ارتباط العقيدة بالسلوك في سورة الماعون
ما هي الأسماء الواردة فيها ؟
سميت هذه السورة في كثير من المصاحف وكتب التفسير ( سورة الماعون ) لانفرادها بهذا اللفظ دون غيرها من السور، كما سميت في بعض التفاسير وكذلك عنونها البخاري في صحيحه ( سورة أرأيت ) لانفرادها بالابتداء بهذا اللفظ دون غيرها من السور، وذُكر لها أسماء مثل ( سورة الدين ) و( سورة التكذيب ) و( سورة اليتيم ).
مكان نزولها؟
هي مكية على قول الأكثر وهو الأنسب والأليق بها، وقيل أن نصفها الثاني مدني بسبب الحديث عن الصلاة فيها، وهذا بعيد خاصة وأن تحديد مكان النزول لا يكون بمثل هذا.
كم عدد آياتها ؟
آياتها ست أو سبع على خلاف في العد.
هل ثبت شيء في فضلها ؟
لم يثبت فيها شيء.
ما هو مقصد السورة وما هي القرائن التي دلت على ذلك، وما مناسبة الاسم للمقصد؟
المتأمل الناظر في السورة يرى أنها ابتدأت بالحديث عن التكذيب بالدين، وهو الإسلام أو الجزاء، ثم اتبع هذا الأمر بخمسة من الأوصاف والأخلاق:
الأول: زجر اليتيم ودفعه.
الثاني: عدم الحض على طعام المسكين.
الثالث: السهو عن الصلاة، وجاءت هذه الصفة متوسطة بقية الصفات لمناسبات عديدة.
الرابع: المراءاة في العبادة.
الخامس:منع المساعدة والخير عن الناس.
فما هي مناسبة كل ما سبق من الأخلاق للتكذيب بالدين؟
الذي ظهر لنا بعد البحث والتأمل في السورة والاطلاع على ما كتبه أهل العلم فيها، أن السورة جاءت:
– لتربط العقيدة بالسلوك، وهذا واضح إذ أن ذكر مجموعة من الأخلاق المتعلقة بالسلوك بعد ذكر أمر له علاقة بالعقيدة وهو الدخول في الإسلام أو الإيمان باليوم الآخر، إشارة إلى أن الثاني دليل على الأول وأمر لازم له ومرتبط به أشد الارتباط.
– ولتحول الداخلين في الإسلام إلى أشخاص مستقيمي السلوك مع الآخرين، وكأنها تحمل رسالة للمسلمين مفادها: إن لم تتحلوا بمكارم الأخلاق فهذا نقص في إسلامكم ونقص في إيمانكم باليوم الآخر، إذ لا يمكن لعاقل أن يوقن يقينا جازما مستقرا عميقا باليوم الآخر وبما أعد الله له من الجزاء على مثل هذه الأعمال ثم لا يقبل عليها.
– ولتعطي مفهوما متكاملا للإسلام على قول من فسر الدين بالإسلام: فالإسلام ليس قاصرا على العبادات والشرائع التعبدية من صلاة وصيام وزكاة فحسب، بل إنه مفهومه يمتد ويتوسع ليشمل الإحسان إلى الخلق إضافة لما سبق من العبادات، فلو أن رجلا منا لا يعرف هذه السورة ثم تلوت عليه قوله تعالى ( أرأيت الذي يكذب بالدين ) وسألته: ماذا تتوقع أن يأتي بعدها؟ لأجاب غالبا بأن الذي يكذب بالدين هو الذي يترك الصلاة أو الصيام أو الزكاة أو الحج وما شابه، إلا أن الحديث جاء بخلاف ذلك ليتكلم عن الإحسان إلى الخلق.
فهي هنا تصحح مفهوما خاطئا وقع به كثير من الناس من قصر الدين على العبادات المحضة وإهمال الإحسان إلى الخلق.
– وليعطي بعدا عمليا للإيمان باليوم الآخر على قول من فسر الدين بالجزاء: فليس الإيمان باليوم الآخر فكرة باهتة جامدة مستقرة في أذهان المسلمين، لا تأمر بمعروف ولا تنهى عن منكر، ولا تحض على الإحسان للخلق، بل هي شجرة طيبة أصلها مستقر في القلب، بينما تمتد فروعها إلى الخلق إحسانا وإكراما وعونا، وإلى الخالق إخلاصا وتوجها.
