بين يدي السورة

المؤثرات في سورة الشعراء

ما هي أسماؤها الواردة فيها؟

اشْتُهِرَتْ عِنْدَ السَّلَفِ بِسُورَةِ الشُّعَراءِ. وكَذَلِكَ جاءَتْ تَسْمِيَتُها في كُتُبِ السُّنَّةِ. وتُسَمّى أيْضًا سُورَةَ طسم.
والجامِعَةَ، ولَمْ يَظْهَرْ وجْهُ وصْفِها بِهَذا الوَصْفِ. ولَعَلَّها أوَّلُ سُورَةٍ جَمَعَتْ ذِكْرَ الرُّسُلِ أصْحابِ الشَّرائِعِ المَعْلُومَةِ إلى الرِّسالَةِ المُحَمَّدِيَّةِ.

ويبقى الشعراء هو الاسم المشتهر عنها والمعتمد إن شاء الله.

أين نزلت؟

نزلت في مكة جميعها.

وقيل أن بعضها نزل في المدينة: كآية الشعراء كونها نزلت في حسان بن ثابت وابن رواحة وكعب بن مالك رضي الله عنهم، ولا دليل في ذلك فإن في مكة شعراء قد أسلموا قبل الهجرة وشعراء مسلمون هاجروا إلى الحبشة.

وكآية علماء بني إسرائيل: والصواب أن علماء بني إسرائيل معروفون في مكة، وكان لأهل مكة صلاة مع اليهود بالمدينة ومراجعة بينهم في شأن النبي صلى الله عليه وسلم، وذكر القرآن مثل هذه الحجة في آيات مكية كثيرة منها سورة الرعد ( قل كفى بالله شهيدا بيني وبينكم ومن عنده علم الكتاب ) ومنها سورة القصص ( الذين آتيناهم الكتاب من قبله هم به يؤمنون ) وسورة العنكبوت ( وكذلك أنزلنا إليك الكتاب فالذين آتيناهم الكتاب يؤمنون به ).

فالراجح أنها مكية كلها.

عدد آياتها؟

وقَدْ جَعَلَ أهْلُ المَدِينَةِ وأهْلُ مَكَّةَ وأهْلُ البَصْرَةِ عَدَدَ آيِها مِائَتَيْنِ وسِتًّا وعِشْرِينَ، وجَعَلَهُ أهْلُ الشّامِ وأهْلُ الكُوفَةِ مِائَتَيْنِ وسَبْعًا وعِشْرِينَ.

ما هو مقصد السورة؟ وما هي القرائن التي دلت على ذلك؟

المتأمل في السورة يجد أن قصص الأنبياء قد احتلت جزءا كبيرة من السورة، مع مطلع ومقطع متميزين تماما.

مثل هذه القصص تقريبا تكررت في سور الأعراف وهود بغض النظر عن الترتيب وبعض الاختلافات.

ولأجل الوصول إلى مقصد السورة يجب علينا أن نبحث عن الفروق في السياق بين القصص في هذه السورة والقصص في غيرها، أو البحث عما يميز القصص في هذه السورة عن القصص في غيرها من السور.

مضيفين إلى ذلك اسم السورة وهو ( الشعراء ) فاسم السورة عادة يعتبر أهم دليل على موضع المقصد فيها، وهو أهم قرينة في أثناء البحث عن المقصد.

ونضيف لهذا قرينة ثالثة وهي: المواضيع التي تناولها المطلع والمقطع حتى يتم البناء المتكامل للسورة.

والذي يظهر أثناء البحث في القصص وجود نوع من الحجاج على طول القصص التي جاءت في القصة، والحجاج عبارة عن أسئلة تطرح تنتظر أجوبة، وقد تذكر السورة جوابا أحيانا وقد لا تذكر، وطرح الأسئلة يعني حثا على التفكير وإعمال الفكر في القضية المطروحة دون أن يعطي السائل جوابا من نفسه، فإن السائل – إن كان يعلم الجواب – إنما يقصد بسؤاله تحفيز التفكير لدى المسؤول حتى يتأمل وينظر في القضية محل النقاش، وهذا في التعليم والهداية أبلغ بكثير من أسلوب الإلزام والتخطيء.

