بين يدي السورة

سورة الأنبياء

ما هي أسماؤها الواردة فيها؟

سَمّاها السَّلَفُ ”سُورَةَ الأنْبِياءِ“ . فَفي صَحِيحِ البُخارِيِّ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَسْعُودٍ قالَ: بَنُو إسْرائِيلَ، والكَهْفُ، ومَرْيَمُ، وطَهَ، والأنْبِياءُ، هُنَّ مِنَ العِتاقِ الأُوَلِ، وهُنَّ مِن تِلادِي. ولا يُعْرَفُ لَها اسْمٌ غَيْرُ هَذا.

أين نزلت؟

مَكِّيَّةٌ بِالِاتِّفاقِ، واختلف في زمن نزولها في مكة:

فقال بعضهم أنها كانت من أوائل ما نزل في مكة، معتمدين على قول ابن عباس أنهن من العتاق الأول ومن تلادي.

وقال آخرون: أنها من أواخر ما نزل في مكة وعدوها الحادية والسبعون في ترتيب النزول، وهذا ما ترجحه المواضيع التي جاءت في السورة، مثل الحديث عن الاستهزاء والوعد بالإنجاء والحديث عن الإهلاك والتهديد به وباقتراب الساعة، وكلها مواضيع مناسبة للمرحلة المكية الأخيرة حيث بدأ مشركو قريش بمحاولات البطش بالنبي صلى الله عليه وسلم ومن معه، مع استمرارهم بالاستهزاء والتكذيب، فجاءت السورة لتعالج مثل هذه الظروف.

هل ورد شيء في فضل هذه السورة؟

لم يثبت في فضلها شيء.

عدد آياتها؟

وعَدَدُ آيِها في عَدِّ أهْلِ المَدِينَةِ ومَكَّةَ والشّامِ والبَصْرَةِ مِائَةٌ وإحْدى عَشَرَ، وفي عَدِّ أهْلِ الكُوفَةِ مِائَةٌ واثْنَتا عَشْرَةَ.

ما هو مقصد السورة؟ وما هي القرائن التي دلت على ذلك؟ وما علاقة الاسم بالمقصد؟

لا بد للباحث في مقصد السورة أو المناسبات فيها أن يتوقف طويلا عند اسم السورة ودلالاته، لما لاسم السورة من أهمية في فهمها وإدراك مراميها والوصول إلى مقصدها، واللافت للنظر في اسم هذه السورة أن اسمها لا لم يرد في السورة ولم يرد أي لفظة مشتقة من جذره، فلم ترد كلمة (نبي) أو (أنبياء) أو أي لفظة مشتقة من الأصل المجرد للكلمة (نبو) أو (نبأ)،وهذه إحدى الحالات التي تنسف قاعدة أن اسم السورة يؤخذ من أي كلمة فيها.

وقد علل بعض أهل العلم تسمية السورة بهذا الاسم لكثرة ما ورد فيها من قصص الأنبياء، فقد ذكرت ستة عشر نبيا، ولكنه ليس أكبر من عدد الأنبياء الوارد في سورة الأنعام، إذ ذكر فيها ثمانية عشر نبيا، وهذا أيضا يضعف هذه الفكرة: فكرة علاقة السورة بالعدد، فلا بد من البحث عن متعلق آخر.

والأنبياء جمع نبي، والنبي أصلها إما من نبو أو من نبأ، وهي على وزن فعيل بمعنى فاعل أو مفعول، قال الأزهري في تهذيب اللغة: (وَقَالَ الزجّاج: الْقِرَاءَة المُجْتمع عَلَيْهَا فِي (النَّبيين) و (الْأَنْبِيَاء) طَرْح الْهمزَة، وَقد همز جماعةٌ من أَهل الْمَدِينَة جَميع مَا فِي القُرآن من هَذَا، واشتقاقه من (نبأ) و (أنبأ) ، أَي أخبر.

قَالَ: والأجود ترك الْهَمْز، لِأَن الِاسْتِعْمَال يُوجب أَن مَا كَانَ مهموزاً من (فعيل) فَجَمعه: فعلاء، مثل: ظَريف وظُرفاء.

فَإِذا كَانَ من ذَوَات الْيَاء فَجمعه (أفعلاء) ، نَحْو: غَنِيّ وأغنياء، ونبيّ وأنبياء، بِغَيْر همز.

فإِذا همزت، قلت: نبيء ونُبَآء، كَمَا تَقول فِي الصَّحِيح، وَهُوَ قَلِيل.

قَالُوا: خَمِيس وأَخمساء، ونَصيب وأَنصباء.

فَيجوز أَن يكون (نَبِي) من (أنبأت) مِمَّا تُرك همزه لِكَثْرَة الِاسْتِعْمَال.

وَيجوز أَن يكون من: نبا ينبو، إِذا ارْتَفع، فَيكون (فعيلا) من (الرِّفعة)).