– كما أنها تحمل رسالة للمؤمنين مفادها: إياكم أن تعتقدوا أن مجرد إقراركم باللسان بأنكم تدينون بالإسلام وبأنكم تعتقدون أن هناك يوما سيحاسب الناس فيه على أعمالهم، أن إقراركم هذا يكفي، لا، بل حتى يصدقه عملكم لا في الشرائع التعبدية فحسب بل في إحسانكم للخلق من يتيم ومسكين وغير ذلك ممن يحتاج أي عون منكم، حينها تستكملون الإيمان، وإلا فلا فرق في هذا السياق بينكم وبين من لا يؤمن بإسلام ولا حساب ولا عقاب.
وإن هذه الصفات كلها من شأن المكذب بالحساب والجزاء لأنه لا يرجو أن يجازى على ما يقدم لهؤلاء، فتنزهوا أيها المؤمنون عنها فليست هي من صفاتكم في أصل إيمانكم الذي بايعتم عليه.
فهذه السورة القصيرة المكونة من سبع آيات تعالج حقيقة ضخمة تكاد تبلد المفهوم السائد للإيمان والكفر تبديلا كاملا.
فحقيقة الدين ليست كلمة تقال باللسان وإنما هي تحول في القلب يدفعه إلى الخير بإخوانه في البشرية المحتاجين للرعاية والعناية.
والله لا يريد من الناس كلمات، وإنما يريد منهم أعمالا تصدقها وإلا فهي هباء، لا وزن لها عنده ولا اعتبار.
وإلى نحو هذا أشار البقاعي حين قال في النظم ( مقصودها التنبيه على أن التكذيب بالبعث لأجل الجزاء أبو الخبائث، فإنه يجرئ المكذب على مساوئ الأخلاق ومنكرات الأعمال حتى تكون الاستهانة بالعظام خلقا له فيصير ممن ليس له خلاق، وكل من أسمائها الأربعة في غاية الظهور في الدلالة على ذلك بتأمل السورة لتعرف هذه الأشياء المذكورة فهي ناهية عن المنكرات بتصريحها داعية إلى المعالي بإفهامها وتلويحها )
هذا ما ظهر لنا بعد الاجتهاد، وربما أصبنا وربما أخطأنا، فإن أصبنا فمن الله وإن أخطأنا من أنفسنا.
ولأن السورة قصيرة ومرتبطة بجذرها في أول السورة لن نقسمها إلى مقاطع وإنما سيكون الحديث عنها عامة.
(ارتباط العقيدة بالسلوك)
أَرَأَيْتَ الَّذِي يُكَذِّبُ بِالدِّينِ (1) فَذَلِكَ الَّذِي يَدُعُّ الْيَتِيمَ (2) وَلَا يَحُضُّ عَلَى طَعَامِ الْمِسْكِينِ (3) فَوَيْلٌ لِلْمُصَلِّينَ (4) الَّذِينَ هُمْ عَنْ صَلَاتِهِمْ سَاهُونَ (5) الَّذِينَ هُمْ يُرَاءُونَ (6) وَيَمْنَعُونَ الْمَاعُونَ (7)
ما دلالة البدء بقوله ( أرأيت ) في أول السورة؟ وما هي دلالة الاستفهام هنا؟
الهمزة هنا للاستفهام، والمراد من الاستفهام ههنا إثارة التعجب والاستغراب من حال ذلك الرجل الذي كذب بالدين، وما أورثه ذلك التكذيب من سوء الصنيع مما سيأتي ذكره من أخلاق، فلو أنه داخل حقيقة في الدين ومصدق بالجزاء لالتزم بأوامر الله عز وجل وخشي عقابه ولم يقدم على هذا، فعلم أنه مكذب، فما أشده من كلام وما أخوفه من مقام، وما أبلغه في التحذير من المعصية وأنها جديرة بأن يستدل بها على ضعف الإيمان ورخاوة عقد اليقين.
ومع أن التكذيب بالدين كان شائعا فيهم إلا أن المقصود من هذا الأسلوب أن تذهب الأفكار والتصورات بذهن السامع كل مذهب، وتتأهب لمعرفة مثار التعجب.
من المخاطب هنا بقوله ( أرأيت)؟
قيل أن المخاطب هو النبي صلى الله عليه وسلم باعتبار أن القرآن قد أنزل عليه، وقيل أن المخاطب هو كل عاقل، أي أن الخطاب موجه لكل واحد منا وهذا أرجح وأقعد فإن القرآن إنما أنزل على النبي صلى الله عليه وسلم إلا أنه نزل مخاطبا إياي وإياك، وكأنه يقول لنا: أرأيت أيها العاقل هذا الذي يكذب بالدين، كيف جر عليه تكذيبه هذا سوء الفعل والسلوك.
