الأثر الممتد في سورة الكوثر
الأثر الممتد في سورة الكوثر
ما هي الأسماء الواردة فيها ؟
اسمها سورة الكوثر، وهو الثابت وليس لها اسم غيره، ولم يعدها أهل العلم من السور التي لها أكثر من اسم. وقد تسمى سورة النحر.
مكان نزولها؟
تعارضت الأقوال والآثار في أنها مكية أو مدنية تعارضا شديدا، فهي مكية عند الجمهور واقتصر عليه أكثر المفسرين، ونقل الخفاجي عن كتاب النشر قال: أجمع من نعرفه على أنها مكية. قال الخفاجي: وفيه نظر مع وجود الاختلاف فيها.
وعن الحسن ومجاهد وقتادة وعكرمة هي مدنية ويشهد لهم ما في صحيح مسلم عن أنس بن مالك: «بينا رسول الله ﷺ ذات يوم بين أظهرنا، إذ أغفى إغفاءة ثم رفع رأسه وقال: أنزلت علي آنفا سورة فقرأ بسم الله الرحمن الرحيم ﴿إنا أعطيناك الكوثر فصل لربك وانحر إن شانئك هو الأبتر﴾ [الكوثر: ١] ثم قال: أتدرون ما الكوثر ؟ قلنا: الله ورسوله أعلم. قال: فإنه نهر وعدنيه ربي عز وجل، عليه خير كثير، هو حوض ترد عليه أمتي يوم القيامة» الحديث. وأنس أسلم في صدر الهجرة فإذا كان لفظ (آنفا) في كلام النبيء ﷺ مستعملا في ظاهر معناه وهو الزمن القريب، فالسورة نزلت منذ وقت قريب من حصول تلك الرؤيا.
ومقتضى ما يروى في تفسير قوله تعالى: ﴿إن شانئك هو الأبتر﴾ [الكوثر: ٣] أن تكون السورة مكية، ومقتضى ظاهر تفسير قوله تعالى: (وانحر) من أن النحر في الحج أو يوم الأضحى – تكون السورة مدنية فيكون قوله تعالى: ﴿إن شانئك هو الأبتر﴾ [الكوثر: ٣] ليس ردا على كلام العاصي بن وائل.
والحقيقة أنه لم يرجح شيء في هذا فإن من معاني الأبتر: من لا عقب له، ومنها: المقطوع عن كل خير، فيحتمل أن تكون أنزلت في مكة حين قال له المشركون ما قالوا ويحتمل أن تكون نزلت في المدينة ردا على المشركين والمنافقين حين عابوا النبي صلى الله عليه وسلم بأنه لا عقب له أو أنه مقطوع عن كل خير، والله أعلم.
وعلى كل حال فإن العبرة بالمعنى والمعنى واسع يحتمله السياق واللغة فلا بأس أن يكون واسعا يحمل هذا وهذا، على ألا يبنى على قول شيئا يقينا.
كم عدد آياتها ؟
ثلاث آيات ليس فيها خلاف.
هل ثبت شيء في فضلها ؟
لم يثبت في فضلها شيء بخصوصه سوى ما جاء في صحيح مسلم.
ما هو مقصد السورة وما هي القرائن التي دلت على ذلك، وما مناسبة الاسم للمقصد؟
هذه السورة هي أقصرة سورة في كتاب الله تعالى وما كان الله تعالى تحدى العالمين بالإتيان بمثل سورة منه، ولو كانت أقصرها فقد اجتهد بعض العلماء بدراسة المعاني التي في هذه السورة قاصدين بيان سر الإعجاز فيها وكيف امتلأت بالمعاني على الرغم من ألفاظها اليسيرة القليلة.
فعلى القول بمكيتها: كان المستهزئون من قريش كالعاص بن وائل وعقبة بن أبي معيط وأبي لهب إذا رأوا أبناء النبي صلى الله عليه وسلم يموتون يقولون: بتر محمد، أي لم يبق له ذكر في أولاده ويعدون ذلك عيبا يلمزونه به وينفرون الناس من أتباعه، وكانوا إذا رأوا قلة المسلمين ثم فقرهم وقلتهم يستخفون بهم ويهونون أمرهم.
