أخلاق المكذبين

( أخلاق المكذبين )

فَلَا تُطِعِ الْمُكَذِّبِينَ ﴿۸﴾ وَدُّوا لَوْ تُدْهِنُ فَيُدْهِنُونَ ﴿۹﴾ وَلَا تُطِعْ كُلَّ حَلَّافٍ مَهِينٍ ﴿۱۰﴾ هَمَّازٍ مَشَّاءٍ بِنَمِيمٍ ﴿۱۱﴾ مَنَّاعٍ لِلْخَيْرِ مُعْتَدٍ أَثِيمٍ ﴿۱۲﴾ عُتُلٍّ بَعْدَ ذَٰلِكَ زَنِيمٍ ﴿۱۳﴾ أَنْ كَانَ ذَا مَالٍ وَبَنِينَ ﴿۱٤﴾ إِذَا تُتْلَىٰ عَلَيْهِ آيَاتُنَا قَالَ أَسَاطِيرُ الْأَوَّلِينَ ﴿۱٥﴾ سَنَسِمُهُ عَلَى الْخُرْطُومِ ﴿۱٦﴾

ما هي المعاني التي ينتهي إليها افتتاح المقطع بالنهي عن طاعة المكذبين والتحديث من مداهنتهم؟

قررت الآية الأخيرة أن النبي صلى الله عليه وسلم قطعا على الهدى، وأن أعداءه على ضلال مبين، ثم انتقلت الآيات هنا إلى معلم بارز ومعنى مستمر في هذه السورة، ألا وهو تثبيت النبي صلى الله عليه وسلم وتحذيره من إلانة العريكة لهؤلاء المكذبين أو أجابتهم لطلب من طلباتهم في نقض أي عروة من عرى هذا الدين في مقابل أن يؤمنوا به، وقد ورد في كتب السيرة أن المشركين تقدموا للنبي صلى الله عليه وسلم بمثل هذا العرض ووسطوا في ذلك عمه أبا طالب وعتبة بن ربيعة.

ولأجل هذا نرى أن القرآن مصدر مهم جدا من مصادر السيرة النبوية فهو كثيرا ما ينزل مبينا أحداثا ومعلقا عليها ومهيئا لما سيأتي، فهو يشرح أحوال النبي صلى الله عليه وسلم ومن عاصره من المؤمنين وغيرهم، وكثيرا ما ينبئ عن خلجات صدورهم، ويبين أحوالهم، وقد جاءت الآيات هنا تبين حالة من حالات الدعوة وهي حالة عرض المداهنة واللين للنبي صلى الله عليه وسلم في مقابل أن يلينوا هم أيضا معه، وهو أحد أساليب أعداء الدين حين يكون في بدايته غير مؤثر وحين يطمعون في شيء من التراخي من قبل حملته، فيعرضون عليهم أن يخففوا من طلباتهم في مقابل التخفيف من عداوة المشركين لهم، وقد يقع في نفس الدعاة شيء من هذا خاصة مع ضعفهم وشدة أعداءهم، فجاءت هذه الآيات تقطع دابر مثل هذه الفكرة من صدورهم قطعا باتا، وتؤيدها بتثبيتهم والثناء عليهم في مقابل ذم أعداءهم وتهديدهم.

ما هي المداهنة التي عرضوها على النبي صلى الله عليه وسلم؟

وردت عدة روايات في هذا الخصوص تشرح نوع المداهنة التي طلبوها من النبي صلى الله عليه وسلم، لكن قبل الحديث عنها ينبغي التنويه إلى أن النبي صلى الله عليه وسلم كان شديد الحرص على هداية قومه شديد الحزن من انقباضهم عن دعوته وبخاصة الزعماء والكبراء، لأنهم يسدون الطريق أمام السواد الأعظم من أهل مكة ومن العرب قاطبة، فكان الكبراء والزعماء هم الذين تولوا قضية طلب المداهنة هذه، فكانوا يسألونه أن يذكر آلهتهم بخير أو يسكت عنها، وألا يشتم أصنامهم ولا يسفه أحلامهم ليحاسنوه ويسايروه، أو يبقوا على تقاليدهم وطقوسهم مدة من الزمن، أو أن يلموا بأصنامهم كما يفعل بالحجر الأسود فطلبوا منه السماح لهم بذلك، ليحفظوا ماء وجههم أمام قبائل العرب وجماهيرهم، على عادة المساومين الباحثين عن أنصاف الحلول، فجاءت هذه الآيات تبين له الطريق وتمنع عنه أي خاطر أن يخطر في باله لكي يلاينهم قليلا حتى يكسب أي مساحة للدعوة.