فإذا ضممنا لهذا ما جاء في المطلع من الحديث عن ترك الله عز وجل لإنزال آية مفحمة ملزمة – مع قدرته عليها جل وعلا – وحثهم على التفكر في الخلق – الأرض ونباتها خاصة-، نشعر وكأن القصص كلها جاءت لأجل هذا الغرض وهو ( تحفيز التفكير والنظر والتأمل للاهتداء إلى الحق بدل الآية الملزمة المفحمة ).

أما لو ضممنا اسم السورة بهذا المنظور فنجد: أن الشعر هو من المؤثرات التي تحول بين الناس وبين طرق التفكير السليمة المنطقية فتحيد بهم عن الحق، فلو ضممنا هذا لما سبق: ينتج لدينا أن السورة تبين سبب انصراف أكثر الناس عن الحق، وهو المؤثرات التي تحول بينهم وبين التفكير والنظر والتأمل المنطقي الفطري الهادي إلى سواء السبيل، فليست القضية نزول آية مقنعة، وإنما استخدام ما وهبه الله للإنسان من ملكات نظر وفكر وتأمل، وعدم استسلام الإنسان للمؤثرات التي يمكن أن تحرفه عن الاهتداء للحق.

أما قضية المؤثرات الجمعية: فبالنظر والتأمل في الموضع الذي جاء فيه اسم السورة، فالمتأمل في هذا الموضع بالذات يرى أن السورة في آخرها تنفي أمرين عن النبي صلى الله عليه وسلم:
الأول: الكهانة ( هل أنبئكم على من تنزل الشياطين * تنزل على كل أفاك أثيم * يلقون السمع وأكثرهم كاذبون )

الثاني: الشعر ( والشعراء يتبعهم الغاوون )

والمتتبع لهذين الأمرين تجد نفيهما متلازما دائما تقريبا، فيبقى السؤال: لماذا قدمت قضية الشعر على قضية الكهانة في تسمية السورة؟

والذي يظهر والله أعلم أن المراد هي المؤثرات التي تستهدف الناس كجماعات لا كأفراد، فالناس تذهب إلى الكهان فرادى ولأجل ذلك ذكروا بصيغة المفرد ( أفاك أثيم )، أما الشعراء فذكروا بصيغة الجمع لأنهم يؤثرون في الجماعات، ولأجل ذلك كان يتبعهم الغاوون بصيغة الجمع أيضا، فالمجموعات هنا حاضرة بشكل واضح في هذا الاختيار، وليس هذا فحسب، بل يظهر مثله على طول السورة، فمما تميزت به عبارة من مجموعة مع جمع: من المسجونين، من المرجومين، من المؤمنين، من الضالين، من الكافرين.

ناهيك عن مخاطبة فرعون للملأ ليؤثر فيهم جماعات، بينما الملأ هو الذي كان يتكلم في سورة الأعراف مثلا، وكذلك مخاطبة الأنبياء لأقوامهم مجموعين: فاتقوا الله وأطيعون.

فلو جمعنا ما سبق جميعا، يمكننا أن نقول أن السورة تدور حول المؤثرات الجماعية، المؤثرات الجماعية التي تصرف الناس عن التفكير المنطقي الفطري والذي يقودهم إلى الإيمان والتقوى واتباع الرسل، وليست القضية قضية انفراد السورة بلفظ ما: فقد انفردت سورة البقرة برواية قصة طالوت، ومع ذلك سميت بسورة البقرة، وقد جاء لفظ فصلت في عدة سور ولكن سميت به سورة واحدة بينها دون سواها، والسبب هو دوران معاني السورة حول هذه القضية بالذات دون غيرها سواء تفردت بها أم لا.