أما على القول بمدنيتها: فقد كان أعداء الدين من المنافقين أيضا بعد الهجرة والمشركين في مكة إذا رأوا مثل هذا في المؤمنين يمنون أنفسهم بمثل ما كان يفعل المشركون قبل الهجرة، وربما مرت خواطر السوء بالمؤمنين عندما تشتد بهم حلقات الضيق، فأراد الله أن يبشر المؤمنين ويثبتهم وأن يبكت المنافقين وإخوانهم من الكافرين، فجاءت هذه السورة في سياق تثبت النبي صلى الله عليه وسلم والمؤمنين بوعدهم بامتداد آثارهم إلى يوم القيامة، وأن ما هم عليه من القلة سيعقبه الكثرة الكاثرة إلى يوم الدين، وأن نهر دعوتهم جار إلى يوم القيامة، وأن مصير أعداءه إلى القلة والانحسار والانبتار.
فجاءت هذه السورة للرد عليهم بأن:
هذه الدعوة أثر ممتد لن ينقطع كأنها نهر جار
ومما يدعم هذه الفكرة حضور مفهوم (النهر) الجاري المتدفق الذي لا ينقطع، والذين ينحدر من عل إلى أسفل، بفوائد ثلاث:
أولها: ري الأحياء
ثانيها: نقل الخير إليهم.
ثالثها: الطهارة والغسل بماءه.
وفكرة النهر حاضرة في مواضع عدة:
منها: ما جاء في أول السورة من قوله جل وعلا إنا أعطيناك: فالعطية هنا تأتي من الله جل وعلا إلى النبي صلى الله عليه وسلم منحدرة من الله العلي إلى النبي صلى الله عليه وسلم نازلة إليه.
ومنها: ارتباطه بقية الصلاة فإن النبي صلى الله عليه وسلم شبه الصلاة بالنهر بأوضح العبارات وأصرح الألفاظ كما جاء في الصحيحين عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، أَنَّهُ سَمِعَ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ: ” أَرَأَيْتُمْ لَوْ أَنَّ نَهَرًا بِبَابِ أَحَدِكُمْ يَغْتَسِلُ فِيهِ كُلَّ يَوْمٍ خَمْسًا، مَا تَقُولُ: ذَلِكَ يُبْقِي مِنْ دَرَنِهِ ” قَالُوا: لَا يُبْقِي مِنْ دَرَنِهِ شَيْئًا، قَالَ: «فَذَلِكَ مِثْلُ الصَّلَوَاتِ الخَمْسِ، يَمْحُو اللَّهُ بِهِ الخَطَايَا».
ومنها: ارتباطه بالنحر في نقاط النهر الثلاث: فالنحر إنهار للدم، والدم يشبه النهر:
في أنه ينهر الدم يحمل الري لأعضاء الجسم.
وفي أنه ينهر الدم الذي ينقل الخير لأعضاء الجسم
وفي أن النحر طهارة للذبيحة
ولا تسألن بعد ذلك عن حضور فكرة النهر في الأبتر: فإن الأبتر هو المقطوع أما النهر فهو جار ممتد لا ينقطع، الأبتر مقطوع الذكر مقطوع الآل، أما نهر النبي صلى الله عليه وسلم فذكره باق ممتد يرتوي المحبون بأخباره وهديه وسمته، ويتناقل خيره وأخباره ونفعه الناس جيلا بعد جيل، ويتطهرون بما جاء به من الهدى ودين الحق، كما يفعلون بالنهر.
(السورة)
إِنَّآ أَعۡطَيۡنَٰكَ ٱلۡكَوۡثَرَ (١)
ما هي المعاني التي ينتهي إليها الكلام في الآية الأولى؟ وما مناسبة البدء بها؟
الآية الأولى باختصار تدل على عطية كثيرة، مستندة إلى معط عظيم الشأن، ومتى كان ذلك كانت النعمة عظيمة ذات خطر.
فلو تدبرت الكلام لوجدت:
إنا: هي حرف التأكيد الذي أسندت إليه نا الدالة على الجماعة:
فأما حرف التأكيد: فافتتح بحرف التأكيد الجاري مجرى القسم للاهتمام بالخبر والتنبيه على عظمته.
وأما نا ضمير الجماعة: فهي تفيد العظمة، وقد علم أن المعطي إذا كان عظيما كان العطاء كثيرا فيا لها من نعمة مدلول على كمالها مشهدو بجلالها.
كما أن الجنوح نحو الجملة الإسمية آكد لإثبات الخبر، فإن الأصل أن يتقدم الفعل على الفاعل، وإذا تغير هذا الترتيب فإنه يكون لغرض بياني وقصد بلاغي، ومعنى مراد، فالقياس أن يقال (أعطيناك الكوثر) لكنه عدل عن هذا الترتيب للدلاة على الاختصاص، فيكون المعنى: إننا نحن من أعطاك هذه النعمة الكثيرة، نحن دون غيرنا، فأثبت أن العطاء منه وحده ونفاه عن غيره، وإذا كان المعطي هو الله فلك أن تتخيل عظمة هذا العطاء.
