في طلب الآيات
( في طلب الآيات )
وَقَالُوا لَنْ نُؤْمِنَ لَكَ حَتَّى تَفْجُرَ لَنَا مِنَ الْأَرْضِ يَنْبُوعًا (90) أَوْ تَكُونَ لَكَ جَنَّةٌ مِنْ نَخِيلٍ وَعِنَبٍ فَتُفَجِّرَ الْأَنْهَارَ خِلَالَهَا تَفْجِيرًا (91) أَوْ تُسْقِطَ السَّمَاءَ كَمَا زَعَمْتَ عَلَيْنَا كِسَفًا أَوْ تَأْتِيَ بِاللَّهِ وَالْمَلَائِكَةِ قَبِيلًا (92) أَوْ يَكُونَ لَكَ بَيْتٌ مِنْ زُخْرُفٍ أَوْ تَرْقَى فِي السَّمَاءِ وَلَنْ نُؤْمِنَ لِرُقِيِّكَ حَتَّى تُنَزِّلَ عَلَيْنَا كِتَابًا نَقْرَؤُهُ قُلْ سُبْحَانَ رَبِّي هَلْ كُنْتُ إِلَّا بَشَرًا رَسُولًا (93) وَمَا مَنَعَ النَّاسَ أَنْ يُؤْمِنُوا إِذْ جَاءَهُمُ الْهُدَى إِلَّا أَنْ قَالُوا أَبَعَثَ اللَّهُ بَشَرًا رَسُولًا (94) قُلْ لَوْ كَانَ فِي الْأَرْضِ مَلَائِكَةٌ يَمْشُونَ مُطْمَئِنِّينَ لَنَزَّلْنَا عَلَيْهِمْ مِنَ السَّمَاءِ مَلَكًا رَسُولًا (95) قُلْ كَفَى بِاللَّهِ شَهِيدًا بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ إِنَّهُ كَانَ بِعِبَادِهِ خَبِيرًا بَصِيرًا (96) وَمَنْ يَهْدِ اللَّهُ فَهُوَ الْمُهْتَدِ وَمَنْ يُضْلِلْ فَلَنْ تَجِدَ لَهُمْ أَوْلِيَاءَ مِنْ دُونِهِ وَنَحْشُرُهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ عَلَى وُجُوهِهِمْ عُمْيًا وَبُكْمًا وَصُمًّا مَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ كُلَّمَا خَبَتْ زِدْنَاهُمْ سَعِيرًا (97) ذَلِكَ جَزَاؤُهُمْ بِأَنَّهُمْ كَفَرُوا بِآيَاتِنَا وَقَالُوا أَإِذَا كُنَّا عِظَامًا وَرُفَاتًا أَإِنَّا لَمَبْعُوثُونَ خَلْقًا جَدِيدًا (98) أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّ اللَّهَ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ قَادِرٌ عَلَى أَنْ يَخْلُقَ مِثْلَهُمْ وَجَعَلَ لَهُمْ أَجَلًا لَا رَيْبَ فِيهِ فَأَبَى الظَّالِمُونَ إِلَّا كُفُورًا (99) قُلْ لَوْ أَنْتُمْ تَمْلِكُونَ خَزَائِنَ رَحْمَةِ رَبِّي إِذًا لَأَمْسَكْتُمْ خَشْيَةَ الْإِنْفَاقِ وَكَانَ الْإِنْسَانُ قَتُورًا (100)
ما موضوع هذا الفصل، وما هي مناسبته لمقصد السورة؟ وما مناسبته لما قبله من الفصول؟
هذا المقطع متصل بما قبله بالعطف عليه، والسياق مرتبط بما قبله ارتباطا وثيقا، فقد جاء قبله مباشرة الحديث عن التصريف في هذا القرآن من كل مثل في مقابل التكذيب المستمر من قبل المناؤئين للدعوة.
وفي المقطع بيان العلة الأصلية التي جعلتهم ينكرون الرسالة، وهي توهمهم استحالة أن يبعث الله للناس برسالة بشرا مثلهم، فذلك التوهم هو السبب الحقيقي الذي يدفعهم للبحث عن مثل هذه الأعذار، فمن كانت هذه منطلقاته لن يؤمن ولو جاءته كل آية، لأن أصل مشكلته ليست في الآيات، ولكنها في محاولاتهم الحثيثة للتنصل من الدخول في الدين، فلو أتاهم الرسول بما سألوه لانتقلوا، فقالوا: سحر، أو قلوبنا غلف، أو نحو ذلك
ما سبب التفصيل في ذكر الآيات التي طلبوها؟
التفصيل هنا للاهتمام في عرض الأمور التي طلبوها، وبيان أوجه التعجيز في طلباتهم وعدم وجود أي منطق بينها.
