(المقدمة)

 

المادة مفرغة من محاضرات للدكتور أحمد عبد المنعم

(المقدمة)

(الله بين الملك التام والعلم التام)

( له ما في السموات وما في الأرض .. يعلم .. )

سورة سبأ

بسم الله الرحمن الرحيم

الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ وَلَهُ الْحَمْدُ فِي الْآخِرَةِ وَهُوَ الْحَكِيمُ الْخَبِيرُ (1) يَعْلَمُ مَا يَلِجُ فِي الْأَرْضِ وَمَا يَخْرُجُ مِنْهَا وَمَا يَنْزِلُ مِنَ السَّمَاءِ وَمَا يَعْرُجُ فِيهَا وَهُوَ الرَّحِيمُ الْغَفُورُ (2) وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لَا تَأْتِينَا السَّاعَةُ قُلْ بَلَى وَرَبِّي لَتَأْتِيَنَّكُمْ عَالِمِ الْغَيْبِ لَا يَعْزُبُ عَنْهُ مِثْقَالُ ذَرَّةٍ فِي السَّمَاوَاتِ وَلَا فِي الْأَرْضِ وَلَا أَصْغَرُ مِنْ ذَلِكَ وَلَا أَكْبَرُ إِلَّا فِي كِتَابٍ مُبِينٍ (3) لِيَجْزِيَ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ أُولَئِكَ لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَرِزْقٌ كَرِيمٌ (4) وَالَّذِينَ سَعَوْا فِي آيَاتِنَا مُعَاجِزِينَ أُولَئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ مِنْ رِجْزٍ أَلِيمٌ (5) وَيَرَى الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ الَّذِي أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ هُوَ الْحَقَّ وَيَهْدِي إِلَى صِرَاطِ الْعَزِيزِ الْحَمِيدِ (6) وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا هَلْ نَدُلُّكُمْ عَلَى رَجُلٍ يُنَبِّئُكُمْ إِذَا مُزِّقْتُمْ كُلَّ مُمَزَّقٍ إِنَّكُمْ لَفِي خَلْقٍ جَدِيدٍ (7) أَفْتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِبًا أَمْ بِهِ جِنَّةٌ بَلِ الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ فِي الْعَذَابِ وَالضَّلَالِ الْبَعِيدِ (8) أَفَلَمْ يَرَوْا إِلَى مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَمَا خَلْفَهُمْ مِنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ إِنْ نَشَأْ نَخْسِفْ بِهِمُ الْأَرْضَ أَوْ نُسْقِطْ عَلَيْهِمْ كِسَفًا مِنَ السَّمَاءِ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَةً لِكُلِّ عَبْدٍ مُنِيبٍ (9)

ما هو موضوع هذا المقطع وما هي مناسبته لمقصد السورة؟

هذا المقطع هو مقدمة السورة، وقد فصلنا في سورة الفاتحة معنى الحمد والفرق بينه وبين الشكر.

وكما ابتدأ الحديث عن ملك الله وثنى بالحديث عن علمه انتهى المقطع بعرض لقوة الله البالغة كل شيء في تثبيت للمؤمنين وتهديد أيما تهديد للكافرين ومن سار معهم من أتباعهم.

ما مناسبة البدء بالحمد؟

خمس سور ابتدأت بالحمد هي: الفاتحة والأنعام والكهف وسبأ وفاطر، وكل واحدة من هذه السور فيها شيء مما يستوجب الحمد لله، وفي هذه السورة الحمد مستحق لله كونه هو الوحيد الخالق والمالك والمتصرف، فإن ملك بعض أهل الباطل شيئا من الدنيا، فهذا الملك ملك صوري، أما الملك الحقيقي فلله عز وجل وحده.

ما مناسبة قول الله ( له ما في السموات وما في الأرض )؟

قلنا سابقا أن السورة تتحدث في الأساس عن مرحلة استضعاف مادي للمسلمين أو لأهل الحق المتمسكين بالدين عموما، ومثل هذه الحالات التي يرى فيها الداعية نفسه في ضيق وشدة، يحتاج حينها كلمة توجه انتباهه وتعيده إلى القضية الأهم، وهي أن الملك كله ملك الله وأن ما في أيدي هؤلاء المعاندين الصادين عن سبيل الله لا يجاوز ملك الله، وأنهم وما يملكون لا يغادرون ملكه، ومثل هذا الكلام من شأنه أن يبث الطمأنينة في نفوس المؤمنين ويجلي لهم الحقائق فيمضون في طريقهم ثابتين غير ملتفتين إلى ما هم فيه من ضعف ولا إلى السعة التي يتقلب بها أعداؤهم.

كما أنها تلفت انتباهه إلى عالم السموات والأرض التي لا يشكل ملك أهل الباطل في مقابل هذه العوالم شيئا يذكر، وهكذا القرآن يجعلك توسع دائرة النظر من ضيق الصراع الجزئي إلى سعة الخلق والملك وتدبير الله للكون، فإن وراء ما يملكه الباطل من الأسباب عوالم أخرى لا يشكل ملك الباطل فيها شيئا يذكر.

