُ الناسَ بعقابه على كل خطأ يكسبونه، ومن الرحمة أن يعفو عن كثير..

وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم يتَّخذ هذا النهج طريقة ثابتة في حياته.. لقد كان مطبِّقًا لأخلاق القرآن وأوامره دون تفريط ولا تضييع.. فقد كان تمامًا كما وصفته عائشة أم المؤمنين ل عندما سُئِلَتْ عن خُلُق رسول الله صلى الله عليه وسلم فقالت: 

«كان خُلُقه القرآن، أما تقرأ القرآن قول الله تعالى: 

{وَإِنَّكَ لَعَلَى خُلُقٍ عَظِيمٍ} [القلم:4]» .

القصة التي لدينا أوجدت كثيرا من التأملات والتساؤلات التي طرحت في الدرس ..

فهل هذا الحكم خاص بوجود رسول ام لا ؟

أم أن القاضي ينظر في الدافع للخيانة وبناء عليه يطلق الحكم ؟ 

في قصة حاطب رضي الله عنه و ما فعله ،وهو موالاة الكافرين على المؤمنين ، ومع هذا لم يكفره النبي صلى الله عليه وسلم ، بل أعذره بالتأويل .

بينما عمر – رضي الله عنه – كفّر حاطباً – رضي الله عنه – 

لما رآه من كفر صدر منه ، وهو التجسس ونقل أخبار المسلمين لصالح المشركين ، فرماه بالنفاق والخيانة والكفر .. وأوشك على ضرب عنقه .. وهذا تكفير صريح منه له .

 حاطب – رضي الله عنه – ظن أن هذا الفعل لن يضر المسلمين ، بل يمكن به أن يخادع الكافرين فيظنوا أنه يراعي مصلحتهم ، فيستبشروا ويحموا أهله في مكة .. دون أن يساعدهم هذا الفعل في شيء .. فقد كان ذاهلاً عن أمور أخرى لم تتبين له حينها .

الرسول صلى الله عليه وسلم بعدما سمع كلام حاطب ، صدّقه وقال : “صدق ، ولا تقولوا له إلا خيراً ” .. 

وهذا من الغيب الذي لا يمكن لبشر أن يعلمه دون وحي من الله .. فكيف علم أنه قد صدق وهو أمر مختص بالنوايا مكنون في ثنايا القلوب ؟؟ ..

 لا بد أن الله – عز وجل – أعلمه بذلك ..

ويصدّق هذا الفهم قول عمر – رضي الله عنه – كما صح عنه في البخاري : ” إن أناساً كانوا يؤخذون بالوحي في عهد رسول الله – صلى الله عليه وسلم -. وإن الوحي قد انقطع ، وإنما نأخذكم الآن بما ظهر لنا من أعمالكم ، فمن أظهر لنا خيرا أمناه وقربناه ، وليس إلينا من سريرته شيء ، الله يحاسبه في سريرته ، ومن أظهر لنا سوءاً لم نأمنه ولم نصدقه ، وإن قال : إن سريرته حسنة ” .

فحاطب رضي الله عنه كان من الذين أخذوا بالوحي فأعذروا ..

الرسول – صلى الله عليه وسلم – لم ينكر على عمر – رضي الله عنه – تكفيره لحاطب ، ولم يقل له إن ما فعله حاطب لم يكن كفراً ، بمعنى آخر ، لم يصحح اعتقاد عمر – رضي الله عنه – في هذه المسألة .. والأهم في هذه النقطة هو .. أن الرسول صلى الله عليه وسلم لم يتعلل لحاطب بإسلامه .. فلم يقل : إن حاطب مسلم ، لا يصح لك تكفيره .. 

ولم يتعلل له إلا بعلة خاصة وهي شهوده بدراً ، وأن الله عز وجل علم منهم أنهم لا يكفرون به حقيقة ..

فدل ذلك على أن هذه العلة (البدرية) لو انتفت في حق غيره ، لنال من حكم التكفير والقتل ما كان حاطب – رضي الله عنه – ليناله لولا وجود الرسول – صلى الله عليه وسلم – .

قال ابن القيم – رحمه الله – : ” واستدل به من يرى قتله ، كمالك وابن عقيل من أصحاب أحمد وغيرهما ، قالوا : لأنّه علل بعلة مانعة من القتل ، منتفية في غيره ، ولو كان الإسلام مانعاً من قتله لم يعلل بأخص منه ، لأن الحكم إذا علل بالأعم كان الأخص عديم التأثير ، وهذا أقوى ، والله أعلم ” .

