بيني وبين عبدي

(بيني وبين عبدي)

إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ (5)

ما مناسبة هذا المقطع وما هي مناسبته لمقصد السورة؟

هذه الآية هي موضع القسمة في السورة بين العبد وبين ربه كما جاء في الحديث، فإياك نعبد مع ما قبلها لله، وإياك نستعين مع ما بعدها للعبد.

وأما ظاهرها فهو التزام عُهَد العبادة وهو ما يرجع إلى العبد وعمادها طلب المعونة من الله سبحانه وهو ما يرجع إلى الحق

ولو أن الأمة حققت هذه الآية التي يكثرون من تلاوتها واعتصموا بها بحيث لا يعبدون غيره ولا يستعينون بأحد سواه، مع التزام الصراط المستقيم في تحقيق عبوديته لفهموا الأصل الذي به سعادتهم في الدنيا والآخرة.

والعبادة في أصل وضعها مادة تدل على الذل والانقياد، وهي تجمع أربعة أشياء فيها: غاية الحب مع غاية الذل مع غاية الخوف في غاية الرجاء.

فكأن القارئ أو السامع لما ذكر عظمة الله تعالى فذكر أنه مستحق للحمد كله وأنه رب العالمين وأنه رحمن رحيم وأنه مالك أعظم وأخطر يوم وهو يوم الدين فعندئذ يفترض أن يقوم في قلبه من حب الله وخوفه ورجائه وتعظيمه والذل له ونحو ذلك من معاني العبادة قدر لا يثبت أن يلجأ إلى الله مباشرة فيخاطبه مخاطبة من كأنه يراه فيقول مقراً له بتلك المعاني المعبر عن مجموعها بالعبادة: (إياك نعبد) ثم يتم أسئلته من الله تبارك وتعالى على نفس الصيغة.

ولا يفوتنك أن تختلي بنفسك فترة وأنت تردد هذه الآية تسقي بها قلبك.

ما دلالة الالتفات هنا للخطاب المباشر بعد أن كان خطابا بصيغة الغيبة؟

المقطع الأول كان يثني على الله جل وعلا بصيغة الغيبة، وانتقل الكلام هنا إلى المخاطبة المباشرة، والالتفات يكون لعدة أغراض: منها تنشيط السامع كما قال السكاكي ( أفتراهم يحسنون قرى الأشباح فيخالفون بين لون ولون وطعم وطعم ولا يحسنون قرى الأرواح فيخالفون بين أسلوب وأسلوب ) فهذه فائدة مطردة في الالتفات.

بل إن ابن جني يسمي الالتفات شجاعة العربية فكأنه دليل على حدة ذهن البليغ وتمكنه من تصريف أساليب كلامه كيف شاء كما يتصرف الشجاع في مجال الوغى بالكر والفر.

ومن دواعي الالتفات هنا أن الحامد لما حمد الله تعالى ووصفه بعظيم الصفات بلغت به الفكرة منتهاها فتخيل نفسه في حضرة الربوبية فخاطب ربه بالإقبال فكأنه واقف بين يديه يناجيه مباشرة.

ما هي حقيقة العبادة؟

يقولون هي الطاعة مع غاية الخضوع ، وما كل عبارة تمثل المعنى تمام التمثيل ، وتجليه للأفهام واضحا لا يقبل التأويل ، فكثيرا ما يفسرون الشيء ببعض لوازمه ويعرفون الحقيقة برسومها ، بل يكتفون أحيانا بالتعريف اللفظي ويبينون الكلمة بما يقرب من معناها ، ومن ذلك هذه العبارة التي شرحوا بها معنى العبادة ، فإن فيها إجمالا وتساهلا . وإننا إذا تتبعنا آي القرآن وأساليب اللغة واستعمال العرب لـ ” عبد ” وما يماثلها ويقاربها في المعنى – كخضع وخنع وأطاع وذل – نجد أنه لا شيء من هذه الألفاظ يضاهي ” عبد ” ويحل محلها ويقع موقعها ، ولذلك قالوا : إن لفظ ” العباد ” مأخوذ من العبادة ، فتكثر إضافته إلى الله تعالى ، ولفظ ” العبيد ” تكثر إضافته إلى غير الله تعالى ؛ لأنه مأخوذ من العبودية بمعنى الرق ، وفرق بين العبادة والعبودية بذلك المعنى ، ومن هنا قال بعض العلماء : إن العبادة لا تكون في اللغة إلا لله تعالى ، ولكن استعمال القرآن يخالفه .