فلا يمكن للجاهلية أن تلتقي مع الإسلام في منتصف الطريق، ولا أن تلتقي في أي طريق.

وليست إلانة القول داخلة في هذا الباب، وإنما المقصود ترك شيء من العقيدة لأجل دخولهم، فإن إلانة القول مطلوبة وجاءت في غير موضع، قال الله لنبيه موسى عليه السلام ( قلولا له قولا لينا لعله يتذكر أو يخشى ) وقال جل وعلا ( وقل لعبادي يقولوا التي هي أحسن إن الشيطان ينزغ بينهم ) ومعلوم أن المقصود هنا القول للكافرين.

ما مناسبة الحديث عن أخلاق المكذبين بعدها؟

عطف الحديث عن النهي عن الطاعة بفعل آخر ( ولا تطع ) للاهتمام بقضية الأخلاق بعد التكذيب، وجاء بتسعة من الأخلاق التي تصف أحوال هؤلاء المكذبين، مختومة بالخلق الأسوء وبأقبحها وأسوئها وهو التكذيب بالقرآن ووصفه بأنه حكايات من كان قبلهم.

وتأمل ونسبة الآيات إلى الله عز وجل مقرونة بنا الدالة على الجماعة لأجل استحضار عظمتها وعظمة منزلها، فإن من لا يعظم حرمة الله لن يعظم حرمة الخلق، ولأجل هذا ابتدأت الصفات بما فيه اعتداء على الله عز وجل، وليس المراد الحديث عمن جمع هذه الصفات، ولكن من وجد فيه أحدها أو بعضها عموما، وهذه الصفات هي:

الأولى: كثرة الحلف: أي مع الكذب فلم يكتف بالكذب بل ضم إليه كثرة الحلف.

الثانية: المهانة، فوصفه بأنه مهين، ومهين على وزن فعيل من المهانة، والمهانة هي الحقارة والذل، فالمراد به الحقير الذليل، أو ضعيف الرأي والتمييز، وقد يتساءل متسائل كيف يكون حقيرا ذليلا ضعيف الرأي والتمييز وهو سيد في قومه؟ والجواب أن المتأمل في أحوال أهل الجاهلية يرى أنهم يسودون مثل هذا لمجرد كونه ذا مال وبنين، وليس لأنه سديد الرأي حكيم القول، وهو في قرارة نفسه يعلم هذا فيبقى بينه وبين نفسه ذليلا حقيرا وإن كان سيدا في قومه، لأنه يعلم ذلك حق العلم، ومثل هذا لا يمكن أن يعلمه إلا رب السموات والأرض فلله در هذا الكلام الذي لم ينزله إلا رب السموات والأرض.

الثالثة: الهماز: وهي صيغة مبالغة من الهمز وأصل الهمز الطعن بيد أو بعود واستعير للأذى بالقول في غيبة، فهو كثير الغيبة للناس.

الرابعة: مشاء بنميم: والمشاء صيغة مبالغة من المشي: والنميمة هي نقل كلام الناس بعضهم في بعض، واستعير المشي لتصوير حاله وهو يتجشم المشقة لأجل نقل كلام الناس، لأن ذلك أبلغ في تصور سوء الفعال، ومثله ( يسعون في الأرض فسادا )، فقولنا قطع رأسه أوقع في النفس من قولنا قتل.

الخامسة: مناع للخير، وهي صيغة مبالغة من منع الخير أي المال: أي أنه شحيح، والمراد منع الخير عمن أسلم: يقولون من أسلم لا ننفعه بشيء ولا نعطيه شيئا، وهذه عرفت عن المشركين وعن المنافقين ( لا تنفقوا على من عند رسول الله حتى ينفضوا )، وكان أهل الجاهلية يعطون العطاء للفخر والسمعة ولا يعطون الضعفاء والمساكين.

السادسة: معتد: والمعتدي على وزن مفتعل للدلالة على الشدة.

السابعة: الأثيم على وزن فعيل مبالغة آثم: أي مرتكب الخطيئة والفساد عند أهل العقول والمروءة في الأديان المعروفة.