لماذا كررت كل هذه القصص للاستدلال على هذه الفكرة؟ ألم تكن تكفي قصة واحدة فحسب؟

ذكر حادثة تاريخية واحدة للدلالة على فكرة معينة يعتبر استدلالا ناقصا، وذلك أن الحادثة الواحدة يتطرق إليها احتمال أن يكون ما حصل على سبيل الصدفة أو الاتفاق، أو وجود عوامل معينة في الحالة المدروسة تجعل سوق مثل هذه الحادثة محل نظر للاستدلال بها على هذه القضية، أما ذكر قصص متعددة في فترات زمنية متباعدة وحالات مختلفة، يدلك دلالة أكيدة على وجود نسق تاريخي ثابت، وسنة إلهية محكمة، وإن كنت تستكثر ورود هذه القصص فانظر كيف كانت عاقبة المكذبين تتكرر في كل مرة على الرغم من وجود من قبلهم من الأمم الهالكة.

ما أهمية المؤثرات الجمعية حتى تفرد لها سورة بهذا الحجم؟

المؤثرات الجمعية ليست قاصرة على الشعراء، وإن كان الشعراء هم أبرز هذه المؤثرات، فقد تكون المؤثرات الجمعية: خطيبا مفوها يؤثر على الجموع ويلهب حماستها ويحرك مشاعرها لا لأجل الدين والحق، ولكن لأجل صرفها عن الفطرة وعن الهدى.

وقد يكون: متحدثا بارعا مؤثرا، صاحب حضور، يقنع الناس بما يريد.

وقد يكون: شيخا ذو هيئة حسنة وسمت حسن يضل الناس بسمته وهيئته، والناس تتأثر بالصور وتنقاد لها.

وقد يكون: متبوئا لمنصب شرعي في جهة شرعية فيظن الناس فيه العلم والخير، فينقادون ويتأثرون بأقواله حتى لو كانت خارج الفطرة والمنطق والدين.

وقد يكون: بارعا في مجال معين كالعلوم التطبيقية أو الرياضة أو التمثيل فينشغل الناس بمثل هذا وينقادون له حتى لو لم يكن له باع في الدين، وحتى لو لم يكن لما يطرحه أصل شرعي أو دليل علمي منطقي.

كل هذه مؤثرات ومعطلات لملكة النظر والتفكر والتأمل، وعلاج كل ذلك كما بينا إنما يكون بطرح الأسئلة وإثارة التفكير.

والحديث عن هذه القضية يحمل عدة رسائل لعدة أطراف:

منها: تنبيه ورثة الأنبياء على مهمتهم الكبرى في إزالة المؤثرات عن العموم أو عن الناس أو عن الجماهير كما صارت تسمى، بل وفي استنقاذهم منها، فالحديث المطول عن قضية المؤثرات الجمعية يبعث الحمية والهمة في نفس المؤمن لأجل استنقاذ الناس أو الملأ أو الجماهير من هذه المؤثرات، ويلقيهم في القرآن لينظروا ويتفكروا ويبصروا، ورحم الله الشيخ رفاعي سرور رحمة واسعة صاحب البصيرة والفطنة المنتبه لهذه القضية القائل ( والهدف .. هو أن تعيش الجماهير واقع الدعوة الذي يستردهم من أسر الإعلام الجاهلي .. الجماهير أسيرة، والدعوة تتطلب إنقاذهم واستردادهم وفك أسرهم ).

ومنها: تنبيه الفرد المسلم إلى أهمية صيانة نفسه من مثل هذه المؤثرات، والنأي بسمعه وبصره وعقله عنها حتى لا يقع فريسة لها، ولا يصبح أسيرا عليها، والنجاة بنفسه إلى القرآن، القرآن الكتاب المبين هو المعتصم وهو الملجأ والمنجا، وهو حبل النجاة لمن تمسك به، وهو الذي يحيي النفوس والعقول والسمع والأبصار ويوجهها إلى مكانها الصحيح، ويعطيها الحقيقة الصرفة.

