عوامل الثبات
( عوامل الثبات )
وَإِنْ كَادُوا لَيَفْتِنُونَكَ عَنِ الَّذِي أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ لِتَفْتَرِيَ عَلَيْنَا غَيْرَهُ وَإِذًا لَاتَّخَذُوكَ خَلِيلًا (73) وَلَوْلَا أَنْ ثَبَّتْنَاكَ لَقَدْ كِدْتَ تَرْكَنُ إِلَيْهِمْ شَيْئًا قَلِيلًا (74) إِذًا لَأَذَقْنَاكَ ضِعْفَ الْحَيَاةِ وَضِعْفَ الْمَمَاتِ ثُمَّ لَا تَجِدُ لَكَ عَلَيْنَا نَصِيرًا (75) وَإِنْ كَادُوا لَيَسْتَفِزُّونَكَ مِنَ الْأَرْضِ لِيُخْرِجُوكَ مِنْهَا وَإِذًا لَا يَلْبَثُونَ خِلَافَكَ إِلَّا قَلِيلًا (76) سُنَّةَ مَنْ قَدْ أَرْسَلْنَا قَبْلَكَ مِنْ رُسُلِنَا وَلَا تَجِدُ لِسُنَّتِنَا تَحْوِيلًا (77) أَقِمِ الصَّلَاةَ لِدُلُوكِ الشَّمْسِ إِلَى غَسَقِ اللَّيْلِ وَقُرْآنَ الْفَجْرِ إِنَّ قُرْآنَ الْفَجْرِ كَانَ مَشْهُودًا (78) وَمِنَ اللَّيْلِ فَتَهَجَّدْ بِهِ نَافِلَةً لَكَ عَسَى أَنْ يَبْعَثَكَ رَبُّكَ مَقَامًا مَحْمُودًا (79) وَقُلْ رَبِّ أَدْخِلْنِي مُدْخَلَ صِدْقٍ وَأَخْرِجْنِي مُخْرَجَ صِدْقٍ وَاجْعَلْ لِي مِنْ لَدُنْكَ سُلْطَانًا نَصِيرًا (80) وَقُلْ جَاءَ الْحَقُّ وَزَهَقَ الْبَاطِلُ إِنَّ الْبَاطِلَ كَانَ زَهُوقًا (81) وَنُنَزِّلُ مِنَ الْقُرْآنِ مَا هُوَ شِفَاءٌ وَرَحْمَةٌ لِلْمُؤْمِنِينَ وَلَا يَزِيدُ الظَّالِمِينَ إِلَّا خَسَارًا (82) وَإِذَا أَنْعَمْنَا عَلَى الْإِنْسَانِ أَعْرَضَ وَنَأَى بِجَانِبِهِ وَإِذَا مَسَّهُ الشَّرُّ كَانَ يَئُوسًا (83) قُلْ كُلٌّ يَعْمَلُ عَلَى شَاكِلَتِهِ فَرَبُّكُمْ أَعْلَمُ بِمَنْ هُوَ أَهْدَى سَبِيلًا (84) وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الرُّوحِ قُلِ الرُّوحُ مِنْ أَمْرِ رَبِّي وَمَا أُوتِيتُمْ مِنَ الْعِلْمِ إِلَّا قَلِيلًا (85) وَلَئِنْ شِئْنَا لَنَذْهَبَنَّ بِالَّذِي أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ ثُمَّ لَا تَجِدُ لَكَ بِهِ عَلَيْنَا وَكِيلًا (86) إِلَّا رَحْمَةً مِنْ رَبِّكَ إِنَّ فَضْلَهُ كَانَ عَلَيْكَ كَبِيرًا (87) قُلْ لَئِنِ اجْتَمَعَتِ الْإِنْسُ وَالْجِنُّ عَلَى أَنْ يَأْتُوا بِمِثْلِ هَذَا الْقُرْآنِ لَا يَأْتُونَ بِمِثْلِهِ وَلَوْ كَانَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ ظَهِيرًا (88) وَلَقَدْ صَرَّفْنَا لِلنَّاسِ فِي هَذَا الْقُرْآنِ مِنْ كُلِّ مَثَلٍ فَأَبَى أَكْثَرُ النَّاسِ إِلَّا كُفُورًا (89)
ما موضوع هذا الفصل، وما هي مناسبته لمقصد السورة؟ وما مناسبته لما قبله من الفصول؟
في خضم هذا التكذيب، وبعد سنوات من الصد والكفر، استمرت محاولات المشركين في مكة في سياستين أفصحت عنهما السورة:
الأول: محاولة فتنة النبي صلى الله عليه وسلم حتى يتنازل شيئا في دينه، ويغير بعض أحكامه لتناسب النظام المؤسس في مكة.
