(بل هم في شك يلعبون)

بَلْ هُمْ فِي شَكٍّ يَلْعَبُونَ (9) فَارْتَقِبْ يَوْمَ تَأْتِي السَّمَاءُ بِدُخَانٍ مُبِينٍ (10) يَغْشَى النَّاسَ هَذَا عَذَابٌ أَلِيمٌ (11) رَبَّنَا اكْشِفْ عَنَّا الْعَذَابَ إِنَّا مُؤْمِنُونَ (12) أَنَّى لَهُمُ الذِّكْرَى وَقَدْ جَاءَهُمْ رَسُولٌ مُبِينٌ (13) ثُمَّ تَوَلَّوْا عَنْهُ وَقَالُوا مُعَلَّمٌ مَجْنُونٌ (14) إِنَّا كَاشِفُو الْعَذَابِ قَلِيلًا إِنَّكُمْ عَائِدُونَ (15) يَوْمَ نَبْطِشُ الْبَطْشَةَ الْكُبْرَى إِنَّا مُنْتَقِمُونَ (16)

ما هو مقصد هذا المقطع وما هي مناسبته لمقصد السورة وما هي الرسالة التي يحملها؟

في هذا المقطع دخلت الآيات في مقصد السورة بشكل مباشر، بعد المقدمة التي سبقت الكلام، وبعد حرف الإضراب الإبطالي  جاء أبرز معنى في السورة يمكن أن ينضم إلى اسمها مشكلا مقصدها كما سبق، وافتتاح المقطع بهذه الآية المفعمة بمعاني الغضب إيذان بما سيأتي بعدها من نكال وثبور، وفي الآية استكمال بشكل رائع لمعنى سبق الحديث عنه وهو قوله تعالى ( إن كنتم موقنين )، فقد ردت هذه الآية على كون يقينهم هذا يقينا حقيقيا فاعلا مؤثرا، فهم يعلمون أن الله رب السموات والأرض، إلا أن هذا العلم لم ينفعهم في شيء، ولم يورثهم يقينا، بل استمروا في لعبهم ولهوهم في غمرات شكهم، لأن العلم إذا لم يرسخه صاحبه في ذهنه وصيره يقينا، انقلب عليه وصار كالعدم كأنهما هو شك.

ثم أتبعت هذه الآية بكلمة ختمت بها السورة ( فارتقب ) وكأن كل ما في أثناء هاتان الكلمتان جاء في خدمة هذا التوبيخ ( بل هم في شك يلعبون ) على الرغم من قرب وقوع العذاب عليهم، فكأن الآيات تخاطبك قائلة لك: أرأيت أنا أنزلنا كتابا عظيما في ليلة عظيمة لننذرهم به، وأرسلناه بواسطة رسول رحمة من ربك الذي يحيي ويميت ولا رب معبود بحق سواه، ثم إنك ترى هؤلاء القوم يقابلون كل هذا بشك ولعب واستخفاف.

ولا شك أن بين المقدمة والمطلع وبين هذا الجزء من السورة أحداثا طوالا وأوقاتا طوالا وصراعات طويلة، مليئة بالأحوال والأحاديث والأكاذيب والاتهامات الباطلة يتخللها صوت واحد لا يتبدل وهو صوته عليه السلام وهو يبلغهم رسالة ربه.

والأمر بالارتقاب عائد على قوله ( وقيله يارب إن هؤلاء قوم لا يؤمنون ) في سورة الزخرف وملتحم به أشد التحام.