وقد ذكر ابن فارس في المقاييس أن: (النُّونُ وَالْبَاءُ وَالْحَرْفُ الْمُعْتَلُّ أَصْلٌ صَحِيحٌ يَدُلُّ عَلَى ارْتِفَاعٍ فِي الشَّيْءِ عَنْ غَيْرِهِ أَوْ تَنَحٍّ عَنْهُ. [نَبَا بَصَرُهُ عَنِ الشَّيْءِ] يَنْبُو. وَنَبَا السَّيْفُ عَنِ الضَّرِيبَةِ: تَجَافَى وَلَمْ يَمْضِ فِيهَا. وَنَبَا بِهِ مَنْزِلُهُ: لَمْ يُوَافِقْهُ، وَكَذَا فِرَاشُهُ. وَيُقَالُ نَبَا جَنْبُهُ عَنِ الْفِرَاشِ. قَالَ:

إِنَّ جَنْبِي عَنِ الْفِرَاشِ لِنَابٍ … كَتَجَافِي الْأَسَرِّ فَوْقَ الظِّرَابِ

وَيُقَالُ إِنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ اسْمُهُ مِنَ النَّبْوَةِ، وَهُوَ الِارْتِفَاعُ، كَأَنَّهُ مُفَضَّلٌ عَلَى سَائِرِ النَّاسِ بِرَفْعِ مَنْزِلَتِهِ. وَيَقُولُونَ: النَّبِيُّ: الطَّرِيقُ. قَالَ:

لَأَصْبَحَ رَتْمًا دُقَاقَ الْحَصَى … مَكَانَ النَّبِيِّ مِنَ الْكَاثِبِ)

‌‌وقال في مادة (نَبَأَ): (النُّونُ وَالْبَاءُ وَالْهَمْزَةُ قِيَاسُهُ الْإِتْيَانُ مِنْ مَكَانٍ إِلَى مَكَانٍ. يُقَالُ لِلَّذِي يَنْبَأُ مِنْ أَرْضٍ إِلَى أَرْضٍ نَابِئٌ. وَسَيْلٌ نَابِئٌ: أَتَى مِنْ بَلَدٍ إِلَى بَلَدٍ وَرَجُلٌ نَابِئٌ مِثْلُهُ. قَالَ:

وَلَكِنْ قَذَاهَا كُلُّ أَشْعَثَ نَابِئٍ … أَتَتْنَا بِهِ الْأَقْدَارُ مِنْ حَيْثُ لَا نَدْرِي

وَمِنْ هَذَا الْقِيَاسِ النَّبَأُ: الْخَبَرُ، لِأَنَّهُ يَأْتِي مِنْ مَكَانٍ إِلَى مَكَانٍ. وَالْمُنْبِئُ: الْمُخْبِرُ. وَأَنْبَأْتُهُ وَنَبَّأْتُهُ. وَرَمَى الرَّامِي فَأَنْبَأَ، إِذَا لَمْ يَشْرِمْ، كَأَنَّ سَهْمَهَ عَدَلَ عَنِ الْخَدْشِ وَسَقَطَ مَكَانًا آخَرَ. وَالنَّبْأَةُ: الصَّوْتُ. وَهَذَا هُوَ الْقِيَاسُ، لِأَنَّ الصَّوْتَ يَجِيءُ مِنْ مَكَانٍ إِلَى مَكَانٍ. قَالَ ذُو الرُّمَّةِ:

وَقَدْ تَوَحَّسَ رِكْزًا مُقْفِرٌ نَدُسٌ … بِنَبْأَةِ الصَّوْتِ مَا فِي سَمْعِهِ كَذِبُ

وَمَنْ هَمَزَ النَّبِيَّ فَلِأَنَّهُ أَنْبَأَ عَنِ اللَّهِ تَعَالَى. وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِالصَّوَابِ

وفي العين: والنبي يقال: الطريق الواضح يأخذك حيث تريد، ويقول أوس بن حجر

لأصبح رتما دقاق الحصى                                 مكان النبي من الكاثب

وقصد الشاعر أن المعالم تظهر الطريق الممهد من الوعر الذي كثب عليه الرمل)

وكان يمكن أن يختار الله تعالى للآية اسم (الرسل) بدل (الأنبياء) فكل رسول نبي، وهناك تشابه في المعنى وعلاقة للمادة بكلمات عديدة في السورة كما سنرى، لكن الله لم يفعل هذا بس سماها سورة الأنبياء لأنه الاسم الذي ينطبق معناه على موضوع السورة ومحورها.

وقد ذكر أهل العلم مقاصد عديدة لهذه السورة، وأقرب الاختيارات فيما يظهر والله أعلم هو (على منهج الأنبياء) أي أن السورة جاءت لتقول للنبي صلى الله عليه وسلم أن ما عليه أنت الآن وما سيؤول إليه أمرك هو ما أصاب الأنبياء من قبلك وما آل إليه أمرهم.

والذي يظهر أن الآية المحورية هي قوله تعالى (وإن هذه أمتكم أمة واحدة وأنا ربكم فاعبدون).

