نظام التوحيد

( نظام التوحيد )

 

لَا تَجْعَلْ مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آخَرَ فَتَقْعُدَ مَذْمُومًا مَخْذُولًا (22) وَقَضَى رَبُّكَ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا إِمَّا يَبْلُغَنَّ عِنْدَكَ الْكِبَرَ أَحَدُهُمَا أَوْ كِلَاهُمَا فَلَا تَقُلْ لَهُمَا أُفٍّ وَلَا تَنْهَرْهُمَا وَقُلْ لَهُمَا قَوْلًا كَرِيمًا (23) وَاخْفِضْ لَهُمَا جَنَاحَ الذُّلِّ مِنَ الرَّحْمَةِ وَقُلْ رَبِّ ارْحَمْهُمَا كَمَا رَبَّيَانِي صَغِيرًا (24) رَبُّكُمْ أَعْلَمُ بِمَا فِي نُفُوسِكُمْ إِنْ تَكُونُوا صَالِحِينَ فَإِنَّهُ كَانَ لِلْأَوَّابِينَ غَفُورًا (25) وَآتِ ذَا الْقُرْبَى حَقَّهُ وَالْمِسْكِينَ وَابْنَ السَّبِيلِ وَلَا تُبَذِّرْ تَبْذِيرًا (26) إِنَّ الْمُبَذِّرِينَ كَانُوا إِخْوَانَ الشَّيَاطِينِ وَكَانَ الشَّيْطَانُ لِرَبِّهِ كَفُورًا (27) وَإِمَّا تُعْرِضَنَّ عَنْهُمُ ابْتِغَاءَ رَحْمَةٍ مِنْ رَبِّكَ تَرْجُوهَا فَقُلْ لَهُمْ قَوْلًا مَيْسُورًا (28) وَلَا تَجْعَلْ يَدَكَ مَغْلُولَةً إِلَى عُنُقِكَ وَلَا تَبْسُطْهَا كُلَّ الْبَسْطِ فَتَقْعُدَ مَلُومًا مَحْسُورًا (29) إِنَّ رَبَّكَ يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشَاءُ وَيَقْدِرُ إِنَّهُ كَانَ بِعِبَادِهِ خَبِيرًا بَصِيرًا (30) وَلَا تَقْتُلُوا أَوْلَادَكُمْ خَشْيَةَ إِمْلَاقٍ نَحْنُ نَرْزُقُهُمْ وَإِيَّاكُمْ إِنَّ قَتْلَهُمْ كَانَ خِطْئًا كَبِيرًا (31) وَلَا تَقْرَبُوا الزِّنَا إِنَّهُ كَانَ فَاحِشَةً وَسَاءَ سَبِيلًا (32) وَلَا تَقْتُلُوا النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إِلَّا بِالْحَقِّ وَمَنْ قُتِلَ مَظْلُومًا فَقَدْ جَعَلْنَا لِوَلِيِّهِ سُلْطَانًا فَلَا يُسْرِفْ فِي الْقَتْلِ إِنَّهُ كَانَ مَنْصُورًا (33) وَلَا تَقْرَبُوا مَالَ الْيَتِيمِ إِلَّا بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ حَتَّى يَبْلُغَ أَشُدَّهُ وَأَوْفُوا بِالْعَهْدِ إِنَّ الْعَهْدَ كَانَ مَسْئُولًا (34) وَأَوْفُوا الْكَيْلَ إِذَا كِلْتُمْ وَزِنُوا بِالْقِسْطَاسِ الْمُسْتَقِيمِ ذَلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلًا (35) وَلَا تَقْفُ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ إِنَّ السَّمْعَ وَالْبَصَرَ وَالْفُؤَادَ كُلُّ أُولَئِكَ كَانَ عَنْهُ مَسْئُولًا (36) وَلَا تَمْشِ فِي الْأَرْضِ مَرَحًا إِنَّكَ لَنْ تَخْرِقَ الْأَرْضَ وَلَنْ تَبْلُغَ الْجِبَالَ طُولًا (37) كُلُّ ذَلِكَ كَانَ سَيِّئُهُ عِنْدَ رَبِّكَ مَكْرُوهًا (38) ذَلِكَ مِمَّا أَوْحَى إِلَيْكَ رَبُّكَ مِنَ الْحِكْمَةِ وَلَا تَجْعَلْ مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آخَرَ فَتُلْقَى فِي جَهَنَّمَ مَلُومًا مَدْحُورًا (39)

ما موضوع هذا الفصل، وما هي مناسبته لمقصد السورة؟ وما مناسبته لما قبله من الفصول؟

هذا المقطع خارج من رحم قوله تعالى في الفصل الماضي ( إن هذا القرآن يهدي للتي هي أقوم ) ومن قوله تعالى ( وكل شيء فصلناه تفصيلا ).

