(إذا أعطى فليس لعطائه حد)
المادة مفرغة من محاضرات للدكتور أحمد عبد المنعم
(إذا أعطى فليس لعطائه حد)
( اعملوا آل داوود شكرا )
وَلَقَدْ آتَيْنَا دَاوُودَ مِنَّا فَضْلًا يَاجِبَالُ أَوِّبِي مَعَهُ وَالطَّيْرَ وَأَلَنَّا لَهُ الْحَدِيدَ (10) أَنِ اعْمَلْ سَابِغَاتٍ وَقَدِّرْ فِي السَّرْدِ وَاعْمَلُوا صَالِحًا إِنِّي بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ (11) وَلِسُلَيْمَانَ الرِّيحَ غُدُوُّهَا شَهْرٌ وَرَوَاحُهَا شَهْرٌ وَأَسَلْنَا لَهُ عَيْنَ الْقِطْرِ وَمِنَ الْجِنِّ مَنْ يَعْمَلُ بَيْنَ يَدَيْهِ بِإِذْنِ رَبِّهِ وَمَنْ يَزِغْ مِنْهُمْ عَنْ أَمْرِنَا نُذِقْهُ مِنْ عَذَابِ السَّعِيرِ (12) يَعْمَلُونَ لَهُ مَا يَشَاءُ مِنْ مَحَارِيبَ وَتَمَاثِيلَ وَجِفَانٍ كَالْجَوَابِ وَقُدُورٍ رَاسِيَاتٍ اعْمَلُوا آلَ دَاوُودَ شُكْرًا وَقَلِيلٌ مِنْ عِبَادِيَ الشَّكُورُ (13) فَلَمَّا قَضَيْنَا عَلَيْهِ الْمَوْتَ مَا دَلَّهُمْ عَلَى مَوْتِهِ إِلَّا دَابَّةُ الْأَرْضِ تَأْكُلُ مِنْسَأَتَهُ فَلَمَّا خَرَّ تَبَيَّنَتِ الْجِنُّ أَنْ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ الْغَيْبَ مَا لَبِثُوا فِي الْعَذَابِ الْمُهِينِ (14)
ما هو موضوع هذا المقطع؟ وما مناسبته لما قبله؟ وما مناسبته لمقصد السورة؟
هذه الآيات تتحدث عن التمكين غير العادي الذي امتن الله به على داوود وسليمان، وهي تحمل الرسالة التالية للمؤمنين المستضعفين:
الله عز وجل قادر على أن يعطيكم من التمكين القوة مثل ما أعطى داوود وسليمان، وما ذلك على الله بعزيز، لكن القضية ليست هنا، فإياكم أيها الدعاة أن تعتقدوا أن الموضوع له علاقة بالأسباب المادية، أبدا.
ومن المناسبات: أن مثل هذه القصة تدل على بالغ ملك الله وبالغ علم الله، وفي هذا عودة إلى المقدمة وربط للمعاني معها.
كما أن في ذكر القصة ههنا رسالة إلى مشركي مكة يوم نزولها وإلى الطغاة الصادين عن سبيل الله عامة: أن اشكروا إذ مكنتكم كما شكر آل داوود.
ما مناسبة اختيار داوود عليه السلام؟
من ميزات داوود اجتهاده في الطاعات، صيام داوود قيام داوود. ومع أن داوود عليه السلام قد سخرت له الجبال والحديد وهي أشد المخلوقات إلا أن ذكره هنا يرسل لنا إشارة هامة مفادها: إياك أن تصدك الحركة والدعوة عن العبادة، لأن العبادة هي التي ستسخر لك أشد المخلوقات وستيسر لك أعظم المصاعب.
ما مناسبة ذكر الحديد؟
الحديد هو من مخلوقات الله التي يصعب التعامل معها، فكأن الآيات تقول: إذا أراد الله سخر لك أصعب المخلوقات وما ذلك عليه بعزيز.
ما دلالة الأمر ( أعمل قدر ) ؟
جاء هذا الخطاب هنا بعد أن ذكر الأعطيات، وكأن هذه الأوامر جاءت في مقابل العطايا، وكأن الآيات تقول لنا: وراء كل عطية سؤال وحساب، فكما أنا أعطيتكم فاعملوا واجتهدوا فإنكم مسؤولون.