فلو كانت القضية أن تكفير المسلم بهذا الفعل لا يجوز .. لاستدل الرسول – صلى الله عليه وسلم – بإسلام حاطب ، حتى يكون هذا حكماً عاماً في أمته ، والاستدلال العام أقوى من الاستدلال الخاص (البدرية) .. فعلم حينها أنه من انتفى في حقه البدرية ، وقع عليه حكم الكفر والقتل .. والله أعلم

إن الإسلام أمرنا بمؤاخذة الناس بالظاهر ..

 وأمرهم بعد ذلك إلى الله .. ولم يأمرنا أن نشق عن قلوب الناس .

فعليه نحكم على من رأينا منه كفراً بواحاً بالكفر .. دون النظر في نيته أو تأويله الباطن .. فهذا يحكم الله فيه ، ومرده إليه .

والكفر البواح هو ما اتفقت الأمة على كونه كفراً في أصل الدين ، الذي هو التوحيد .. أما ما كان في غير ذلك ، فليس لأحد أن يكفر أحداً دون إقامة الحجة وبيان الحق للواقع في هذا الكفر .

وهنا أمر هام يجب الالتفات إليه ..

من حكمنا عليه بالكفر يمكن أن يكون في باطنه مؤمناً ، إن كان لديه عذر لا نعلمه لكن الله يعلمه .

روى ابن إسحاق وغيره عن يزيد بن رومان ، عن عروة وعن الزهري ، عن جماعة سماهم قالوا : بعثت لنا قريش إلى رسول الله – صلى الله عليه وسلم – في فداء أسراهم ، ففدى كل قوم أسيرهم بما رضوا ، وقال العباس – وكان خرج مكرهاً مع المشركين في بدر – : يا رسول الله ، قد كنت مسلماً . فقال رسول الله – صلى الله عليه وسلم – : الله أعلم بإسلامك ، فإن يكن كما تقول ، فإن الله يجزيك ، وأما ظاهرك فقد كان علينا ، فافتد نفسك وابني أخيك .

فلم يقل له النبي – صلى الله عليه وسلم – أنه لا يمكن أن يكون فيك إسلام .. أو أن الله لا يقبل منك .. بل قال له : “الله أعلم بإسلامك ، فإن يكن كما تقول ، فإن الله يجزيك”.. 

لم ينف الرسول صلى الله عليه وسلم أن يكون حقاً معذوراً عند الله ..

 لكنه في أحكام الظاهر هو غير معذور ، لأننا لا نعلم ما في قلبه .. لذلك قال النبي صلى الله عليه وسلم :

 “وأما ظاهرك فقد كان علينا” .. أي كنت متولياً للمشركين علينا .. فحكمك حكمهم .

فعندما نحكم على فلان بالكفر لأمور ظاهرة الكفر ، فلا يعني هذا ضرورة أنه كافر باطناً .. فنكل أمره إلى الله تعالى .

هذه هي القاعدة .. وهذا ما يفهم كذلك من قصة حاطب رضي الله عنه .

* وقفات مع الأنفال ٦ وقوانين النصر 

(وَإِنْ جَنَحُوا لِلسَّلْمِ فَاجْنَحْ لَهَا وَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ ۚ إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ)[سورة اﻷنفال 61]

(وَإِنْ يُرِيدُوا أَنْ يَخْدَعُوكَ فَإِنَّ حَسْبَكَ اللَّهُ ۚ هُوَ الَّذِي أَيَّدَكَ بِنَصْرِهِ وَبِالْمُؤْمِنِينَ) [سورة اﻷنفال 62]

وَإِنْ يُرِيدُوا أَنْ يَخْدَعُوكَ بطلبهم للسلام ، هم يطلبون السلام لمباغتك وهو أمر تكرهه ، فالله سبحانه يحذر نبيّه ويحميه ، 

 الحسب الكفاية ، فهو سبحانه الحسيب هو الكافي ، فالله هو الكافي مهما كان خداعهم ، ومكرهم و خيانتهم .

ثم يذكره بالنعمة والمنة التي هم بصددها فهو سبحانه من نصرهم ببدر . وألف بين قلوب الأنصار والمهاجرين ، بالإيمان وأخوة لم يشهد التاريخ نظيرها .

ألف بين الأوس والخزرج .

* وصدق الأخوة من قوانين النصر  

ورغم السلم يستمر الإعداد ، الآيات تتحدث عن إعداد العدة [ وأعدوا ] 

والآن نتحدث عن إعداد المجاهد الحق الصادق مع ربه حامل العدة .

وتذكره الآيات دوما بأن الحرب خدعة فلا يأمن جانب عدوه ، وإن كان في حالة هدنة معهم أو سلم .

(يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ حَرِّضِ الْمُؤْمِنِينَ عَلَى الْقِتَالِ ۚ إِنْ يَكُنْ مِنْكُمْ عِشْرُونَ صَابِرُونَ يَغْلِبُوا مِائَتَيْنِ ۚ وَإِنْ يَكُنْ مِنْكُمْ مِائَةٌ يَغْلِبُوا أَلْفًا مِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لَا يَفْقَهُونَ) [سورة اﻷنفال 65]

أمر الله سبحانه بالتحريض على القتال يسبقه اطمئنان كامل ومطلق بالكفاية الخاصة والعامة ، له ولمن تبعه من المسلمين .

[ (يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ حَسْبُكَ اللَّهُ وَمَنِ اتَّبَعَكَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ) [سورة اﻷنفال 64]

إذاً حين أمر الله تعالى حين أمر نبيه بالتحريض على القتال طمأنه الله بأنه يكفيه .

* ما معنى هذه الآية : 

حسبك الله ، وحسبك أيضاً من اتبعك من المؤمنين ، وبذلك تكون في موضع رفع .

أو أن تكون في موضع نصب ، أي حسبك الله ومن اتبعك من المؤمنين حسبهم الله ، إذ أن الله وحده يكفيكم ، والحسب له وحده ، والأمر لله وحده ، والكفاية من الله وحده .

وهي بشرى للمؤمنين في كل زمان ومكان فالله يكفيهم من شر أعداءهم …

ثم يأتي التحريض والحث عليه ، والحرض هو الاشراف على الهلاك .

(قَالُوا تَاللَّهِ تَفْتَأُ تَذْكُرُ يُوسُفَ حَتَّىٰ تَكُونَ حَرَضًا أَوْ تَكُونَ مِنَ الْهَالِكِينَ)

* التحريض : إزالة الحرض 

نحو التمريض إزالة المرض .

[حَرِّضِ الْمُؤْمِنِينَ عَلَى الْقِتَالِ ۚ ] : حُثهم على القتال وبين لهم فضله وشرفه ،ليكون المؤمن شجاعاً و فارساً رامياً مقبلاً .

فالقتال فرض كفاية ، وقد يتعين ويصبح فرض عين في بعض أحوال الأمة .

[ إن يكن منكم ] : الآية في صيغتها اللغوية هي صيغة خبرية تحمل في ظاهرها الخبر ، ولكنها في معناها و مضمونها تحمل الأمر والوعد .

أي إن اصبروا  ولتكن منكم فئة صابرة مهما قلت وإن تصبروا امام العدو وهو عشرة أمثالكم ، فإن الغلبة لكم ، 

[ بأنهم قوم لا يفقهون ] أي لا يفقهون ما تقتلون عليه . أنتم تقاتلون محتسبين ترجون ثواب الله ، تسعون للشهادة ..أما قتالهم جاهلية وحمية .

 [بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لَا يَفْقَهُونَ) : 

الروح المعنوية مهمة ، فالمؤمن يقاتل في سبيل الله ، يقاتل فيغلب أو تكتب له الشهادة ، والشهادة ارفع واحب إليه ، فالهدف مهم في القتال .

وتأملي الآية و رحمة الله وتخفيفه على المؤمنين ، ففي البداية وفي أول الإسلام كان المؤمن يقف أمام عشرة ، ولا يحل له أن يفر من أمام العدو ولو كان عشرة أضعاف عددا وعدة .

وهنا نتساءل لماذا كان هذا الأمر بالثبات والجهاد وعدم الانسحاب وان كان عدوهم عشرة اضعافهم .

لأن المسلمين كانوا في البداية قلة ، وإن فروا أثموا جميعا ، ولربما قضى عليهم وعلى دينهم 

 ولكن حين زاد العدد وأصبحوا اعزة  وكثرة خفف الله عنهم ذلك ، وأصبح الفرض ألا يفر المؤمن إذا واجه ضعف العدو 

(الْآنَ خَفَّفَ اللَّهُ عَنْكُمْ وَعَلِمَ أَنَّ فِيكُمْ ضَعْفًا ۚ فَإِنْ يَكُنْ مِنْكُمْ مِائَةٌ صَابِرَةٌ يَغْلِبُوا مِائَتَيْنِ ۚ وَإِنْ يَكُنْ مِنْكُمْ أَلْفٌ يَغْلِبُوا أَلْفَيْنِ بِإِذْنِ اللَّهِ ۗ وَاللَّهُ مَعَ الصَّابِرِينَ)[سورة اﻷنفال 66]

[ ضَعْفًا ] و [ضُعْفًا ] ورد فيها قراءتان.

فإن يكن ، تكن : لها قراءتان .

* لماذا كرر الأعداد المتناسبة في نفس الآية ؟ 

لبيان أن القليل والكثير شأنه واحد وحكمه واحد ،

فالله مع الصابرين بالنصر والتأييد مهما قل العدد و العُدد .