يغلو العاشق في تعظيم معشوقه والخضوع له غلوا كبيرا حتى يفنى هواه في هواه ، وتذوب إرادته في إرادته ، ومع ذلك لا يسمى خضوعه هذا عبادة بالحقيقة ، ويبالغ كثير من الناس في تعظيم الرؤساء والملوك والأمراء ، فترى من خضوعهم لهم وتحريهم مرضاتهم ما لا تراه من المتحنثين القانتين ، دع سائر العابدين ، ولم يكن العرب يسمون شيئا من هذا الخضوع عبادة ، فما هي العبادة إذا ؟

[ ص: 48 ] تدل الأساليب الصحيحة ، والاستعمال العربي الصراح على أن العبادة ضرب من الخضوع بالغ حد النهاية ، ناشئ عن استشعار القلب عظمة للمعبود لا يعرف منشأها ، واعتقاده بسلطة له لا يدرك كنهها وماهيتها . وقصارى ما يعرفه منها أنها محيطة به ، ولكنها فوق إدراكه ، فمن ينتهي إلى أقصى الذل لملك من الملوك لا يقال إنه عبده وإن قبل موطئ أقدامه ، ما دام سبب الذل والخضوع معروفا وهو الخوف من ظلمه المعهود ، أو الرجاء بكرمه المحدود ، اللهم إلا بالنسبة إلى الذين يعتقدون أن الملك قوة غيبية سماوية أفيضت على الملوك من الملأ الأعلى ، واختارتهم للاستعلاء على سائر أهل الدنيا ، لأنهم أطيب الناس عنصرا ، وأكرمهم جوهرا ، وهؤلاء هم الذين انتهى بهم هذا الاعتقاد إلى الكفر والإلحاد ، فاتخذوا الملوك آلهة وأربابا وعبدوهم عبادة حقيقية .

للعبادة صور كثيرة في كل دين من الأديان شرعت لتذكير الإنسان بذلك الشعور بالسلطان الإلهي الأعلى الذي هو روح العبادة وسرها ، ولكل عبادة من العبادات الصحيحة أثر في تقويم أخلاق القائم بها وتهذيب نفسه ، والأثر إنما يكون عن ذلك الروح ، والشعور الذي قلنا إنه منشأ التعظيم والخضوع ، فإذا وجدت صورة العبادة خالية من هذا المعنى لم تكن عبادة ، كما أن صورة الإنسان وتمثاله ليس إنسانا .