وهذا المقصد على اختصاره يثير في نفس سامعه التشوف إلى معرفة حيثيات هذا المنهج وأهم محطاته وملامحه، فتأتي هذه السورة لتبين لسامع هذا المقصد هذه المحطات والملامح وتجلي منهج الأنبياء في تفاصيله كما سيمر علينا في أثناء شرح السورة، وأهم هذه الملامح باختصار:

الدعوة إلى التوحيد

تكذيب الكافرين

إهلاك المسرفين

الإستهزاء بهم

عبادة الأنبياء

صلاحهم

بشريتهم وموتهم

دعاؤهم ومناداتهم لربهم

استجابة الله لهم

زيادة العطاء لهم

وأخيرا بشرى النبي صلى الله عليه وسلم بالتمكين كما مكن لمن قبله من الأنبياء كما سيأتي.

لماذا الأنبياء وليس الرسل مثلا؟

ولو أخذنا اسم السورة في الاعتبار لأضاف لها معنيان آخران متعلقان بمعنيي اسم السورة:

فأما الأول: باعتبار أنها من مادة نبو، فاسم السورة جاء لينبه على علو شأنهم وقدرهم، وهذا أيضا من المعاني المهمة، فلا شك أن من صار في مثل هذا الحال الذي صار فيه النبي صلى الله عليه وسلم، أنه سيشعر بضعف الحال، فتأتي هذه السورة لتربطه بقوم رفيعي الرتبة، عالي الشأن، قائله له: أنت وإياهم أمة واحدة وربكم واحد، فتشد من عزيمته وترفع من همته ليواصل السير في الطريق، ولو كان اسم السورة الرسل لفات هذا المعنى.

كما أن اللفظ هنا جاء ليشمل ناسا من غير المرسلين وعلى وجه الخصوص مريم عليها السلام، فهي ممن جاءها الملك ينبئها عن الله، وهي من الداخلين في هذه الأمة والبارزين في هذا المجال، ولو كان اسم السورة الرسل لما أمكن إدراج مريم عليها السلام لأنها لم تكن مرسلة.

وأما الثاني: باعتبار أنها من مادة نبأ، فاسم السورة هنا جاء ليؤكد على صدق النبي صلى الله عليه وسلم في دعوته وأنه منبأ من الله ومنبئ للناس عن الله، وكله في تثبيت فؤاده صلى الله عليه وسلم.

كل هذا مع الانتباه إلى أن مادة (رسل) قد ذكرت في السورة ست مرات بالفاظ عديدة:

فَلْيَأْتِنَا بِآيَةٍ كَمَا أُرْسِلَ الأَوَّلُونَ

وَمَا أَرْسَلْنَا قَبْلَكَ إِلاَّ رِجَالاً نُّوحِي إِلَيْهِمْ

وَمَا أَرْسَلْنَا مِن قَبْلِكَ مِن رَّسُولٍ إِلاَّ نُوحِي إِلَيْهِ أَنَّهُ لا إِلَهَ إِلاَّ أَنَا فَاعْبُدُونِ

وَلَقَدِ اسْتُهْزِئَ بِرُسُلٍ مِّن قَبْلِكَ

وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلاَّ رَحْمَةً لِّلْعَالَمِينَ

ما هي أهمية هذا المقصد حتى تفرد له سورة بهذا الحجم؟

هذا المقصد حلقة من حلقات واحد من أهم المقاصد في القرآن المكي، وهو مقصد التسلية والتثبيت، وهذا من أهم الأسباب التي يحتاجها الداعية في مثل هذه الأوقات الحالكة خاصة عندما تبدأ الطرق بالانسداد:

فتارة تنزل سورة القصص لتتحدث عن تتابع الأحداث مع بيان العاقبة.

وتارة تنزل سورة يوسف لتشرح صدره ولتبين له أن الله غالب على أمره.

وتارة تأتي سورة الإسراء لتثبت وتبشر بالنصر والتمكين واستلام زمام مهمة تبليغ الوحي.

وتارة تأتي سورة الروم لتؤكد على أن وعد الله حق.

وتارة تنزل سورة العنكبوت لتتحدث عن النفس والرزق والأهل قبيل الهجرة.

وما سورة الأنبياء إلا حلقة من حلقات التثبيت هذه، ولكن بلون آخر، وذلك بربط النبي صلى الله عليه وسلم بمن قبله من الأنبياء الذين جرى عليهم من قبل ما جرى عليه صلى الله عليه وسلم، وحين تقص هذه السورة ما جرى للأنبياء من قبله مما يجري عليه صلى الله عليه وسلم، وتجعلهم أمة واحدة، يهون عليه ولا شك ما يجري عليه وتقوى نفسه وتشتد عزيمته في المضي على دربه الذي مضى عليه من سبقه من الأنبياء رضوان الله عليهم، ويشعر بالأنس والرفقة معهم ومع أخبارهم وأحوالهم وما عانوه واختبروه في الطريق الذي ساروا عليه، ثم هو سائر فيه.

فلنمض سويا في تفاصيل هذا المنهج

Map Shot 1

 

Map Shot 2

 

Map Shot 3

جميع الحقوق متاحة للمسلمين دون اشتراط ذكر المصدر © 2023 7a9ad.com. All Rights Reserved