ما مناسبة قوله ( وله الحمد في الآخرة ) خاصة مع أن الحمد له في الدنيا والآخرة ؟

بداية تقديم حرف الملك يفيد الاختصاص: أي أن الحمد في الآخرة لا يكون إلا لله وحده، وهذا المعنى معنى مهم جدا، إذ أنه يوجه انباه القارئ المتدبر إلى أنه مهما علا الباطل وانتفش وظن المستكبرون أن لهم من الأمر شيء في الدنيا واستعلوا وطغوا، فلا تأبه بهم البتة فإنه سيأتيهم يوم يوقنون أنه ليس لهم من الأمر شيء، يوم يكون الحمد كله لله وحده لا لأحد غيره ( يوم يدعوكم فتستجيبون بحمده ) وذلك حين يعلم الخلائق عظمة الله وكم أخطؤوا حين استكبروا وطغوا، وحي يرى أهل الحق تدبير الله لهؤلاء رفعة في الدرجات لهم واستدراجا لأهل الباطل في الإمهال لهم.

هنا لا زالت السورة أيضا توجه انتباه القارئ المتدبر وتلفت نظره إلى عالم آخر تماما وراء هذه الدنيا، وكأنها تقول له : إياك إياك أن تستغرق في هذه التفاصيل والجزئيات، إياك أن يقتصر نظرك على هذه الدنيا وما فيها، كلا، بل وراء هذه الدنيا سعة كبيرة في مرحلة زمنية هي مرحلة الآخرة، التي تظهر فيها الحقيقة كاملة فلا يكون الحمد حينها إلا لله، الله وحده حيث يظهر ملكه الحقيقي ونعمه الحقيقية.

ما مناسبة التذييل بقوله وهو الحكيم الخبير؟

الحكيم هو الملازم للسداد الذي يضع الأمور في مواضعها الصحيحة، والخبير هو الذي يعلم عاقبة الأمور، والخبرة فيها زيادة عن العلم كالفرق بين من تخرج في كلية الطب مثلا للتو فهذا عالم أما الخبير فهو من قضى سنوات في المهنة فصارت عنده خبرة نتيجة التجربة، والله خبير دون تجربة فهو يعلم عاقبة الأمور ولا يحتاج للتجربة ليعرف العواقب بعكس الإنسان.

وهاتات الصفتان هنا أيضا تبعثان في نفس المؤمن الطمأنينة لأنه قد تثور عنده أسئلة ويحصل عنده التباس حول موضوع توزيع الرزق بينه وبين أهل الباطل فيتسائل: لماذا لا يعطينا الله طالما نحن في مرضاته وهو مالك الملك له مافي السموات وما في الأرض؟

فيأتي هذان الاسمان ليقولا للمؤمن: لا تقلق ولا تحزن فالله قد وضع كل أمر في مكانه الصحيح ولم يغب عنه أن يوسع عليك ولا أن يضيق على أعدائك ولكنه إنما فعل ذلك بحكمته في وضع الأمور في موضعها الصحيح وبخبرته في معرفته بعواقب الأمور وما ستؤول إليه فامض فيما أنت فيه.

ما مناسبة ذكر العلم بعد ذلك مع استعراض تفاصيل هذا العلم؟

هذه الآية نقلت المؤمن من ضيق اللحظة الحاضرة إلى سعة الكون وما يضج فيه من الحركة وكمية الأمور التي تدخل في الأرض وتخرج منها وتصعد إلى السماء وينزل منها، من رزق أو عمل، ومثل هذه الآيات لا يخطر على قلب بشر أن يتكلم بمثل هذا، الأكثر من هذا أنه لا يغيب عنه مثقال ذرة.

ومثل هذا يحتاجه المؤمن في الصراع أشد الحاجة ليثبت في خضم هذه الفتن ( كذلك لنثبت به فؤادك ).

فبينما يتخيل البعض مثلا أن الحل إنما هو بموت الظالم الفلاني المعادي للدين، تسمو هذه الآيات بالداعية إلى عوالم أوسع بكثير.

ما مناسبة التذييل بالرحيم الغفور؟

المتأمل في الصاعد إلى السماء والنازل منها يرى أن كثيرا مما يصعد إلى السماء معاص وذنوب وتجاوزات، فيتوقع أن يكون حجم النازل المقابل هو كمية كبيرة من المصائب والصواعق على العصاة والمخالفين، إلا أن الواقع يقول أن الصاعد معاص وذنوب والنازل رزق وعافية وهذا من الله رحمة ومغفرة في مقابل ما يصعد إليه من أذى العباد وقد جاء في الحديث في صحيح مسلم عَنْ أَبِي مُوسَى قَالَ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَا أَحَدَ أَصْبَرُ عَلَى أَذًى يَسْمَعُهُ مِنْ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ إِنَّهُ يُشْرَكُ بِهِ وَيُجْعَلُ لَهُ الْوَلَدُ ثُمَّ هُوَ يُعَافِيهِمْ وَيَرْزُقُهُمْ .