لماذا الشعراء بالذات؟

ويبقى السؤال: لماذا اختارت الآية الشعراء بالذات كمثال عن المؤثرات الجمعية في هذه السورة؟ والذي يظهر عدة أوجه:

منها: أن الشعراء هم المؤثر الأكبر في وقت نزول السورة، وعملهم يشمل: الكلام: ولأجل هذا جاء الحديث عن اللسان وعن القول وعن السمع كثيرا في السورة، والثاني: التصوير: فكانت براعة الشاعر ومكانته إنما تكون في تصويره الأشياء عن طريق الكلام بحيث ترتسم صورة الشيء في مخيلة السامع عندما يسمع كلامه كأحسن ما يكون، ولأجل هذا ارتفع قدر امرء القيس بين الشعراء لقدرته الهائلة على التصوير، مع أن المعاني في شعر غيره ربما تكون أحلى.

وهذا هو الرابط بينهم وبين وسائل الإعلام المعاصرة التي استطاعت نقل الصورة كما هي، فكان الشعراء ينقلون الصور بالكلام، وصارت الصور تنقل اليوم كما هي.

ومنها: الاسم فإن مادة شعر – كما يذكر ابن فارس في معجم مقاييس اللغة: ‌‌(‌شَعَرَ) الشِّينُ وَالْعَيْنُ وَالرَّاءُ أَصْلَانِ مَعْرُوفَانِ، يَدُلُّ أَحَدُهُمَا عَلَى ثَبَاتٍ، وَالْآخَرُ عَلَى عِلْمٍ وَعَلَمٍ، ومرادنا في الأصل الثاني، قال فيه ابن فارس: وَالْبَابُ الْآخَرُ: الشِّعَارُ: الَّذِي يَتَنَادَى بِهِ الْقَوْمُ فِي الْحَرْبِ لِيَعْرِفَ بَعْضُهُمْ بَعْضًا. وَالْأَصْلُ قَوْلُهُمْ شَعُرْتُ بِالشَّيْءِ، إِذَا عَلِمْتَهُ وَفَطِنْتَ لَهُ. وَلَيْتَ شِعْرِي، أَيْ لَيْتَنِي عَلِمْتُ. قَالَ قَوْمٌ: أَصْلُهُ مِنَ الشَّعْرَةِ كَالدُّرْبَةِ وَالْفِطْنَةِ، يُقَالُ شَعَرَتْ شَُِعْرَةً. قَالُوا: وَسُمِّي الشَّاعِرُ لِأَنَّهُ يَفْطِنُ لِمَا لَا يَفْطِنُ لَهُ غَيْرُهُ. قَالُوا: وَالدَّلِيلُ عَلَى ذَلِكَ قَوْلُ عَنْتَرَةَ:

هَلْ غَادَرَ الشُّعَرَاءُ مِنْ مُتَرَدَّمِ … أَمْ هَلْ عَرَفْتَ الدَّارَ بَعْدَ تَوَهُّمِ

يَقُولُ: إِنَّ الشُّعَرَاءَ لَمْ يُغَادِرُوا شَيْئًا إِلَّا فَطِنُوا لَهُ. وَمَشَاعِرُ الْحَجِّ: مَوَاضِعُ الْمَنَاسِكِ، سُمِّيَتْ بِذَلِكَ لِأَنَّهَا مَعَالِمُ الْحَجِّ. وَالشَّعِيرَةُ: وَاحِدَةُ الشَّعَائِرِ، وَهِيَ أَعْلَامُ الْحَجِّ وَأَعْمَالُهُ. قَالَ اللَّهُ جَلَّ جَلَالُهُ: {إِنَّ الصَّفَا وَالْمَرْوَةَ مِنْ شَعَائِرِ اللَّهِ} [البقرة: 158]

فالشعراء سموا بالشعراء: لأنهم يتفطنون لما لا يتفطن له فأصل الشعور: الانتباه للشيء ومعرفته والعلم به، وشعرت به إذا علمته وفطنت له، وليت شعري: أي ليتني علمت، وكأنه ذكرت التقسيم الوارد في سورة الفاتحة بشكل آخر: فالفاتحة قسمت أهل الضلال إلى : المغضوب عليهم وهم المضلون والضالون الذين يتبعونهم، وهنا جاءت أيضا بنفس الطريقة ولكن بشكل آخر لأنها فصلت وبينت في أساليب المضلين في حرف الناس عن الحق وذلك بإغراقهم في المؤثرات التي تصرفهم عن النظر والتأمل الموصل للحق.

