مجدني عبدي

(مجدني عبدي)

مَالِكِ يَوْمِ الدِّينِ (4)

ما مناسبة هذه الآية لما قبلها؟ وما مناسبتها لمقصد السورة؟

ولما ذكرت الرحمة وصفته بها، ولئلا يطمع طامع في رحمته فيحتج بها مع إساءته للعمل، ثلث بملكه ليوم الدين لأن الجزاء على الفعل سبب في الامتثال والاجتناب لحفظ مصالح العالم، وأحيط ذلك بالوعد والوعيد جمعا بين الترغيب والترهيب.

وهذه الآية تختصر قصة نهاية التاريخ.

وهي تأتي ثالث ثلاثة في الحديث عن صفات الله التي استحق بها الحمد جل وعلا، ألا وهي امتداد ملكه في يوم الجزاء حيث لا ملك إلا هو كما روى البخاري ومسلم عن أبي هُرَيْرَةَ، قَالَ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ ” يَقْبِضُ اللَّهُ الأَرْضَ، وَيَطْوِي السَّمَوَاتِ بِيَمِينِهِ، ثُمَّ يَقُولُ: أَنَا المَلِكُ، أَيْنَ مُلُوكُ الأَرْضِ “

وأما مناسبته لما قبله من ذكر الرحمة أن اختصاصه بالملك والحكم وحده في دار الجزاء هو من تمام رحمته بالخلق، إذ لو جعل الأمر هناك إلى سلاطين البشر لحصل الجور والمحاباة، إلا أن الأمر له وحده يوم الجزاء ليكون العدل المطلق ( والذين كفروا بآيات الله ولقاءه أولئك يئسوا من رحمتي ).

كما أن الابتداء بالربوبية والختام بملك يوم الدين دليل على بداية الخلق وتكوينه وترتيبه، ثم نهاية الخلق والفصل بينهم وجزائهم، فهي تبين كمال ملكه للدنيا والآخرة ملك لا ينتهي بمكان ولا زمان.

وعلى الرغم من اجتهاد البشر على طول الزمان في محاولات إيجاد ما يصلح به الناس باءت كل محاولاتهم بالفشل، فليس للإنسان ما يضبط تصرفاته سوى يقينه بالحساب على كل ما يفعل، ومن هنا كانت هذه القضية هي عماد إصلاح الناس واستقامة أحوالهم، وبدونها تصبح الدنيا غابة يأكل فيها الناس بعضهم البعض ولا يبالون، وقالوا إنما هي أرحام تدفع وأرض تبلع.

والآية فيها معنيين:

الأول: إثبات الحساب والجزاء

الثاني: اختصاص الله بالملك في ذلك اليوم.

ما دلالة الجمع بين قراءتي ( ملك ومالك ) يوم الدين؟

جاء في هذه الكلمة قرائتان:

الأولى: ملك يوم الدين، وهي قراءة ستة من القراء العشرة، وهي من المُلك أي الحكم.

الثاني: مالك يوم الدين، وهي من المِلك والمالكية، أي حيازة المنافع والذوات.

والملك والمالك بينهما عموم وخصوص في مدى تصرف كل واحد منهما في الشيء، واجتماعهما في شخص هو الذي يعطيه العلو الكامل، ولنضرب بذلك مثالا: لنفرض أن هناك صاحب أرض فهو ( مالكها ) لكنه لا يستطيع التصرف بها تصرفا مطلقا إذ لا بد أن يطيع أمر ( الملك ) في طريقة بناءه لهذه الأرض مثلا، كما أن ( الملك ) ليس له كل السلطة على هذه الأرض، فإن اجتمع في شخص ملك الأرض والملوكية لبلغ غاية التصرف في هذه الأرض والله أعلم.

ما هي المعاني التي ينتهي إليها استخدام كلمة الدين هنا؟

يقول ابن فارس في معجم مقاييس اللغة في حديثه عن مادة دين ( (دَيَنَ) الدَّالُ وَالْيَاءُ وَالنُّونُ أَصْلٌ وَاحِدٌ إِلَيْهِ يَرْجِعُ فُرُوعُهُ كُلُّهَا. وَهُوَ جِنْسٌ مِنَ الِانْقِيَادِ، وَالذُّلِّ. فَالدِّينُ: الطَّاعَةُ، يُقَالُ دَانَ لَهُ يَدِينُ دِينًا، إِذَا أَصْحَبَ وَانْقَادَ وَطَاعَ. وَقَوْمٌ دِينٌ، أَيْ مُطِيعُونَ مُنْقَادُونَ. قَالَ الشَّاعِرُ:

وَكَانَ النَّاسُ إِلَّا نَحْنُ دِينَا

وَالْمَدِينَةُ كَأَنَّهَا مَفْعَلَةٌ، سُمِّيَتْ بِذَلِكَ لِأَنَّهَا تُقَامُ فِيهَا طَاعَةُ ذَوِي الْأَمْرِ. وَالْمَدِينَةُ: الْأَمَةُ. وَالْعَبْدُ مَدِينٌ، كَأَنَّهُمَا أَذَلَّهُمَا الْعَمَلُ. وَقَالَ:

رَبَتْ وَرَبَا فِي حِجْرِهَا ابْنُ مَدِينَةٍ … يَظَلُّ عَلَى مِسْحَاتِهِ يَتَرَكَّلُ

فَأَمَّا قَوْلُ الْقَائِلِ:

يَا دِينَ قَلْبُكَ مِنْ سَلْمَى وَقَدْ دِينَا

فَمَعْنَاهُ: يَا هَذَا دِينَ قَلْبُكَ، أَيْ أُذِلَّ. فَأَمَّا قَوْلُهُمْ إِنَّ الْعَادَةَ يُقَالُ لَهَا دِينٌ، فَإِنْ كَانَ صَحِيحًا فَلِأَنَّ النَّفْسَ إِذَا اعْتَادَتْ شَيْئًا مَرَّتْ مَعَهُ وَانْقَادَتْ لَهُ. وَيُنْشِدُونَ فِي هَذَا:

كَدِينِكَ مِنْ أُمِّ الْحُوَيْرِثِ قَبْلَهَا … وَجَارَتِهَا أُمِّ الرَّبَابِ بمَأْسَلِ

وَالرِّوَايَةُ ” كَدَأْبِكَ “، وَالْمَعْنَى قَرِيبٌ.