الثامنة: العتل: وهو اسم مأخوذ من العتل: وهو الدفع بقوة، والعتل: هو الشديد الخلقة الرحيب الجوف، الغشوم الظلوم، كثير اللحم المختال، ومعنى ( بعد ذلك ) أي: علاوة على ما عدد له من الأوصاف فهو سيء الخلقة سيء المعاملة، وقد روى البخاري ومسلم ‌حَارِثَةَ بْنَ وَهْبٍ الْخُزَاعِيَّ قَالَ: سَمِعْتُ النَّبِيَّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ: «أَلَا أُخْبِرُكُمْ بِأَهْلِ الْجَنَّةِ؟ كُلُّ ‌ضَعِيفٍ ‌مُتَضَعِّفٍ، لَوْ أَقْسَمَ عَلَى اللهِ لَأَبَرَّهُ، أَلَا أُخْبِرُكُمْ بِأَهْلِ النَّارِ: كُلُّ عُتُلٍّ، جَوَّاظٍ، مُسْتَكْبِرٍ»

التاسعة: الزنيم: والزنيم مأخوذ من الزنمة: وهي إما قطعة من أذن البعير تترك لبيان كرم نسبه، أو بضعتان تكونان في رقاب المعز، فعلى ذلك إما أن يكون المراد به أنه لصيق في قومه غير شريف النسب، أو أنه معروف مميز عن غيره بكثرة شره وسوء سمعته.

ما دلالة قوله تعالى بعد ذلك ( أن كان ذا مال وبنين )؟
هذه الآية محورية جدا في فهم هذا المقطع ذلك أنها تعلل كل ما سبق من الصفات السيئة ابتداء بالتكذيب ومرورا بكل ما ذكر من سوء الأخلاق، وهي اغترار هؤلاء بالنعمة التي وهبهم الله إياها

كيف ربط الله الكفر بسوء الخلق مع أننا نرى كثيرا من الكفار من أحسن الناس أخلاقا، وأحيانا نرى العكس نرى بعض المسلمين من أسوء الناس أخلاقا؟

الجواب من عدة وجوه:

الأول: أن حقيقة الأخلاق لا تظهر إلا عند الابتلاء: فانظر أحوال هؤلاء الكفار حين يسلم أحدهم: ابنا أو ابنة أو أخا أو أختا أو أما أو أبا، ينقلب حال أقربائه الذين يحوطونه بالرعاية والعناية والإحسان إلى شياطين يريدون الفتك به، ويحاصرونه ويطردونه ويمنعون عنه كل خير، بل إنهم يحاصرونه في أهله ولا يزوجون إخوانه ولا يتزوجون أخواته، فيشعر وكأنه جلب المصائب على أهله بمثل هذا فلا ينصرف عن دينه، بل قد قص علينا كثير من أهل البوسنة شدة عجبهم ممن كانوا يعايشونهم من الصرب الذين انقلبوا عليهم فجأة فقتلوا الرجال واغتصبوا النساء بعد أن كانوا أهلا وجيرانا ولا حول ولا قوة إلا بالله. والعبرة ليست بالأخلاق في حال الرخاء وإنما بالأخلاق في حال الاختلاف، وهذا مثل حال هؤلاء المكذبين من قريش تماما حذو القذة بالقذة، فإنهم لما دخل النبي صلى الله عليه وسلم وبعض قومهم في الإسلام انقلبوا عليهم تمام الانقلاب، ومنعوا عنهم كل خير وإحسان، واتهموا النبي صلى الله عليه وسلم بالجنون بعد أن كانوا يمدحونه بحسن الخلق، فتأمل هذا جيدا يظهر لك الحق وأمثلة ذلك كثيرة.

الثاني: أن هؤلاء الكفار يظهرون الأخلاق الحسنة في غير موضعها: فمثلا هم يحزنون لأجل حيوان مات ولا يبالون بقتل واغتصاب المئات والآلاف من دول الأطراف، مع أن هؤلاء الناس أولى بالإحسان، وقد حصل هذا تماما حين دفعوا الغالي والثمين لاستنقاذ نمر من حديقة حيوانات في بلد محاصر أهله لئلا يموت، فانصرف حسن خلقهم إلى الحيوان، وتركوا الناس ليموتوا كل يوم مئة مرة في الحصار، وهذا أيضا مطابق لحال هؤلاء الكفار من قريش: فإنهم كانوا ينفقون لأجل الرياء والسمعة ولا يبالون، لكنهم لا يلتفتون إلى حق المساكين والضعفاء ممن لا سمعة من عطائهم ولا جاه.

الثالث: أن الموحدين الذين ساءت أخلاقهم إنما ساءت بسبب ضعف الإيمان في قلوبهم، فإن الإيمان كما هو مذهب أهل السنة والجماعة يزيد وينقص، فلما كان الإيمان في القلب يحتاج إلى ما يمده من العبادة حتى يزيد، وينقص بتركه والإعراض عنه، فلا عجب أن تسوء أخلاق من لا يعتني بإيمانه ويحرص على زيادته، ويصبح هذا المسلم الضعيف الإيمان مشابها للكفار في أخلاقه كما شابه أصحاب الجنة الكفار في أخلاقهم مع أنهم كانوا على التوحيد، وهكذا يضعف الإيمان شيئا فشيئا إن لم يغذيه صاحبه ويمده بأسباب القوة، حتى يصبح مجرد خيال لا يسمن ولا يغني من جوع.