*ثم تنتقل الآيات لأمر آخر  و أشياء أخطأ بها المسلمون في غزوة بدر ، ليبدأ الكلام بالعتاب ..

العتاب كان للمؤمنين الذين كانوا مع النبي في غزوة بدر ، غزوة النصر وظهور الإسلام .

(مَا كَانَ لِنَبِيٍّ أَنْ يَكُونَ لَهُ أَسْرَىٰ حَتَّىٰ يُثْخِنَ فِي الْأَرْضِ ۚ تُرِيدُونَ عَرَضَ الدُّنْيَا وَاللَّهُ يُرِيدُ الْآخِرَةَ ۗ وَاللَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ)[سورة اﻷنفال 67]

هذا العتاب بسبب التصرف و أخذ الفداء في أسرى بدر ، عتاب لمن كان مع النبي صلى الله عليه وسلم لأن النبي لم يقض فيه بشيء وإنما استشار أصحابه واجتهد ، والآية دليل على أن للأنبياء حق الاجتهاد ،

بعد أم نصر الله رسوله في غزوة بدر ، كانت نتيجة المعركة أن قُتل من المشركين سبعون و أسر سبعون ، و دار الكلام عن كيفية التصرف في الأسرى .

وسمّي الأسير أسيراً : لأن الرجل كان يقيد بالإسار في الحرب ، فسمي أسيرا وإن لم يقيد بإسار .

وقيل الأسرى غير الموثوقين ، بينما الأسارى الذين قيدوا و اوثقوا وربطوا .

* استشار النبي صلى الله عليه وسلم أصحابه في الأسرى ، فقال أبو بكر رضي الله عنه خذ فداءً .

وحين سأل عمر رضي الله عنه ، قال : هؤلاء صناديد الكفر وأئمتهم .. اضرب أعناقهم ، فكان هناك رأيان .

جلس النبي صلى الله عليه وسلم ولم يردّ بشيء ، وقال الصحابة خذ أبي بكر ، و رأى البعض رأي عمر .

هل يأخذ برأي نوح عليه السلام حين قال : ” رب لا تذر ” (وَقَالَ نُوحٌ رَبِّ لَا تَذَرْ عَلَى الْأَرْضِ مِنَ الْكَافِرِينَ دَيَّارًا)[سورة نوح 26]

أم بقول إبراهيم عليه السلام [ .فَمَنْ تَبِعَنِي فَإِنَّهُ مِنِّي ۖ وَمَنْ عَصَانِي فَإِنَّكَ غَفُورٌ رَحِيمٌ)[سورة إبراهيم 36]

انتهى الأمر ، وفي صبيحة اليوم التالي دخل عمر و وجد الرسول صلى الله عليه وسلم مع أبي بكر يبكيان . ونزل القرآن يبين أن الفداء لم يكن له محل ، ونزلت الرحمة من الله والعفو .

( ما كان لنبي ) .. 

الاثخان : القوة والشدة 

ثخن الشيء : اشتد و قوي وصلب 

حتى يثخن في الأرض : يشتد في القتل والجرح ، وكأن الاثخان هو جعل الشيء ثخين والثخين لا يتحرك ، وكثرة القتل في الكفار تجعلهم ضعفاء بلا حراك .

( ما كان لنبي ) وفي قراءة للنبي أن يكون له أسرى حتى يثخن في الأرض ، فقد كان أمر أخذ الأسرى من الأصل خطأ . 

إذا نصرك ربك واعطاك القوة في المعركة اقتل ما شئت و ما استطعت ، دون أخذ الأسرى لأن ذلك كان ممنوع آنذاك ، بل خذهم بالشدة حتى يخاف أعداء الله ، ويرهب كل من حول المدينة ، ولو فعل ذلك ما كانت بعد ذلك غزوة أحد والخندق والتي جاء فيه المشركون والكفار للثأر والنيل من المسلمين ، لأنك لو ضربت ضربة شديدة من البداية خاف الجميع سطوة المسلمين ، وأمن الجميع بعد ذلك .

(تُرِيدُونَ عَرَضَ الدُّنْيَا وَاللَّهُ يُرِيدُ الْآخِرَةَ ۗ وَاللَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ)

والكلام هنا للأصحاب ، وعرض الدنيا المال والمتاع والفداء، والله يريد لكم ثواب الآخرة الدائم الباقي .< لاحظي الجمال وكيف يعود معنى آخر السورة على أولها .

