تعظيم الموحي

بسم الله الرحمن الرحيم

حم (1) عسق (2) كَذَلِكَ يُوحِي إِلَيْكَ وَإِلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكَ اللَّهُ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (3) لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ وَهُوَ الْعَلِيُّ الْعَظِيمُ (4) تَكَادُ السَّمَاوَاتُ يَتَفَطَّرْنَ مِنْ فَوْقِهِنَّ وَالْمَلَائِكَةُ يُسَبِّحُونَ بِحَمْدِ رَبِّهِمْ وَيَسْتَغْفِرُونَ لِمَنْ فِي الْأَرْضِ أَلَا إِنَّ اللَّهَ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ (5) وَالَّذِينَ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ أَوْلِيَاءَ اللَّهُ حَفِيظٌ عَلَيْهِمْ وَمَا أَنْتَ عَلَيْهِمْ بِوَكِيلٍ (6) وَكَذَلِكَ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ قُرْآنًا عَرَبِيًّا لِتُنْذِرَ أُمَّ الْقُرَى وَمَنْ حَوْلَهَا وَتُنْذِرَ يَوْمَ الْجَمْعِ لَا رَيْبَ فِيهِ فَرِيقٌ فِي الْجَنَّةِ وَفَرِيقٌ فِي السَّعِيرِ (7) وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ لَجَعَلَهُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً وَلَكِنْ يُدْخِلُ مَنْ يَشَاءُ فِي رَحْمَتِهِ وَالظَّالِمُونَ مَا لَهُمْ مِنْ وَلِيٍّ وَلَا نَصِيرٍ (8) أَمِ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ أَوْلِيَاءَ فَاللَّهُ هُوَ الْوَلِيُّ وَهُوَ يُحْيِ الْمَوْتَى وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (9)

ما هو مقصد هذا المقطع وما هي مناسبته لمقصد السورة وما هي الرسالة التي يحملها؟

هذا المقطع يتحدث عن تعظيم الله، باعتباره مصدر هذا الوحي ومنزله، وتعظيم الله مقصود هنا لأجل تعظيم الوحي الذي نزل بهذا الدين، فذكر ملكه التام لكل شيء في السموات والأرض وذكر صفة العلو والعظمة وذكر حال السموات وهي تكاد تتشقق من خشيته جل وعلا وحال الملائكة وهم يسبحون وهم يستغفرون لمن في الأرض، ثم شنعت أمر الذين تولوا غير الله وأتبعته بلطف في دعوتهم رجاء استجابتهم لهذا الوحي، ثم ذكرتهم بيوم المعاد وافتراقهم يومها إلى فريقين لتتخلص الآيات إلى التأكيد على أن الهدى هدى الله وألو يشاء الله لجعلهم أمة واحدة، ولكنه فضل الله يهدي به من يشاء، فمن آمن آمن بتوفيق الله له وهدايته له ومن كفر كفر بخذان الله له، وكأنها رسالة إلى الناس للتوجه إلى الله وحده يسألونه الهداية بواسطة هذا الوحي المنزل.

فحاصل الكلام في هذه الآيات : تعظيم الله صاحب الوحي وتوليه وحده وترك من دونه من الأولياء، وهذا الموضوع يعتبر تهيئة وتوطئة لما سيأتي بعده من الأمر على الاجتماع على الدين،  فإذا استقرت عظمة الله في نفس الإنسان المسلم عظمت قيمة هذا الوحي النازل منه، وعلم أنه لا بد أن يلتزم بما جاء في هذا الوحي ويتولاه لإنه جاء عن عظيم، فأما من اختار غير هذا الطريق فهو ظالم لا شك، ترك ولاية الله فترك الله ولايته ونصره.

ما مناسبة الصفات التي ابتدأت بها السورة؟

وصف الله عز وجل ذاته العلية بصفات عديدة في بداية السورة، فوصفها بالعزة والحكمة والملك والعلو والعظمة، ثم عرج على موقف السموات والملائكة من هذه العظمة، وهذه الصفات كلها مرتبطة بالوحي جاءت لتبين ضرورته، فاتصافه بالعزة والحكمة يقتضي وحيا، وكونه العلي العظيم يقتضي وحيا، وكون الملائكة يسبحون لمن في الأرض يقتضي وحيا وكون الإنسان ينحرف فيشرك يقتضي وحيا وإنذارا وهذا كله يقتضي وجود رسول يوحى إليه.

ما مناسبة استغفار الملائكة لمن في الأرض لتعظيم الله؟

بعد ذكر ملكه عز وجل للسموات والأرض وهي من المخلوقات الجسمانية ذات الأجرام، بل أعظمها، عقب بعدها بذكر المخلوقات النورانية، بل أعظمها وهي الملائكة، لتكتمل صورة الملك شاملة الجسماني والنوراني، وهذا ترتيب شريف وبيان باهر.