وكل عطاء وتمكين لا بد أن يكون بعده اختبار وابتلاء كما قال موسى لقومه ( عسى ربكم أن يهلك عدوكم ويستخلفكم في الأرض فينظر كيف تعملون )، فليست العبرة بالتمكين ولن بما بعد التمكين ( الذين إن مكناهم في الأرض أقاموا الصلاة وآتوا الزكاة وأمروا بالمعروف ونهوا عن المنكر ولله عاقبة الأمور )
ما دلالة التحول بالخطاب من المفرد ( اعمل وقدر ) إلى الجمع ( واعملوا ) ؟
هذه الآيات تحمل رسالة لداوود عليه السلام: أنه كما علمتك صنعة الحديد وأنعمت عليك علم من بعدك، فإن أنت مت أو غبت حل من بعدك محلك، وهذا إرشاد لكل الدعاة أن يربوا الدعاة من بعدهم، وأن يجهزوا كوادر من بعدهم حتى لا يتوقف العمل لو غاب الشخص.
ما مناسبة ذكر الحديد والسابغات قبل الكلام عن الريح والتنقل؟
الحديد والسابغات من أسباب القوة والجهاد، وأما الريح والتنقلات من أسباب المدنية، وفي ذكر أدوات الجهاد قبل أدوات المدنية إشارة إلى أمر مهم، وهو ضرورة الاهتمام بأدوات الجهاد وتحصيل أسباب القوة قبل تحصيل الأسباب المدنية، لأنه لا فائدة من المدنية دون قوة تحميها، والدول المستقرة حضاريا هي الدول صاحبة الجيوش القوية، أما الدول التي لا تملك جيشا قويا يذون عن حياضها فتبقى في خوف دائم وتبعية دائمة.
ما مناسبة ترتيب ذكر معمولات الجن ( محاريب تماثيل جفان قدور )؟
ههنا قاعدة مهمة: كل ما يفصله القرآن فهو أمر مهم ينبغي العناية به والالتفات إليه، وطالما فصل القرآن في هذا الأمر فمن وراءه هداية ولا بد.
أما المحاريب: وهي أماكن الطاعات، فأول ما بنى بنى المساجد، كما فعل النبي صلى الله عليه وسلم في المدينة، وسمي المحراب محرابا لأن فيه حرب الشيطان.
التماثيل: قيل أنها كانت مباحة في عهد سليمان، وكان يستعملها في الجهاد لإخافة العدو، أو أنها تماثيل لأنبياء وصالحين تذكرهم بالطاعة.
جفان وقدور: وهي أواني الطعام الكبيرة وهذا فيه إشارة إلى الأعمال الخيرية التي كان يقوم بها سليمان،
وفي هذا إشارة إلى أصحاب التمكين أن يعتنوا بهذه الأمور الثلاثة: العبادة ثم الجهاد ثم أعمال الخير.
وأخر أعمال الخير حتى تستقيم النية لتكون مكملة لما قبلها من الطاعة والجهاد فتكون طاعة لله، وأما تقديمها قبل الجهاد والعبادة فيذهب ثمرتها.
ما مناسبة ذكر قصة المنسأة في هذا المكان؟
القصة هنا جاءت للكلام عن الفارق بين الدعوات المبينة على التسخير والدعوات المبنية على التربية، فكأن القصة تقول للنبي صلى الله عليه وسلم : أنا قادر على أن أنزل لك جيشا ف يمكة تأمره فيطيع، ويقضي لك ما شئت، لكن ما الذي سيحصل بعد أن تموت؟
لا شك أنه سينقلب، لذلك جاء بعدها قصة سبأ التي فتحها سليمان عليه السلام بنفسه، فكانت النموذج الثاني للانقلاب، الأول هم الجن والثاني هم سبأ، بينما تقول الآيات للنبي صلى الله عليه وسلم: دعوتك دعوة خالدة فيجب أن تكون مبينة على التربية والإعداد للكوادر والرجال، وكذلك كانت حال النبي صلى الله عليه وسلم بعد أن ترك أصحابه وهذه من آيات الله، تركهم فاستمروا على ما تركهم عليه حتى قضوا نحبهم رضي الله عنهم.
وجاء مثل هذا في قصة الأذان حيث قال الصحابي ( فاغتممت لغم رسول الله صلى الله عليه وسلم ) ثم رأى رؤيا الأذان، فهذا الصحابي الجليل لم يركن إلى الدعة وقال: ننتظر غدا ماذا يأمرنا رسول الله، بل حمل هم الأمر واغتم لغم النبي صلى الله عليه وسلم وتحفز، وكل هذا نتيجة التربية التي رباهم إياها النبي صلى الله عليه وسلم.
وكما جاء في قصة الرجل الذي جاء من أقصى المدينة يسعى، فهو أيضا لم يركن إلى الدعة، ولم يقل في نفسه: في المدينة ثلاثة أنبياء فماذا سأفعل أنا معهم؟ بل شمر واجتهد وجاء من أقصى المدينة يسعى، وكل هذه كوادر بنيت على التربية لا على التسخير.
جميع الحقوق متاحة للمسلمين دون اشتراط ذكر المصدر © 2023 7a9ad.com. All Rights Reserved