ما دلالة استخدام الاسم الموصول مع الصلة في تعريف المكذب بالدين؟
الغرض منها إبراز هذه الصفة خاصة في الشخص المراد الحديث عنه وكأنها صارت علامة ظاهرة يعرف بها.
ما المقصود بالدين هنا؟
الدين في القرآن تأتي بمعنى الإسلام، أي عموم الإسلام ( إن الدين عند الله الإسلام )، وتأتي بمعنى الجزاء ( وإن الدين لواقع ) ( أئنا لمدينون ) أي محاسبون مجزيون، والذي يظهر أن كلا المعنيين محتمل وصالح، إلا أن في اختيار هذه اللفظة بخصوصها، دلالة أهمية الإيمان بعموم الدين والدخول فيه، وفيه وفيه تركيز على الجزاء وإبراز لهذا المعنى المهم في الإسلام، وتأكيد على خصوصية أثره على السلوك من بين العقائد الأخرى الموجودة في دين الله عز وجل.
ما دلالة الفاء في قوله فذلك؟
سيقت الفاء ههنا لعطف الصفتين اللتين تتبعانها على ما قبلها، فمعنى الآية عطف صفتي دع اليتيم وعدم الحض على إطعام المسكين على التكذيب بالدين، وهذا مقصد السورة وموضوعها الرئيس ألا وهو بيان الارتباط بينهما، ومعنى الكلام: أن هذا الرجل لما كان مكذبا بالدين كان تكذيبه هذا سببا في دع اليتيم وعدم الحض على طعام المسكين.
ما دلالة استخدام اسم الإشارة في قوله ( فذلك )؟ واستخدام الصلة بعده؟
أصل الكلام أن يقال: أرأيت الذي يكذب بالدين فيدع اليتيم ولا يحض على طعام المسكين، إلا أن الأسلوب جاء كما رأيت فاستخدم اسم الإشارة لتمييز هذا الرجل أكمل تمييز حتى يتبصر السامع فيه وفي صفته، وأما استخدام الصلة وما بعدها فالمقصود من هذا زيادة التشويق حتى تقرع الصلة سمع السامع فتتمكن منه كل تمكن، كما أن في استخدام اللام مع اسم الإشارة تبعيد وتبغيض للرجل محل الحديث.
ما دلالة الإتيان بهذه الصفات بصيغة المضارع؟
دلالتها الإشارة إلى تكرر ذلك منه ودوامه.
ما مناسبة ذكر هذين الخلقين هنا ( دع اليتيم و عدم الحض على طعام المسكين ) ؟
اعلم أن الله ذكر في تعريف من يكذب بالدين وصفين أحدهما:
من باب الأفعال: وهو دع اليتيم، والثاني:
من باب التروك: وهو عدم الحض على طعام المسكين
واقتصر على هاتين الصفتين واستغنى بذكرهما عن ذكر سائر القبائح، كما أن هاتين القبيحتين كما أنهما منكرتان بحسب الشرع فهما أيضا مستنكرتان بحسب المروءة والإنسانية، فكأن هذا المكذب بالدين لم يتجرد من الشريعة فحسب بل تجرد من كل ما يمت للإنسانية بصلة.
وقدم دع اليتيم لأن من يبخل باللين في عمله وهو لا يكلفه شيئا، لأشد بخلا بماله أن يبذله ناهيك عن أمر الناس بالإحساس بالمحتاجين.
والأهم من هذا كله أن هذين الصنفين ممن لا يرجى منهما جزاء في الدنيا على الإحسان إليهما، فكان الدافع الحقيقي وراء ذلك الإحسان هو الامتثال لأوامر الله من جهة والإيمان بأن جزاء هذا الإحسان سيكون يوم القيامة من الله عز وجل من جهة أخرى.