كما أن فيها رسالة إلى أهل الأرض مفادها: أن الملائكة وهم أصحاب الخلق العظيم، والطاعة المطقلة دائبون في تسبيح ربهم لما يحسون من علوه وعظمته، ولما يخشون من التقصير في طاعته بينما أنتم يا أهل الأرض، على تقصيركم وضعفكم تتولون غير الله، فيشفق الملائكة من غضب الله ويروحون يستغفرون لأهل الأرض مما يقع منهم من أعراض وتولٍ.

ما مناسبة التذييل بالغفور الرحيم في هذه الآية؟

في هاتين الصفتين يجمع الله المغفرة والرحمة، إلى العلو والعظمة لتتكامل الصفات وليعرف العباد ربهم بصفاتهم كاملة.

ما مناسبة ذكر اتخاذ بعض الناس أولياء من دونه؟

جاءت الآيات قبل هذه الآية تؤكد علو شأن الوحي وعزته وغلبته وحكمته وعلوه وعظمته، ثم جاءت هذه الجملة المختصرة وعاد الكلام بعدها إلى ذكر الوحي مرة أخرى، وهذا المجيء في هذا الموضع يحمل رسالة: أنه لا يخالف الوحي الذي هذا شأنه ولا يضاده ولا يحاده إلا من أبعد في إنكار الحق وأبعد في الضلال، لأن الوحي الذي هذا شأنه لا ينكر ولا يجحد، والربط بين الوحي النازل اليوم والوحي السابق يظهر أساس النبوات وهي عبادة الله وحده، واتخاذه وليا وحده.

كما أن ابتداء الجملة بلفظ الجلالة ( الله ) وبناء الخبر عليه، يدل على أنه متضمن بلفظ الجلالة الذي ذكر قبله ( كذلك يوحي إليك وإلى الذين من قبلك الله العزيز الحكيم )، وهذا معناه: أن حفظ الله لهم مقترن بوحيه وأن وحيه من حفظه.

كما أن الابتداء بلفظ الجلالة الدال على الهيبة والعظمة إشارة إلى أن حفظه ليس كحفظ غيره، وحسب صاحب القلب أن يكون محفوا باسم الله الأعظم ومصونا به ومتدرعا به ومعاذا به ومعانا به ولا يهلك على الله إلا هالك.

ما مناسبة التعقيب بعد هذه البداية؟

إن الذي يسمع جملة الابتداء ( والذين اتخذوا من دونه أولياء ) يظن أن الخبر سيكون تهديدا ووعيدا، مثل ( والذين كفروا لهم نار جهنم ) ولكن الخبر جاء على غير هذا، فقد جاء – بدل التهديد والوعيد – ليصحح الموقف ويبين ما فيه من خطأ، جاء ليذكر بالنعمة مورثا النفس قدرا من الاطمئنان لأنه ليس لك حفظ أكرم لك ولا أبر بك من أن تكون في حفظ الله وكلأه، وكأن هذا الخبر بدل أن يرمي في وجوههم الاجتراء بباطلهم على سلطان الحق في أعظم تجلياته، يقاربهم ويوادهم ويقول: لا تتخذوا وليا من دون الذي تكاد السموات تتفطر من هيبته لأنه هو الحافظ لكم.

ما مناسبة قوله تعالى بعدها ( وما أنت عليهم بوكيل) ؟

هذه الآية بهذه الصيغة ليست لنفي الوكالة عن النبي صلى الله عليه وسلم فحسب، بل هي لإثباتها لله وحده، فمهمة النبي صلى الله عليه وسلم هي البلاغ فحسب على أحسن وجه، وليس مسؤولا عن شيء بعد هذا فالخلق خلقه يهدي من يشاء ويضل من يشاء – كما سيأتي – فهو الحفيظ وهو الوكيل.

وفي هذا تسلية للنبي صلى الله عليه وسلم وهو يرى شراسة الباطل وأهله يباغتون الحق وأهله بضلالاتهم، ويرتكبون هذه الحماقات ببعدهم عن الدين.

ما مناسبة العودة إلى الكلام عن الوحي بعد هذا؟

بدأت الآية هنا بما بدأت به رأس السورة ( وكذلك ) وعادت مرة أخرى للحديث عن الوحي، وهذه البداية علامة لغوية تشير إلى : أن هذه الآية من تمام الآية الأم التي هي رأس السورة، وأن الحديث عن اتخاذ الأولياء اعترضت الكلام عن الوحي لتشير إلى ما قدمنا الحديث عنه ثم عاد الكلام إلى الأصل ليحدث عن الوحي الذي أوحاه الله إليه.