الثاني: وهو الخطة البديلة في حال فشل الخطة الأولى وهي إخراجه من مكة وطرده منها حتى لا يكدر عليهم ما هم فيه، فالأول ( قوة ناعمة )، فإن فشت القوة الناعمة في صد رياح التغيير لجؤوا إلى ( القوة الخشنة )، أو ( القوة الصلبة )، والإخراج عادة يكون إما بالطرد أو بالسجن أو غير ذلك مما يحول بين الدعوة وبين الناس.
وإن كنت تظن أن هاتين الخطتين المتتاليتين المتتابعتين كانتا فقط في أذهان كفار قريش في حربهم مع النبي صلى الله عليه وسلم، فأنت بحاجة إلى إعادة النظر، فكل الطواغيت الذي يريدون صرف الناس عن عبادة الله إلى عبادتهم يسيرون على هذا النهج، يبدؤون بمحاولات إقناع لمحاولة تغيير أحكام الإسلام الحق إلى ( إسلام مدني ديمقراطي ) مثلا، فإن فشلت هذه المحاولات لجؤوا إلى الخيار الآخر، خيار ( الحرب على الإرهاب ) أو ( الحروب الصليبية ).
وحاشا للقرآن أن يأتيك بالمعنى ناقصا، بعد أن قص على القارئ المتدبر وعرض له أساليب الصد عن سبيل الله، جاءه بالحل والعلاج للثبات في مثل هذه المدلهمات كما سنرى لاحقا إن شاء الله.
ما معنى قوله تعالى وإن كادوا ليفتنونك؟
قالَ القَفّالُ – رَحِمَهُ اللَّهُ -: قَدْ ذَكَرْنا في سَبَبِ نُزُولِ هَذِهِ الآيَةِ الوُجُوهَ المَذْكُورَةَ، ويُمْكِنُ أيْضًا تَأْوِيلُها مِن غَيْرِ تَقْيِيدٍ بِسَبَبٍ يُضافُ نُزُولُها فِيهِ لِأنَّ مِنَ المَعْلُومِ أنَّ المُشْرِكِينَ كانُوا يَسْعَوْنَ في إبْطالِ أمْرِ رَسُولِ اللَّهِ ﷺ بِأقْصى ما يَقْدِرُونَ عَلَيْهِ:
فَتارَةً كانُوا يَقُولُونَ: إنْ عَبَدْتَ آلِهَتَنا عَبَدْنا إلَهَكَ، فَأنْزَلَ اللَّهُ تَعالى: ﴿قُلْ ياأيُّها الكافِرُونَ﴾ ﴿لا أعْبُدُ ما تَعْبُدُونَ﴾ (الكافِرُونَ: ١) وقَوْلَهُ: ﴿ودُّوا لَوْ تُدْهِنُ فَيُدْهِنُونَ﴾ (القَلَمِ: ٩)
وتارة: وعَرَضُوا عَلَيْهِ الأمْوالَ الكَثِيرَةَ والنِّسْوانَ الجَمِيلَةَ لِيَتْرُكَ ادِّعاءَ النُّبُوَّةِ فَأنْزَلَ اللَّهُ تَعالى: ﴿ولا تَمُدَّنَّ عَيْنَيْكَ﴾ (الحِجْرِ: ٨٨)
وتارة: دَعَوْهُ إلى طَرْدِ المُؤْمِنِينَ عَنْ نَفْسِهِ فَأنْزَلَ اللَّهُ تَعالى قَوْلَهُ: ﴿ولا تَطْرُدِ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ﴾ (الأنْعامِ: ٥٢)
فيشبه أنَّ تَكُونَ هَذِهِ الآياتُ نَزَلَتْ في هَذا البابِ وذَلِكَ أنَّهم قَصَدُوا أنْ يَفْتِنُوهُ عَنْ دِينِهِ وأنْ يُزِيلُوهُ عَنْ مَنهَجِهِ، فَبَيَّنَ تَعالى أنَّهُ يُثَبِّتُهُ عَلى الدِّينِ القَوِيمِ والمَنهَجِ المُسْتَقِيمِ، وهذا هو المعنى المراد بالفتنة إي إيقاعه بالكفر وصرفه عن الإيمان.
