في ختام السورة

( في ختام السورة )
وَبِالْحَقِّ أَنْزَلْنَاهُ وَبِالْحَقِّ نَزَلَ وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا مُبَشِّرًا وَنَذِيرًا (105) وَقُرْآنًا فَرَقْنَاهُ لِتَقْرَأَهُ عَلَى النَّاسِ عَلَى مُكْثٍ وَنَزَّلْنَاهُ تَنْزِيلًا (106) قُلْ آمِنُوا بِهِ أَوْ لَا تُؤْمِنُوا إِنَّ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ مِنْ قَبْلِهِ إِذَا يُتْلَى عَلَيْهِمْ يَخِرُّونَ لِلْأَذْقَانِ سُجَّدًا (107) وَيَقُولُونَ سُبْحَانَ رَبِّنَا إِنْ كَانَ وَعْدُ رَبِّنَا لَمَفْعُولًا (108) وَيَخِرُّونَ لِلْأَذْقَانِ يَبْكُونَ وَيَزِيدُهُمْ خُشُوعًا (109) قُلِ ادْعُوا اللَّهَ أَوِ ادْعُوا الرَّحْمَنَ أَيًّا مَا تَدْعُوا فَلَهُ الْأَسْمَاءُ الْحُسْنَى وَلَا تَجْهَرْ بِصَلَاتِكَ وَلَا تُخَافِتْ بِهَا وَابْتَغِ بَيْنَ ذَلِكَ سَبِيلًا (110) وَقُلِ الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي لَمْ يَتَّخِذْ وَلَدًا وَلَمْ يَكُنْ لَهُ شَرِيكٌ فِي الْمُلْكِ وَلَمْ يَكُنْ لَهُ وَلِيٌّ مِنَ الذُّلِّ وَكَبِّرْهُ تَكْبِيرًا (111)

ما موضوع هذا الفصل، وما هي مناسبته لمقصد السورة؟ وما مناسبته لما قبله من الفصول؟

هذا الفصل هو مسك الختام في هذه السورة، وكما كان أول ما تقابله في السورة بعد الحديث عن القضاء الذي قضي على بني إسرائيل في إفسادهم في أول السورة، كذلك يطالعك الحديث عن القرآن في ختامها هنا، وطالما أنه ( يهدي للتي هي أقوم ) فهو ( بالحق أنزلناه وبالحق نزل) ففيه كما ذكرنا سابقا خيط متصل بما قبه من المعاني.

ما مناسبة تقديم الحق؟

التقديم هنا للقصر، أي ما أنزلنا بشيء سوى بالحق ولا نزل بشيء سوى بالحق.

ما مناسبة الحديث بعدها عن النبي صلى الله عليه وسلم ( وما أرسلناك إلا مبشرا ونذيرا) ؟

فيها تطمين للنبي صلى الله عليه وسلم الذي كان يخشى على هذا الحق، وكان يحزن من تخلفهم عنه، أن الحق سيستمر ولن ينقطع ( وقل جاء الحق وزهق الباطل )، وأن لا يهتم لما يقابلونه به من كفر فإن الهدى والضلال من الله وحده، وأما مهمة النبي صلى الله عليه وسلم فهي البشارة للمهتدين والنذارة للكافرين فحسب.

ما مناسبة الحديث عن تفريق نزول القرآن في هذا الموضع؟ ما مناسبة الحديث بعدها عن إيمان أهل الكتاب؟

هذه إحدى الشبه التي ألقاها المشركون عن القرآن فطلبوا نزوله دفعة واحدة، وموضعها هنا يقول للقارئ المتدبر: هذا القرآن أنزلناه بالحق وبالحق نزل، ولن يشغب عليها هذه الشبهات التي يلقونها من قبيل: لولا نزل عليه القرآن جملة واحدة؟ ألم تنظر إلى عقلاء أهل الكتاب كيف آمنوا به، بل وخروا إلى الأذقان سجدا لما وجدوه مصدقا لما بين يديهم.

وهكذا تسير المعاني آخذ بعضها بحجز بعض.