والجامع بين هاتين الصفتين ليس الشح والمنع المادي، وإنما الشح المعنوي العاطفي فهو لا يأبه بالآخرين ولا يقيم لهم وزنا ولا يبذل لهم ولا حتى مشاعر طيبة، فإن اليتيم لا يحتاج بذلا وإنما يحتاج عطفا وحنانا وهذا لا يحتاج كلفة وإنما يحتاج إحساسا بمعاناته وتقديرا لحاله، وكذلك الحث على الإطعام، لا يحتاج كلفة وإنما يحتاج إحساسا بمعاناة هؤلاء والآية لم تأت على ذكر صدقته، وإن كان فيها إشارة إلى أنه لم يمنح، ولكنها ذكرت عدم حث الآخرين على الإنفاق وهذا أيضا دليل على انعدام إحساسه بالآخرين، والشح الذي سيطر عليه حتى منعه من بذل الإحسان المعنوي، وأما الإحسان المادي فقد ذكر في آخر السورة في الحديث عن منع الماعون
ما مناسبة ذكر الدع مع اليتيم و الطعام مع المسكين؟
ذكر الدع وهو الزجر والدفع الشديد مع اليتيم دون الإطعام لأن اليتيم قد يكون غنيا مكتفيا من المال، إلا أن الحاجة الأبرز التي يحتاجها هي العناية والرعاية والعطف، وأما المسكين فحاجته الأساسية في ما يقيم أوده، فهو قوي قادر إلا أنه قد قدر عليه رزقه فاحتاج إلى من يطعمه لا إلى من يرعاه.
ما دلالة تعيير المكذب بعدم الحض لا بعدم الإطعام نفسه؟
السؤال بشكل آخر لم لم يقل: فذلك الذي يدع اليتيم ولا يطعم المسكين، وإنما أنكر عليه عدم الحض على طعام المسكين، وفي الحقيقة فإن إطعام المسكين علاوة على أنه مشمول من باب أولى في الحض على طعامه إذ لا يعقل من رجل يهتم لأمر المساكين فيأمر غيره أمرا مؤكدا بإطعامهم سواء كان مستطيعا أم غير مستطيع، لا يعقل منه أن لا يكون هو أصلا من أولئك الباذلين إحسانهم للمساكين، إلا أن هذه العبارة تطوي تحتها معان ومعان تغنيك عن طوال المجلدات في التكافل الاجتماعي والرحمة والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر والإحساس بالمحتاجين، والمتتبع لهذا المعنى يجده كثيرا في كتاب الله عز وجل ( ولا تحاضون على طعام المسكين )، ( وتواصوا بالصبر وتواصوا بالمرحمة )
ما دلالة استخدام المصدر ( طعام ) مضافا للمسكين بدلا من ( إطعام ) ؟
استخدم الطعام هنا بدلا من الإطعام، وأضيفت إلى المسكين للإشارة إلى أن هذا الطعام هو حق له وملك له، لا منة ولا تفضلا ممن يطعمه، فهذا العدول بيان لشدة الاستحقاق، وفيه إشارة إلى النهي عن الامتنان.
ما دلالة الفصل هنا في الكلام بالفاء؟ وما مناسبة ذكر الصلاة هنا؟
لسائل أن يسأل، لم لم يكن الكلام على النحو التالي: أرأيت الذي يكذب بالدين فذلك الذي يدع اليتيم ولا يحض على طعام المسكين ويسهو عن صلاته ويرائي ويمنع الماعون، إلا أن الكلام انقطع فجأة هنا عن تعداد الصفات، وجاء بجملة اسمية يتوعد الله فيها عز وجل المصلين الساهين عن صلاتهم، بعد الفاء الفصيحة وتقدير الكلام: إذا كان الأمر كذلك فويل، أو إذا علمت أنه متصف بهذه الصفات فويل، وفي هذا مناسبات فيما يظهر لنا:
منها: أن الترتيب على النحو السابق مناكد للفصاحة
ومنها: أنه أتبع الكلام على حال المكذب مع الخالق بعد أن ذكر حاله مع الخلق.
ومنها: وهو أهم إبراز ولفت نظر لأهمية النقطة التي تم القطع عندها، ولا تعجب أخي المتدبر لكتاب الله عز وجل من مجيء الصلاة ههنا بهذا الشكل في مكان القطع، فأي عبادة تستحق الإبراز والاهتمام مثل الصلاة.
وذكر الصلاة هنا خاصة يحمل عدة رسائل:
الأولى: أن ترك السهو عن الصلاة سواء كان تركها بالكلية أو التقصير الشديد فيها إنما ينشأ عن ضعف الشعور بالدين، فكلما تعاظم هذا الشعور باليوم الآخر وبالانتماء لدين الله عز وجل في نفس المسلم كان أشد إقامة للصلاة، ولهذا كانت الصلاة من أهم ركائز الدين ولم يأت وعيد في ترك عبادة مثل الصلاة، ولا يفارق الرجل الملة بترك عبادة إلا الصلاة، وليس هذا موضع تفصيل، لكن تأمل كم في المناسبات من علوم.
