عدة التغيير
(عدة إبطال العادات الجاهلية)
( ليسأل الصادقين عن صدقهم )
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَٰنِ الرَّحِيمِ
يَاأَيُّهَا النَّبِيُّ اتَّقِ اللَّهَ وَلَا تُطِعِ الْكَافِرِينَ وَالْمُنَافِقِينَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلِيمًا حَكِيمًا (1) وَاتَّبِعْ مَا يُوحَى إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرًا (2) وَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ وَكَفَى بِاللَّهِ وَكِيلًا (3) مَا جَعَلَ اللَّهُ لِرَجُلٍ مِنْ قَلْبَيْنِ فِي جَوْفِهِ وَمَا جَعَلَ أَزْوَاجَكُمُ اللَّائِي تُظَاهِرُونَ مِنْهُنَّ أُمَّهَاتِكُمْ وَمَا جَعَلَ أَدْعِيَاءَكُمْ أَبْنَاءَكُمْ ذَلِكُمْ قَوْلُكُمْ بِأَفْوَاهِكُمْ وَاللَّهُ يَقُولُ الْحَقَّ وَهُوَ يَهْدِي السَّبِيلَ (4) ادْعُوهُمْ لِآبَائِهِمْ هُوَ أَقْسَطُ عِنْدَ اللَّهِ فَإِنْ لَمْ تَعْلَمُوا آبَاءَهُمْ فَإِخْوَانُكُمْ فِي الدِّينِ وَمَوَالِيكُمْ وَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ فِيمَا أَخْطَأْتُمْ بِهِ وَلَكِنْ مَا تَعَمَّدَتْ قُلُوبُكُمْ وَكَانَ اللَّهُ غَفُورًا رَحِيمًا (5) النَّبِيُّ أَوْلَى بِالْمُؤْمِنِينَ مِنْ أَنْفُسِهِمْ وَأَزْوَاجُهُ أُمَّهَاتُهُمْ وَأُولُو الْأَرْحَامِ بَعْضُهُمْ أَوْلَى بِبَعْضٍ فِي كِتَابِ اللَّهِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُهَاجِرِينَ إِلَّا أَنْ تَفْعَلُوا إِلَى أَوْلِيَائِكُمْ مَعْرُوفًا كَانَ ذَلِكَ فِي الْكِتَابِ مَسْطُورًا (6) وَإِذْ أَخَذْنَا مِنَ النَّبِيِّينَ مِيثَاقَهُمْ وَمِنْكَ وَمِنْ نُوحٍ وَإِبْرَاهِيمَ وَمُوسَى وَعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ وَأَخَذْنَا مِنْهُمْ مِيثَاقًا غَلِيظًا (7) لِيَسْأَلَ الصَّادِقِينَ عَنْ صِدْقِهِمْ وَأَعَدَّ لِلْكَافِرِينَ عَذَابًا أَلِيمًا (8)
ما مناسبة هذا المقطع وما هي مناسبته لمقصد السورة؟
هذا المقطع ابتدأ بأمر النبي صلى الله عليه وسلم بمجموعة من الأوامر وهي:
اتق الله
لا تطع الكافرين والمنافقين
اتبع ما يوحى إليك من ربك
توكل على الله
وهنا يبرز سؤال: ما هو الغرض من ابتداء السورة بهذه الأوامر؟
وهذه الأوامر تمثل العدة التي سيواجه بها النبي صلى الله عليه وسلم وأتباعه من الدعاة، سيواجهون هذه الشدة والمحنة التي اجتمع فيها الأحزاب عليهم.
وهذه الأوامر هي الميثاق الذي أخذه الله على النبيين كما ورد في آخر المقطع والتمسك بها هو الذي سيظهر الصادقين ويميزهم، وهذا التمسك هو الصدق الذي سيسألون عنه يوم القيامة.
إذا كان الأمر كما ذكرت ما مناسبة ذكر النبي صلى الله عليه وسلم هنا؟
وقوله النبي أولى من أنفسهم إشارة إلى مكانة النبي صلى الله عليه وسلم في هذه الشريعة، وأنه أولى بالمؤمنين من أنفسهم فضلا عن آبائهم في نفوذ حكمه فيهم ووجوب طاعته عليهم، لأنه لا يدعوهم إلا إلى كل خير، ولا يأمرهم إلا بما ينجيهم، وأنفسهم كثيرا ما تدعوهم إلى الهوى والفتنة فتأمرهم بما يرديهم.