عن ابن عباس أنه قال: التوراة كلها في خمس عشرة آية من سورة بني إسرائيل، وفي رواية عنه: ثمان عشرة آية منها كانت في ألواح موسى، أي من قوله تعالى ﴿لا تجعل مع الله إلها آخر فتقعد مذموما مخذولا﴾ [الإسراء: ٢٢] إلى قوله ﴿ولا تجعل مع الله إلها آخر فتلقى في جهنم ملوما مدحورا﴾ [الإسراء: ٣٩] .

ويعني بالتوراة الألواح المشتملة على الوصايا العشر، وليس مراده أن القرآن حكى ما في التوراة، ولكنها أحكام قرآنية موافقة لما في التوراة.

على أن كلام ابن عباس معناه: أن ما في الألواح مذكور في تلك الآي، ولا يريد أنهما سواء.

وإذا كنت تعتقد أن الأمور المذكورة في هذا المقطع أمور بدهية ولا تحتاج كل هذا التنبيه والتأكيد، فتأمل حال البشرية اليوم وهي في خضم العلو الثاني البني إسرائيلي، وجهودهم الدائبة لهدم هذه القيم في المجتمعات:

ابتداء بالتوحيد وتعبيد الناس لغير الله، والخروج بهذه المذاهب والأفكار الشيطانية ابتداء بعبادة الشيطان نفسه مرورا بالشيوعية والرأسمالية والليبرالية والماركسية وغيرها من هذه المذاهب الباطلة.

وإذا كنت تعتقد أن الوصية بالوالدين أمر بديهي لا يستحق أن يؤكد عليه القرآن كل هذا التأكيد إلى درجة جعله قرين التوحيد، فانظر حال المجتمعات الغربية اليوم، حيث لا سلطة للأبوين على الأولاد بالمرة في صغرهم، ثم يطردهم آباؤهم عند بلوغهم الثامنة عشر أو يتركون هم بيوت آبائهم فلا يعودون، وظهر مذهب ( الفردانية ) حيث لا ينظر الفرد فيه إلا لنفسه، وانظر كيف صدت هذه الطريقة في الحياة الكثير من الغربيين عن الإنجاب، حتى كتب بوكنان كتابه ( موت الغرب ) إذ ما الفائدة من إنجاب أولاد والتعب عليهم كل هذه الأيام ليتركونه وحيدا أول ما يشبون.

ولا داعي للحديث عن تكافل الأقارب والمساكين وابن السبيل وتعاهدهم بالمال فإن من لا يبالي بوالديه لا يرجى منه أن يبالي بمن هو أبعد منهم.

وإذا كنت تعتقد أن الحديث عن قتل الأنفس أمر بدهي طبيعي لا حاجة للوصية به فانظر حالهم مع معدلات جرائم القتل غير المسبوقة والتي تغذيها ألعاب القتل والحروب وأفلام الجريمة والرعب.

وتأمل أيضا الوصية بعدم التجاوز في القصاص وانظر كم هدم الثأر الفاجر من مجتمعات وأسر.

أما الزنا فأمره ظاهر بين فقد انتشرت الفاحشة ولوازمها من اختلاط ومقاطع مرئية حتى رأت البشرية في آخر مئة سنة – زمن علو بني إسرائيل الثاني – ما لم تره في حياتها كله.

أما الوفاء بالكيل – بمعنى عدم الغش – والمنع من أكل مال اليتيم: فحدث فيه ولا حرج، ولا يغرنك رعاية بعضهم البعض في إنسانيتهم المزعومة، فإنهم أكلوا أموال الشعوب الأخرى وأشبعوها زورا وبهتانا وكذبا، فالإنسان عندهم هو الإنسان الأوربي فقط أما ما سواه فمباح الدم والمال.

إلى آخر ذلك من الوصايا التي أوصت بها الآيات.