الثانية: كما أن وجودها متوسطة للأخلاق إشارة إلى أنها الحارس الأمين لهذه الأخلاق، والحصن الذي يحفظك من السقوط في سوء الخلق، لتذكيرها الدائم بالله عز وجل ( وأقم الصلاة لذكري ).
الثالثة: هي التكامل في دين الله عز وجل بين العبادات المجردة والإحسان للخلق، وتثبيت هذا الأمر في أذهان وعقول الناس كلما قرؤوا مثل هذا الآيات والسور، فالقرآن إنما جاء لتصحيح المفاهيم ومن هداه الله لمثل هذا الأمر، عرف قيمة القرآن وأهميته في صياغة العقول والمفاهيم لضمان حياة مطمئنة وآخرة في جنة.
ما دلالة استخدام الجمع ( المصلين ) بعد أن كان الحديث بالإفراد ( الذي يكذب بالدين)؟
الحديث بالجمع بعد الإفراد ليس غريبا فإنه حديث عن الجنس عامة أي جنس الذين يكذبون بالدين، كما أن الجمع أتى هنا للتنبيه على أن الكثرة ليست لها عند الله عز وجل عزة ولا مكانة، لأن إهانة الجمع دليل بالتبع على إهانة الأفراد، وربما كان الإتيان بالجمع هنا للدلالة على كثرة من يصدر عنه مثل هذا.
ما دلالة استخدام الحرف عن هنا وما المقصود بالسهو عن الصلاة ؟
الحرف عن له عدة معاني في اللغة العربية أبرزها المجاوزة وهو ما يصلح هنا، والمعنى أنهم متجاوزون صلاتهم بالسهو عنها، وهل المراد بالتجاوز هنا تأخيرها عن وقتها، أو التقصير فيها أو غير ذلك؟
في الحقيقة فإن هذا التركيب يصلح لوصف أي تجاوز في الصلاة سواء كان في وقت أو طهارة أو إقامة، وهذا باب عظيم من أبواب الإعجاز، وهو طي المعاني الكثيرة في الكلام القليل، فتبارك الله رب العالمين.
هذا من ناحية لغوية، أما من الناحية القلبية فإن السهو عن الصلاة هنا هو أداء الصلاة بحركاتها وأدعيتها، ولكن بقلوب لم تعش معها، ولم تعش بها، وأرواح لم تستحضر حقيقتها وما فيها من قراءات ودعوات وتسبيحات.
ما مناسبة وصفهم بالمصلين مع الإنكار عليهم بسهوهم عن صلاتهم بعدها مباشرة؟
كان يمكن أن يقال ( فويل للذين هم عن صلاتهم ساهون )، بإضمار المصلين، إلا أن الآية ذكرتهم باسمهم الظاهر هنا ولذلك وجوه:
منها: أنه يشبه أن يكون تهكما بهم فوصفهم بالمصلين فيه تعريض بهم أنهم لا يصلون، كم يقول لمن يسيء الأدب: أتفعل هذا وأنت ابن فلان؟
ومنها: أن المقصود به المكلفين بالصلاة سواء صلوا أم لم يصلوا،
ومنها: أنه تسجيل عليهم بأن أشرف أفعالهم وصور حسناتهم سيئات وذنوب، لأنها كالعدم إذ هم يؤدونها دون ما تكون به معتبرة من الوقت وحضور القلب والإخلاص.
ما دلالة إضافة الصلاة إليهم؟
وردت كلمة صلاة هنا مضافة إليهم فقالت الآية : عن صلاتهم ولم تقل: عن الصلاة مثلا، وفي الإضافة إليهم إشارة إلى أن الصلاة هي في الأساس إنما شرعت من أجلهم، ومن أجل مصلحتهم، ومنفعتهم من ذكر الله والتزكية.
ما مناسبة الجمع بين الرياء ومنع الماعون هنا ؟
أتبع ذكر السهو عن الصلاة بصفتين:
الأولى: في حق الله وهي الرياء
الثانية: في حق الناس وهي منع الخير
فكأن الله تعالى يقول: هذا الذي كذب بالدين وضيع صلاته أعطى ما كان ينبغي لي للخلق، ومنع حق الخلق عنهم، فكأنه لا يعامل الخلق والرب جل وعلى إلا على العكس، فلاهم أدوا حق ربهم ولا حق خلقه، وهذا شديد الارتباط بما سبق أيضا فكلما تعمق الشعور بالآخرة وازداد، وكلما تعمق شعور الانتماء لدين الله عز وجل وصار فاعلا، هدي العبد لإعطاء كل ذي حق حقه، فهذا الإيمان بعموم الدين وبالجزاء خاصة، هو الذي يصحح سلوك ابن آدم فيعطي كل ذي حق حقه.