ولا يخفى ما في هذا الأسلوب من زيادة للتوكيد، وتقوية لمعنى الجملة خاصة مع تكرار المسند إليه مرتين: مرة مع حرف التوكيد ومرة مع الفعل.
ما هي المعاني التي ينتهي إليها التعبير عن الإعطاء بالفعل الماضي؟
التعبير عن الإعطاء بالفعل الماضي مع كونه مستقبلا للدلالة على تأكد وقوعه، وهذا كثير في القرآن فتدبره.
ما هي المعاني التي ينتهي إليها استخدام فعل الإعطاء دون الإيتاء؟
لفظ الإيتاء أقوى من لفظ الإعطاء لإمكانية اشتقاق مطاوع من الأخير دون الأول: فيقال أعطيته فطعى ولا يقال آتيته فأتى، والذي يظهر أن لهذا عدة معان:
منها: أن الإعطاء يفيد التمليك وهذا أقوى فإن الكوثر صار ملكا له صلى الله عليه وسلم وأمته ضيوف نازلة عليه.
ومنها:
ما معنى الكوثر في هذه السورة؟
الكوثر: اسم في اللغة للخير الكثير صيغ على زنة فوعل، وهي من صيغ الأسماء الجامدة غالبا نحو الكوكب، والجورب، والحوشب والدوسر، ولا تدل في الجوامد على غير مسماها، ولما وقع هنا فيها مادة الكثر كانت صيغته مفيدة شدة ما اشتقت منه بناء على أن زيادة المبنى تؤذن بزيادة المعنى، ولذلك فسره الزمخشري بالمفرط في الكثرة، وهو أحسن ما فسر به وأضبطه، ونظيره: جوهر، بمعنى الشجاع كأنه يجاهر عدوه، والصومعة لاشتقاقها من وصف أصمع وهو دقيق الأعضاء؛ لأن الصومعة دقيقة؛ لأن طولها أفرط من غلظها.
ويوصف الرجل صاحب الخير الكثير بكوثر من باب الوصف بالمصدر، كما في قول لبيد في رثاء عوف بن الأحوص الأسدي:
وصاحب ملحوب فجعنا بفقده وعند الرداع بيت آخر كوثر
(ملحوب والرداع) كلاهما ماء لبني أسد بن خزيمة، فوصف البيت بالكوثر، ولاحظ الكميث هذا في قوله في مدح عبد الملك بن مروان:
وأنت كثير يا ابن مروان طيب ∗∗∗ وكان أبوك ابن العقايل كوثرا
وسمي نهر الجنة كوثرا كما في حديث مسلم عن أنس بن مالك المتقدم آنفا.
وللكوثر في مذهب المفسرين قولان:
الأول: أنها النهر الموصوف في حديث مسلم على فرض علمية اللفظ وأنه يدل على ذات معينة.
الثاني: أنه الخير الكثير الوافر ويدخل فيه النهر المذكور، على فرض وصفية اللفظ وأنه يصف الخير المعطى بأه خير كثير، فأصحاب هذا القول وسعوا دلالة اللفظ ليشمل كل خير وأبرز هذه الخيرات هو النهر الذي جاء اللفظ باسمه، وهذا تصرف في غاية العمق والبعد.
والقول الثاني هو الأظهر ومما يدل على ذلك حذف الموصوف، فلم يقل (إنا أعطيناك نهر الكوثر) بل حذف لفظ النهر وهذا توسيع لدلالة لفظ الكوثر ليشمل النهر وغيره من معاني الخير الكثيرة.
ما هي المعاني التي ينتهي إليها تعريف الكوثر بأل التعريف؟
التعريف هنا للشمول والمعنى: أعطيناك الكوثر كله.
فَصَلِّ لِرَبِّكَ وَٱنۡحَرۡ (٢)
ما مناسبة التعقيب بالآية الثانية في السورة؟
الفاء هنا للتعقيب، والأمر بالصلاة والنحر هنا سببه ما سبق الفاء من إعطاء الكوثر، وهذه الجملة معترضة كما سبق لبيان واجب النبي صلى الله عليه وسلم أمام هذا العطاء.
ما مناسبة الأمر بالصلاة والنحر عقب الحديث عن إعطاء النعمة الوافرة؟
الأمر بالصلاة هنا للصلاة المعروفة، والأمر بالنحر كناية عن العبادة التي تكون فيه وهي الحج.