وشخصية النبي صلى الله عليه وسلم وأزواجه حاضرة كثيرا في السورة على ما رأينا وسنرى لاحقا إن شاء الله.
ما دلالة الأمر بالتقوى؟ وهل كان النبي صلى الله عليه وسلم بعيدا عن التقوى هاهنا حتى يأمره الله بالتقوى؟
الأمر بالتقوى هنا للاستدامة: أي يا أيها النبي دم واستمر على ما أنت عليه من التقوى، وليس كما يظن أنه لم يتق فأمره بالتقوى، حاشاه وكلا، ومثل هذا قولنا: اهدنا، أي أدم لنا الهداية.
ما دلالة استخدام لفظة ( ربك ) في قوله واتبع ما يوحى إليك من ربك؟
لفظة الرب عموما تحمل ثلاث معاني وهي : المربي والمصلح والسيد، وفي استخدام هذا اللفظ هنا ومناسبته دلالات:
منها: أنه إشارة إلى أن هذا الاتباع هو من حق المربي على هذا العبد.
ومنها: أنه إشارة إلى أن هذا المنعم هو الأحق بالاتباع لأنه صاحب النعم ولأنه هو السيد.
ومنها: أنه إشارة إلى جانب الحياطة والرعاية من الله عز وجل لنبيه وأنه غير تاركه ومخل بينه وبين أعداءه، وأنه ناصره طالما أنه ثابت على تحقيق هذه الأوامر التي أتت في الآيات الأولى.
ما معنى قوله تعالى ( ما جعل الله لرجل من قلبين في جوفه )؟ وما مناسبته لهذا الموضع؟
هنا الكلام دخل في المقدمة بعد التمهيد بما سبق، فالمقدمة أخص من التمهيد لأنها تشتمل على ما يوضح المقصد بخلاف التمهيد، وهذه العبارة( ما جعل الله لرجل من قلبين في جوفه ) مقدمة لأمر النبي صلى الله عليه وسلم باتباعه ما يوحى إليه وهو تشريع الاعتبار بحقائق الأشياء ومعانيها.
قيل في معناها أقوال يرجح لدينا ما ذكره القرطبي في تفسيره (وَقِيلَ: لَا يَجْتَمِعُ الْكُفْرُ وَالْإِيمَانُ بِاللَّهِ تَعَالَى فِي قَلْبٍ، كَمَا لَا يَجْتَمِعُ قَلْبَانِ فِي جَوْفٍ، فَالْمَعْنَى: لَا يَجْتَمِعُ اعْتِقَادَانِ مُتَغَايِرَانِ فِي قَلْبٍ.) فكما أنه لا يجتمع اعتقادان في القلب فلا يمكن أن يكون الإنسان مع حزب هؤلاء وحزب هؤلاء، ولا يمكن أن ينزع إلى الله وإلى غيره في نفس الوقت، ولا يمكن أن يكون الدين بجعل الجاعلين ولكنه بجعل الله وحده، فلا شك أنه في مثل هذه المواقف التي يشتد فيها الأمر سواء على الجبهة الخارجية باجتماع الأعداء أو في الجبهة الداخلية للعبث بأمن المجتمع المسلم على مستوى الأسرة بإفساد النساء وعقائدهن أو على مستوى المجتمع ككل بغرس عادات الجاهلية فيه.
فلا بد هنا في هذه المواقف من الانحياز الكامل لله ورسوله وما أوحي إليه، والانحياز إلى فئة المؤمنين والمؤمنات.
ما مناسبة ذكر كلمة ( رجل ) من الآية؟
لفظ رجل لا مفهوم له لأنه أريد به الإنسان بناء على ما تعارفوه في مخاطباتهم، من نوط الأحكام والأوصاف الإنسانية بالرجال جريا على الغالب في الكلام ما عدا الأوصاف الخاصة بالنساء، وهكذا فإن المراد أيضا أنها لا يدعى لامرأة أن لها قلبين.
وما ذكروه أن كلمة رجل هنا ذكرت احترازا من ذكر المرأة لأنه قد تحمل فيكون في جوفها قلبان قلبها وقلب جنينها ففيه بعد على ما نرى والله أعلم.