الرابع: أن هذه الصفات موجهة غالبا لزعماء وكبراء المكذبين لا لأفرادهم وقد فصل القرآن فصلا واضحا بين الأتباع والمتبوعون، وذلك في أوائل السور التي نزلت الفاتحة ، فمسى الأتباع ( الضالين ) وسمى المتبوعين ( بالمغضوب عليهم )، فأكثر من يتصف بهذه الصفات هم الزعماء والكبراء الذين يتولون حرب الدين، وقد جاء في قصة أصحاب الجنة إشارة إلى مثل هذا فبينت أن كان بينهم من لا يوافقهم على ما أرادوا، ولكنهم غلبوه عليه، وصاروا بعد يتلاومون، وهكذا حال أهل النار، فسبحان من جمع في الكلام القليل كل هذه المعاني الممتدة.

الخامس: أن العبرة بالأغلبية والطابع العام أما الاستثناءات فلا عبرة بها.

ما معنى التهديد بالوسم على الخرطوم؟ وما مناسبته؟

والوَسْمُ لِلْإبِلِ ونَحْوِها، جَعْلُ سِمَةٍ لَها أنَّها مِن مَمْلُوكاتِ القَبِيلَةِ أوِ المالِكِ المُعَيَّنِ.

فالمَعْنى: سَنُعامِلُهُ مُعامَلَةً يُعْرَفُ بِها أنَّهُ عَبَدُنا وأنَّهُ لا يُغْنِي عَنْهُ مالُهُ ووَلَدُهُ مِنّا شَيْئًا.

فالوَسْمُ: تَمْثِيلٌ تَتْبَعُهُ كِنايَةٌ عَنِ التَّمَكُّنِ مِنهُ وإظْهارِ عَجْزِهِ.

وأصْلُ (نَسِمُهُ) نُوسِمُهُ مِثْلُ: يَعِدُ ويَصِلُ.

وذِكْرُ الخُرْطُومِ فِيهِ جَمْعٌ بَيْنَ التَّشْوِيهِ والإهانَةِ فَإنَّ الوَسْمَ يَقْتَضِي التَّمَكُّنَ وكَوْنَهُ في الوَجْهِ إذْلالًا وإهانَةً، وكَوْنَهُ عَلى الأنْفِ أشَدَّ إذْلالًا. والتَّعْبِيرُ عَنِ الأنْفِ بِالخُرْطُومِ تَشْوِيهٌ، والضَّرْبُ والوَسْمُ ونَحْوُهُما عَلى الأنْفِ كِنايَةٌ عَنْ قُوَّةِ التَّمَكُّنِ وتَمامِ الغَلَبَةِ وعَجْزِ صاحِبِ الأنْفِ عَنِ المُقاوَمَةِ؛ لِأنَّ الأنْفَ أبْرَزُ ما في الوَجْهِ وهو مَجْرى النَفَسِ، ولِذَلِكَ غَلَبَ ذِكْرُ الأنْفِ في التَّعْبِيرِ عَنْ إظْهارِ العِزَّةِ في قَوْلِهِمْ: شَمَخَ بِأنْفِهِ، وهو أشَمُّ الأنْفِ، وهم شُمُّ العَرانِينِ. وعَبَّرَ عَنْ ظُهُورِ الذِّلَّةِ والاسْتِكانَةِ بِكَسْرِ الأنْفِ، وجَدْعِهِ، ووُقُوعِهِ في التُّرابِ في قَوْلِهِمْ: رَغِمَ أنْفُهُ، وعَلى رَغْمِ أنْفِهِ.

فجاء تشبيهه بالحيوانات هنا من جهتين: من جهة الوسم ومن جهة استعارة الخرطوم لتسمية أنفه.

وجاء الوعد بسمته على الخرطوم مع ما فيها من الإذلال جزاء وفاقا لما كان عليه من الكبر والغلظة في خلقه، ولما كان عليه من الكبر على آيات الله بسبب النعمة التي آتاه إياها الله عز وجل مع المبالغة في غداوة الرسول والطعن في الدين، فلأجل أنفته وكبريائه عوقب بأشد صور المهانة.

 

 

 

Map Shot 1

 

Map Shot 2

 

Map Shot 3

 

Map Shot 4

 

Map Shot 5

جميع الحقوق متاحة للمسلمين دون اشتراط ذكر المصدر © 2023 7a9ad.com. All Rights Reserved