ما مناسبة التقرير بهذا الجواب؟
أجاب الرازي عن هذا السؤال قائلا:
تَقْرِيرُ هَذا الجَوابِ أنْ يُقالَ:
إمّا أنْ يَكُونَ مُرادُكم مِن هَذا الِاقْتِراحِ أنَّكم طَلَبْتُمُ الإتْيانَ مِن عِنْدِ نَفْسِي بِهَذِهِ الأشْياءِ
أوْ طَلَبْتُمْ مِنِّي أنْ أطْلُبَ مِنَ اللَّهِ تَعالى إظْهارَها عَلى يَدَيَّ لِتَدُلَّ عَلى كَوْنِي رَسُولًا حَقًّا مِن عِنْدِ اللَّهِ.
والأوَّلُ باطِلٌ لِأنِّي بَشَرٌ والبَشَرُ لا قُدْرَةَ لَهُ عَلى هَذِهِ الأشْياءِ.
والثّانِي أيْضًا باطِلٌ لِأنِّي قَدْ أتَيْتُكم بِمُعْجِزَةٍ واحِدَةٍ وهي القُرْآنُ والدَّلالَةِ عَلى كَوْنِها مُعْجِزَةً.
فالحاصل من كلا هذين الجوابين: أن طَلَبُ هَذِهِ المُعْجِزاتِ طَلَبٌ لِما لا حاجَةَ إلَيْهِ ولا ضَرُورَةَ فَكَأنَّ طَلَبَها يَجْرِي مَجْرى التَّعَنُّتِ والتَّحَكُّمِ وأنا عَبْدٌ مَأْمُورٌ لَيْسَ لِي أنْ أتَحَكَّمَ عَلى اللَّهِ فَسَقَطَ هَذا السُّؤالُ فَثَبَتَ أنَّ قَوْلَهُ: ﴿قُلْ سُبْحانَ رَبِّي هَلْ كُنْتُ إلّا بَشَرًا رَسُولًا﴾ جَوابٌ كافٍ في هَذا البابِ، وحاصِلُ الكَلامِ أنَّهُ سُبْحانَهُ بَيَّنَ بِقَوْلِهِ: ﴿سُبْحانَ رَبِّي هَلْ كُنْتُ إلّا بَشَرًا رَسُولًا﴾ كَوْنَهم عَلى الضَّلالِ في الإلَهِيّاتِ، وفِي النُّبُوّاتِ، أمّا في الإلَهِيّاتِ فَيَدُلُّ عَلى ضَلالِهِمْ قَوْلُهُ ”سُبْحانَ رَبِّي“ أيْ: سُبْحانَهُ عَنْ أنْ يَكُونَ لَهُ إتْيانٌ ومَجِيءٌ وذَهابٌ وأمّا في النُّبُوّاتِ فَيَدُلُّ عَلى ضَلالِهِمْ قَوْلُهُ: ﴿هَلْ كُنْتُ إلّا بَشَرًا رَسُولًا﴾ وتَقْرِيرُهُ ما ذَكَرْناهُ.
ما مناسبة ختام الكلام هنا بقوله تعالى: قل كفى بالله شهيدا بيني وبينكم؟
بعد أن:
ردت الآيات ردا علميا منطقيا على طلبهم للآيات
وأتت بأمثلة تاريخية لتكذيب المرسلين
وبينت السبب الحقيقي وراء جحودهم وهو عنادهم واستكبارهم وكفرهم بالآخرة
بعد هذه الجولة النقاشية العلمية، والتي تم فيها عرض شبههم وطلباتهم، ثم الرد عليها ردا علميا منطقيا، وبيان تهافت هذه الشبهات وهذه الطلبات، لم يبق بعد ذلك إلا الإيمان أو الجحود بدون شبهة علمية، ولكن بسبب مرض في القلب، فناسب هنا أن يأتي الجواب فيه شيء من الوعظ والتذكير، قل كفى بالله شهيدا بيني وبينكم: أي مطلعا على أحوالكم شاهدا على ما في قلوبكم من إنكار الحق على الرغم من معرفتكم به معرفة تامة.
ما مناسبة الآية التي بعدها وما هي المعاني التي تنتهي إليها: ومن يهد الله .. ؟
هذه الآية مرتبطة بما قبلها ارتباطا عضويا، لأنها تجيب عن تساؤل يقول: ما هو علاج هذا المرض القلبي الذي أدى بالمعاندين إلى إنكار الحق: ألا وهو التوجه إلى الله وحده بطلب الهداية فإنه الهداية بضاعة الله وحده.