وفيه أيضا الإيماء إلى أن الله تعالى جعل هذا الإسراء رمزا إلى أن الإسلام جمع ما جاءت به شرائع التوحيد والحنيفية من عهد إبراهيم عليه الصلاة والسلام الصادر من المسجد الحرام إلى ما تفرع عنه من الشرائع التي كان مقرها بيت المقدس ثم إلى خاتمتها التي ظهرت من مكة أيضا، فقد صدرت الحنيفية من المسجد الحرام، وتفرعت في المسجد الأقصى، ثم عادت إلى المسجد الحرام، كما عاد الإسراء إلى مكة؛ لأن كل سرى يعقبه أوبة، وبذلك حصل رد العجز على الصدر.

وأما أهم مناسبة ومعنى ينتهي إليه نزول التشريع الاجتماعي في هذه السورة في الآيات المفتتحة بقوله تعالى ﴿وقضى ربك ألا تعبدوا إلا إياه﴾ [الإسراء: ٢٣]، ففيها ﴿ولا تقتلوا النفس التي حرم الله إلا بالحق﴾ [الإسراء: ٣٣]، ﴿ولا تقربوا مال اليتيم إلا بالتي هي أحسن﴾ [الإسراء: ٣٤]

﴿وأوفوا الكيل إذا كلتم وزنوا بالقسطاس المستقيم﴾ [الإسراء: ٣٥]

إيماء إلى أن هذا الدين سيكون دينا يحكم في الناس، وتنفذ أحكامه.

ففيه بشارة بالتمكين القادم لأن هذه الأحكام لا تأتي إلا مع تمكين ففيه بشارة إلى التمكين القادم.

كل هذا ليشرح لك حاجة البشرية للتوحيد ليكون سورا يحمي أخلاقها ونظامها، ولا يدعها نهبا لعبث العابثين، فالتوحيد ليس مجرد شهادة باردة باللسان، وإنما هو إذعان وطاعة لله في كل ما أمر ونهى، في نظامه الذي أنزله ليحيا عليه الناس.

ما هي المعاني التي ينتهي إليها الحديث عن التوحيد في أول الفصل وفي آخره؟

من الواضح أن هذا المقطع جاء بين حاصرين، وكل منهما نهي عن جعل إله مع الله، وما هذا إلا ليبين أن بداية النظام ونهايته إنما يكون بالتوحيد.

من المخاطب في هذه الآيات؟

المخاطب هنا كل من يصلح للتكليف على الراجح، وقيل النبي صلى الله عليه وسلم إلهابا لغيره من الأمة، لأن الخطاب إن كان موجها لرأس الأمة مرادها به أفرادها يكون أعظم شأنا.

ما مناسبة التعبير عن الجزاء بالقعود؟

جاء التعبير عن القعود لأنه يدل على العجز وانخفاض المكانة، فلفظ القاعد يكنى به عن العاجز الذي ينظر إليه القائمون العاملون أصحاب العزائم نظرات استعلاء عليه واستهانة به وذم لكسله وضعته.

ما هي المعاني التي ينتهي إليها الخطاب بصيغة المفرد في التحذير من الشرك؟

مع أن الأمر عام، والتحذير من الشرك يحتاجه المجموع، إلا أن الخطاب جاء هنا بالمفرد ( لا تجعل ) ليشعر كل أحد أنه أمر خاص به، صادر إلى شخصه، فالاعتقاد مسألة شخصية مسؤول عنها كل فرد بذاته، والعاقبة التي تنتظر كل فرد يحيد عن التوحيد أن يقعد أو يلقى في جهنم.

ما هي المعاني التي ينتهي إليها استخدام لفظة القعود ههنا؟

اللفظ ههنا يصور هيئة المذموم المخذول، وهو يلقي كذلك ظل الاستمرار في هذه الحالة، لأن العود لا يوحي باحلركة ولا تغير الوضع، وهو يشير إلى صفة الضعف فالقعود أضعف حالات الإنسان.

ما مناسبة التثنية مرة أخرى بالتوحيد في قوله: وقضى ربك ألا تعبدوا إلا إياه؟

الكلام هنا له مناسبتان ومعنيان ينتهي إليهما:

الأول: التأكيد على بر الوالدين وأنه قرين التوحيد.

الثاني: التنبيه على أن كل ما سيأتي ( عبادات ) أمر الله الناس بها أن يلتزموها طاعة له وامتثالا لأمره ونهيه.