[ والله عزيز حكيم ] غالب على أمره ، يأمر بما فيه المصلحة فالإثخان في الأرض آنذاك فيه مصلحة الدولة الناشئة . ويأمر بالمنّ والفداء في وقت آخر كما ورد في سورة محمد صلى الله عليه وسلم .يقول تعالى : (فَإِذَا لَقِيتُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا فَضَرْبَ الرِّقَابِ حَتَّىٰ إِذَا أَثْخَنْتُمُوهُمْ فَشُدُّوا الْوَثَاقَ فَإِمَّا مَنًّا بَعْدُ وَإِمَّا فِدَاءً حَتَّىٰ تَضَعَ الْحَرْبُ أَوْزَارَهَا ۚ ذَٰلِكَ وَلَوْ يَشَاءُ اللَّهُ لَانْتَصَرَ مِنْهُمْ وَلَٰكِنْ لِيَبْلُوَ بَعْضَكُمْ بِبَعْضٍ ۗ وَالَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَلَنْ يُضِلَّ أَعْمَالَهُمْ) [سورة محمد 4]

يقول تعالى -مرشدا عباده إلى ما فيه صلاحهم، ونصرهم على أعدائهم: { فَإِذا لَقِيتُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا } في الحرب والقتال، فاصدقوهم القتال، واضربوا منهم الأعناق، حَتَّى تثخنوهم وتكسروا شوكتهم وتبطلوا شرتهم، فإذا فعلتم ذلك، ورأيتم الأسر أولى وأصلح، { فَشُدُّوا الْوَثَاقَ } أي: الرباط، وهذا احتياط لأسرهم لئلا يهربوا، فإذا شد منهم الوثاق اطمأن المسلمون من هربهم ومن شرهم، فإذا كانوا تحت أسركم، فأنتم بالخيار بين المن عليهم، وإطلاقهم بلا مال ولا فداء، وإما أن تفدوهم بأن لا تطلقوهم حتى يشتروا أنفسهم، أو يشتريهم أصحابهم بمال، أو بأسير مسلم عندهم.وهذا الأمر مستمر { حَتَّى تَضَعَ الْحَرْبُ أَوْزَارَهَا } أي: حتى لا يبقى حرب، وتبقون في المسألة والمهادنة، فإن لكل مقام مقالا، ولكل حال حكما، فالحال المتقدمة، إنما هي إذا كان قتال وحرب.فإذا كان في بعض الأوقات، لا حرب فيه لسبب من الأسباب، فلا قتل ولا أسر.{ ذَلِكَ } الحكم المذكور في ابتلاء المؤمنين بالكافرين، ومداولة الأيام بينهم، وانتصار بعضهم على بعض

 { وَلَوْ يَشَاءُ اللَّهُ لَانْتَصَرَ مِنْهُمْ } فإنه تعالى على كل شيء قدير، وقادر على أن لا ينتصر الكفار في موضع واحد أبدا، حتى يبيد المسلمون أعدائهم.

{ وَلَكِنْ لِيَبْلُوَ بَعْضَكُمْ بِبَعْضٍ } ليقوم فضل الجهاد، ويتبين بذلك أحوال العباد، الصادق من الكاذب، وليؤمن من آمن إيمانا صحيحا عن بصيرة، لا إيمانا مبنيا على متابعة أهل الغلبة، فإنه إيمان ضعيف جدا، لا يكاد يستمر لصاحبه عند المحن والبلايا.

{ وَالَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ } لهم ثواب جزيل، وأجر جميل، وهم الذين قاتلوا من أمروا بقتالهم، لتكون كلمة الله هي العليا.فهؤلاء لن يضل الله أعمالهم، أي: لن يحبطها ويبطلها، بل يتقبلها وينميها لهم، ويظهر من أعمالهم نتائجها، في الدنيا والآخرة.

فهنا أجاز المنّ : أي الإفراج عن الاسير بعد فدية .

أما في بدر وفي أول الإسلام وقلة المسلمين وضعفهم فكان من الواجب أن ينتهزوا الفرصة التي أتاحها الله سبحانه من نصر القلة على الكثرة بإزالة الشرك وإظهار الحق لأنهم قليل فلا يطمع العدو فيهم بعد ذلك .

أما عند الكثرة والظهور والعزة فالعفو عند المقدرة والله عزيز حكيم .. يأمر بالحكم المناسب في الوقت المناسب .

[ ما كان لنبي ] امتنع المسلمون عن أخذ الغنائم وبكى النبي صلى الله عليه وسلم ، وقال النبي : لو نزل العذاب ما نجا منه إلا عمر رضي الله عن صحابته أجمعين .

*(لَوْلَا كِتَابٌ مِنَ اللَّهِ سَبَقَ لَمَسَّكُمْ فِيمَا أَخَذْتُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ) [سورة اﻷنفال 68]

لولا : حرف امتناع لوجود ، أي لولا حكم من الله مكتوب قضى به ازلاً لمسكم في آخذكم الفداء عذاب عظيم .