ما مناسبة ذكر ( في جوفه ) بعد قوله ( من قلبين ) مع أن القلب معلوم أنه في الجوف؟
الفائدة والمناسبة هنا زيادة توضيح للصورة وتجليتها للسامع لأن ذلك يكون أسرع إلى الاقتناع بإنكار احتواء الجوف على قلبين، وذلك من مثل قوله ( ولكن تعمى القلوب التي في الصدور) ونحوه من القيود المعلومة وإنما يكون التصريح بها تذكيرا بما هو معلوم وتجديدا لتصوره ليكون أوضح وأوقع في نفس السامع.
ما مناسبة الحديث بعد هذه الآية؟
وهنا ايضا يبرز سؤال: ما مناسبة ذكر قضايا الظهار والتبني هنا؟
وفي هذا المقطع ذكرت عدة أشياء لإبطالها وهي:
الظهار
التبني
إبطال الميراث بمؤاخاة غير النسب.
هذه الأوامر كلها تشير إلى معنى واحد وهو اجتثاث جذور أي جاهلية من المجتمع المسلم ومجيء هذه المعاني في بداية السورة – مع ما للبداية من أهمية – يشير إلى أن المعركة الكبرى هي معركة ( اجتثاث الجاهلية من المجتمع ) وأن ما ذكر قبلها من غزوة الأحزاب سيقت كمثال حي على تأييد الله ونصره لمن حقق هذه الشروط في مطلع السورة، وقد رأى المسلمون بأنفسهم انتصارهم على الأحزاب وعلى قريظة على الرغم من شدة الأمر وانعدام أي بارقة في انقضاء الشدة، فحري بهم وقد رأوا نصر الله على الرغم من اجتماع الاعداء وما اصابهم من الشدة أن يمضوا في معركة تخليص المجتمع من أواصر الجاهلية غير عابئين لا بعدو خارجي ولا بعدو داخلي، لأن إعداد المجتمع إعدادا متينا وإصلاح النساء والأسر وإشاعة حكم الله فيه من أهم عوامل الانتصار في الجبهة الخارجية.
إذا، جاء قوله تعالى ( ما جعل الله لرجل من قلبين في جوفه ) كتوطئة وتهيئة لما بعدها، قررت هذه الآية الفرقان بين الحق والباطل ثم تلاها حديث عن مثال عملي عن الفرق بين الحق والباطل: فالباطل قول الرجل لامرأته أنت علي كظهر أمي أو ادعاء الرجل بنوة من ليس من صلبه.
وقول الله عز وجل ( وما جعل أدعياءكم أبناءكم ) هو المقصود المراد بالحديث ولذلك أسهب الكلام بعده بتفاصيل التشريع فيه، والرابط بين هذه الأمور الثلاثة ( القلب – الظهار – بنوة الدعي ) هو ادعاء أمور لا حقيقة لها، ولذلك عطفت على بعضها البعض.
ومجيء هذه الآيات هنا يؤكد على أن اجتثاث جذور الجاهلية بعاداتها وتقاليدها و نظامها في المجتمع الإسلامي هي أولى أولويات القائد وأولويات حزب المؤمنين، فكما لم يجعل الله لرجل من قلبين في جوفه فكذلك لا ينبغي أن يجتمع في المجتمع المسلم كفر وإيمان، ولا عادات جاهلية وأحكام شرعية.
وعندما جاء الحديث عن إبطال البنوة، بنوة زيد بن حارثة رضي الله عنه، جاءت الآيات لتبين حقيقة الصلة بالنبي صلى الله عليه وسلم مع عموم المؤمنين.
وهنا في قوله ( النبي أولى بالمؤمنين من أنفسهم ) تبرز شخصية النبي صلى الله عليه وسلم قدوة المسلمين وقدوة القادة، وتبرز شخصيات أزواجه رضوان الله عليهم أمهاتنا وقدوات نسائنا، كل هذا في تهيئة وتوطئة لما سيتلى لاحقا في السورة، وفيه أيضا تأكيد وإشارة إلى ارتباط هذه المعاني الموجودة في السورة بشخص النبي صلى الله عليه وسلم وأزواجه لأهميتها وخطرها، وفيها أيضا تصوير لقدواتنا في مثل هذه الظروف المشابهة.