ما مناسبة الابتداء بالحديث عن البر بالوالدين؟

جاء الأمر هنا مرتبطا بالتوحيد، وقد بالغ سبحانه في التوصية بالوالدين مبالغة تقشعر لها جلود أهل العقوق وتقف عندها شعورهم، حيث افتتحها بالأمر بتوحيده وعبادته ( وقضى ربك ألا تعبدوا إلا إياه )، ثم شفعه بالإحسان إليهما مباشرة بعده دون فاصل ( وبالوالدين إحسانا )، ثم ضيق الأمر في مراعاتهما حتى لم يرخص في أدنى كلمة تنفلت مع التضجر من موجبات الضجر، ومع أحوال لا يكاد يصبر الإنسان معها، وأن يذل ويخضهم لهما، ثم ختمها بالأمر بالدعاء لهما والترحم عليهما، وهذه خمسة أشياء كلف الإنسان بها في حق الوالدين:

فلا تقل لهما أف

ولا تنهرهما

وقل لهما قولا كريما

واخفض لهما جناح الذل من الرحمة

وقل رب ارحمهما كما ربياني صغيرا

وقد ورد في بر الوالدين أحاديث كثيرة ثابتة في الصحيحين وغيرهما وهي معروفة في كتب الحديث.

وبَيانُ المُناسِبَةِ بَيْنَ الأمْرِ بِعِبادَةِ اللَّهِ تَعالى وبَيْنَ الأمْرِ بِبِرِّ الوالِدَيْنِ مِن وُجُوهٍ:
الوَجْهُ الأوَّلُ: أنَّ السَّبَبَ الحَقِيقِيَّ لِوُجُودِ الإنْسانِ هو تَخْلِيقُ اللَّهِ تَعالى وإيجادُهُ، والسَّبَبُ الظّاهِرِيُّ هو الأبَوانِ، فَأمَرَ بِتَعْظِيمِ السَّبَبِ الحَقِيقِيِّ، ثُمَّ أتْبَعَهُ بِالأمْرِ بِتَعْظِيمِ السَّبَبِ الظّاهِرِيِّ.
الوَجْهُ الثّانِي: أنَّ الموجد إمّا قَدِيمٌ وإمّا مُحْدَثٌ، ويَجِبُ أنْ تَكُونَ مُعامَلَةُ الإنْسانِ مَعَ الإلَهِ القَدِيمِ بِالتَّعْظِيمِ والعُبُودِيَّةِ، ومَعَ المُحْدَثِ بِإظْهارِ الشَّفَقَةِ وهو المُرادُ مِن قَوْلِهِ عَلَيْهِ السَّلامُ فيما يروى عنه ( التَّعْظِيمُ لِأمْرِ اللَّهِ والشَّفَقَةُ عَلى خَلْقِ اللَّهِ ) وأحَقُّ الخَلْقِ بِصَرْفِ الشَّفَقَةِ إلَيْهِ هو الأبَوانِ لِكَثْرَةِ إنْعامِهِما عَلى الإنْسانِ فَقَوْلُهُ: ﴿وقَضى رَبُّكَ ألّا تَعْبُدُوا إلّا إيّاهُ﴾ إشارَةٌ إلى التَّعْظِيمِ لِأمْرِ اللَّهِ، وقَوْلُهُ: ﴿وبِالوالِدَيْنِ إحْسانًا﴾ إشارَةٌ إلى الشَّفَقَةِ عَلى خَلْقِ اللَّهِ.
الوَجْهُ الثّالِثُ: أنَّ الِاشْتِغالَ بِشُكْرِ المُنْعِمِ واجِبٌ، ثُمَّ المُنْعِمُ الحَقِيقِيُّ هو الخالِقُ سُبْحانَهُ وتَعالى. وقَدْ يَكُونُ أحَدٌ مِنَ المَخْلُوقِينَ مُنْعِمًا عَلَيْكَ، وشُكْرُهُ أيْضًا واجِبٌ لِقَوْلِهِ عَلَيْهِ السَّلامُ: ”«مَن لَمْ يَشْكُرِ النّاسَ لَمْ يَشْكُرِ اللَّهَ» “ ولَيْسَ لِأحَدٍ مِنَ الخَلائِقِ نِعْمَةٌ عَلى الإنْسانِ مِثْلَ ما لِلْوالِدَيْنِ كما بين الرازي.