التعريف هنا :
إما للتعريف بالعهد الذهني، والمعرف مساو للنكرة، والمعنى: ومن يهد الله فهو مهتد.
أو أنه للجنس فيفيد قصرا إضافيا، ويكون المعنى: ومن يهد الله فهو المهتد دون من تريد أنت هداه.
جاءت هذه الآية في موضع في غاية التناسب، إذ بينت المانع الحقيقي من الهدى وهو الحرمان من توفيق الله تعالى، بعد أن تكلمت عن المانع الظاهر من الهدى وهو طلبهم للآيات.
كما تأتي أيضا مستمرة في تسلية النبي صلى الله عليه وسلم قائلة له: لا يحزنك عدم اهتدائهم فإن الله هو الذي حرمهم الاهتداء لما أخذوا بالعناد قبل التدبر في حقيقة الرسالة.
ما مناسبة ذكر عاقبتهم بعدها، وما مناسبة هذه العاقبة بالذات؟
ذكر العاقبة هنا جاء للتأكيد على القضية التي أنكروها من البداية وهي اليوم الآخر، وبدلا من التأكيد على وقوع اليوم الآخر نحت الآيات نحوا آخر فذكرت تفاصيل عقابهم الذي سيحل عليهم زيادة في التأكيد، وكأن الأمر واقع لا نقاش فيه.
ولما كان الجزاء من جنس العمل، كان جزاؤهم لما عطلوا أسماعهم وأبصارهم وأفئدتهم أن يحشروا على وجوههم عميا وبكما وصما.
وكان جزاؤهم لما أنكروا البعث أن النار تتجدد عليهم، كلما خبت لموتهم واحتراق أجسادهم عادوا من جديد فالتهبت عليهم.
ما مناسبة قوله تعالى: أولم يروا أن الله الذي خلق السموات والأرض قادر على أن يخلق مثلهم؟
هذا فيه عودة مرة أخرى إلى قضية الاستدلال العقلي المنطقي على إمكان البعث والنشور، وهكذا يصرف القرآن الكلام من كل مثل ليذكر الناس ويقلبوا أفهامهم فيه.
ما مناسبة الحديث عن قتر الإنسان في آخر المقطع؟
هذا الكلام خيط أوله عند قوله تعالى ( كلا نمد هؤلاء وهؤلاء من عطاء ربك وما كان عطاء ربك محظورا ) مرورا بكل ما في السورة من الحديث عن إنعام الله على خلقه وعطاءه غير المنتهي لهم، مرورا بقوله تعالى ( ولا تقتلوا أولادكم خشية إملاق )، مرورا بطلب الينابيع وبيت الذهب إلى آخر هذه الآيات المادية التي طلبوها، فجاءت الآية هنا لتبين لهم أن إمساك مثل هذه الآيات من الله ليس بخلا بها أن يؤتيها نبيه صلى الله عليه وسلم فإن خزائنه ملآى لا تنفذ، كما في الحديث المتفق عليه عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ – رَضِيَ اللهُ عَنْهُ -: أَنَّ رَسُولَ اللهِ – صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ – قَالَ: قَالَ اللهُ عَزَّ وَجَلَّ: «أَنْفِقْ أُنْفِقْ عَلَيْكَ، وَقَالَ: يَدُ اللهِ مَلْأَى لَا تَغِيضُهَا نَفَقَةٌ، سَحَّاءُ، اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ، وَقَالَ: أَرَأَيْتُمْ مَا أَنْفَقَ مُنْذُ خَلَقَ السَّمَاءَ وَالْأَرْضَ، فَإِنَّهُ لَمْ يَغِضْ مَا فِي يَدِهِ، وَكَانَ عَرْشُهُ عَلَى الْمَاءِ، وَبِيَدِهِ الْمِيزَانُ يَخْفِضُ وَيَرْفَعُ»، فلم يكن منعه بخلا ولا قترا كما هو حالهم.
وهذا الختام ختام مهم جدا لأن فيه تعريضا بتقتير بني إسرائيل وبخلهم بيني يدي العودة إلى الحديث عنهم، فهم أشحاء كما هو مشاهد ومعروف عنهم.
( الهدى والضلال في ظلال القرآن )
جميع الحقوق متاحة للمسلمين دون اشتراط ذكر المصدر © 2023 7a9ad.com. All Rights Reserved