(زيف المال والجاه)
بَلْ مَتَّعْتُ هَؤُلَاءِ وَآبَاءَهُمْ حَتَّى جَاءَهُمُ الْحَقُّ وَرَسُولٌ مُبِينٌ (29) وَلَمَّا جَاءَهُمُ الْحَقُّ قَالُوا هَذَا سِحْرٌ وَإِنَّا بِهِ كَافِرُونَ (30) وَقَالُوا لَوْلَا نُزِّلَ هَذَا الْقُرْآنُ عَلَى رَجُلٍ مِنَ الْقَرْيَتَيْنِ عَظِيمٍ (31) أَهُمْ يَقْسِمُونَ رَحْمَتَ رَبِّكَ نَحْنُ قَسَمْنَا بَيْنَهُمْ مَعِيشَتَهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَرَفَعْنَا بَعْضَهُمْ فَوْقَ بَعْضٍ دَرَجَاتٍ لِيَتَّخِذَ بَعْضُهُمْ بَعْضًا سُخْرِيًّا وَرَحْمَتُ رَبِّكَ خَيْرٌ مِمَّا يَجْمَعُونَ (32) وَلَوْلَا أَنْ يَكُونَ النَّاسُ أُمَّةً وَاحِدَةً لَجَعَلْنَا لِمَنْ يَكْفُرُ بِالرَّحْمَنِ لِبُيُوتِهِمْ سُقُفًا مِنْ فِضَّةٍ وَمَعَارِجَ عَلَيْهَا يَظْهَرُونَ (33)وَلِبُيُوتِهِمْ أَبْوَابًا وَسُرُرًا عَلَيْهَا يَتَّكِئُونَ (34) وَزُخْرُفًا وَإِنْ كُلُّ ذَلِكَ لَمَّا مَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَالْآخِرَةُ عِنْدَ رَبِّكَ لِلْمُتَّقِينَ (35)
ما هو مقصد هذا المقطع وما هي مناسبته لمقصد السورة وما هي الرسالة التي يحملها؟
بداية لا بد من التنويه إلى أن المقاطع هنا تتخلص من بعضها تخلصا سلسا حسنا لا يكاد القارئ يشعر معه ببداية مقطع جديد، بل هي متصلة ببعضها اتصالا رقيقا لا تشعر معه بالانتقال.
بدأ هذا المقطع بآيات تحمل تهديدا مبطنا فإن غاية التمتيع هنا هو مبعث النبي صلى الله عليه وسلم فكأن الآيات تقول للمشركين: قد متعت آبائكم زمنا وكان تمتيعي إياهم إلى أجل مسمى وهو مبعث هذا الرسول الكريم، فأما وقد جاءكم فقد انتهت المهلة فانتظروا الانتقام إن بقيتم على التكذيب، وقد كان فقد أخذوا بالعذاب تدريجا إلى يوم بدر وحنين ثم هدى الله للإسلام من بقي يوم فتح مكة وأيام الوفود.
ثم تخلصت الآيات إلى حكاية إعراضهم عن القرآن بدعاوى غير الدعاوى السابقة، فهم ابتدأوا تكذيبهم بزعم أن هذا القرآن إنما هو سحر، وعليه فلن نؤمن به، وهذا غاية التعنت دون دليل أو برهان، وكأن الآيات تقول لهم: أفلا نظرتم في الوحي والرسالة قبل أن تقولوا أنها سحر وتكفروا بها، بل هلا أعملتم عقولكم قبل الكفر، فإنما غاية هذا الكتاب هو ( لعلكم تعقلون ).
ثم شرعت الآيات في ذكر مغالطة أخرى ذكروها ألا وهي: إن لنا اعتراضا آخر على المرسل وهو ألا يكون صاحب مال في قومه من مكة أو الطائف أعظم قريتين في تهامة، فاستدلوا بالمال والثراء على الحق، ولا علاقة لاعتراضهم هنا بالأنساب فإن النبي صلى الله عليه وسلم كان أعرقهم نسبا وهم كانوا يعرفون ذلك، وجاء الجواب بعدها مباشرة في نقطتين:
الأولى: بأن الله هو الذي قسم بينهم الأرزاق والمناصب ببالغ حكمته، ولم يكن لهم أي يد في ذلك، فإذا كانوا بمثل هذه المكانة في الدنيا ومعيشتها، فكذلك الحال في شأن الآخرة والتي هي أعظم بكثير من شأن هذه الدنيا التي جعلوما مناطا للتفاضل واستحقاق الرسالة.