ما هو المقصود بالعذاب المشار إليه بالدخان هنا؟

الظاهر أن المراد بالعذاب هنا هو ما جرى لأهل مكة من القحط، حين دعا عليهم النبي صلى الله عليه وسلم، فقد روى البخاري ومسلم من حديث عبد الله بن مسعود عَنْ مَسْرُوقٍ، قَالَ: بَيْنَمَا رَجُلٌ يُحَدِّثُ فِي كِنْدَةَ، فَقَالَ: يَجِيءُ دُخَانٌ يَوْمَ القِيَامَةِ فَيَأْخُذُ بِأَسْمَاعِ المُنَافِقِينَ وَأَبْصَارِهِمْ، يَأْخُذُ المُؤْمِنَ كَهَيْئَةِ الزُّكَامِ، فَفَزِعْنَا، فَأَتَيْتُ ابْنَ مَسْعُودٍ، وَكَانَ مُتَّكِئًا فَغَضِبَ فَجَلَسَ، فَقَالَ: مَنْ عَلِمَ فَلْيَقُلْ، وَمَنْ لَمْ يَعْلَمْ فَلْيَقُلِ اللَّهُ أَعْلَمُ، فَإِنَّ مِنَ العِلْمِ أَنْ يَقُولَ لِمَا لاَ يَعْلَمُ: لاَ أَعْلَمُ، فَإِنَّ اللَّهَ قَالَ لِنَبِيِّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: {قُلْ مَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ وَمَا أَنَا مِنَ المُتَكَلِّفِينَ} [ص: 86]، وَإِنَّ قُرَيْشًا أَبْطَئُوا عَنِ الإِسْلاَمِ، فَدَعَا عَلَيْهِمُ النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ: «اللَّهُمَّ أَعِنِّي عَلَيْهِمْ بِسَبْعٍ كَسَبْعِ يُوسُفَ» فَأَخَذَتْهُمْ سَنَةٌ حَتَّى هَلَكُوا فِيهَا، وَأَكَلُوا المَيْتَةَ وَالعِظَامَ، وَيَرَى الرَّجُلُ مَا بَيْنَ السَّمَاءِ وَالأَرْضِ، كَهَيْئَةِ الدُّخَانِ، فَجَاءَهُ أَبُو سُفْيَانَ فَقَالَ: يَا مُحَمَّدُ جِئْتَ تَأْمُرُنَا بِصِلَةِ الرَّحِمِ، وَإِنَّ قَوْمَكَ قَدْ هَلَكُوا فَادْعُ اللَّهَ، فَقَرَأَ: {فَارْتَقِبْ يَوْمَ تَأْتِي السَّمَاءُ بِدُخَانٍ مُبِينٍ} [الدخان: 10] إِلَى قَوْلِهِ: {عَائِدُونَ} [الدخان: 15] أَفَيُكْشَفُ عَنْهُمْ عَذَابُ الآخِرَةِ إِذَا جَاءَ ثُمَّ عَادُوا إِلَى كُفْرِهِمْ، فَذَلِكَ قَوْلُهُ تَعَالَى: {يَوْمَ نَبْطِشُ البَطْشَةَ الكُبْرَى} [الدخان: 16]: يَوْمَ بَدْرٍ وَلِزَامًا: يَوْمَ بَدْرٍ {الم غُلِبَتِ الرُّومُ} [الروم: 2] إِلَى {سَيَغْلِبُونَ} [الروم: 3]: وَالرُّومُ قَدْ مَضَى.

وقول ابن مسعود هو المتعين فإن الله لا يكشف عنهم العذاب يوم القيامة، فليس هو المراد ههنا، والظاهر أن هذا في السنة الأولى من الهجرة.

ما توجيه آية ( ربنا اكشف عنا العذاب إنا مؤمنون ) مع أن أحدا من أهل السير والروايات لم يذكر أن كفار قريش آمنوا أو وعدوا النبي صلى الله عليه وسلم بالإيمان؟

ورد في بعض الروايات التي أخرجها البخاري أنهم دعوا فعلا بهذا فقد أخرج البخاري في كتاب تفسير القرآن (بَابُ قَوْلِهِ: {رَبَّنَا اكْشِفْ عَنَّا العَذَابَ إِنَّا مُؤْمِنُونَ} ) وساق بعده الرواية التالية:

عَنْ مَسْرُوقٍ، قَالَ: دَخَلْتُ عَلَى عَبْدِ اللَّهِ، فَقَالَ: إِنَّ مِنَ العِلْمِ أَنْ تَقُولَ لِمَا لاَ تَعْلَمُ اللَّهُ أَعْلَمُ، إِنَّ اللَّهَ قَالَ لِنَبِيِّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: {قُلْ مَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ وَمَا أَنَا مِنَ المُتَكَلِّفِينَ} [ص: 86] إِنَّ قُرَيْشًا لَمَّا غَلَبُوا النَّبِيَّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَاسْتَعْصَوْا عَلَيْهِ، قَالَ: ” اللَّهُمَّ أَعِنِّي عَلَيْهِمْ بِسَبْعٍ كَسَبْعِ يُوسُفَ فَأَخَذَتْهُمْ سَنَةٌ أَكَلُوا فِيهَا العِظَامَ وَالمَيْتَةَ مِنَ الجَهْدِ، حَتَّى جَعَلَ أَحَدُهُمْ يَرَى مَا بَيْنَهُ وَبَيْنَ السَّمَاءِ كَهَيْئَةِ الدُّخَانِ مِنَ الجُوعِ، قَالُوا: {رَبَّنَا اكْشِفْ عَنَّا العَذَابَ إِنَّا مُؤْمِنُونَ} [الدخان: 12] فَقِيلَ لَهُ: إِنْ كَشَفْنَا عَنْهُمْ عَادُوا، فَدَعَا رَبَّهُ فَكَشَفَ عَنْهُمْ فَعَادُوا، فَانْتَقَمَ اللَّهُ مِنْهُمْ يَوْمَ بَدْرٍ، فَذَلِكَ قَوْلُهُ تَعَالَى: {فَارْتَقِبْ يَوْمَ تَأْتِي السَّمَاءُ بِدُخَانٍ مُبِينٍ} [الدخان: 10] إِلَى قَوْلِهِ جَلَّ ذِكْرُهُ {إِنَّا مُنْتَقِمُونَ} [الدخان: 16]