تلا ذلك مباشرة الحديث عن ( أزواج النبي ) باعتبارهن قدوات النساء المسلمات، وسيأتي الحديث لاحقا مطولا في شأنهن رضي الله عنهن.
ما هو المراد بالآية التي تحدثت عن الميراث والإحسان إلى الأولياء؟
الظاهر أن السياق هنا مستمر في الحديث عن موضوع التبني، وهنا قررت الآيات أن الميراث إنما يكون للأرحام بحسب تقسيم الشارع، إلا أن الآيات جاءت بعدها مباشرة لتؤكد على موضوع مهم وهو الإحسان إلى هؤلاء الأدعياء في باب البر والإحسان، فكما جعل لهم بدلا من التبني وهو والولاية جعل لكم كذلك بدلا من الميراث وهو الإحسان والمعروف.
ما دلالة إفراد النبي صلى الله عليه وسلم بقوله ومنك؟ وما مناسبة ذكر هؤلاء الأنبياء؟ وما مناسبة إعادة ذكر الميثاق مع الغلظ؟
ذكر الضمير هنا ( ومنك ) إيماء إلى تفضيل النبي صلى الله عليه وسلم عن الأنبياء جميعا، وهذا المعنى وهو تشريف النبي صلى الله عليه وسلم وبيان قدره ظاهر على طول السورة، وهذا فيه إشارة أيضا إلى أنه صلى الله عليه وسلم من أعظم من وفى بهذا الميثاق الغليظ، ثم إن موضع ( منك ) هنا مقدمة في ترتيب الذكر على باقي الأنبياء مع تأخر زمن النبي صلى الله عليه وسلم إشارة أيضا إلى التفضيل.
فكان التفضيل هنا من بابين باب التقديم وباب إفراده بذكر الضمير.
وخص هؤلاء الرسل بالذكر لأنهم افضل الرسل وأوفاهم بالعهد الذي أخذ عليهم على الرغم مما لاقوه من شدة وعنت من قبل أقوامهم في صور تشبه حالة المؤمنين في محاولة إرساء قواعد الشريعة في مجتمعهم الناشئ.
وأما إعادة الحديث عن الميثاق فلزيادة التأكيد وليبنى عليها وصف الميثاق بالغليظ، وليعلق عليه أيضا لام التعليل لاحقا ( ليسأل )، فيكون من دواعيه التجهيز والإعداد لذكر جزاء الصادقين وعذاب الكافرين.
ما مناسبة قوله ( والمهاجرين ) بعد والمؤمنين ولم يقل من الأنصار والمهاجرين مثلا؟
هذا ما يسمى الاحتباك والاحتباك أن يخفي معنى في الجزء الأول من الجملة يدل عليه الجزء الثاني، والعكس بالعكس، فهنا وصف الأنصار بالمؤمنين إشارة إلى وصف المهاجرين بمثل هذا، وصرح بالمهاجرين ثانيا إشارة إلى أن المقصود بالمؤمنين في أول الجملة هم الأنصار، فجاء بمعان كثيرة في كلمات قليلة، وأثبت الإيمان لهم جميعا المهاجرين والأنصار.
وربما كان فيه أن أهم صفات الأنصار هو الإيمان بما عند الله وهذا ظاهر في تصديقهم، وأن أهم صفات المهاجرين هو هجرتهم أي ترك أرضهم إلى أرض يعبدون فيها الله جل وعلا، وأن الهجرة من الإيمان وأن النصرة منه أيضا.
ما هو الميثاق الذي أخذ على النبيين في هذا المقطع بحسب السياق؟
هذا الميثاق المذكور هنا تدل عليه الآيات السابقة، وله تعلق كبير بها، فإن الميثاق المأخوذ هنا هو محور الحديث في الآيات السابقة، من تغيير المألوفات إلى ما شرعه الله، وإبلاغ ما يوحى إليهم والعمل بمقتضاه، مع الدوام على تقواه، والإعراض عن طاعة الكافرين والمنافقين الذين يريدون إبطال شرع الله، واتباع أمره ووحيه، والتوكل عليه في حال اشتد الأمر واضطرب.
وهذا أيضا واضح من سيرة الأنبياء والرسل عليهم السلام جميعا والابتلاءات التي ابتلوا بها عليهم السلام.
جميع الحقوق متاحة للمسلمين دون اشتراط ذكر المصدر © 2023 7a9ad.com. All Rights Reserved