ما هي المعاني التي ينتهي إليها تعدية الفتنة بعن؟
تعدية الفتنة بعن هنا لتضمينها معنى الصرف، ويكون المعنى: وإن كادوا ليفتنونك صارفين إياك عن الذي أوحينا إليك،
ما هي المعاني التي ينتهي إليها التذييل بقوله تعالى: وإذا لاتخذوك خليلا؟
أصل الخلة: تخلل المحبة في شغاف القلب، ومنه سمي الخليل خليلا لأن حبه يتخلل قلب صاحبه.
والكلام ينتهي إلى معنيين:
الأول: التعجيب من حالهم حيث انقلبوا من العداوة إلى الخلة مباشرة بمجرد انصراف صاحب الدعوة عن دعوته وافتراءه ما يشتهون من العقائد والأحكام.
الثاني: التحذير من هذه الخلة المزعومة، واتهام النفس في حال حصول شيء منها، فإنهم لا يخاللون ولا يحبون ولا يسكنون إلا لمن فتن عن دينه.
ما هي المعاني التي ينتهي إليها قوله هنا: ثبتناك؟
فعل التثبيت جاء هنا:
أولا: منسوبا إلى الله عز وجل، لينبه على أن الثبات من الله وحده.
ثانيا: بصيغة الجماعة: لاستحضار العظمة والمجيء بالفعل مع نا الدالة على الجماعة لإفادة العظمة من المعالم البارزة جدا في السورة وثوبها اللفظي.
كيف يمكن للنبي صلى الله عليه وسلم أن يركن إلى الكافرين؟ وما هي المعاني التي ينتهي إليها الحديث عن مقام النبي صلى الله عليه وسلم بهذه الطريقة؟
النبي صلى الله عليه وسلم لم يركن إلى الكافرين أبدا، وإنما جاء الحديث هنا عن الاقتراب من الركون المعبر عنه بالفعل ( كاد )، فالحديث إذا كله عن الاقتراب أو الابتعاد من الركون أما الركون نفسه فحاشاه صلى الله عليه وسلم، وليس هذا من عندنا بل لأن الفعل كاد إذا أتى مجردا يفيد أن الفعل لم يقع كما قال ابن فارس في معجم مقاييس اللغة ( فَأَمَّا قَوْلُهُمْ فِي الْمُقَارَبَةِ: كَادَ، فَمَعْنَاهَا قَارَبَ. وَإِذَا وَقَعَتْ كَادَ مُجَرَّدَةً فَلَمْ يَقَعْ ذَلِكَ الشَّيْءُ تَقُولُ: كَادَ يَفْعَلُ، فَهَذَا لَمْ يُفْعَلْ، وَإِذَا قُرِنَتْ بِجَحْدٍ فَقَدْ وَقَعَ، إِذَا قُلْتَ مَا كَادَ يَفْعَلُهُ فَقَدْ فَعَلَهُ. قَالَ اللَّهُ سُبْحَانَهُ: {فَذَبَحُوهَا وَمَا كَادُوا يَفْعَلُونَ} [البقرة: 71]) فهذا دليل على أن الركون لم يقع منه حاشاه صلى الله عليه وسلم، وإنما المعنى:
لولا تثبيتنا إياك بما لنا من العظمة والسلطان لقاربت الركون.
وهذا حديث عظيم لمن يتدبر الكلام، فإن كان النبي صلى الله عليه وسلم بعظمة قدره محتاج إلى تثبت الله، ولولا هذا التثبيت لاقترب من الركون، فما بالك بنا نحن المساكين ضعيفي الإيمان؟ نحن والله أحق بهذا وأولى، وكم اغتر داعية وطالب علم بثباته ثم انخلع من مكانه وارتد على عقبيه عندما جاءته الفتنة.