ما مناسبة وصف القرآن بالعربي هنا؟

عربيا هنا وصف للقرآن نسبة إلى العربية وليس إلى العرب وبهذا صارت العربية بعد نزول القرآن بمثابة جنسية كما قال الرافعي وليست عرقية وهذا أنبل وأكرم، ويترفع بها عن النزعة العرقية إلى النزوع الحضاري والثقافي، وبهذا المعنى قال النبي صلى الله عليه وسلم ( سلمان منا آل البيت )، وذكر العربية هنا يشبه أن يكون من باب الامتنان على الذين نزل إليهم هذا الوحي، فشرفت هذه اللغة به، وشرفوا هم بها.

ما مناسبة وصف مكة هنا بأم القرى ؟

هذا من تمام الامتنان فقد ذكر بداية امتنانه جل وعلا عليهم بأن جعل القرآن بلغتهم، ثم امتن عليهم مرة أخرى بأن جعل قريتهم أم القرى وشرفها ببيته الحرام وبحرمه، وكأنها دعوة رقيقة إلى الاستجابة لهذا الوحي الذي شرفهم به.

ما مناسبة وصف القيامة هنا بيوم الجمع؟

ذكرت الآيات الساعة بوصفها ( يوم الجمع ) وهذا مناسب غاية المناسبة لمقصد السورة ألا وهو الاجتماع على الدين، فكأنها تأمرهم بالاجتماع في الدنيا على دين الله عز وجل، مخافة الاجتماع الأخير بين يديه.

ثم عقبت الآيات بعد ذكر يوم الجمع بذكر افتراق الناس، فريق في الجنة وفريق في السعير وكأنها أيضا تنبههم في حال تفرقهم عن الدين أنها فرقة في السعير ولا شك فكل من شذ عن الفريق المتمسك بدين الله فريق الجنة، هوى في السعير والعياذ بالله، وكل هذه من الإشارات التي تمر على القارئ المستعجل ولا يدركها إلا المتدبر المتعمق.

وقد جمعت هذه الكلمات الوجيزات الخلق كلهم، وقضت بينهم، وساقت كلا إلى دار قراره، وقد نسقت نسقا خاصا ورتبت ترتيبا خاصا فنتج منها من المعاني ما لا يدخل في منن البشر

ما مناسبة التعقيب بقوله ( والظالمون ما لهم من ولي ولا نصير) ؟

كان المتوقع بعد قوله ( يدخل من يشاء في رحمته ) أن يكون المقال بمثل: ويدخل من يشاء في عذابه أو عقابه، ولكن كان التعقيب بما سمعت لأن الله بلطفه وعدله يرحم بلا استحقاق ولا يعذب إلا باستحقاق، وابتداء الجملة بقوله ( والظالمون ) إشارة غلى أنهم هم الذين صاروا بأنفسهم إلى ما صاروا إليه، فهو لا يعذب إلا من ( ظلم ) واختار وليا غير الله ونصيرا غير الله، فتركه الله وما تولى.

ما مناسبة العودة إلى ذكر من اتخذ من دون الله أولياء ؟

هذه الآية أخت الآية السابقة، ( والذين اتخذوا من دونه أولياء ) وقد اتفقتا في الموقع فجاءت كل واحدة منهما بعد تجليات القدرة وسطوع دلائل السلطان، ومجيئهما بهذا الشكل المفاجئ يفيد أن الباطل يقتحم على الناس من غير منطق ومن غير أن يكون هناك ما يبرره، وهذا يقال أيضا هنا ويؤكد هذه الفكرة، وأن الباطل ليس في حاجة إلى تبرير، ولا يخفى على المتأمل أن الإنكار والغضب في هذه الآية أكثر مما يوجد في أختها التي سبقتها، وهذا بسبب مجيئها بعد الإنذار ( وتنذر يوم الجمع )، والتلميح إلى إنكارهم إياه، وهذا في غاية المناسبة.

ما مناسبة ذكر إحياء الموتى بعد ذكر الولاية؟

جاء إحياء الموتى بعد ذكر الولاية دليلا عليه، فإحياء الموتى ليس فعلا يتعدد فاعله لأنه لا يكون إلا من الحي القادر، وقد اتبعت هذه الصفة ( إحياء الموتى ) بذكر القدرة المطلقة له جلا وعلا، في إشارة إلى أن من اتصف بهما يستحق أن يعبد وأن يتخذ وليا، وأن الولاية لا تكون إلا لمن اتصف بهاتين الصفتين.

Map Shot 1

 

Map Shot 2

 

جميع الحقوق متاحة للمسلمين دون اشتراط ذكر المصدر © 2023 7a9ad.com. All Rights Reserved