الاجتماع على الدين

وَمَا اخْتَلَفْتُمْ فِيهِ مِنْ شَيْءٍ فَحُكْمُهُ إِلَى اللَّهِ ذَلِكُمُ اللَّهُ رَبِّي عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَإِلَيْهِ أُنِيبُ (10) فَاطِرُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ جَعَلَ لَكُمْ مِنْ أَنْفُسِكُمْ أَزْوَاجًا وَمِنَ الْأَنْعَامِ أَزْوَاجًا يَذْرَؤُكُمْ فِيهِ لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ (11) لَهُ مَقَالِيدُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشَاءُ وَيَقْدِرُ إِنَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ (12) شَرَعَ لَكُمْ مِنَ الدِّينِ مَا وَصَّى بِهِ نُوحًا وَالَّذِي أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ وَمَا وَصَّيْنَا بِهِ إِبْرَاهِيمَ وَمُوسَى وَعِيسَى أَنْ أَقِيمُوا الدِّينَ وَلَا تَتَفَرَّقُوا فِيهِ كَبُرَ عَلَى الْمُشْرِكِينَ مَا تَدْعُوهُمْ إِلَيْهِ اللَّهُ يَجْتَبِي إِلَيْهِ مَنْ يَشَاءُ وَيَهْدِي إِلَيْهِ مَنْ يُنِيبُ (13) وَمَا تَفَرَّقُوا إِلَّا مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَهُمُ الْعِلْمُ بَغْيًا بَيْنَهُمْ وَلَوْلَا كَلِمَةٌ سَبَقَتْ مِنْ رَبِّكَ إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى لَقُضِيَ بَيْنَهُمْ وَإِنَّ الَّذِينَ أُورِثُوا الْكِتَابَ مِنْ بَعْدِهِمْ لَفِي شَكٍّ مِنْهُ مُرِيبٍ (14) فَلِذَلِكَ فَادْعُ وَاسْتَقِمْ كَمَا أُمِرْتَ وَلَا تَتَّبِعْ أَهْوَاءَهُمْ وَقُلْ آمَنْتُ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ مِنْ كِتَابٍ وَأُمِرْتُ لِأَعْدِلَ بَيْنَكُمُ اللَّهُ رَبُّنَا وَرَبُّكُمْ لَنَا أَعْمَالُنَا وَلَكُمْ أَعْمَالُكُمْ لَا حُجَّةَ بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمُ اللَّهُ يَجْمَعُ بَيْنَنَا وَإِلَيْهِ الْمَصِيرُ (15) وَالَّذِينَ يُحَاجُّونَ فِي اللَّهِ مِنْ بَعْدِ مَا اسْتُجِيبَ لَهُ حُجَّتُهُمْ دَاحِضَةٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ وَعَلَيْهِمْ غَضَبٌ وَلَهُمْ عَذَابٌ شَدِيدٌ (16) اللَّهُ الَّذِي أَنْزَلَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ وَالْمِيزَانَ وَمَا يُدْرِيكَ لَعَلَّ السَّاعَةَ قَرِيبٌ (17) يَسْتَعْجِلُ بِهَا الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِهَا وَالَّذِينَ آمَنُوا مُشْفِقُونَ مِنْهَا وَيَعْلَمُونَ أَنَّهَا الْحَقُّ أَلَا إِنَّ الَّذِينَ يُمَارُونَ فِي السَّاعَةِ لَفِي ضَلَالٍ بَعِيدٍ (18) اللَّهُ لَطِيفٌ بِعِبَادِهِ يَرْزُقُ مَنْ يَشَاءُ وَهُوَ الْقَوِيُّ الْعَزِيزُ (19) مَنْ كَانَ يُرِيدُ حَرْثَ الْآخِرَةِ نَزِدْ لَهُ فِي حَرْثِهِ وَمَنْ كَانَ يُرِيدُ حَرْثَ الدُّنْيَا نُؤْتِهِ مِنْهَا وَمَا لَهُ فِي الْآخِرَةِ مِنْ نَصِيبٍ (20)

ما سبب اختيار آية ( وما اختلفتهم فيه من شيء ) كبداية للمقطع؟

الواو في بداية هذا  المقطع تعطف معنى على معنى، والكلام بعدها كلام جديد، ففي هذه الآية نلاحظ انتقال الخطاب من العلاقة بين الله وبين عباده وما ينبغي عليهم تجاهه من التعظيم والإجلال والتوحيد، إلى الحديث عن العلاقة بين عباده والتي جاء تنظيمها من الله عز وجل باعتباره صاحب الوحي.