وأصرح منها في دعائهم اللفظ الذي أخرجه في باب قوله تعالى (بَابُ قَوْلِهِ: {وَمَا أَنَا مِنَ المُتَكَلِّفِينَ}) ثم ساق الرواية التالية:

عَنْ مَسْرُوقٍ، قَالَ: دَخَلْنَا عَلَى عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَسْعُودٍ، قَالَ [ص:125]: يَا أَيُّهَا النَّاسُ، مَنْ عَلِمَ شَيْئًا فَلْيَقُلْ بِهِ، وَمَنْ لَمْ يَعْلَمْ فَلْيَقُلِ اللَّهُ أَعْلَمُ، فَإِنَّ مِنَ العِلْمِ أَنْ يَقُولَ لِمَا لاَ يَعْلَمُ اللَّهُ أَعْلَمُ، قَالَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ لِنَبِيِّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: {قُلْ مَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ وَمَا أَنَا مِنَ المُتَكَلِّفِينَ} [ص: 86] وَسَأُحَدِّثُكُمْ عَنِ الدُّخَانِ: إِنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ دَعَا قُرَيْشًا إِلَى الإِسْلاَمِ، فَأَبْطَئُوا عَلَيْهِ، فَقَالَ: «اللَّهُمَّ أَعِنِّي عَلَيْهِمْ بِسَبْعٍ كَسَبْعِ يُوسُفَ» فَأَخَذَتْهُمْ سَنَةٌ فَحَصَّتْ كُلَّ شَيْءٍ، حَتَّى أَكَلُوا المَيْتَةَ وَالجُلُودَ، حَتَّى جَعَلَ الرَّجُلُ يَرَى بَيْنَهُ وَبَيْنَ السَّمَاءِ دُخَانًا مِنَ الجُوعِ، قَالَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ: {فَارْتَقِبْ يَوْمَ تَأْتِي السَّمَاءُ بِدُخَانٍ مُبِينٍ يَغْشَى النَّاسَ هَذَا عَذَابٌ أَلِيمٌ} [الدخان: 11]، قَالَ: فَدَعَوْا: {رَبَّنَا اكْشِفْ عَنَّا العَذَابَ إِنَّا مُؤْمِنُونَ، أَنَّى لَهُمُ الذِّكْرَى، وَقَدْ جَاءَهُمْ رَسُولٌ مُبِينٌ، ثُمَّ تَوَلَّوْا عَنْهُ، وَقَالُوا مُعَلَّمٌ مَجْنُونٌ، إِنَّا كَاشِفُو العَذَابِ قَلِيلًا، إِنَّكُمْ عَائِدُونَ} [الدخان: 12] أَفَيُكْشَفُ العَذَابُ يَوْمَ القِيَامَةِ؟ قَالَ: فَكُشِفَ ثُمَّ عَادُوا فِي كُفْرِهِمْ، فَأَخَذَهُمُ اللَّهُ يَوْمَ بَدْرٍ، قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {يَوْمَ نَبْطِشُ البَطْشَةَ الكُبْرَى إِنَّا مُنْتَقِمُونَ} [الدخان: 16]

وهذا المعنى مناسب ومكمل لما ذكر في سورة الزخرف سابقا من قوله تعالى: (وَمَا نُرِيهِمْ مِنْ آيَةٍ إِلَّا هِيَ أَكْبَرُ مِنْ أُخْتِهَا وَأَخَذْنَاهُمْ بِالْعَذَابِ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ (48) وَقَالُوا يَاأَيُّهَ السَّاحِرُ ادْعُ لَنَا رَبَّكَ بِمَا عَهِدَ عِنْدَكَ إِنَّنَا لَمُهْتَدُونَ (49) فَلَمَّا كَشَفْنَا عَنْهُمُ الْعَذَابَ إِذَا هُمْ يَنْكُثُونَ (50) ) فأما ما سبق ذكره في سورة الزخرف فكان في قصة فرعون وقومه، وأما ما جرى في سورة الدخان فكان في قريش.

