حقيقة الانتصار في سورة البروج
حقيقة الانتصار في سورة البروج
سورة البروج
بسم الله الرحمن الرحيم
وَالسَّمَاءِ ذَاتِ الْبُرُوجِ (1) وَالْيَوْمِ الْمَوْعُودِ (2) وَشَاهِدٍ وَمَشْهُودٍ (3) قُتِلَ أَصْحَابُ الْأُخْدُودِ (4) النَّارِ ذَاتِ الْوَقُودِ (5) إِذْ هُمْ عَلَيْهَا قُعُودٌ (6) وَهُمْ عَلَى مَا يَفْعَلُونَ بِالْمُؤْمِنِينَ شُهُودٌ (7) وَمَا نَقَمُوا مِنْهُمْ إِلَّا أَنْ يُؤْمِنُوا بِاللَّهِ الْعَزِيزِ الْحَمِيدِ (8) الَّذِي لَهُ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ (9) إِنَّ الَّذِينَ فَتَنُوا الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ ثُمَّ لَمْ يَتُوبُوا فَلَهُمْ عَذَابُ جَهَنَّمَ وَلَهُمْ عَذَابُ الْحَرِيقِ (10) إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَهُمْ جَنَّاتٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ ذَلِكَ الْفَوْزُ الْكَبِيرُ (11) إِنَّ بَطْشَ رَبِّكَ لَشَدِيدٌ (12) إِنَّهُ هُوَ يُبْدِئُ وَيُعِيدُ (13) وَهُوَ الْغَفُورُ الْوَدُودُ (14) ذُو الْعَرْشِ الْمَجِيدُ (15) فَعَّالٌ لِمَا يُرِيدُ (16) هَلْ أَتَاكَ حَدِيثُ الْجُنُودِ (17) فِرْعَوْنَ وَثَمُودَ (18) بَلِ الَّذِينَ كَفَرُوا فِي تَكْذِيبٍ (19) وَاللَّهُ مِنْ وَرَائِهِمْ مُحِيطٌ (20) بَلْ هُوَ قُرْآنٌ مَجِيدٌ (21) فِي لَوْحٍ مَحْفُوظٍ (22)
ما هي الأسماء الواردة فيها ؟
سميت بسورة البروج وسورة السماء ذات البروج والخلاف في ذلك يسير
مكان نزولها؟
مكية باتفاق
كم عدد آياتها ؟
اثنتان وعشرون آية.
هل ثبت شيء في فضلها ؟
ورد فيها أحاديث أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يقرأ بهذه السورة في صلاة العشاء وفيها نظر.
من هم أصحاب الأخدود؟
السورة تحكي قصة أصحاب الأخدود، وهم قوم قص علينا رسول الله صلى الله عليه وسلم قصتهم كما في الحديث الذي أخرجه مسلم عَنْ صُهَيْبٍ، أَنَّ رَسُولَ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: ” كَانَ مَلِكٌ فِيمَنْ كَانَ قَبْلَكُمْ، وَكَانَ لَهُ سَاحِرٌ، فَلَمَّا كَبِرَ، قَالَ لِلْمَلِكِ: إِنِّي قَدْ كَبِرْتُ، فَابْعَثْ إِلَيَّ غُلَامًا أُعَلِّمْهُ السِّحْرَ، فَبَعَثَ إِلَيْهِ غُلَامًا يُعَلِّمُهُ، فَكَانَ فِي طَرِيقِهِ، إِذَا سَلَكَ رَاهِبٌ فَقَعَدَ إِلَيْهِ وَسَمِعَ كَلَامَهُ، فَأَعْجَبَهُ فَكَانَ إِذَا أَتَى السَّاحِرَ مَرَّ بِالرَّاهِبِ وَقَعَدَ إِلَيْهِ، فَإِذَا أَتَى السَّاحِرَ ضَرَبَهُ، فَشَكَا ذَلِكَ إِلَى الرَّاهِبِ، فَقَالَ: إِذَا خَشِيتَ السَّاحِرَ، فَقُلْ: حَبَسَنِي أَهْلِي، وَإِذَا خَشِيتَ أَهْلَكَ فَقُلْ: حَبَسَنِي السَّاحِرُ، فَبَيْنَمَا هُوَ كَذَلِكَ إِذْ أَتَى عَلَى دَابَّةٍ عَظِيمَةٍ قَدْ حَبَسَتِ النَّاسَ، فَقَالَ: الْيَوْمَ أَعْلَمُ آلسَّاحِرُ أَفْضَلُ أَمِ الرَّاهِبُ أَفْضَلُ؟ فَأَخَذَ حَجَرًا، فَقَالَ: اللهُمَّ إِنْ كَانَ أَمْرُ الرَّاهِبِ أَحَبَّ إِلَيْكَ مِنْ أَمْرِ السَّاحِرِ فَاقْتُلْ هَذِهِ الدَّابَّةَ، حَتَّى يَمْضِيَ النَّاسُ، فَرَمَاهَا فَقَتَلَهَا، وَمَضَى النَّاسُ، فَأَتَى الرَّاهِبَ فَأَخْبَرَهُ، فَقَالَ لَهُ الرَّاهِبُ: أَيْ بُنَيَّ أَنْتَ الْيَوْمَ أَفْضَلُ مِنِّي، قَدْ بَلَغَ مِنْ أَمْرِكَ مَا أَرَى، وَإِنَّكَ سَتُبْتَلَى، فَإِنِ ابْتُلِيتَ فَلَا تَدُلَّ عَلَيَّ، وَكَانَ الْغُلَامُ يُبْرِئُ الْأَكْمَهَ وَالْأَبْرَصَ، وَيُدَاوِي النَّاسَ مِنْ سَائِرِ الْأَدْوَاءِ، فَسَمِعَ جَلِيسٌ لِلْمَلِكِ كَانَ قَدْ عَمِيَ، فَأَتَاهُ بِهَدَايَا كَثِيرَةٍ، فَقَالَ: مَا هَاهُنَا لَكَ أَجْمَعُ، إِنْ أَنْتَ شَفَيْتَنِي، فَقَالَ: إِنِّي لَا أَشْفِي أَحَدًا إِنَّمَا يَشْفِي اللهُ، فَإِنْ أَنْتَ آمَنْتَ بِاللهِ دَعَوْتُ اللهَ فَشَفَاكَ، فَآمَنَ بِاللهِ فَشَفَاهُ اللهُ، فَأَتَى الْمَلِكَ فَجَلَسَ إِلَيْهِ كَمَا كَانَ يَجْلِسُ، فَقَالَ لَهُ الْمَلِكُ: مَنْ رَدَّ عَلَيْكَ بَصَرَكَ؟ قَالَ: رَبِّي، قَالَ: وَلَكَ رَبٌّ غَيْرِي؟ قَالَ: رَبِّي وَرَبُّكَ اللهُ، فَأَخَذَهُ فَلَمْ يَزَلْ يُعَذِّبُهُ حَتَّى دَلَّ عَلَى الْغُلَامِ، فَجِيءَ بِالْغُلَامِ، فَقَالَ لَهُ الْمَلِكُ: أَيْ بُنَيَّ قَدْ بَلَغَ مِنْ سِحْرِكَ مَا تُبْرِئُ الْأَكْمَهَ وَالْأَبْرَصَ، وَتَفْعَلُ وَتَفْعَلُ، فَقَالَ: إِنِّي لَا أَشْفِي أَحَدًا، إِنَّمَا يَشْفِي اللهُ، فَأَخَذَهُ فَلَمْ يَزَلْ يُعَذِّبُهُ حَتَّى دَلَّ عَلَى الرَّاهِبِ، فَجِيءَ بِالرَّاهِبِ، فَقِيلَ لَهُ: ارْجِعْ عَنْ دِينِكَ، فَأَبَى، فَدَعَا بِالْمِئْشَارِ، فَوَضَعَ الْمِئْشَارَ فِي مَفْرِقِ رَأْسِهِ، فَشَقَّهُ حَتَّى وَقَعَ شِقَّاهُ، ثُمَّ جِيءَ بِجَلِيسِ الْمَلِكِ فَقِيلَ لَهُ: ارْجِعْ عَنْ دِينِكَ، فَأَبَى فَوَضَعَ الْمِئْشَارَ فِي مَفْرِقِ رَأْسِهِ، فَشَقَّهُ بِهِ حَتَّى وَقَعَ شِقَّاهُ، ثُمَّ جِيءَ بِالْغُلَامِ فَقِيلَ لَهُ ارْجِعْ عَنْ دِينِكَ، فَأَبَى فَدَفَعَهُ إِلَى نَفَرٍ مِنْ أَصْحَابِهِ، فَقَالَ: اذْهَبُوا بِهِ إِلَى جَبَلِ كَذَا وَكَذَا، فَاصْعَدُوا بِهِ الْجَبَلَ، فَإِذَا بَلَغْتُمْ ذُرْوَتَهُ، فَإِنْ رَجَعَ عَنْ دِينِهِ، وَإِلَّا فَاطْرَحُوهُ، فَذَهَبُوا بِهِ فَصَعِدُوا بِهِ الْجَبَلَ، فَقَالَ: اللهُمَّ اكْفِنِيهِمْ بِمَا شِئْتَ، فَرَجَفَ بِهِمِ الْجَبَلُ فَسَقَطُوا، وَجَاءَ يَمْشِي إِلَى الْمَلِكِ، فَقَالَ لَهُ الْمَلِكُ: مَا فَعَلَ أَصْحَابُكَ؟ قَالَ: كَفَانِيهِمُ اللهُ، فَدَفَعَهُ إِلَى نَفَرٍ مِنْ أَصْحَابِهِ، فَقَالَ: اذْهَبُوا بِهِ فَاحْمِلُوهُ فِي قُرْقُورٍ، فَتَوَسَّطُوا بِهِ الْبَحْرَ، فَإِنْ رَجَعَ عَنْ دِينِهِ وَإِلَّا فَاقْذِفُوهُ، فَذَهَبُوا بِهِ، فَقَالَ: اللهُمَّ اكْفِنِيهِمْ بِمَا شِئْتَ، فَانْكَفَأَتْ بِهِمِ السَّفِينَةُ فَغَرِقُوا، وَجَاءَ يَمْشِي إِلَى الْمَلِكِ، فَقَالَ لَهُ الْمَلِكُ: مَا فَعَلَ أَصْحَابُكَ؟ قَالَ: كَفَانِيهِمُ اللهُ، فَقَالَ لِلْمَلِكِ: إِنَّكَ لَسْتَ بِقَاتِلِي حَتَّى تَفْعَلَ مَا آمُرُكَ بِهِ، قَالَ: وَمَا هُوَ؟ قَالَ: تَجْمَعُ النَّاسَ فِي صَعِيدٍ وَاحِدٍ، وَتَصْلُبُنِي عَلَى جِذْعٍ، ثُمَّ خُذْ سَهْمًا مِنْ كِنَانَتِي، ثُمَّ ضَعِ السَّهْمَ فِي كَبِدِ الْقَوْسِ، ثُمَّ قُلْ: بِاسْمِ اللهِ رَبِّ الْغُلَامِ، ثُمَّ ارْمِنِي، فَإِنَّكَ إِذَا فَعَلْتَ ذَلِكَ قَتَلْتَنِي، فَجَمَعَ النَّاسَ فِي صَعِيدٍ وَاحِدٍ، وَصَلَبَهُ عَلَى جِذْعٍ، ثُمَّ أَخَذَ سَهْمًا مِنْ كِنَانَتِهِ، ثُمَّ وَضَعَ السَّهْمَ فِي كَبْدِ الْقَوْسِ، ثُمَّ قَالَ: بِاسْمِ اللهِ، رَبِّ الْغُلَامِ، ثُمَّ رَمَاهُ فَوَقَعَ السَّهْمُ فِي صُدْغِهِ، فَوَضَعَ يَدَهُ فِي صُدْغِهِ فِي مَوْضِعِ السَّهْمِ فَمَاتَ، فَقَالَ النَّاسُ: آمَنَّا بِرَبِّ الْغُلَامِ، آمَنَّا بِرَبِّ الْغُلَامِ، آمَنَّا بِرَبِّ الْغُلَامِ، فَأُتِيَ الْمَلِكُ فَقِيلَ لَهُ: أَرَأَيْتَ مَا كُنْتَ تَحْذَرُ؟ قَدْ وَاللهِ نَزَلَ بِكَ حَذَرُكَ، قَدْ آمَنَ النَّاسُ، فَأَمَرَ بِالْأُخْدُودِ فِي أَفْوَاهِ السِّكَكِ، فَخُدَّتْ وَأَضْرَمَ النِّيرَانَ، وَقَالَ: مَنْ لَمْ يَرْجِعْ عَنْ دِينِهِ فَأَحْمُوهُ فِيهَا، أَوْ قِيلَ لَهُ: اقْتَحِمْ، فَفَعَلُوا حَتَّى جَاءَتِ امْرَأَةٌ وَمَعَهَا صَبِيٌّ لَهَا فَتَقَاعَسَتْ أَنْ تَقَعَ فِيهَا، فَقَالَ لَهَا الْغُلَامُ: يَا أُمَّهْ اصْبِرِي فَإِنَّكِ عَلَى الْحَقِّ “
ما هي أهمية قصة أصحاب الأخدود؟
نزلت هذه السورة في مكة في وقت كان المسلمون فيه يسامون أشد العذاب على يد صناديد مكة وكبرائها، والقصص في ذلك طويلة من تعذيب بلال في بطحاء مكة على الصخر الحامي إلى تعذيب المستضعفين من آل ياسر، وخباب وغيرهم، وليس المقام مقام عرض وتفصيل ولكنه مقام لفت نظر وتنبيه.
في خضم هذه الفتنة وتسلط الكافرين على المؤمنين، قد يتساءل متسائل: لماذا لا ينصر الله المؤمنين؟ لماذا لا ينزل صاعقة تضرب كفار مكة فتبيدهم عن آخرهم؟ أين الله مما يحدث هنا؟
بل قد حصل هذا فعلا ففي البخاري عَنْ خَبَّابِ بْنِ الأَرَتِّ، قَالَ: شَكَوْنَا إِلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَهُوَ مُتَوَسِّدٌ بُرْدَةً لَهُ فِي ظِلِّ الكَعْبَةِ، قُلْنَا لَهُ: أَلاَ تَسْتَنْصِرُ لَنَا، أَلاَ تَدْعُو اللَّهَ لَنَا؟ قَالَ: «كَانَ الرَّجُلُ فِيمَنْ قَبْلَكُمْ يُحْفَرُ لَهُ فِي الأَرْضِ، فَيُجْعَلُ فِيهِ، فَيُجَاءُ بِالْمِنْشَارِ فَيُوضَعُ عَلَى رَأْسِهِ فَيُشَقُّ بِاثْنَتَيْنِ، وَمَا يَصُدُّهُ ذَلِكَ عَنْ دِينِهِ، وَيُمْشَطُ بِأَمْشَاطِ الحَدِيدِ مَا دُونَ لَحْمِهِ مِنْ عَظْمٍ أَوْ عَصَبٍ، وَمَا يَصُدُّهُ ذَلِكَ عَنْ دِينِهِ، وَاللَّهِ لَيُتِمَّنَّ هَذَا الأَمْرَ، حَتَّى يَسِيرَ الرَّاكِبُ مِنْ صَنْعَاءَ إِلَى حَضْرَمَوْتَ، لاَ يَخَافُ إِلَّا اللَّهَ، أَوِ الذِّئْبَ عَلَى غَنَمِهِ، وَلَكِنَّكُمْ تَسْتَعْجِلُونَ».