خذ إليك عبادة الصلاة مثلا ، وانظر كيف أمر الله بإقامتها دون مجرد الإتيان بها ، وإقامة الشيء : هي الإتيان به مقوما كاملا يصدر عن علته وتصدر عنه آثاره . وآثار الصلاة ونتائجها هي ما أنبأنا الله تعالى بها بقوله : ( إن الصلاة تنهى عن الفحشاء والمنكر ) ( 29 : 45 ) وقوله – عز وجل – : ( إن الإنسان خلق هلوعا إذا مسه الشر جزوعا وإذا مسه الخير منوعا إلا المصلين ) ( 70 : 19 – 22 ) وقد توعد الذين يأتون بصورة الصلاة من الحركات والألفاظ مع السهو عن معنى العبادة وسرها فيها المؤدي إلى غايتها بقوله: ( فويل للمصلين الذين هم عن صلاتهم ساهون الذين هم يراءون ويمنعون الماعون ) ( 107 : 4 – 7 ) فسماهم مصلين ، لأنهم أتوا بصورة الصلاة ، ووصفهم بالسهو عن الصلاة الحقيقية التي هي توجه القلب إلى الله تعالى المذكر بخشيته ، والمشعر للقلوب بعظم سلطانه ، ثم وصفهم بأثر هذا السهو وهو الرياء ومنع الماعون . وذكر الأستاذ الإمام أن الرياء ضربان : رياء النفاق وهو العمل لأجل رؤية الناس ، ورياء العادة وهو العمل بحكمها من غير ملاحظة معنى العمل وسره وفائدته ، ولا ملاحظة من يعمل له ويتقرب إليه به ، وهو ما عليه أكثر الناس ، فإن صلاة أحدهم في طور الرشد والعقل هي عين ما كان يحاكي به أباه في طور الطفولية عندما يراه يصلي – يستمر على ذلك بحكم العادة من غير فهم ولا عقل ، وليس لله شيء في هذه الصلاة ، وقد ورد في بعض الأحاديث : أن ” من لم تنهه صلاته عن الفحشاء والمنكر لم يزدد من الله إلا بعدا ” وأنها تلف كما يلف [ ص: 49 ] الثوب البالي ويضرب بها وجهه ” وأما الماعون فهو المعونة والخير الذي تقدم في الآية الأخرى أن من شأن الإنسان أن يكون منوعا له إلا المصلين .

ما دلالة تعقيب الاستعانة بالعبادة مع أنها داخلة فيها؟

الاستعانة بالله نظام تعبدي يظهر الافتقار لقوة القادر القهار ليعين في تحقق الوصول إلى الهداية وفق نظام العبادة ( إياك نعبد ).

وفي هذا إشارة إلى أن عبادته لا تتهيأ إلا بمعونته وإلى أن ملاك الهداية بيده، وقد قدمت العبادة لأنها الأصل وأما الاستعانة فمن تفاصيلها وجزئياتها، والأولى من حق الرب ولها تعلق به والثانية لمصلحة العبد، وأفردت بالذكر لأهميتها ولئلا يتوهم العبد أنه مستغن بكسبه عن عناية ربه، فحتى هذه العبادة هو محتاج لعون الله وتأييده فيها، لا غنى له عن ربه.

وهي فوق ذلك تعالج مرضا كامنا وغريزة مختبئة فيك أيها العابد، وهي غريزة ( العجب )، إذ الغرور والعجب جزء من النفس الإنسانية، فالاستعانة هنا لأجل أن يفزع القلب على المستويات الفردية والجماعية إلى التعلق المتلهف بالرب جل في علاه وذلك يعني التحرر عن أن تذل ذاتك للنفس الأمارة بالسوء.

وتبني الاستقلال الذاتي على مستوى الفرد والأمة.

ورحم الله القائل:

إذا لم يكن عون من الله للفتى                  فأول ما يجني عليه اجتهاده

والقائل:

إذا لم يكن عون من الله للفتى                  أتته الرزايا من طريق الفوائد

والقائل:

إذا صح عون الخالق المرء لم يجد             عسيرا من الآمال إلا ميسرا

ما مناسبة حذف التعدي في فعل الاستعانة؟

الأصل أن الاستعانة تتعدى بعلى، وحذفها يدل على عموم الاستعانة بالله في كل شيء فنحن نسعين به على كل شيء ابتداء بالتصورات والغايات، وصولا إلى الأعمال والتنفيذ في الكليات والجزئيات والعموم والتفاصيل.

ما مناسبة الدعاء هنا بصيغة الجمع؟

منها: إغاظة المشركين إذ يعلمون أن المسلمين صاروا في عزة ومنعة إذ هم مجتمعون.

ومنها: أنه أبلغ بالثناء من الكلام بصيغة المفرد ( أعبد واستعين لئلا تخلو المناجاة عن ثناء أيضا بأن المحمود المعبود المستعان قد شهد له الجماعات وعرفوا فضله، فكأن الحامد لما انتقل من الحمد إلى المناجاة لم يغادر فرصة يقتنص منها الثناء إلا انتهزها.