والعذاب عرض على النبي صلى الله عليه وسلم فرآه بعينه قريباً أدنى من شجرة كانت أمامهم ، فبكى وبكى معه الصدّيق رضي الله عنه . امتنعوا عن أخذ الفداء.فما هو الكتاب ؛ وما هو الحكم الأزلي ؟ 

١) هو أن الله لا يعذب أحداً باجتهاده ، إن أصاب له أجران ، وإن أخطأ له أجر .

٢) أو أن الله أحلّ الغنائم لهذه الأمة .

٣) وقيل بل الكتاب الذي سبق : هو قول عز وجل الذي بشرّ به نبيه أهل بدر : ” وما يدريك لعل اطلع إلى أهل بدر فقال اعملوا ما شئتم فقد غفرت لكم .

وهذه البشرى ظلت متوافقة مع هذه الثلة من الصحابة الكرام ، والتي رأينا كيف كانت مع قصة حاطب رضي الله عنه بعد سنوات عدة قبيل فتح مكة . فهو قد نزل في خطأ ، واي خطأ ، خيانة لله و للرسول و وافقه الحرص على الأهل في مكة . مشاهد تستحق الوقوف عندها للفهم والتدقيق وأخذ العبر 

٤) وقيل الكتاب السابق : وهو أن الله لا يعذب المخطئ قبل بيان الخطأ . وقبل نزول الوحي وتبليغ الأمر للمسلمين .

نحو شرب المؤمنين الخمر في صدر الإسلام ، فلم يعاتبهم الله في ذلك لأن التحريم لم ينزل بعد .

(وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُضِلَّ قَوْمًا بَعْدَ إِذْ هَدَاهُمْ حَتَّىٰ يُبَيِّنَ لَهُمْ مَا يَتَّقُونَ ۚ إِنَّ اللَّهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ)[سورة التوبة 

(فَكُلُوا مِمَّا غَنِمْتُمْ حَلَالًا طَيِّبًا ۚ وَاتَّقُوا اللَّهَ ۚ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ) [سورة اﻷنفال 69]

[ فَكُلُوا ] : أمر الإباحة والرحمة ، وأكد على التحليل حتى لا يبقى في نفوسهم شيء ،فهو حلال طيب صرف لكم .

 [ وَاتَّقُوا اللَّهَ ] اتقوا الله في مخالفة أمره و نهيه فقد غفر لكم و رحمكم و تولاكم ونصركم وأيدكم بفضله .

لقد أحل الله عز وجل لنبيه صلى الله عليه وسلم الغنائم في بدر ، وأحل لهم الفداء للأسرى بعد أن عاتبهم و وجههم ، فكان تلطفاً بهم إذ أنزل التحليل بقوله : [ فَكُلُوا مِمَّا غَنِمْتُمْ حَلَالًا طَيِّبًا ۚ] ، وتقرر أخذ الفداء وأرسلت قريش في فداء أسراها ، ومن المفارقات الغريبة أنه كان من بين الأسرى العباس رضي الله عنه عم الرسول صلى الله عليه وسلم ، وقد ذكرنا كيف كان حديثه مع الرسول صلى الله وسلم ولقاءه به ، وقد قال النبي عليه الصلاة والسلام لصحبه من لقى منكم العباس فلا يقتله فقد خرج مكرهاً ، وبالرغم من ذلك أخذ منه الفداء وقد عامله معاملة باقي الأسرى في هذا الأمر .

(يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ قُلْ لِمَنْ فِي أَيْدِيكُمْ مِنَ الْأَسْرَىٰ إِنْ يَعْلَمِ اللَّهُ فِي قُلُوبِكُمْ خَيْرًا يُؤْتِكُمْ خَيْرًا مِمَّا أُخِذَ مِنْكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ۗ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ) [سورة اﻷنفال 70]

هذه الآية تدل على أن الإسلام إنما يستبقي الأسرى لديه ليلمس في قلوبهم مكامن الخير والرجاء والهداية والصلاح . ليوقظ في فطرهم مشاعر الإيمان والاستقبال والتلقي والتأثر والاستجابة الهدى لا إذلالاً لهم أو انتقام منهم ، ولا ليسخر منهم أو  استغلالاً . يفتح لهم القرآن نافذة الرجاء المشرق الرحيم .

زعم بعض الأسرى أنهم أسلموا ، وكان من بين الأسرى أبو العاص بن الربيع زوج زينب بنت رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وهي قصة غاية في الوفاء لنتأملها ونعيش في معانيها .. 