ويمكن تقسيم المقطع إلى مقاطع جزئية:

الأول: مع بداية المقطع

الثاني: مع قوله تعالى ( شرع لكم من الدين )

الثالث: مع قوله تعالى ( فلذلك فادع واستقم )

الرابع: مع قوله تعالى ( الله الذي أنزل الكتاب بالحق والميزان )

ما هو موضوع هذا المقطع وما هي مناسبته لما قبله؟

بعد عن تم الحديث في المقدمة عن تعظيم الله وتعظيم وحيه والتشنيع على من اتخذ من دونه أولياء، انتقل الحديث مباشرة إلى جماعة المسلمين تحثهم على الالتفاف حول الدين وما شرعه الله لهم فيه، بعد أن ملأ المقطع السابق نفوسهم بتعظيم الله ووحيه وتوحيده.

وهذا المعنى أي الاجتماع على الدين من أخطر المعاني التي غابت عن أذهان المسلمين.

ولم تنتقل الآيات انتقالا مباشرة مغادرة المعنى السابق بل أشربت بدايته بنفس المعنى مؤكدة أنه: فاطر الخلق كلهم، وأن له الملك وأن الرزق بيده يصرفه أنى شاء.

ثم ذكرت الشرع والشريعة صراحة، رابطة إياه بما سبق من الرسالات، ومؤذنة بأهم أمر من أوامر الدين وهو ( الاجتماع على الدين وعدم التفرق فيه )، وهذا يعني الفهم الدقيق للدين، والدقة البالغة في تحديد ما أمر به سبحانه وما نهى، والدرس الرفيع في بيان الأصول والفروع والصبر على ذلك وحسن فقهه وأن تكون هناك فئة عالية المقام، خالصة النفس صادقة في التوجه منصرفة انصرافا كليا إلى هذا ليس لها هم إلا أن تبحث في الكتاب والسنة وعلوم الكتاب والسنة وأقوال السلف، وإزالة ما يمكن أن يلابسه مما ليس فيه، ثم العمل به على وفق هذا الفهم وهذه البصيرة، عملا يحيا به الدين في القلوب وتحيا به القلوب، حتى يرى الدين بكل صفاته وكل جلاله حيا متحركا، هذا وجه، والوجه الآخر أن يكون قوله ( أقيموا الدين ) من قولهم فلان قائم على كذا يرعاه ويصونه، وينصرف إليه بكليته كأنه حارس يقظ وديدبان لا تطرف عينه فالدين في حاجة غلى حراسة لأن أعداءه يمكرون به، وأن هذا الأمر مما لم يستطع المشركون تقبله، لأنه ينهي طواف الناس بهم والتفافهم حولهم، ويدفع بهم للطواف حول الشريعة والالتفاف حولها وحذرتهم من صنيع الأمم السابقة في تفرقهم في دينهم وأن لهذا التفرق سبب واحد لا ثاني له ألا وهو ( البغي والظلم بينهم ) إيثارا للدنيا وزهدا بالآخرة.

ووجهت أمرا مباشرة للنبي صلى الله عليه وسلم ولأمته من بعده بالتمسك بهذا الدين والاستقامة عليه، خاصة بعد أن ظهرت لهم الأدلة الواضحة على أن الوحي وحيه والأمر أمره، ووصفت حالة الجماعة المخذولة المكذبة لهذه الدعوة المأمور ببيانها وبلاغها، ووصفت أمرا زائدا عن المقاطع السابقة لتصف محاربتها للدعوة والوحي والدين،

ما مناسبة العودة إلى ذكر تعظيم الله عز وجل بعد البداية بالمقطع الثاني والحديث عن الاختلاف؟

أصل الكلام : أم اتخذوا من دونه أولياء فالله هو الولي وهو يحي الموتى وهو على كل شيء قدير فاطر السموات والأرض .. ثم دخل بينهما قوله سبحانه وتعالى ( وما اختلفتهم فيه من شيء فحكمه إلى الله ).

وهذا الدخول يشير إلى شدة العناية بالمعنى وقوة دلالته على التسليم بحكمه والإذعان لأمره ونهيه، فتداخلت المعاني وتلاحمت بهذا الشكل القوي المتآلف.

وقيل أنها خبر ثان لقوله تعالى ( ذلكم الله ربي ) فيكون الكلام: ذلكم الله ربي فاطر السموات والأرض وقوله عليه توكلت وإليه أنيب يأتي بعد قوله وهو السميع البصير وكله يحتمله بناء الكلام وعمود هيأته وعلاقاته ووراء كل تركيب من الأسرار ما وراءه.

ما مناسبة ذكر الأزواج والأنعام هنا؟

جاء الكلام هنا بعد الحديث عن الفطر لأن الأول دال على عموم القدرة الموجب للإذعان لوحيه واتخاذه وليا، والثاني حديث عن النعمة المباشرة للإنسان الذي خلقه ربه وآنسه بالصاحبة والولد وذرأ له الأنعام يشرب ألبانها ويأكل لحومها وتحمل أثقاله، وكأن الآيات تقول له: قد أنعمت عليك بكل هذه النعلم فما بالك تتخذ من دوني وليا، وما بالك تدير ظهرك إلى وحيي الذي أوحيته إلى رسلي؟

كما أن ذكر الأزواج هنا مناسب لما بعده من قوله تعالى ( ليس كمثله شيء ) إذ أن لكل شيء زوجا إلاه جل في علاه فهو الواحد الفرد الصمد، وتر يحب الوتر.

