حقيقة النعمة

( حقيقة النعمة )

بسم الله الرحمن الرحيم

ن ۚ وَالْقَلَمِ وَمَا يَسْطُرُونَ ﴿۱﴾ مَا أَنْتَ بِنِعْمَةِ رَبِّكَ بِمَجْنُونٍ ﴿۲﴾ وَإِنَّ لَكَ لَأَجْرًا غَيْرَ مَمْنُونٍ ﴿۳﴾ وَإِنَّكَ لَعَلَىٰ خُلُقٍ عَظِيمٍ ﴿٤﴾ فَسَتُبْصِرُ وَيُبْصِرُونَ ﴿٥﴾ بِأَيْيِكُمُ الْمَفْتُونُ ﴿٦﴾ إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ بِمَنْ ضَلَّ عَنْ سَبِيلِهِ وَهُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ ﴿٧﴾

ما موضوع هذا الفصل، وما هي مناسبته لمقصد السورة؟

هذا الفصل هو مطلع السورة،

ما هو المراد بالمقسم به ( القلم وما يسطرون ) هنا؟

تعريف القلم هنا على معنيين:

أولا: تعريف جنس فالمراد منه القسم بجنس القلم لا بواحد منه، فيكون المراد بالقلم هنا هو آلة الكتابة، والقسم هنا يكون بكل قلم، ومما يؤكد هذا قوله في سورة العلق ( الذي علم بالقلم )،

الثاني:

تعريف عهد، والمعنى القلم الذي تكتب به المقادير، تكتب به الملائكة.

وما جاء من القسم بعد ذلك بقوله ( وما يسطرون ) أي ما يكتبون في السطور، وأصل السطر التقطيع، وإنما سميت الكتابة سطورا لأنها تظهر مقطعة على هذه السطور. فما إما أن تكون:

مصدرية: والمعنى أقسم بالقلم وبسطرهم أي بعملية الكتابة التي يقومون بها.

موصولة: والمعنى أقسم بالقلم وبالذي يكتبونه من العلم.

وأما القول بأنه إشارة إلى علم الله المتعلق بما كان وبما سيكون أو أنه كائن غيبي لا يعلمه إلا الله فقول بعيد لا قرينة تشير إليه، وأغرب من ذلك من قال بأن القلم هو ( مهارات التفكير ) ولا يعلم في لغة العرب الإشارة إلى مهارات التفكير بالقلم، ومثل هذه التفاسير ليس لها من القبول نصيب، وهو قول مبتدع محدث شنيع.

وكلا المعنيين السابقين محتمل، أقصد كونه قلم المقادير أو القلم عموما:

فالمعنى الأول: يشير إليه ما جاء لاحقا في السورة بقوله ( أم عندهم الغيب فهم يكتبون )، لكن يبقى السؤال ما علاقته بالنعمة؟ والجواب: أنه يحمل معان عدة:

منها: أنه لفت النظر لعظم قدر القرآن، فإن منزله هو رب الملائكة الذين يكتبون المقادير بإذنه، فهو من يكتب الغيب ويملك الأمر كله.

ومنها: الإشارة إلى أنه طالما هو يملك كتابة المقادير وأن هذه الملائكة تسطر الأمر بإذنه، فقوله الحق حين ينفي عنك الجنون بهذا القرآن العظيم القدر، وأنه المتكفل لك بالأجر العظيم والقادر على الإيفاء بهذا الوعد، وأنه القادر على إنفاذ وعده في قوله فستبصر ويبصرون، فإن من يملك المقادري لا يعزب عنه أن يظهر الحق فيمن ضل عن سبيله وفيمن اهتدى.

وعلى المعنى الثاني: يكون فيها معان عديدة:

منها: تذكير الناس بنعمة الكتابة التي كانت سببا لتلقي الوحي وحفظه هذا الوحي الذي هو ( نعمة ) من الله عز وجل، والذي شابهوا فيه ملائكة الله عز وجل في رزقهم إياها.

وكل ما سبق مراد ومحتمل يحتمله السياق وتحتمله اللغة وإشار إلى بعضه المفسرون، فتأمل كيف يطوي الله المعاني الكثيرة في الكلام القليل، ولا يقدر على هذا إلا رب على كل شيء قدير.

ما هي المعاني التي ينتهي إليها القسم بالقلم والكتابة؟

القسم بالقلم والكتابة هنا له عدة معان:

منها: الإشارة إلى نعمة الكتابة، والتي مكنت الإنسان من حفظ علمه وتبادله، والنعمة كما ذكرنا محور السورة، وقد سبق أن امتن الله على الإنسان بالتعليم بالقلم في السورة التي سبقت هذه السورة نزولا مباشرة وهي سورة العلق في قوله تعالى ( الذي علم بالقلم علم الإنسان ما لم يعلم ) فامتن عليه بالتعليم بهذه الواسطة وهي القلم، كما امتن عليه في مواضع أخرى بالبيان ( خلق الإنسان علمه البيان )، فالقلم من نعم الله الكبرى، فما بالك لو كان هذا المكتوب بالقلم هو كلام الله، وتأمل قوله في آخر السورة ( وما هو إلا ذكر للعالمين ).

ومنها: وله تعلق بما سبق، الإشارة إلى أن دافعهم وباعثهم لاتهام النبي صلى الله عليه وسلم بالجنون إنما هو هذا الكتاب، فبدل أن يفرحوا بنعمة الله التي أنعم بها عليهم،

ومنها: وله أيضا تعلق بما سبق، الإشارة إلى أن هذا القرآن هو كتاب الإسلام، وأنه سيكون مكتوبا مقروءا بين المسلمين.

فتأمل كل هذه الرسائل المختبئة خلف عدة كلمات.

ما هو سبب وصف المكذبين للنبي بالمجنون بدلا من الرد المنطقي على ادعاءات النبي صلى الله عليه وسلم؟

هذه الوسيلة إحدى الوسائل القديمة في إسقاط الدعوات، وهي إسقاط الدعاة بالنيل من أشخاصهم فتسقط الدعوة بسقوطهم، وهي مغالطة منطقية مشهورة تتخذ النيل من الأشخاص أنفسهم بدلا من الحديث عن أخطائهم، وهذا كله من الباطل الذي لا طائل تحته فإن من يريد إسقاط دعوة ما عليه أن يتجه إلى مقارعتها بالحجج المنطقية ولأجل هذا جاءت الآيات في ثنايا السورة ترد كل شبهة يمكن أن تسقط الدعوة.

فينبغي للمسلم القارئ المتدبر أن ينتبه لهذا ويعتني به.

ما هي المعاني التي ينتهي إليها جواب القسم؟

جواب القسم هنا ثلاثة جمل هي:

الأولى: ( ما أنت بنعمة ربك بمجنون )

الثانية: ( وإن لك لأجرا غير ممنون )

الثالثة: ( وإنك لعلى خلق عظيم )

والباء هنا لبيان سبب رفع الجنون وهو نعمة ربه، كما يقال أنت بحمد الله عاقل، وأصل الكلام ما أنت بمجنون، وجاءت جملة ( بنعمة ربك ) في الوسط لبيان سبب الرفع.

فالنعمة المرادة هنا: هي نعمة الاصطفاء بالنبوة والرسالة ونعمة إنزال القرآن المعجز.

ويكون المعنى: أنفي عنك حالة كونك متلبسا ومصحوبا بنعمة الله عليك بأن أوحى إليك أن تكون مجنونا.

وكأنها تقول للنبي صلى الله عليه وسلم ومن بعده من الدعاة ممن حملوا الوحي لتبليغه للناس: فما أنت يا محمد بحملك لهذه النعمة العظمة من ربك بمجنون فلا يضيرك أن يقول المكذبون – الذين يحسدونك على ما آتاك ربك من النعمة – أنك مجنون، وليعلموا أن ربك الذي اصطفاك بهذه النعمة يبرئك مما اتهموك به إذ أنت في ذاتك بريء منه وسيثبت للجميع أنك أكمل الناس عقلا وخلقا.

ما معنى غير ممنون؟

الممنون فيها معنيين:

الأول: العطاء بغير أذى من المعطي، وذلك أن يعد المعطي عطاءه ويذكره لمن أعطاه، فهو عطاء ليس فيه منة لأحد على النبي صلى الله عليه وسلم، ولن يعده عليه أحد.

الثاني: العطاء بغير انقطاع، أي ثوابا متزايدا إلى يوم القيامة وأجرا أبديا في الآخرة، ولا بأس أن يكون المراد بالمعنيين سويا وفيه زيادة عن قوله تعالى ( غير مجذوذ ) إذ جمع معنيين في لفظة واحدة.

وكلاهما من تمام النعمة على النبي صلى الله عليه وسلم.

ما مناسبة قوله تعالى بعدها ( وإن لك لأجرا غير ممنون )؟

هذا فيه تثبيت للنبي صلى الله عليه وسلم ومن بعده من الدعاة ممن حملوا تراثه أنه لن يمر أذى الناس لهم دون أجر دائم جسيم غير منقطع، ولا أذى فيه من أحد، فكأنه يقول لهم: امضوا في تبليغ رسالات الله للناس ولا تعبأوا بأذى الناس مستصحبين ما وعدتكم به من الأجر.