عندما أسر العاص أرسلت زينب رضي الله عنها فداءه قلادة وضعت بين يدي النبي صلى الله عليه وسلم ،فعرفها هي قلادة السيدة خديجة رضي الله عنها أهدتها ابنتها يوم زفافها ، وحين رأى النبي القلادة تأثر تأثراً بالغا حتى ظهر ذلك في وجهه الكريم صلى الله عليه وسلم ، فقال الأصحاب : نرد لها فداءها ، ونطلق لها أسيرها ، فعاهده أبو العاص علي أن يطلق زينب عند الرجوع إلى مكة لتتمكن من الهجرة ، فلم تكن قد هاجرت بعد ، وكان زوجها مشركاّ ، فتعهد بالسماح لها بالهجرة بمجرد عودته إلى مكة ، وصدق في عهده ..

وفي شأن بعض الأسرى الذين زعموا الإسلام ، وقد أسلم عقيل و نوفل ، في حين زعم البعض الإسلام فنزلت الآية [ يا أيها النبي قل لمن فى أيديكم من الأسرى ] 

فقال للعباس كما ذكرنا ذاك أمر يعلمه الله لكنك كنت علينا ، والله يجازيك بما في نفسك …

فالله يعلم إن كان في قلوبكم إسلاما حقا وإخلاصا وصدقاً يؤتكم خيراً من الفداء الذي أخذ منكم ،إن صح اسلامكم ويغفر لكم ما سلف من محاربتكم للرسول صلى الله عليه وسلم .

قال ربُّ القلب :

﴿إنْ يَعْلَمِ اللهُ في قلوبِكمْ خيرًا يُؤتكمْ خيرًا ممّا أُخِذَ منكمْ ويَغْفِرْ لكم ﴾

لا تنتهي الأبدال ما دام خالقها حي لا يموت .

ولا يفنى العوض والله قد وعد به .

والنفس تركن لآلامها وتَتَلهّى بها عن الجهاد النفسي وتعبيد القلب لله بالرضا وحسن الظن بالعوض.

وإنما الشأن كله في إصلاح القلب محل نظر الرب ، ثم تأتي العطايا الأعظم والأجمل بعد إصلاحه : ﴿ إن يعلم الله في قلوبكم [ خيرًا ] يؤتكم [ خيرًا ] ﴾

فمن أَرى الله من قلبه خيرًا أراه الله من عطائه خيرا

﴿ يُؤتِكُمْ [خيراً] ممّا أُخِذَ منكمْ ﴾.

عوض الله لا يكون بقدْر المفقود بل خيرا منه.

ولم يحدد الله الخيرية بقدر أو وصف أو عدد ، بل خيرا منه في كل شيء.

يا للكرم ويا للجود ! 

ثم يزيد الشكور:

﴿ ويغفر لكم ﴾

هكذا ، بحركة قلب !

يُجمّل اللهُ المستقبل ويُعوّض بالأجمل

ويمحو سيء الماضي وشؤم معاصيه .

فسبحان الله الجميل الكريم!

ويا لهناءة القلب حين يعلم أن الخطاب في الآية كان للأسرى الذين جاؤوا محاربين لله ورسوله وكتابه والمؤمنين ، والذين يُتوقع منهم الخيانة مرة أخرى ، فقال في الآية التالية : ﴿ وإن يريدوا خيانتك فقد خانوا الله من قبل فأمْكَنَ منهم ﴾ .

فكيف هو كرمه مع قلوب المؤمنين وإن كانوا عصاة ؟! وهُمُ الذين لم يحاربوا الله ورسوله ولا ينوون خيانته ! وإن عصوه فبغلبة هوى أو شيطان لا عن جحود وكفران .

هذه آية واحدة يهوّن الله بها على عباده ، والقرآن كله رحمة للقلب وشفاء .

أصلح الله قلوبنا

آمين .

(وَإِنْ يُرِيدُوا خِيَانَتَكَ فَقَدْ خَانُوا اللَّهَ مِنْ قَبْلُ فَأَمْكَنَ مِنْهُمْ ۗ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ) [سورة اﻷنفال 71]

تحذير … و تطمين المؤمنين. خانوا الله بخيانة الميثاق [ ألست بربكم ] ثم بمحاربة وتكذيب رسوله صلى الله عليه وسلم . فأمكنه الله من رقابهم . فإذا انطوت نفوسهم على الخيانة فسيقدرك الله على هزيمتهم والنصر عليهم كما حدث في بدر . والله عليم بالنوايا . حكيم فيما يقضي به عليهم.

ثم ينزل الأمر بالموالاة بين المهاجرين والأنصار ، المؤمنون بعضهم ببعض بنسب الإسلام وليست القرابة .

(إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَهَاجَرُوا وَجَاهَدُوا بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَالَّذِينَ آوَوْا وَنَصَرُوا أُولَٰئِكَ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ ۚ وَالَّذِينَ آمَنُوا وَلَمْ يُهَاجِرُوا مَا لَكُمْ مِنْ وَلَايَتِهِمْ مِنْ شَيْءٍ حَتَّىٰ يُهَاجِرُوا ۚ وَإِنِ اسْتَنْصَرُوكُمْ فِي الدِّينِ فَعَلَيْكُمُ النَّصْرُ إِلَّا عَلَىٰ قَوْمٍ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُمْ مِيثَاقٌ ۗ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ) [سورة اﻷنفال 72]

* أوامر وتعليمات بعد غزوة بدر عن الميراث : حين هاجر المسلمون من مكة إلى المدينة اخى النبي عليه الصلاة والسلام بين المهاجرين والأنصار ،واقتسم الأنصار دورهم و أموالهم مع إخوانهم من المهاجرين . وكان الأخ حقا بمثابة الأخ من الرحم يرثه دون أهله في مكة .

هكذا كان الحكم أولا ثم نسخ في آخر السورة .

* يختم الله السورة ببيان طبيعة العلاقات في المجتمع المسلم ، وطبيعة العلاقات بينه وبين المجتمعات الأخرى .

والقاعدة التي ينطلق منها هذا الدين ، ليست علاقة الدم ، ولا علاقة الأرض والنسب ، ولا علاقة التاريخ أو اللغة ، أو الاقتصاد ، لا القومية ولا الوطنية ولا الحزبية .. إنما علاقة العقيدة ، و رابطة القيادة والأخوة .

وهكذا المجتمع الجديد الناشئ بين مهاجرين متجردين من الأرض والديار والأهل والمال والمصالح ، وأنصار ازروهم و بذلوا لهم و آووهم . الولاية في المجتمع الجديد الناشئ ولاية توارث وتكافل ، ولاية نصرة وأخوة قامت مقام النسب والقرابة . وكل من أمكنه الهجرة ولم يهاجر استمتاعاً بمكانة أو بمصالح أو قرابة من المشركين انتفت عنه ولاية المجتمع المسلم له ، لكن له حق النصرة إن احتاج إليها شرط عدم الاعتداء على عهود الآخرين.

الأنصار آووا المهاجرين وآزروهم ، وقفوا معهم وقاتلوا ، فبعضهم أولياء بعض بالمؤاخاة والميراث المؤازرة والنصرة والنصر.

أما من أمن ولم يهاجر لا ميراث له من أقاربه الذين هاجروا إن ماتوا . إلا إذا هاجر ..

[وَإِنِ اسْتَنْصَرُوكُمْ فِي الدِّينِ ] وحيث وقع عليهم ظلم و قهر وطلبوا منكم النصر خشية الفتنة في دينهم فعليكم أن تنصروهم .. الميراث شيء والنصرة شيء .

[ إلا على قوم بينكم وبينهم ميثاق ] فلو أن المسلمين بمكة استنصروا المؤمنين بالمدينة على قوم من الكفار ، وكان بين هؤلاء الكفار عهد مع النبي عليه الصلاة والسلام ، فلا يصح أن ينقض العهد ، هدا دين الوفاء ومن شيم واخلاق النبي وأصحابه الوفاء ، فلا شيء يبيح نقض العهد .

[ والله بما تعملون بصير ] رقابة الله تامة .

(وَالَّذِينَ كَفَرُوا بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ ۚ إِلَّا تَفْعَلُوهُ تَكُنْ فِتْنَةٌ فِي الْأَرْضِ وَفَسَادٌ كَبِيرٌ) [سورة اﻷنفال 73]

هؤلاء الكفار يتناصرون ويتوارثون ، فإن لم تفعلوا الأوامر :

١- من موالاة بعضكم البعض  

٢- ومناصرة المؤمنين إلا على من عاهدتم 

٣- مجانبة الكفار فلا يرث مسلم كافرا ولا يرث الكافر المسلم .

الآية تؤكد و تدل على أن لا توارث بين ملتين .

ففي هذا الأمر فتنة وفساد كبير 

[ فتنة ] : لأن الكافر إن ورث وأخذ مال المؤمن استعان به على محاربة المسلمين .

والمسلم لو  أخذ مال كافر ، رق له قلبه ولربما نصره و والاه وهنا تحدث الفتنة وينتشر الفساد ، ويعلو الكفر .

تلك كانت الأحكام التي نزلت بين المهاجرين والأنصار ، وعلاقة المهاجرين بعضهم البعض ..

هذه الأوامر والتوجيهات نفذت بحذافيرها إلى أن نسخ الله ذلك الحكم ونزلت آية المواريث ، وأصبح أهل القرابة أولى بالميراث ، وكل ذاك بعد فتح مكة وانتهاء الهجرة ودخول الناس في الإسلام كافة ، فلا هجرة بعد الفتح . 

والحمد لله الذي بحمده تتم الصالحات .

جميع الحقوق متاحة للمسلمين دون اشتراط ذكر المصدر © 2023 7a9ad.com. All Rights Reserved