ما مناسبة الحديث بعدها عن دعاء الله أو دعاء الرحمن والأمر بالتوسط في الجهر بالصلاة؟

يقول الرازي: واعْلَمْ أنَّ المَقْصُودَ مِن هَذِهِ الآيَةِ تَقْرِيرُ تَحْقِيرِهِمْ والِازْدِراءِ بِشَأْنِهِمْ وعَدَمِ الِاكْتِراثِ بِهِمْ وبِإيمانِهِمْ وامْتِناعِهِمْ مِنهُ، وأنَّهم وإنْ لَمْ يُؤْمِنُوا بِهِ فَقَدْ آمَنَ بِهِ مَن هو خَيْرٌ مِنهم. وهذا كلام في غاية النفاسة فإنه بعد أن قص علينا تأثر عقلاء أهل الكتاب بالقرآن والمسارعة إلى الإيمان به، صور لنا صورة مختلفة تماما ومناقضة للأولى وهي صورة المشركين الذين يسخرون من البلاغ، ويقولون: أندعوا الله أم ندعو الرحمن؟ واختار اسم الرحمن لما فيه من التهديد كما بينا في سورة الفاتحة، تهديد مغلف بلفظ الرحمة لعلهم يسمعون أو يعقلون.

لم يكتفوا بالسخرية فحسب، بل تجاوزوا ذلك إلى سب القرآن، روى البخاري عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا: {وَلَا تَجْهَرْ بِصَلَاتِكَ وَلَا تُخَافِتْ} [الإسراء: 110] بِهَا، قَالَ: «أُنْزِلَتْ وَرَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مُتَوَارٍ بِمَكَّةَ، فَكَانَ إِذَا رَفَعَ صَوْتَهُ سَمِعَ المُشْرِكُونَ، فَسَبُّوا القُرْآنَ وَمَنْ أَنْزَلَهُ وَمَنْ جَاءَ بِهِ، فَقَالَ اللَّهُ تَعَالَى»: {وَلَا تَجْهَرْ بِصَلَاتِكَ وَلَا تُخَافِتْ بِهَا} [الإسراء: 110]: «لَا تَجْهَرْ بِصَلَاتِكَ حَتَّى يَسْمَعَ المُشْرِكُونَ»، {وَلَا تُخَافِتْ بِهَا} [الإسراء: 110] «عَنْ أَصْحَابِكَ فَلَا تُسْمِعُهُمْ»، {وَابْتَغِ بَيْنَ ذَلِكَ سَبِيلًا} [الإسراء: 110] «أَسْمِعْهُمْ وَلَا تَجْهَرْ، حَتَّى يَأْخُذُوا عَنْكَ القُرْآنَ»

فذمهم بذلك أعظم ذم في مقابل مدح من آمن من أهل الكتاب سابقا، وأمر نبيه بالإعراض عنهم والسعي في كف أذاهم ما استطاع إلى ذلك سبيلا، وكأنه قوله تعالى ( قل لعبادي يقولوا التي هي أحسن إن الشيطان ينزغ بينهم ) يظهر هنا بشكل آخر.

وروى البخاري مسندا عَنْ ‌عَائِشَةَ – رَضِيَ اللهُ عَنْهَا – قَالَتْ: «أُنْزِلَ ذَلِكَ فِي الدُّعَاءِ.»

ما مناسبة آخر آية في السورة وما هي المعاني التي تنتهي إليها؟

كما ابتدأت السورة بالتسبيح فقد انتهت بالتسبيح، والتسبيح كما ذكرنا نوع من نفي الصفات السلبية، وهذا النفي استوجب الحمد هنا:

لم يتخذ ولدا

ولم يكن له شريك في الملك

ولم يكن له ولي من الذل.

فلأجل انتفاء هذه الصفات عنه جل وعلا استحق الحمد فله الحمد أولا وآخرا.

 

Map Shot 1

 

Map Shot 2

 

Map Shot 3

 

Map Shot 4

( الهدى والضلال في ظلال القرآن )

جميع الحقوق متاحة للمسلمين دون اشتراط ذكر المصدر © 2023 7a9ad.com. All Rights Reserved