وقس على ذلك ما جرى بعد في تاريخ الأمة من تسلط الظلمة وأهل البدع والكفار على أهل الإسلام، وكم فعلوا فيهم وكم فعلوا، بل انظر في حال المسلمين اليوم من الاستضعاف وما يجري عليهم من ألوان العذاب والهوان في شتى بقاع الإسلام، تجد الحال واحدة وإن تعددت القصص وتغيرت الوجوه.
في ظل هذه الأحداث نزلت سور البروج، لتجيب عن هذا السؤال العظيم، ولتجدد في وعي المسلمين ما قد يغيب عن أذهانهم من معاني اليقين بالله وباليوم الآخر.
ما هو مقصد السورة؟
واضح أن السورة تناولت حالة تسلط الكافرين على أهل الإسلام وهذا العلو الظاهري في الدنيا، وناقشت المسألة من بالنسبة لأمرين: هما الدعوة والدعاة.
فأما بالنسبة للدعوة: فأكدت السورة على أن الدعوة محفوظة وباقية مهما تسلط أهل الباطل على أهل الحق، ويظهر هذا في آخر كلمات السورة :بل هو قرآن مجيد في لوح محفوظ.
وأما بالنسبة للدعاة: فأكدت على أنهم قد انتصروا حقيقة وهذا واضح من استخدام ( ذلك الفوز الكبير ) وهو الموضع الوحيد في القرآن كله الذي جاء به الفوز موصوفا بهذه الصفة.
فهذه السورة ترسل عدة رسائل:
فهي تقول للمؤمنين المستضعفين: لا يهمكم إن أصابكم البلاء ولم تروا تمكينا بعد، فإن الله متم نوره ولو بعد حين.
وتقول للكافرين المتسلطين: لا يغرنكم علوكم في الأرض فإن الله حافظ دينه وناصر دعوته مهما علوتكم وتمكنتم، وسيتم هذا الأمر ويبلغ ما بلغ الليل والنهار مهما بذلت في سبيل الصد عنه.
ما مناسبة القسم بالسماء وما مناسبة وصفها بذات البروج في هذا الموضع؟
القسم جاء هنا بالسماء ووصفت بأنها ذات بروج:
فأما السماء: فلأنها تظل الخلق جميعا وتعلوهم جميعا، ومهما استعلى الكفار وأهل الباطل وطغوا وبغوا وتسلطوا على المؤمنين، فلن يعدو أحدهم أن يكون تحت هذه السماء، وهذه إشارة إلى شمول قدرته جل وعلا لكل شيء، وأنه لا يخرج شيء من ملكه ولا سلطانه ولا قهره ولا جبروته، ولا غرو فهو رب السماء، فإن استحكم هذا المعنى في نفوس المستضعفين، وأن هؤلاء الكفار تحت سلطان الله ولو شاء لأهلكهم بقوله كن، هان هؤلاء في نفوسهم، وعلموا حقيقة ضعفهم وقوة الواحد القهار.
وجاء الوصف هنا بأنها ذات البروج: والبروج هي الأماكن العالية التي تستخدم للمراقبة، إشارة إلى أن هؤلاء الكافرين لم يفعلوا ما فعلوا بغفلة من أهل السماء، حاشا وكلا، بل الله وملائكته مطلعون على ما يفعل هؤلاء من قتل وإيذاء للمسلمين وأصحاب الحق، فإن علم المسلمون هذا أيضا تعلقت قلوبهم بالله وهان عليهم ما يلاقونه من قتل وتشريد.
فالسماء كناية عن الطَّول والبروج كناية عن العلم.