ما المقصود بضعف الحياة وضعف الممات؟ وما سبب المضاعفة؟
الضعف هنا عائد على العذاب، وإضافة الضعف هنا على معنى: في، أي أذقناك ضعفا من العذاب في الحياة وضعفا من العذاب في الممات، وعذاب الحياة يكون بتراكم المصائب والأرزاء في مدة الحياة، أي العمر بزوال ما كان يناله من بهجة وسرور بتمام الدعوة وانتصارها، وذلك أن يتمكن منه أعداؤه، وعذاب الممات أن يموت مكمودا مستذلا بين كافرين يرون أنهم قد فازوا عليه وانتصروا عليه بعد أن أشرفوا على السقوط أمامه.
وأما سبب المضاعفة فإن العقوبة تكون على قدر مرتبة المخالف للأمر، فكلما كان المقام أعلى كانت العقوبة أكبر، ولما كانت مقامه أعلى المقامات صلى الله عليه وسلم توعده الله بضعف العذاب، حاشاه أن يخالف صلى الله عليه وسلم.
ما مناسبة الحديث عن الصلاة بعدها؟
بعد أن ذكرت الآيات أساليب الكفار في فتنة أهل الدعوة، جاء بعدها الحديث عن الحل والعلاج، وحاشا للقرآن أن يمر على مشكلة أو يعرض قضية دون أن يبين علاجها وطريقة الخلاص منها، فجاءت ههنا بالأمر بإقامة الصلاة، فالصلاة أعظم مثبت في مقابل الفتن.
وتأمل إفراد صلاة القيام بآية لوحدها لما لها من أثر في الثبات، وتأمل إفراد صلاة الفجر عن بقيتها وتسميتها بقرآن الفجر في إشارة إلى طول القراءة فيها، وما للقرآن من أثر في الثبات.
روى البخاري عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ – رَضِيَ اللهُ عَنْهُ – عَنِ النَّبِيِّ – صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ – قَالَ: «فَضْلُ صَلَاةِ الْجَمِيعِ عَلَى صَلَاةِ الْوَاحِدِ خَمْسٌ وَعِشْرُونَ دَرَجَةً، وَتَجْتَمِعُ مَلَائِكَةُ اللَّيْلِ وَمَلَائِكَةُ النَّهَارِ فِي صَلَاةِ الصُّبْحِ. يَقُولُ أَبُو هُرَيْرَةَ: اقْرَءُوا إِنْ شِئْتُمْ: {وَقُرْآنَ الْفَجْرِ إِنَّ قُرْآنَ الْفَجْرِ كَانَ مَشْهُودًا}»
ما المراد بنافلة لك؟
المراد بها أنها واجبة على النبي صلى الله عليه وسلم خاصة دون أمته، فهو وجوب زائد عن غيره، وكأن هذا الإيجاب هو عطاء من الله جل وعلا للنبي صلى الله عليه وسلم، وعادة ما يكون الإيجاب من باب التكليف، أما أن يسمى نافلة فهذا فيه تشبيه الإيجاب هذا بأنه عطاء وخصيصة له، فتأمل هذا.
وعسى هنا بمعنى الإيجاب، أي ليبعثلك ربك مقاما محمودا
روى البخاري عَنْ آدَمَ بْنِ عَلِيٍّ قَالَ: سَمِعْتُ ابْنَ عُمَرَ – رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا – يَقُولُ: «إِنَّ النَّاسَ يَصِيرُونَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ جُثًا، كُلُّ أُمَّةٍ تَتْبَعُ نَبِيَّهَا يَقُولُونَ: يَا فُلَانُ اشْفَعْ، حَتَّى تَنْتَهِيَ الشَّفَاعَةُ إِلَى النَّبِيِّ – صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ – فَذَلِكَ يَوْمَ يَبْعَثُهُ اللهُ الْمَقَامَ الْمَحْمُودَ.»
ما مناسبة الحديث عن الصدق بعدها؟ ثم الحديث عن مجيء الحق وزهوق الباطل؟
قيل في الآية معنيين:
الأول: معنى عام أي اجعل الصدق ملازما لي في كل شأني وفي كل ما يقدر لي الدخول أو الخروج فيه حقيقة أو مجازا، أي أدخلني في كل ما تدخلني فيه مع الصدق في عبوديتك والإحسان فيها، وأخرجين منها بالصدق في العبودية والمحبة، والمقصود منها أن يكون الصدق في كل شأنه، والصدق هنا عبارة عن الصلاح وحسن العاقبة، ويشمل كل شأن الإنسان من الاعتقادات والأعمال الظاهرة.