وأما الثانية: فإن المال ليس سببا للتفاضل، فكثيرا ما يكون المال للكافرين ومن لا خلاق لهم من الخير، فلولا أن يصير الناس كلهم كفارا لخصصنا الكافرين بالمال والرفاهية وتركنا المسلمين لما ادخرنا لهم من خيرات الآخرة، فيحسب ضعفاء العقول الذين لا حظ لهم من العقل والمنطق أن للكفر اثرا في حصول الكافرين على المال، فيتبعوا دين الكفر، إلا أن الله لم يقدر مثل هذا رحمة منه بالناس عامة وبأهل الإيمان خاصة.
وهذا الكلام في غاية التحقير لما عدوه عظمة مرشحة للنبوة.
والآيات تدل على أن المال والجاه كلاهما كانا يلعبان دورا مهما في بيئة النبي صلى الله عليه وسلم وعصره،
ما مناسبة التذييل في الردين؟
ذيل الردين بعبارتين في غاية الدلالة، تصلحان أن تكونا قاعدتين في رد مثل هذه المغالطة:
فأما الأولى فقوله تعالى ( ورحمة ربك خير مما يجمعون )
وأما الثانية: فقوله تعالى ( والعاقبة عند ربك للمتقين )
فبين في العبارة الأولى حقيقة البداية، وبين في الثانية حقيقة النهاية.
ما مناسبة قولهم ( هذا سحر وإنا به كافرون ) ؟
هذه الكلمة تشبه الكلمة في المقطع السابق، وهي قوله ( قالوا إنا بما أرسلتم به كافرون ) ولو تأملت هاتان الكلمتان فلن تجدهما صادرتان عن عقل أو منطق، بل صادرة عن عناد وحيرة وإحساس دفين بأن الذي جاءهم هو الحق وأن من أتى به رسول حق وأنه غالب لهم في قرارة نفوسهم، وهذا هو الملجأ الأخير الذي يتجهون إلهي عندما تضطرهم الردود العقلية المنطقية المتوافقة مع النفس والحياة، فيتكبرون ويقولون كلاما تافها يعلنون به محادتهم لهذا الحق مهما كان، فهم يعلمون السحر ويعلمون أن هذا ليس بسحر بل هو بيان معجز وهم أعلم الناس به.
كيف يتفق وصف الكفار للوحي هنا بالقرآن مع أنهم لا يقرون بهذا؟
قيل في توجيهه أمران:
الأول: أنهم قالوها استهزاء، وقل مثل ذلك في قول فرعون ( أو جاء معه الملائكة مقترنين ) كما سيأتي.
الثاني: أنها كانت فلتة لسان منهم لعلمهم الدفين بأنه قرآن منزل من عند الله.
وقد يكون الأمر أنهم مقرون – خاصة في قرارة أنفسهم – بأن الله موجود وأنه يرسل رسلا وينزل كتبا، ولكن ليس على هذه الشاكلة، إذ أن صاحب الرسالة لا بد أن يكون من أهل الثراء والجاه بزعمهم، ولهذا فقد جاء الرد عليهم ( أهم يقسمون رحمة ربك
ما دلالة التفصيل والتوسع في ذكر ترف الكافرين في المقطع؟
فصلت الآيات في ذكر النعيم الدنيوي الذي سيعطيه الله عز وجل للكافرين لو أراد، وما مد الكلام بعد قوله عز وجل ( لولا نزل هذا القرآن على رجل من القريتين عظيم ) إلا لبيان أن هذا القول عند الله عظيم، وأن هذا التفصيل صادر عن مزيد من الغضب، وفيه ما فيه من التكريم للنبي صلى الله عليه وسلم، والتشنيع على من قال مثل هذه المقولة.
ولم يوجد في كلام الله ولا كلام رسوله صلى الله عليه وسلم ما يبين هوان الدنيا على الله كما تبينه هذه الآيات.
ما مناسبة تخصيص السقف بالزينة؟
كل الآيات التي تتحدث عن نعيمهم تدل على بعد وإفراط في إعطاء الثروة، فقد نتخيل بابا من فضة أو معارج من فضة، أما سقف الفضة فهذا صادم للخيال لأنه لا عهد به، وأبلغ ما جاء في وصف بيوتهم أنها تشاد بالطين المشوي، أو أن لها محاريب وتماثيل، وأكثر من هذا صرح بلقيس الممرد من قوارير، أما سقف الفضة فلم يأت إلا ههنا.
ومثل هذا قوله عز وجل ( ومعارج عليها يظهرون ) ولو سكت عن مثل هذا لفهم لأن المعارج مصنوعة للعلو عليها، ولكن التصريح يفيد زياد تصوير هذا اللون من التنعم النادر.
جميع الحقوق متاحة للمسلمين دون اشتراط ذكر المصدر © 2023 7a9ad.com. All Rights Reserved