ما سبب التعبير عن رسالات الأنبياء بالوصية وعن رسالة النبي صلى الله عليه وسلم بالوحي؟

الظاهر أن هذا الأمر بسبب كون هذه الشرائع محدودة بأقوام وأزمان وأن كل رسالة جاءت بعدها كانت ناسخة لها فكانت أشبه بالوصية والوديعة التي يودعها النبي عند قومه حتى يأتي نبي فينسخها وشريعة محمد ليست كذلك

ما مناسبة البداية بالفاء في هذا المقطع الجزئي؟

الفاء في قوله ( فلذلك فادع ) رابط يربط ما بعد الفاء بما قبلها، ولو راجعت وتدبر ما قبلها وما بعدها وراجعت تفريع ما بعدا على ما قبلها لوجدت بابا رفيعا من المعنى، وموقع بعثته صلى الله عليه وسلم في سياق النبوات وفي سياق التاريخ وأنه عليه السلام بعث في مفصل من مفاصل التاريخ اقتضى بالضرورة وجود هذه النبوة، وموقع الفاء هنا وراءه معنى يقول أن التفرق قد كان، وأن الشك المريب كان، وأن استكبار المشركين على الحق كان، وأن أصول الأديان التي اجتمعت عليها، وكان شرعك منها قد تلاشت وتهرأت، ما نزلت الشرائع كلها لمواجهته من زمن نوح وكل ذلك وغيره هو المقصود بوصية الله للأجيال ولأمم الأنبياء ( أن اقيموا الدين ولا تتفرقوا فيه ).

ورغم كل هذا لا نجد نهاية لمعنى الفاء واسم الإشارة في قوله سبحانه ( فلذلك فادع ) لأن نهايتها تصف بدقة ما عليه الناس في كل أقطار الأرض في أخلاقهم ورذائلهم وفضائلهم وغير ذلك، ومعنى الكلام: من أجل ما ابتلي الناس به من هذه البلايا وهذه الرزايا جاءت دعوتك وهذا زمانها وهذا مقامها وإنما بعثت لتخرج الناس من الظلمات إلى النور ومن الموت إلى الحياة.

ما مناسبة ذكر الميزان والساعة ههنا؟

الكلام هنا عن إنزال الكتاب والميزان استمرار لما ذكر سابقا من الآيات في إنزال الكتاب ( وقل آمنت بما أنزل الله من كتاب ) ومن ذكر العدل ( وأمرت لأعدل بينكم ) وهذا الاستحضار هنا مرة أخرى ( الله الذي أنزل الكتاب بالحق والميزان ) جاء لاستدعاء الحديث عن الساعة، لأنه لا معنى لنزول الكتاب بالحق إذا لم يكن هناك بعث وحساب، ثم إن العدل أيضا يقتضي أن تكون هناك دار آخرة يجازى فيها المحسن والمسيء في الدنيا، وفيها أيضا تحذير مضمن لمن دعتهم هذه الحياة الدنيا إلى أحد هذين المحذورين: الكفر بالدين أو الوقوع في الظلم، وكلامها خطير موجب للعذاب الأليم يوم القيامة، وكأن الآيات تقول: قد أمركم الله بالعدل والالتفاف حول الشريعة، فاعملوا بالكتاب والعدل قبل أن يفاجئكم يوم حسابكم ووزن أعمالكم، وهذا الربط يبقي على اليوم الآخر وما فيه حاضر أبدا في ذهن العبد المسلم.

ما مناسبة ذكر اللطف والرزق هنا بعد الحديث عن العذاب في يوم القيامة؟

بعد أن ذكر الله سبحانه سوء أعمالهم وأشار إلى عقابه وغضبه الشديد على من يزاول هذا الكفر وهذا الباطل وهذا الإنكار فتح باب الأوبة إليه، وذكر بلطفه بعباده، وأن هؤلاء الذي لطالما جادلوا في الله مستوجبين غضبه وعقابه لو رجعوا إليه لوجدوا بابه مفتوحا، ولوجدوا اللطف والرفق والقبول والعطاء.

وكأن الآيات تقول لهم: هلم إلى زمرة عباد الله لينالكم من الله اللطف وسعة الرزق من جانب القوي الغالب الذي لا يقهره شيء.

كما أن في الآية توطئة وتهيئة لما سيأتي لاحقا من الحديث عن الساعة وتفضيل حرث الآخرة على الدنيا،

Map Shot 1

 

Map Shot 2

جميع الحقوق متاحة للمسلمين دون اشتراط ذكر المصدر © 2023 7a9ad.com. All Rights Reserved