ما مناسبة القسم باليوم الموعود؟ وما مناسبة وصف هذا اليوم بالموعود هنا؟
هذا هو أعظم ما يثبت المؤمنين في الدنيا: ألا وهو يقينهم بذلك اليوم الذي سيأتي وسيجازى فيه كل إنسان بحسب عمله، فأما الذين فتنوا المؤمنين والمؤمنات ففي جهنم خالدين فيها، وأما الذين آمنوا و عملوا الصالحات ففي جنات تجري من تحتها الأنهار.
ما مناسبة القسم ثالثا بشاهد ومشهود؟ و ما دلالة التنكير؟
اختلف في الشاهد والمشهود على أقوال كثيرة، كثير منها لا تعلق له بسياق السورة كمثل يوم الجمعة أو يوم عرفة، ومثل هذا يبعد فيما نراه، والظاهر أن الشاهد والمشهود هنا يجب أن يكون له تعلق بالسياق، فالشاهد: يشبه أن يكون أهل السماء وهم يشهدون ما يحصل من تعذيب المؤمنين وأما المشهود: فهم فهو ما يحصل من قتل المسلمين وأهل الحق.
وهذا التفسير يعضده القسم بالسماء ذات البروج في بداية السورة، والله أعلم بالصواب.
ونكر الشاهد والمشهود للإبهام والتكثير، ومثل هذا فيه إشارة والله أعلم إلى أن مثل ما حصل في تلك الحادثة سيحصل كثيرا مستقبلا، ومنه هذا الوقت الذي نزلت فيه الآيات، من استقواء المشركين على المسلمين وتعذيبهم وقتل من قدروا عليه، وأن هذه سنة ماضية في الخلق، سيأتي على آخرهم ما أصاب أولهم، فإن علم الدعاة هذا تجهزوا للأمر وأعدوا العدة ولبسوا أكفانهم في سبيل دعوتهم.
أين جواب الأقسام السابقة؟
جاء فيها ثلاثة أقوال:
الأول: أن جواب القسم هو قوله تعالى ( إن بطش ربك لشديد) واستنكره بعضهم لطول البعد بينهما.
الثاني: ( قتل أصحاب الأخدود )
الثالث: أن جوابه محذوف وهذا ما نراه أقرب والله أعلم.
والجواب محذوف تقديره شيء مثل: لتبعثن ولتحاسبن على ما اقترفت أيديكم من تعذيب المؤمنين وقتلهم، أو شيء نحوه.
وحذف الجواب أسلوب فصيح يراد منه أن تذهب النفس فيه كل مذهب، فالسكوت عن شيء أحيانا يكون أبلغ من الكلام.
ما معنى كلمة ( قتل ) وما مناسبة استخدامها هنا؟
قتل هنا بمعنى لعن وأبعد، واستخدمت هذه الكلمة دون غيرها لأن غال بمن يفعل هذه الجرائم لا يوفق لتوبة فكأنه مات ولم يتب، وهي إحدى أربعة مواضع استخدمت هذه الكلمة فيها في القرآن.
ما دلالة استخدام كلمة ( أصحاب ) مع الأخدود؟
أصحاب هنا كأنهم صاروا أصحابه ومالكوه وملازموه، إما لأنهم أول من اخترع هذه الفكرة أو لكثرة ممارستها وكلها في لصوق الجريمة بهم.
ما مناسبة وصف النار بأنها ( ذات الوقود )؟
وصفها بهذا الوصف للدلالة على أنها كلما خفتت زادوها وقودا، وهذا للفت النظر إلى أمرين:
الأول: شدتها وقوتها ومع ذلك لم تخف المؤمنين ولم تثنهم عن دينهم.
الثاني: اجتهاد أهل الباطل في زيادة أساليب التخويف وتعظيمها لأنهم لا يريدونها أن تخفت كيلا يخف خوف المؤمنين، بل يريدونهم في خوف دائم، ومع ذلك فلا بد أن يقيض الله لهذا الحق رجالا.