الأمر بهاتين العبادتين مناسب من عدة وجوه، أبرزها:
- أن الصلاة والحج – المعبر عنه بالنحر-، عبادتان يظهر فيهما بجلاء كثرة أتباع هذا الدين، لاجتماع الناس فيهما في صلاة الجماعة والجمعة والعيدين وغيرها كالاستسقاء والكسوف، واجتماع الناس كذلك في الحج ومباهاة غيره من الأمم بمثل هذا الاجتماع. فأمره بهما بشارة له بكثرة أتباعه حتى وإن انقطع ولده المباشر، أو ضعف حاله عموما صلى الله عليه وسلم فإن العبرة بالخواتيم وأمره جار ممتد كالنهر الذي لا يتوقف.
- ما في هاتين العبادتين من إغاظة المشركين فكانوا يجتهدون في صد الناس عنها، كما جاء في قوله تعالى (أرأيت الذي ينهى عبدا إذا صلى)، ولصدهم النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه عن العمرة في صلح الحديبية.
- وفيه أيضا تسلية له صلى الله عليه وسلم حيث نزلت بعد أن صده المشركون عن العمرة في الحديبية فكأنها بشارة له صلى الله عليه وسلم أن سيعتمر وينحر الهدي.
ما مناسبة الإشارة إلى الحج بالنحر دون غيره من الأنساك؟
تخصيص ذكر النحر هنا له عدة مناسبات ومعان ينتهي إليها:
منها: أنه فيه إشارة إلى الاتصال بإبراهيم واسماعيل الذبيح عليهما السلام، وأنه صلى الله عليه وسلم من نسلهما المستمر، بل هو دعوة أبيه إبراهيم عليه السلام، فذكر النحر هنا إشارة إلى أعالي النسب قبل التدرج إلى آخره، وأن أتباعه من آله، خاصة وأن إبراهيم عليه السلام قد تأخر في الإنجاب وكاد أن يصيبه انقطاع النسل ثم استدركه الله برحمته فكان النبي صلى الله عليه وسلم من عقبه، ثم إن أباه المباشر كاد أن يذبحه أبوه عبد المطلب وفاء بنذره ثم فدي بمئة من الإبل فهو ابن الذبيحين صلى الله عليه وسلم، فكأن النحر قطع وموت يكفل الحياة وبقاء الذكر.
ومنها: أن النحر فيه ضد ما في الكوثر، فإنه الكوثر امتداد للشيء بمكاثرته منحا من الله تعالى المعبود لعباده، وأما النحر فانقطاع الشيء بإفناءه والتضحية فيه إرضاء للمعبود، فالعطاء والسلب بإرادة الله وخالصا لله منه وإليه، والعطاء منه بالمكاثرة والسلب له بالنحر.
ومنها: أن النحر فيه دلالة على أنفس أموال العرب وهي الإبل، فالنحر مختص بها وأما الذبح فلسائر الأنعام، ففي التعبير عن الحج بالنحر إشارة إلى الكرم الوافر المتناسب مع جو العطاء في السورة، ولو قال طف أو اسع لما أفاد ذلك.
ما مناسبة إظهار لفظ الربوبية؟ وما هي المعاني التي ينتهي إليها إضافته للنبي صلى الله عليه وسلم؟
ما حصل هنا التفات، فعدل عن قوله: إنا أعطيناك الكوثر فصل لنا وانحر، إلى ما علمت من الكلام، وإظهار لفظ الربوبية هنا لاستحضار جانب الحياطة والرعاية من الله عز وجل تجاه نبيه، فكأنها نفحة رحمة منه جل وعلا قائلة لنبيه: لا تقلق فإنك بأعيننا.
وأضاف لفظ الرب للنبي صلى الله عليه وسلم فقال: ربك: تشريفا للنبي صلى الله عليه وسلم وزيادة في القرب والرحمة والرأفة.
إِنَّ شَانِئَكَ هُوَ ٱلۡأَبۡتَرُ (٣)
ما مناسبة الآية الثالثة لما قبلها؟
قيل فيها وجهان:
الأول: أنها جملة من باب الاستئناف البياني، إجابة على سؤال مقدر، فكأنه قيل: لم هذا العطاء الذي لا حصر له من الله لرسوله؟ فيجاب: نكاية في عدوه ومبغضه وبيان أن هذا المتهم له هو الممنوع من الخير المقطوع من كل فضيلة، في مقابل الرسول صلى الله عليه وسلم الذي أعطي الكثرة الكاثرة من الخير.