ومنها وربما كانت أهمها: أن هذه الجملة بهذه الصياغة تنسف مبدأ ( التدين الفردي ) نسفا تاما ، فهذا الدين ليس مجموعة من العبادات المجردة المحضرة لتنظيم العلاقة بين العبد وبين ربه، وإنما هي توجه جماعي لإقامة نظام التعبد في حياة جماعة المسلمين وأمتهم، فالعبادة نوعان:

فردية: على مستوى الفرد يقوم فيها الفرد بحق الله في نفسه تجاه ربه وتجاه الآخرين ممن حوله.

وجماعية: على مستوى الأمة حيث تقوم فيها الأمة بأمر الله فتحكم بحكمه وتقوم بدينه.

والثانية أولى من الأولى، فالأولى يقوم بها الناس أفرادا كل على نفسه، أما الأخرى فتحتاج صفوة من الأمة تقوم بها وهم أولو الأمر وهم العلماء والأمراء، ولأجل هذا جاءت بصيغة الجمع، مهما أعمل البشر عقولهم للوصول إلى نظام تعبدي يصلح أحوالهم لن يفلحوا بغير الوحي، فالعقل قاصر قابل للتأثر لا يؤدي بصاحبه إلا إلى الفساد مهما حاول أن يقوم مقام الوحي، ولا يصلح أمر العباد سوى خالقهم.

ما معنى تكرير الضمير إياك؟

التكرير هنا للتنصيص على تخصيصه تعالى بكل واحدة منها، في إعادة إياك مرة أخرى دلالة على تعلق هذه الأمور بكل واحد من الفعلين ففي إعادة الضمير من قوة الإقتضاء لذلك ما ليس في حذفه فإذا قلت لملك مثلاً: إياك أحب وإياك أخاف كان فيه من اختصاص الحب والخوف بذاته والإهتمام بذكره ما ليس في قولك إياك أحب وأخاف.

كما أن فيها إبراز التلذذ بالمناجاة والخطاب.

كيف يكون تمام العبادة؟ وما هي وجوهها ومعانيها ومناطاتها؟

العبادة في أصلها هي كمال الطاعة والانقياد لأوامر الله والانتهاء عن زواجره، وقبول جميع ما ورد في الوحي دون رد شيء أو إلحاد فيه، ولها عدة وجوه ومناطات ومظاهر:

منها: التذلل والخشوع الناشئ عن حب وتعظيم، لأن الانقياد دون حب بسبب خوف لا يكون عبادة.

ومنها الإخلاص لله والصدق معه ببذل الطاقة والجهد في سبيل الله، والنصح له ولرسوله ولعباده المؤمنين دون كسل أو فتور.

ومنها: أن يكون الله ورسوله أحب إليه مما سواهما فلا يفضل على طاعة الله وابتغاء مرضاته أحدا ولا شيئا ولا هوى، وذلك أن الحب يحرك إرادة القلب فكلما قويت المحبة في القلب قوي انطلاقه لمرضاة محبوبه.

ومنها: الحكم بما أنزل الله، وإقامة أحكام الدين، و العمل وفق شريعته وتطبيق حدوده، فمن شرع من الدين ما لم يأذن به الله أو عطل أحكام الدين، أو قلد متبوعا محبوبا فيما استهواه أو حرف نصوص الوحي أو أولها، نقص من عبوديته لله بحسب عبوديته لهذا الطاغوت.

ومنها: التوجه بالأعمال القلبية، كالخوف والدعاء والخشية والرجاء والاستعانة والاستعاذة، والحب في الله والبغض في الله والموالاة والمعاداة فيه، وصرف شيء منها لغير الله عبادة له.

ومنها: تحصيل أسباب القوة لإقامة الشريعة وحفظها والاستعانة بهذه القوة ودفع الطواغيت الذين يحولون بين الشريعة وبين الناس بما يفتونهم به، وما يلبسون عليهم.

Map Shot 1

2019 04 12 23h29 45

Map Shot 3

Map Shot 4

Map Shot 9

 

جميع الحقوق متاحة للمسلمين دون اشتراط ذكر المصدر © 2023 7a9ad.com. All Rights Reserved