ما مناسبة قوله تعالى بعدها ( وإنك لعلى خلق عظيم)؟

الجملة فيها مدح وثناء على النبي صلى الله عليه وسلم بأخلاقه الرفيعة العالية، ولكن فيها توجيه مبطن للنبي صلى الله عليه وسلم أن يتعامل معهم بهذه الأخلاق، فكأنها تقول للنبي صلى الله عليه وسلم: تعامل معهم بهذه الخلق العظيم الذي فطرت عليه إذ تدعوهم إلى ربك، وإذ تنال منهم ما تنال من أذى.

فلم يأمر رسوله هنا صراحة بالصبر، ومتابعة القيام بأمانة التبليغ، وإنما ألمح إلى ذلك إلماحا عجيبا، فكان هذا الإلماح ثناء فاخرا بأنه على خلق عظيم.

وهكذا تتابعت النقاط الثلاث:

الأولى: نفى عنه الجنون

الثانية: وعده بالأجر العظيم لأجل صبره وتحمله أعباء الدعوة

الثالثة: مدحه وزاده بأن وصفه بالطبع الكريم.

ما مناسبة قوله تعالى بعدها ( فستبصر ويبصرون.. ) الآية. وما دلالة التعدية بالباء؟

الفاء هنا للتعقيب والمعنى: إذا علمت هذا بأنك لست مجنونا بما تلبست به من نعمة الوحي والرسالة، وأنك صاحب أجر غير منقطع ولا أذى فيه، وأنك على خلق عظيم، فانتظر واصبر حتى يأتي ذلك اليوم الذي تتبينون فيها الحقيقة أنت وهؤلاء المكذبين، وتعرفون حينها من هو الذي سقط في فتنة النعمة واغتر بها ولم ينجح في امتحانها، اغتر بما عنده من مال وبنين وكذب بنعمة الله الكبرى نعمة الوحي.

أما بالنسبة للتعدية بالباء فقد قيل فيها أقوال عديدة، والذي يظهر منها أنه تضمنت معنى الفعل بصُر بالشيء: إذا صار ذا إدراكٍ وفِطْنةٍ وفَهْمٍ نافذٍ إلى خفايا الأشياء، يقال :-بصُر الرَّجل بعد أن مرّ بتجاربَ كثيرةٍ في حياته – فكأن الآية تشير إلى أنهم:

أولا: أبصروا

ثانيا: بصروا

فهم نظروا فرأوا ثم فهموا حقيقة الأمر حينها وعلموا خفايا الأشياء وحقيقتها، بعد أن خفيت عليهم بسبب المال والبنون في الدنيا، لكنها ظهرت لهم على حقيقتها: إما حين رأوا العذاب أو زالت عنهم هذه النعم في الدنيا، كما حصل مع أصحاب الجنة، أو في الآخرة حين يرون العذاب ويشهد على هذا قوله تعالى ( كذلك العذاب ولعذاب الآخرة أكبر لو كانوا يعلمون ).

وقد ذهب الطاهر بن عاشور رحمه الله مذهبا قريبا جدا من هذا فليراجع كلامه من أحب.

والذي يظهر هنا أن المراد بالمفتون: هو الذي سقط في ابتلاء الفتنة، فتنة المال والولد، ويبعد أن يكون المراد المجنون أو المعذب كما يظهر لي والله أعلم، ويقوي ذلك قوله تعالى لاحقا ( إنا بلوناهم كما بلونا أصحاب الجنة ) أي اختبرناهم كما اختبرنا أصحاب الجنة بأن زرقناهم مالا وولدا،

فحقيقة النعمة الدنيوية أنها اختبار من الله تعالى

ويؤيد هذا أيضا قوله تعالى في آخر السورة ( سنستدرجهم من حيث لا يعلمون ) فالنعمة أيضا نوع من الاستدراج.

ما مناسبة ختام المقطع بقوله تعالى ( إن ربك هو أعلم بمن ضل عن سبيله وهو أعلم بالمهتدين )؟

جاء الكلام هنا بمثابة الدليل والتذييل لما سبق، والتوطئة والتهيئة لما سيأتي وراءه مباشرة من قوله تعالى ( فلا تطع المكذبين )، وهي تقرير وجزم بأنه على هدى وأن الجانب الآخر في ضلال السبيل.

 

 

Map Shot 1

 

Map Shot 2

 

Map Shot 3

 

Map Shot 4

 

Map Shot 5

جميع الحقوق متاحة للمسلمين دون اشتراط ذكر المصدر © 2023 7a9ad.com. All Rights Reserved