الثاني: أنها جملة للاعتراض، مرسلة إرسال الحكمة في ختام الكلام، كأنها مثل يجري بين الناس كقوله تعالى (إن خير من استأجرت القوي الأمين) وقوله تعالى: (وشهد شاهد من أهلها) وقوله تعالى: (ويمكرون ويمكر الله والله خير الماكرين)، فكأنها إما أن تكون تعقيبا على ما سبق، أو تنفصل بأداء معنى إذا قطعت عن النص وانفردت بنفسها.
ومن الملاحظ في هذه الآية أن الله عز وجل تولى جوابهم بنفسه، وهذه سنة الأحباب، فإن الحبيب إذا سمع من يشتم حبيبه تولى بنفسه الجواب، وهذا كثير في القرآن.
ما معنى الأبتر؟
يقول ابن فارس في معجم مقاييس اللغة في مادة بتر: (بَتَرَ) الْبَاءُ وَالتَّاءُ وَالرَّاءُ أَصْلٌ وَاحِدٌ، وَهُوَ الْقَطْعُ قَبْلَ أَنْ تُتِمَّهُ. وَالسَّيْفُ الْبَاتِرُ الْقَطَّاعُ. وَيُقَالُ لِلرَّجُلِ الَّذِي لَا عَقِبَ لَهُ أَبْتَرُ. وَكُلُّ مَنِ انْقَطَعَ مِنَ الْخَيْرِ أَثَرُهُ فَهُوَ أَبْتَرُ. وَفِي الْحَدِيثِ: «اقْتُلُوا ذَا الطُّفْيَتَيْنِ وَالْأَبْتَرَ» ، وَخَطَبَ زِيَادٌ خُطْبَتَهُ الْبَتْرَاءَ لِأَنَّهُ لَمْ يَفْتَتِحْهَا بِحَمْدِ اللَّهِ تَعَالَى وَالصَّلَاةِ عَلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. وَرَجُلٌ أُباتِرٌ: يَقْطَعُ رَحِمَهُ يَبْتُرُهَا. قَالَ: عَلَى قَطْعِ ذِي الْقُرْبَى أَحَذُّ أُباتِرُ
والأبتر هنا إما أن يكون:
مقطوع النسل:
أو المقطوع من قومه: المبتور منهم باعتبار أنه خالفهم وانقطع عنهم وهذا أنسب باعتبار أنها نزلت عقب الحديبية.
أو مقطوع الذكر والأثر: وهذا أعم الأقوال وأنسبها.
ما هي المعاني التي ينتهي إليها مجيء الآية الثالثة بهذه التركيبات اللغوية؟
الابتداء بحرف التوكيد: لزيادة تأكيد المعنى، والتأكيد يأتي في مقابل إنكار من الطرف الثاني، وهذا الإنكار مبرر باعتبار ما كان عليه خصومه صلى الله عليه وسلم من القوة الظاهرة، فأكد المعنى حتى لا يتسرب إلى نفس القارئ شك، منشغلا بالوضع الحالي في موازين الكثرة والقلة.
وجاء لفظ الشانئ بالاسم: ليدل على لصوق الصفة هذه بصاحبها فكأنها ملازمة له.
واستخذمت الشناءة دون مرادفاتها: للدلالة على بغضهم إياه صلى الله عليه وسلم مع تقزز وتجنب، وربما كان فيها معنى الكراهية مع الخصومة.
واستخدم ضمير الفصل: لبيان تخصيصه بالبتر دون غيره، وضمير الفصل يأتي للفصل بين المبتدأ والخبر ليبين أن ما بعده خبر لا صفة، والخبر ركن في الجملة والصفة قيد أو فضلة، والركن أقوى في التأكد من الصفة، فيكون في الكلام مزيد تأكيد.
وعرف الخبر أي لفظ الأبتر: لبيان شمول البتر كل أمره، ولإثباته له دون غيره، فلو قيل إن شانئك أبتر: لكان من الممكن أن يكون غيره أيضا أبتر، لكن لما عرف صار المعنى: إن شانئك هو الأبتر تام البتر ولا أحد غيره مثله.
فاشتمال الكلام على صيغة قصر وعلى ضمير فصل وعلى لفظ الأبر مؤذن بأن المقصود به رد كلام صادر من معين، بخصوص انقطاعه عن قومه.
والعدو وصف محمدا صلى الله عليه وسلم بالقلة والذلة، ونفسه بالكثرة والدولة، فقل الله الأمر عليه وقال: العزيز من أعزه الله والذليل من أذله الله فالكثرة والكوثر لمحمد صلى الله عليه وسلم، والأبترية والدناءة والذلة للعدو، وفي ختامها تطابق لطيف مع أولها.
جميع الحقوق متاحة للمسلمين دون اشتراط ذكر المصدر © 2023 7a9ad.com. All Rights Reserved