ومما ينبغي التنبيه عليه أن ذم الرياء هنا ليس قاصرا على الصلاة، وإنما هو الرياء بعمومه في كل الأعمال، ولا يخفى على عاقل ما للإيمان باليوم الآخر من أثر في قلع جذور الرياء من قلب العبد.
ما المراد بالماعون هنا ؟
الميم والعين والنون كما ذكر ابن فارس: هو أصل يدل على سهولة في جريان أو جري، والماعون على وزن فاعول من معن، والظاهر أن المراد به كل ما يسهل بذله عادة فلا يمنع منه الطالب ولا يكترث معطيه، وقيل في تفسيرها أقوال منها: أنها العطية عامة، أو ما يستعان به في البيت من فأس ونحوه، وقيل أنها الزكاة لسهولة أدائها وقلة نسبتها في المال، وكلها يحتملها السياق ووزن اللفظة، وهذا باب مهم من أبواب إعجاز القرآن فانظر يا رعاك الله كم من المعاني طوي تحت هذه الكلمة التي لا تعدو خمسة حروف، فصار المعنى: أن هؤلاء القوم الذين كذبوا بالجزاء والحساب انعكس تكذيبهم هذا على أخلاقهم حتى بلغ بهم الأمر أن يخرجوا عن مألوف الناس من إعطاء ما يعطى عادة دون تكلف أو مشقة، وصاروا إلى شح مطاع ومنع للخير عن الناس.
إذا كان اليقين باليوم الآخر هو المحرك الدافع لحسن الخلق، فكيف نعمق الشعور باليوم الآخر في أنفسنا بخطوات عملية حتى تحسن أخلاقنا وسلوكنا؟
لا شك أن كل المدخنين يعلمون علما يقينيا جازما أن التدخين مضر بصحتهم أشد الضرر، ومع ذلك فهم لا يقلعون عنه، إذ أن شعورهم هذا لم يصل إلى الدرجة الكافية التي يتحول فيها إلى شعور مؤثر فعال، وقس على ذلك شعورنا باليوم الآخر، كلنا نعلم علما يقينيا جازما أننا مبعوثون مدينون، لكن كيف نحول هذا الشعور إلى شعور فعال مؤثر؟
كلمة السر هنا ( قيام الليل )، إذ أن تكرار القرآن بهذه الهيئة والطريقة ( في ليل، في انقطاع، في وقوف، بصوت جهري ) له أشد الأثر في تعميق الشعور باليوم الآخر، خاصة وأن صفحات المصحف مملوء عن آخره بمشاهد متنوعة عديدة ليوم القيامة ولأحداثه التفصيلية، وكلما تلى العبد هذه الصور والمشاهد وعرضها على قلبه كلما ازداد هذا الشعور عمقا وصار أكثر حضورا وتأثيرا، وكل هذا بعد الإخلاص لله تعالى والتضرع إليه بسؤاله الهداية.
ختاما..
وهنا يحسن بنا أن ننقل ما كتبه الشيخ علوان في تفسيره في خاتمة السورة حيث قال: (عليك أيها الطالب لطريق الحق الحقيق بالاطاعة والاتباع ان تهذب ظاهرك وباطنك عن مطلق الرذائل المنافية للعدالة الإلهية وتخلى سرك وسريرتك عن الالتفات الى ما سوى الحق لتكون صلاتك منك ميلا حقيقيا الى الله ومعراجا معنويا موصلا الى توحيده وإياك إياك المراء والمجادلة مع بنى نوعك والاستكبار عليهم واظهار الثروة والسيادة فيما بينهم بالمال والجاه فإنها تميت قلبك وتزيد في هواك وتبعدك عن مولاك وبالجملة تضرك في أولاك وأخراك )
اللهم اهدنا لأحسن الأخلاق لا يهدي لأحسنها إلا أنت واصرف عنا سيئها لا يصرف عنا سيئها إلا أنت، لبيك وسعديك والخير كله في يديك والشر ليس إليك نحن بك وإليك تباركت وتعاليت نستغفرك ونتوب إليك.
جميع الحقوق متاحة للمسلمين دون اشتراط ذكر المصدر © 2023 7a9ad.com. All Rights Reserved