فصحيح أن المشركين لم يعدوا النبي صلى الله عليه وسلم بذلك ولكنهم دعوا ربهم به.

وقيل أن هذه العبارة لم تذكر حكاية عن كفار قريش كما يتبادر للقارئ المتعجل، وإنما هي تلقين للمؤمنين من الله عز وجل ليقولوها لكي ينجوا من العذاب، فكأن المعنى: أيها المؤمنون قولوا: ربنا اكشف عنا العذاب إنا مؤمنون، وهذا القول فيه بعد فإن المؤمنين لم يكونوا مع المشركين في مكة يومها، فلا يتجه مثل هذا التلقين، ولكن إن قلنا أنه فيه إشارة للمؤمنين بأن الإيمان سبب للنجاة، لكان أقرب، ومثل هذا القول متجه للمؤمنين ولغيرهم.

أما بالنسبة للحديث عن البطشة الكبرى فلا تعارض بين القولين: قول ابن مسعود رضي الله عنه أنها يوم بدر وقول من قال أن البطشة الكبرى يوم القيامة، والكلام يحتمل المعنيين فلا يوجد مانع من حمله على الوجهين معهم، فكأن الله هددهم بقطع رؤوس القوم يوم بدر وبالبطشة الكبرى يوم القيامة.

ما دلالة الفصل بين قوله تعالى ( ربنا اكشف عنا العذاب ) وبين قوله تعالى ( إنا كاشفوا العذاب ) بما فصلت به من آيات؟

هذا الفصل دليل عل أن الكشف لم يأت استجابة لدعائهم وإنما جاء استجابة لدعاء النبي صلى الله عليه وسلم، كما مر سابقا في الأحاديث.

وفيه إيضا إشارة إلى أمر مهم جدا، ألا وهو كشف وبيان سبب إيمانهم في هذه الساعة وأنه لم يكن اليقين وإنما هو اللعب، والرسالة وراءها: إنا نعلم أن ما زعمتموه من إيمان وضراعة إلى ربكم لم يكن لأنكم استيقنتم بالدليل على صدق النبي صلى الله عليه وسلم وأن دافعكم إلى ذلك إنما هو وطأة العذاب، والرغبة الملحة بأن ينكشف عنكم، وأن القضية إنما هي شدة الألم والرغبة في الانفكاك منه، وأننا سنكشف عنكم هذه الحدة قليلا لنريكم أنكم ستعودون إذا زالت عنكم.

والعظمة هنا لا تظهر في القدرة على كشف العذاب وحسب بل تظهر في الإخبار بعودتهم بعد كشف قليل منه وهذا لا يعلمه إلا السميع العليم.

ما مناسبة التفريع بقوله تعالى ( فارتقب )؟

جاء هذه التفريع بعد أن نعى عليهم شكهم ولعبهم على الرغم من النذارة التي جاء بها القرآن، لغرضين اثنين:

الأول: تطمين وتثبيت النبي صلى الله عليه وسلم بوعده بالانتقام من مكذبيه.

الثاني: تهديد المشكرين على ما سبق منهم من استهزاء.

ما مناسبة قوله تعالى ( أنى لهم الذكرى وقد جاءهم رسول مبين )؟

جاءت هذه الآية عقد دعاءهم لتقول: من أين ستحصل لهم الذكرى والمخافة عند ظهور الدخان المبين وقد جاءهم ما هو أقوى دلالة من العذاب وهي دلائل صدق النبي صلى الله عليه وسلم وأهمها ذلك الكتاب الذي سبقت إليه الإشارة والتنويه بشأنه في بداية السورة، وأنى يتذكرون وقد سدوا طرق الهدى بطعنهم في النبي صلى الله عليه وسلم صاحب الرسالة.

ما هو المراد بالبطشة الكبرى؟

اختلف فيه على قولين:

الأول: أنها كانت يوم بدر

الثاني: أنها يوم القيامة.

ولا تنافي بين القولين فإن بدرا كانت بطشة كبرى باعتبار ويوم القيامة بطشة كبرى باعتبار آخر، وبينهما بطشة كبرى تأتيهم فرادى، ألا وهي بطشة الموت، والله أعلم. 

Map Shot 1

 

Map Shot 2

جميع الحقوق متاحة للمسلمين دون اشتراط ذكر المصدر © 2023 7a9ad.com. All Rights Reserved