فَأَمَّا قَوْلُهُ جَلَّ ثَنَاؤُهُ: {مَا كَانَ لِيَأْخُذَ أَخَاهُ فِي دِينِ الْمَلِكِ} [يوسف: 76] ، فَيُقَالُ: فِي طَاعَتِهِ، وَيُقَالُ فِي حُكْمِهِ. وَمِنْهُ: {مَالِكِ يَوْمِ الدِّينِ} [الفاتحة: 4] ، أَيْ يَوْمِ الْحُكْمِ. وَقَالَ قَوْمٌ: الْحِسَابُ وَالْجَزَاءُ. وَأَيُّ ذَلِكَ كَانَ فَهُوَ أَمْرٌ يُنْقَادُ لَهُ. وَقَالَ أَبُو زَيْدٍ: دِينَ الرَّجُلُ يُدَانُ، إِذَا حُمِلَ عَلَيْهِ مَا يَكْرَهُ.

وَمِنْ هَذَا الْبَابِ الدَّيْنُ. يُقَالُ دَايَنْتُ فُلَانًا، إِذَا عَامَلْتَهُ دَيْنًا، إِمَّا أَخْذًا وَإِمَّا إِعْطَاءً. قَالَ:

دَايَنْتُ أَرْوَى وَالدُّيُونُ تُقْضَى … فَمَطَلَتْ بَعْضًا وَأَدَّتْ بَعْضَا

وَيُقَالُ: دِنْتُ وَادَّنْتُ، إِذَا أَخَذْتَ بِدَيْنٍ. وَأَدَنْتُ أَقْرَضْتُ وَأَعْطَيْتُ دَيْنًا. قَالَ:

أَدَانَ وَأَنْبَأَهُ الْأَوَّلُونَ … بِأَنَّ الْمُدَانَ مَلِيٌّ وَفِيُّ.

وَالدَّيْنُ مِنْ قِيَاسِ الْبَابِ الْمُطَّرِدِ، لِأَنَّ فِيهِ كُلَّ الذُّلِّ وَالذِّلِّ. وَلِذَلِكَ يَقُولُونَ ” الدَّيْنُ ذُلٌّ بِالنَّهَارِ، وَغَمٌّ بِاللَّيْلِ “. فَأَمَّا قَوْلُ الْقَائِلِ:

يَا دَارَ سَلْمَى خَلَاءً لَا أُكَلِّفُهَا … إِلَّا الْمَرَانَةَ حَتَّى تَعْرِفَ الدِّينَا

فَإِنَّ الْأَصْمَعِيَّ قَالَ: الْمَرَانَةُ اسْمُ نَاقَتِهِ، وَكَانَتْ تَعْرِفُ ذَلِكَ الطَّرِيقَ، فَلِذَلِكَ قَالَ: لَا أُكَلِّفُهَا إِلَّا الْمَرَانَةَ. حَتَّى تَعْرِفَ الدِّينَ: أَيِ الْحَالَ وَالْأَمْرَ الَّذِي تَعْهَدُهُ. فَأَرَادَ لَا أُكَلِّفُ بُلُوغَ هَذِهِ الدَّارِ إِلَّا نَاقَتِي، وَاللَّهُ أَعْلَمُ. )

فمعنى الدين يدور حول معان ثلاثة:

الأول: الذل والانقياد، دان له أي أطاعه وخضع له، كما جاء في أول كلام ابن فارس.

الثاني: الحساب والجزاء، دانه أي حاسبه وجازاه ومنه قوله تعالى ( أئنا لمدينون ) أي محاسبون مجزيون.

الثالث: المذهب والطريقة والنظام والمنهج المتبع، كما قال المثقب العبدي:

إذا ما قمت أرحلها بليل             تأوه آهة الرجل الجزين

تقول إذا درأت لها وضيني            أهذا دينه أبدا وديني

ومنه قوله تعالى ( ما كان ليأخذ أخاه في دين الملك ).

والذي يظهر أن المراد بالدين هنا الجزاء والحساب، وإلى هذا ذهب كل المفسرين.

ولكن يبقى السؤال: لماذا اختيرت هذه الكلمة ولم يقل يوم الحساب مثلا كما في مواضع أخر؟

والجواب أن معنى الحساب هنا مشوب بالذل والانقياد له وحده جل وعلا، وهذا مناسب غاية المناسبة لذكر الملك في أول السورة فلو أنه قال: مالك يوم الحساب أو يوم الجزاء، لفات العبارة معنى الذل والانقياد المصاحب لهذا الحساب والجزاء والذي تحمله كلمة الدين، فالمراد من هذا اللفظ إبراز معنى الذل والانقياد الحاصل من الخلق جميعا لله في ذلك اليوم كما أشار إليه الحديث آنفا.

 2019 04 12 23h46 04

 

Map Shot 1

2019 04 12 23h29 45

Map Shot 3

Map Shot 4

Map Shot 9

جميع الحقوق متاحة للمسلمين دون اشتراط ذكر المصدر © 2023 7a9ad.com. All Rights Reserved