فقسمت الناس إلى الشعراء: وهم المضلون الذين يتفطنون لما لا يتفطن له الناس ويعلمونه وهم الخواص وعلية القوم، والغاوون: وهم التبع الذين يتبعونهم ويسيرون خلفهم.

لماذا الغاوون خاصة دون غيرها، كالضالون مثلا؟

فرق بين الغواية والضلالة يبينها ابن فارس في معجم مقاييس اللغة، فيقول في الضلالة:

‌‌(‌ضَلَّ: الضَّادُ وَاللَّامُ أَصْلٌ صَحِيحٌ يَدُلُّ عَلَى مَعْنًى وَاحِدٍ، وَهُوَ ضَيَاعُ الشَّيْءِ وَذَهَابُهُ فِي غَيْرِ حَقِّهِ. يُقَالُ: ‌ضَلَّ يَضِلُّ وَيَضَلُّ، لُغَتَانِ. وَكُلُّ جَائِرٍ عَنِ الْقَصْدِ ضَالٌّ. وَالضَّلَالُ وَالضَّلَالَةُ بِمَعْنًى. وَرَجُلٌ ضِلِّيلٌ وَمُضَلَّلٌ، إِذَا كَانَ صَاحِبَ ضَلَالٍ وَبَاطِلٍ. وَمِمَّا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ أَصْلَ الضَّلَالِ مَا ذَكَرْنَاهُ قَوْلُهُمْ أُضِلَّ الْمَيِّتُ، إِذَا دُفِنَ. وَذَاكَ كَأَنَّهُ شَيْءٌ قَدْ ضَاعَ. وَيَقُولُونَ: ‌ضَلَّ اللَّبَنُ فِي الْمَاءِ، ثُمَّ يَقُولُونَ اسْتُهْلِكَ. وَقَالَ فِي أُضِلَّ الْمَيِّتُ:

وَآبَ مُضِلُّوهُ بِعَيْنٍ جَلِيَّةٍ … وَغُودِرَ بِالْجَوْلَانِ حَزْمٌ وَنَائِلُ

قَالَ ابْنُ السِّكِّيتِ: يُقَالُ أَضْلَلْتُ بَعِيرِي، إِذَا ذَهَبَ مِنْكَ ; وَضَلَلْتُ الْمَسْجِدَ وَالدَّارَ، إِذَا لَمْ تَهْتَدِ لَهُمَا. وَكَذَلِكَ كُلُّ شَيْءٍ مُقِيمٍ لَا يُهْتَدَى لَهُ. وَيُقَالُ: أَرْضٌ مَضِلَّةٌ وَمَضَلَّةٌ. وَوَقَعُوا فِي وَادِي تُضَُلِّلَ، إِذَا وَقَعُوا فِي مَضَِلَّةٍ

‌‌(غَوِيَ) الْغَيْنُ وَالْوَاوُ وَالْحَرْفُ الْمُعْتَلُّ بَعْدَهُمَا أَصْلَانِ: أَحَدُهُمَا يَدُلُّ عَلَى خِلَافِ الرُّشْدِ وَإِظْلَامِ الْأَمْرِ، وَالْآخَرُ عَلَى فَسَادٍ فِي شَيْءٍ.

فَالْأَوَّلُ الْغَيُّ، وَهُوَ خِلَافُ الرُّشْدِ، وَالْجَهْلُ بِالْأَمْرِ، وَالِانْهِمَاكُ فِي الْبَاطِلِ. يُقَالُ غَوَى يَغْوِي غَيًّا. قَالَ:

فَمَنْ يَلْقَ خَيْرًا يَحْمَدُ النَّاسُ أَمْرَهُ … وَمَنْ يَغْوَ لَا يَعْدَمْ عَلَى الْغَيِّ لَائِمَا