ما مناسبة ذكر إنكار الساعة هنا؟ وما مناسبة الإقسام بالرب هنا؟

بعد كل هذا المشهد الذي تخضع له الرقاب ولا يسع الإنسان بعده إلا أن يؤمن، يظهر فريق من الناس تركوا كل هذه الدلائل على الآخرة ومضوا في إنكارها، لم ينكروا خلق الله ولا ملكه ولا تدبيره، وإنما انصرف تركيزهم على التكذيب بالآخرة لأنهم لا يريدون أن يحاسبوا، فجاء هنا الرد قويا بالقسم بالرب الدال على الرحمة والمنسوب للقائل ( ربي ) لأنه لا يمكن لعاقل أن يقول بأن يوسع على أهل الضلال في الدنيا ويضيق على أهل الحق في الدنيا، ثم تنتهي الأمور بهذا الشكل، حاشا وكلا بل بعدها حساب وجزاء.

ما مناسبة ذكر عالم الغيب هنا؟

ما مناسبة وصف أهل الباطل بأنهم ( والذين سعوا في آياتنا معاجزين )؟

السعي بمعنى المشي السريع، وهذه إشارة إلى الجهد الحثيث الذي يبذله أهل الباطل في الصد عن سبيل الله، فهم يسعون سعيا شديدا مركزا في هذا الصد، وهذا السعي ليس سعيا عشوائيا سطحيا ولكنه سعي مركز وهذا ما تشير إليه كلمة ( في ) أي سعيا شديدا عميقا.

أما معاجزين ففيها قراءتان:

الأولى: معاجزين أي يظهرون أنها عاجزة

الثانية معجزين أي يعجزون الناس عن الوصول إلى هذه الآيات.

والأولى شبهات والثانية شبهات.

ولأجل هذا كانت عاقبتهم ( عذاب من رجز ) أي نجاسة وأليم، لأنهم كانوا حريصين أشد الحرص على قطع الصلة بين الناس وبين الوحي ليعيشوا في نجاسة.

وهذا الحرص الشديد منهم لأنهم يعلمون علم اليقين أن مصدر قوتك إنما هي في الآيات وليس في المال ولا التمكين لذلك فهو يوجه كل جهده لأجل الطعن في هذه الآيات، هو يعلم أن النقود إنما هي دورات تمكين تأتي وتزول، أما مصدر القوة الذي لا يزول فهو الوحي.

ما مناسبة ذكر الساعين في الآيات في مقابل الذين آمنوا؟ ولم يقل الساعين في الدعوة إلى آياتنا مثلا؟

هذا لأن الإيمان لا يحتاج بذل كثير مجهود بخلاف الصد عنه، لأن الإيمان مغروس في فطرة الأنفس يدخل فيها بمجرد أن يمر عليها.

أما الصد عن الآيات فلا بد له من جهد وإقناع وصرف أموال ومراكز أبحاث ودراسات واحتيال لصد الناس عنه.

ما مناسبة ذكر الذين أوتوا العلم هنا؟

بعد أن استعرضت الآيات هؤلاء الذين يبذلون كل جهدهم في الصد عن سبيل الله أظهرت الآيات هنا هذه الفئة الثابتة الراسخة التي لا تتزعزع ( الذين أوتوا العلم ) وهؤلاء لا زالت الرؤيا عندهم واضحة ( يرى ).

ما دلالة كلمة ( هو ) هنا؟

هو هنا بمعنى أنه هو الحق الوحيد الكامل.

ما مناسبة التذييل بالعزيز الحميد؟

هذا التذييل فيه إشارة إلى نتائج اتباع الهدى والحق وهي العزة الناتجة عن التوكل على العزيز وحمد الخلق لك وحمد الله لك نتيجة للتوكل على الحميد.

وهي رسالة إلى هؤلا المعاجزين: أنه مهما بذلتم في سبيل الصد عن سبيل الله لن تفلحوا.

ما مناسبة ذكر قولهم ( هل ندلكم على رجل .. )؟

هذه الآية ذكرت قالتهم الثانية في المقدمة:

الأولى: لا تأتينا الساعة وهي تحكي كفرهم الخاص بأنفسهم.

الثانية: لا تسمعوا لهذا القرآن، وهي مرحلة متقدمة بعد الكفر الخاص وانتقال إلى مرحلة الصد عن سبيل الله أولا، ومتوجها للناس ثانيا، أما ثالثا: فهم لم يذهبوا إلى الناس ليقولوا لهم لا تأتيكم الساعة ، بل ذهبوا إليهم بأسلوب مشوب بأمرين:

التشويق

والسخرية

وهذين الأمرين هما ما يجذب الناس، وهذا من ضمن سعيهم معاجزين.

Map Shot 1

Map Shot 2

جميع الحقوق متاحة للمسلمين دون اشتراط ذكر المصدر © 2023 7a9ad.com. All Rights Reserved