ما مناسبة قوله تعالى ( إذ هم عليها قعود )؟
هذه اللفظة للإشارة إلى إشرافهم المباشر بأنفسهم على إحراق أهل الحق، فهم لم يأمروا الجنود بالإحراق وحسب، بل نزلوا بأنفسهم ليباشروا ويعاينوا عملية التعذيب والحرق.
ما مناسبة هذا التفصيل في حال النار وفي حال أصحاب الأخدود؟
الأصل في الكلام الإيجاز، وعندما يفصل القرآن في شي فهذا دليل على شدة الاهتمام به، وهذا التفصيل جاء هنا ليلفت النظر إلى كمية الجهد الذي يبذله أهل الباطل في سبيل الصد عن سبيل الإيمان.
ما مناسبة التعقيب بقوله ( العزيز الحميد )؟
العزيز هو الغالب الممتنع والعرب تقول من عز بز أي غلب استلب، وأما الحميد فهو المحمود الذي تحمده الخلائق، ويحمد لها فعلها، ومناسبة التذييل من عدة وجوه:
منها: أن هاتين الصفتين هما أشد الصفات التي تضايق أهل الباطل فإن أهل الباطل يريدون العلو في الأرض، يريدون أن يكونوا هم الأعلون، هم الأعزاء وهم المحمودون الذين يحمدهم الناس، فجاء هذا التذييل ليثبت هذه الصفات لله وحده، فالظالم يريد أن يسيطر على كل شيء، ولا يريد أن يكون شيء إلا بإذنه.
ومنها: أن فيها رسالة لأهل الحق المظلومون: ألا تخافوا ولا تحزنوا فإن الله غالب على أمره، ومهما فعل أهل الباطل ستبقى الدعوة وسيبقى الدين فالله عزيز.
ومنها: رسالة أيضا لأهل الإيمان: أن الواجب منكم هو حمد الله مهما أصابكم في سبيله اللأواء.
ومنها: رسالة أيضا لأهل الإيمان أن الله حميد سيحمد ثباتكم وتضحياتكم ولا تظنوا أن ما أصابكم سيضيع سدى فهو الحميد يحمد للخلق ما قدموا.
ما مناسبة قوله ( وما نقموا منهم إلا أن يؤمنوا بالله العزيز الحميد )؟
هذا مدح لهم وهو على طريقة:
ولا عيب فيهم غير أن سيوفهم … بهن فلول من قراع الكتائب
وفي هذه الكلمات المعدودات تؤكد الآيات أن سبب العداوة الحقيقي بين المؤمنين والكافرين إنما هو: إيمان المؤمنين فطالما وجد هذا السبب وجدت العداوة، فلا يحسبن الإنسان أنه إن آمن بالله فسيُترك ليعبد الله، كلا، إنها عداوة الكفر الأبدية.
ما مناسبة ذكر الملك والشهادة هنا؟
فيه مناسبتان:
الأولى: أن فيها إشارة إلى أن الله حقيق أن يكون له الإيمان خالصا، كيف لا وهو المالك المتصرف.
الثانية: أن هذا مما يزيد المؤمنين ثباتا وصلابة، فإن من يعرف أن الملك الحقيقي لله وحده لا يهمه ولا يلتفت لهؤلاء مهما علوا في الأرض، فهو يعلم أن ( الله على كل شيء شهيد ) وهو مطلع على ما يجري حاشاه أن يكون غافلا عنه.
ما مناسبة قوله ( ثم لم يتوبوا )؟
في هذا إشارة إلى سعة رحمة الله فحتى من فعل مثل هذا بالمؤمنين ثم تاب، تاب الله عليه، وهذا أيضا يدل عليه قوله تعالى ( وهو الغفور الودود )
ما مناسبة المقابلة بين ( فتنوا ) وبين ( آمنوا ) ؟
هذه المقابلة إشارة إلى وجود هذين الطرفين دائما:
الأول: ناس يجتهدون في فتنة الناس عن دينهم وصرفهم عنه.