وَذَلِكَ عِنْدَنَا مُشْتَقٌّ مِنَ الْغَيَايَةِ، وَهِيَ الْغُبْرَةُ وَالظُّلْمَةُ تَغْشَيَانِ، كَأَنَّ ذَا الْغَيِّ قَدْ غَشِيَهُ مَا لَا يَرَى مَعَهُ سَبِيلَ حَقٍّ. وَيُقَالُ: تَغَايَا الْقَوْمُ فَوْقَ رَأْسِ فُلَانٍ بِالسُّيُوفِ، كَأَنَّهُمْ أَظَلُّوهُ بِهَا. وَيُقَالُ: وَقَعَ الْقَوْمُ فِي أَغْوِيَّةٍ، أَيْ دَاهِيَةٍ وَأَمْرٍ مُظْلِمٍ. وَالتَّغَاوِي: التَّجَمُّعُ، وَلَا يَكُونُ ذَلِكَ فِي سَبِيلِ رُشْدٍ. وَالْمُغَوَّاةُ: حُفْرَةُ الصَّائِدِ، وَالْجَمْعُ مُغَوَّيَاتٌ. وَفِي الْحَدِيثِ: ” «يُحِبُّونَ أَنْ يَكُونُوا مُغَوَّيَاتٍ» “، يُرَادُ أَنَّهُمْ يَحْتَجِنُونَ الْأَمْوَالَ، كَالصَّائِدِ الَّذِي يَصِيدُ.

فَأَمَّا الْغَايَةُ فَهِيَ الرَّايَةُ، وَسُمِّيَتْ بِذَلِكَ لِأَنَّهَا تُظِلُّ مَنْ تَحْتَهَا. قَالَ:

قَدْ بِتُّ سَامِرَهَا وَغَايَةِ تَاجِرٍ … وَافَيْتُ إِذْ رُفِعَتْ وَعَزَّ مُدَامُهَا

ثُمَّ سُمِّيَتْ نِهَايَةُ الشَّيْءِ غَايَةً. وَهَذَا مِنَ الْمَحْمُولِ عَلَى غَيْرِهِ، إِنِّمَا سُمِّيَتْ غَايَةً بِغَايَةِ الْحَرْبِ، وَهِيَ الرَّايَةُ، لِأَنَّهُ يُنْتَهَى إِلَيْهَا كَمَا يَرْجِعُ الْقَوْمُ إِلَى رَايَتِهِمْ فِي الْحَرْبِ.

وَالْأَصْلُ الْآخَرُ: قَوْلُهُمْ: غَوِيَ الْفَصِيلُ، إِذَا أَكْثَرَ مِنْ شُرْبِ اللَّبَنِ فَفَسَدَ جَوْفُهُ. وَالْمَصْدَرُ الْغَوَى. قَالَ:

مُعَطَّفَةُ الْأَثْنَاءِ لَيْسَ فَصِيلُهَا … بِرَازِئِهَا دَرًّا وَلَا مَيِّتٍ غَوَى

فاختيار هذه التسمية مقصود ومراد ليدل على معنى لا يحمله لفظ الضلال الذي هو بمعنى الضياع وعدم الاهتداء للشيء، فالغاوين هؤلاء:

أولا: كان هناك ما يغطي أبصارهم وأعينهم عن رؤية الحق والهدى على المعنى الأول الذي أتت به اللفظة، فهذه المؤثرات التي أتى بها هؤلاء الشعراء، أو جنود إبليس، أو من يقوم مقامهم غطت أفهامهم ونظرهم، فجاءت الأسئلة التي طرحها عليهم الأنبياء لتحريك هذه الأفهام ولينفضوا عن أبصارهم غبار هذه المؤثرات فيبصروا طريق الحق.

ثانيا: أسلم هؤلاء نفوسهم لهذه المؤثرات وأخذوا منها الشيء الكثير حتى فسدت قلوبهم، كما فسد جوف الفصيل، وما عليهم إلا أن يفرغوا قلوبهم من هذه المؤثرات ويملؤونها بالحق والنور من كتاب الله.

 

 

Map Shot 1

 

 

Map Shot 2

 

 

Map Shot 3

جميع الحقوق متاحة للمسلمين دون اشتراط ذكر المصدر © 2023 7a9ad.com. All Rights Reserved