الثاني: معنى خاص وهو أدخلني في مهاجري مدخل صدق وأخرجني من مكة مخرج صدق، وهذا مرتبط بقوله سابقا وإن كادا ليستفزونك من الأرض ليخرجوك منها، وهذا فيه بعد فإنهم لم يخرجوه وإنما خرج هو بأمر الله مهاجرا.
ويبقى السياق هنا في تثبت النبي صلى الله عليه وسلم مع هذا العناد الذي استمر فيه كفار مكة، بل محاولاتهم الدائمة لفتنته وتفكيرهم في إخراجه من مكة، وهي مرتبطة بقوله سابقا ( وإذ قلنا لك إن ربك أحاط بالناس ) أي أنه سيحمي نبيه صلى الله عليه وسلم من الأذى وتسلط الكفار، فجاء هنا يوصي النبي صلى الله عليه وسلم – ومن خلف من ورثته من حملة أمانة الوحي– بأن يسألوا الله أن يجعل عاقبتهم خيرا وصلاحا أبدا في كل مدخل ومخرج، ثم بأن يجعل لهم سلطانا نصيرا من عنده، والنصير مبالغة في الناصر أي سلطانا ينصرني، وإذا كان عمل النبي صلى الله عليه وسلم هو الدعوة إلى الإسلام كان نصره تأييدا لهذه الدعوة لا سلطان استعلاء على الناس.
أما الآية الثانية فهي تتمم المعنى وتبشر النبي صلى الله عليه وسلم – وورثته من حملة أمانة الوحي – من بعده بأنهم منصورون، وأنه مهما علا الباطل والضلال في الأرض – ومن أبرز أمثلته فساد بني إسرائيل الكبير مرتين- فإن الوحي سائد منصور.
روى البخاري عَنْ عَبْدِ اللهِ بْنِ مَسْعُودٍ – رَضِيَ اللهُ عَنْهُ – قَالَ: «دَخَلَ النَّبِيُّ – صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ – مَكَّةَ، وَحَوْلَ الْبَيْتِ سِتُّونَ وَثَلَاثُمِائَةِ نُصُبٍ، فَجَعَلَ يَطْعَنُهَا بِعُودٍ فِي يَدِهِ وَيَقُولُ: {جَاءَ الْحَقُّ وَزَهَقَ الْبَاطِلُ إِنَّ الْبَاطِلَ كَانَ زَهُوقًا} {جَاءَ الْحَقُّ وَمَا يُبْدِئُ الْبَاطِلُ وَمَا يُعِيدُ}»
ما مناسبة الحديث عن القرآن بعد ذلك؟
الحديث عن القرآن هنا ليس بغريب، فالقرآن من القضايا الكبرى البارزة في هذه السورة، وهو الوحي الصحيح الذي كلفت أمة محمد صلى الله عليه وسلم بإبلاغه للناس ليشفي أمراضهم النفسية والجسدية، ورحمة بهم من التيه في مهامه الضلال نتيجة الوحي المحرف هذا، ولا شك أنه في المقابل يبين عوار الظالمين ويزيدهم خسارا بتفويتهم أجر الآخرة العظيم واستعجالهم الدنيا.
ومن هنا ليست للتبعيض وإنما هي بيانية والمعنى: وننزل القرآن شفاء ورحمة للمؤمنين.
كما أن القرآن جاء بعد الحديث عن مجيء الحق وزهوق الباطل، وكأنها تقول للقارئ المتدبر:
صاحب القرآن هو المنصور المفتوح عليه من سيأتي بالحق ويزهق القرآن الباطل على يديه.
ما مناسبة قوله بعدها: وإذا أنعمنا على الإنسان أعرض ونأى بجانبه .. الآية، والتي تليها؟
لم يتبين لنا والله أعلم مناسبة قوية لهاتين الآيتين وأظهر ما تبين من علاقة بما قبلهما من الحديث عن القرآن والحديث عن الصلوات هو أنها علاج لهذه الظاهرة التي طبع عليها الإنسان، فالصلوات – بما فيها من ذكر لله – والقرآن يعالج مثل هذه الصفات، ومما يقوي ذلك ذكر أمر قريب من هذا في سورة المعارج ( إن الإنسان خلق هلوعا إذا مسه الشر جزوعا وإذا مسه الخير منوعا إلا المصلين ) وأما القرآن فقد ذكر قبله صراحة أنه شفاء ورحمة للمؤمنين.