الثاني: ناس يثبتون على الحق مهما اشتدت الفتن.
فحيثما وجد الثاني وجد الأول: فلا تظنن أنك إن آمنت وصليت وصمت وجلست في المسجد لوحدك لن تجد من يعمل على إضلالك، بل لو علمت كمية المال والجهد المبذول لصرفك عن دينك لرأيت عجبا.
ما مناسبة ذكر ( إن بطش ربك لشديد ) بعد ذلك؟
هذا تهديد في غاية التخويف لأهل الباطل، وهذا مناسب لحالهم هنا وما فعلوه في أهل الإيمان.
ما مناسبة قوله ( وهو الغفور الودود )؟
ذكر المغفرة هنا عائد على قوله سابقا ( ثم لم يتوبوا ) فكأنه يغريهم بالتوبة والرجوع، ويا يؤيسهم منها.
وأما الودود هنا، فلإيناس المؤمنين والتلطف بهم، وإغرائهم بهذه المرتبة العالية، وأنه لا يزال بهم رؤوفا.
ما مناسبة قوله ( فعال لما يريد )؟
هذه الآية تسكب في قلب المؤمن الطمأنينة وتجيبه عن التساؤل: لماذا يحصل هذا؟ فترده إلى علم الله وملكه، فهو أعلم بخلقه وما يصلح لهم، والملك ملكه ونحن عبيده، يقدر لنا ما يشاء ويفعل ما يشاء.
فهو يريد مرة أن ينتصر المؤمنون به في هذه الأرض لحكمة يريدها. ويريد مرة أن تنتصر الفتنة على الإيمان وتذهب الأجسام الفانية لحكمة يريدها.. يريد مرة أن يأخذ الجبارين في الأرض. ويريد مرة أن يمهلهم لليوم الموعود..
ما مناسبة ذكر فرعون وثمود هنا؟
جاء ذكر فرعون وثمود هنا لتكون دليلا على ما سبق ذكره من كون بطش الله شديدا، ففرعون حاول أن يقتل أهل الإيمان فأهلكه الله، وهذا مشابه لما فعله أصحاب الأخدود بالمؤمنين، فكانت عاقبته الهلاك.
وثمود قتلوا الآية التي جاء بها صالح عليه السلام، وهذا مشابه لقتل الغلام نفسه، ثم كانت عاقبتهم الهلاك.
فكأن الله هنا يضرب لأهل الإيمان مثالا لأهل الباطل الذين أهلكهم، سواء من حاول منهم قتل الناس وصرفهم عن دينهم أو من حاول طمس الحقائق والآيات الدالة على الحق.
فالله لم يترك أصحاب الأخدود ليفعلوا ما فعلوا عجزا، حاشاه جل وعلا، فقد أهلك من قبلهم من فعل مثل فعلهم، فهو يترك من يترك جل وعلا ويهلك من يهلك لأمر يريده في سابق علمه وحكمته.
ما مناسبة ذكر الوراء هنا؟
المقصود بهذه العبارة ( والله من ورائهم محيط ) أي من كل جهة، وخص الوراء به لأنه جهة الفرار عند حصول المصائب، فكأنه لا مفر ولا ملجأ منه.
ما مناسبة ختام السورة بهاتين الآيتين؟
في ختام السورة يطمئن اله المؤمنين على الدين لا على البدن، فهو قد اشترى منهم أموالهم وأنفسهم بأن لهم الجنة، فهو هنا يعلمهم أن المهم هو أن يسلم الدين وأن يحفظ وأن يبقى، وهو أم واقع.
فمهما فعل أهل الباطل والكفر بأهل الحق والإيمان فسيبقى الدين محفوظا.
جميع الحقوق متاحة للمسلمين دون اشتراط ذكر المصدر © 2023 7a9ad.com. All Rights Reserved