والله أعلم.
ما مناسبة الحديث عن الروح هنا؟
يأتي السؤال عن الروح في سياق الحديث عن القرآن الكريم ليشير إلى التشابه بينهما من ناحية الخفاء والإعجاز وأنهما من أمر الله ولا يعلم سر إعجازهما إلا الله.
فكما أن الروح هي سر الحياة للأجساد فإن القرآن الكريم هو سر الحياة والهداية للنفوس.
كما أن الحديث متصل بما قبله عن اليقين الذي ظهر الحديث عنه في مواضع عديدة.
وقد جاء وصف القرآن بأنه ( روح ) في مواضع عديدة من القرآن:
منها قوله تعالى في سورة النحل ( يُنَزِّلُ الْمَلَائِكَةَ بِالرُّوحِ مِنْ أَمْرِهِ عَلَى مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ )
ومنها قوله تعالى في سورة غافر ( يُلْقِي الرُّوحَ مِنْ أَمْرِهِ عَلَى مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ )
ومنها في سورة الشورى ( وَكَذَلِكَ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ رُوحًا مِنْ أَمْرِنَا ).
روى البخاري عَنْ عَبْدِ اللهِ – رَضِيَ اللهُ عَنْهُ – قَالَ: «بَيْنَا أَنَا مَعَ النَّبِيِّ – صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ – فِي حَرْثٍ، وَهُوَ مُتَّكِئٌ عَلَى عَسِيبٍ، إِذْ مَرَّ الْيَهُودُ، فَقَالَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ: سَلُوهُ عَنِ الرُّوحِ؟ فَقَالَ: مَا رَابَكُمْ إِلَيْهِ؟ وَقَالَ بَعْضُهُمْ: لَا يَسْتَقْبِلُكُمْ بِشَيْءٍ تَكْرَهُونَهُ، فَقَالُوا: سَلُوهُ، فَسَأَلُوهُ عَنِ الرُّوحِ، فَأَمْسَكَ النَّبِيُّ – صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ – فَلَمْ يَرُدَّ عَلَيْهِمْ شَيْئًا، فَعَلِمْتُ أَنَّهُ يُوحَى إِلَيْهِ، فَقُمْتُ مَقَامِي، فَلَمَّا نَزَلَ الْوَحْيُ قَالَ: {وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الرُّوحِ قُلِ الرُّوحُ مِنْ أَمْرِ رَبِّي وَمَا أُوتِيتُمْ مِنَ الْعِلْمِ إِلا قَلِيلا}».
ما معنى كل يعمل على شاكلته؟
والمعنى أن كل إنسان يعمل على ما يشاكل أخلاقه التي ألفها أو على حسب جوهر نفسه، فإن كانت نفسه شريفة طاهرة صدرت عنه أفعال جميلة وأخلاق زكية، وإن كانت نفسه كدرة خبيثة صدرت عنه أفعال خبيثة فاسدة رديئة وهذا ذمّ للكافر ومدح للمؤمن.
(فربكم أعلم بمن هو أهدى) لأنه الخالق لكم العالم بما جبلتم عليه من الطبائع وما تباينتم فيه من الطرائق فهو الذي يميز بين المؤمن الذي لا يعرض عند النعمة ولا ييأس عند المحنة وبين الكافر الذي شأنه البطر للنعم والقنوط عند النقم وأهدى من اهتدى على حذف الزوائد أو من هدى المتعدي أو من هدى القاصر بمعنى اهتدى و (سبيلاً) تمييز أي أوضح طريقاً وأحسن مذهباً وأشد اتباعاً للحق.
ما معنى صرفنا؟
(ولقد صرفنا للناس في هذا القرآن من كل مثل) أي رددنا القول فيه بوجوه مختلفة زيادة في التقرير والبيان، وكررنا بكل مثل يوجب الاعتبار من الآيات والعبر والترغيب والترهيب والأوامر والنواهي، وأقاصيص الأولين والجنة والنار والقيامة، وقيل من كل معنى هو كالمثل في غرابته وحسنه ووقوعه موقعاً في الأنفس والأول أولى.
( الهدى والضلال في ظلال القرآن )
جميع الحقوق متاحة للمسلمين دون اشتراط ذكر المصدر © 2023 7a9ad.com. All Rights Reserved