ما هي المعاني التي ينتهي إليها إسناد القضاء للرب، ونسبة الرب للمخاطب؟

القضاء هنا خاص ببر الوالدين وفيه من الرحمة والعناية والرعاية ما يكون من الأنسب في هذا الموضع استخدام لفظة الرب للدالة على الشارع، وأما كاف الخطاب فإغراء للمخاطَب بالاجتهاد في البر بالوالدين كما أسبغ الله عليه نعمه، فكأن الله يقول للمخاطب: أحط والدين بالإحسان كما أحطتك أنا بالرعاية والحياطة والعناية.

ما هي المعاني التي ينتهي إليها تقديم الوالدين؟ وتنكير إحسانا؟

تقديم الوالدين للاهتمام بهما، وتنكير أحسانا للتعظيم فكأنه قال وبالوالدين إحسانا أي إحسان.

ما معنى خفض الجناح؟

خفض الجناح كناية عن حسن الرعاية، كما أن الطائر إذا أراد ضم فراخه إليه خفض لها جناحه، فكأنه قال للولد: اكفل لوالدين بأن تضمهما إلى نفسك حال كبرهما وافتقارهما اليوم إليك، كما فعلا ذلك بك في حال صغرك وكنت مفتقرا لهما.

ما هي المعاني التي ينتهي إليها قوله من الرحمة؟

من الرحمة فيها معان:

منها: التعليل، فيكون المعنى : اخفض لهما جناح الذل بسبب الرحمة.

ومنها: الابتداء، فيكون المعنى: اخفض لهما جناح الذل والسبب في ذلك هو الرحمة المستكنة في النفس.

ومنها: النصب على الحال، ويكون المعنى: اخفض لهما جناح الذل رحمة بهما.

وانظر الإعجاز في جمع معان كثيرة في ألفاظ يسيرة.

وهذا لتأكيد الغرض من البر وأنه ليس بسبب مطمع أو خوف الملامة ولكنه بدافع الرحمة فحسب.

ما مناسبة قوله تعالى : ربكم أعلم بما في نفوسكم.. الآية؟ وهل هي خاصة بالعقوق كما يشير السياق أم عامة كما يدل اللفظ؟

الظاهر أنها خاصة بالعقوق، والحاجة لها ماسة، فكأنها تشير إلى أنه لا بد من زلل وإخفاق في قضية الإحسان بالوالدين، وأن الله يغفر هذا الزلل والتقصير ما لم يقصد إليه صاحبه سبيلا ولم يكن عن تعمد، ورجع بعد الخطأ والزلل وأصلح ما كان من فساد، وهذا تيسير بعد التأكيد والتعسير مع تضييق وتحذير، وذلك أنه شرط في الخطأ النادر العودة السريعة.

وانظر إلى سعة الشريعة وكيف راعت أحوال الإنسان وضعفهن ويسرت بعد أن شددت، وأرخت بعد أن شدت، حتى لا ييأس خاطئ ولا ينصرف مسرف.

ما مناسبة الحديث عن إيتاء ذي القربى والمساكين وابن السبيل؟

بعد أن مضى الحديث عن الوالدين باعتبارهما أقرب الدوائر المحيطة بالإنسان، لزم الحديث هنا عن الدائرة الثانية المحيطة بالإنسان، وهم ثلاثة أصناف:

ذوو القربى

المساكين

ابن السبيل.

وواضح أن المراد هنا الإيتاء المادي بدليل النهي عن التبذير بعدها.

وفي الآية أمر بوضع المال في حقه ونهي عن وضعه في غير حقه، وسماه تبذيرا أي نثرا للمال كما ينثر البذر دون مبالاة أين يقع.

والأمر في أول الآية بإيتاء ذي القربى والمساكين وابن السبيل، يقتضي أن النفقة عليهم هي المقابل للتبذير، فيكون التبذير جعل المال في غير حقه، ولا تبذير في عمل الخير، ويدخل فيه كل ما كان رياة وسمعة مما لا فائدة منه، من التباهي به والتطاول في البنيان والعمارة واللباس والماركات الغالية وغيرها.

وأما كون المبذرين أخوان الشياطين فمعناه أنهم كانُوا أصْدِقاءَهُمْ، وأتْباعَهم فِيما ذُكِرَ مِنَ التَّبْذِيرِ، والصَّرْفِ في المَعاصِي، فَإنَّهم كانُوا يَنْحَرُونَ الإبِلَ، ويَتَياسَرُونَ عَلَيْها، ويُبَذِّرُونَ أمْوالَهم في السُّمْعَةِ، وسائِرِ ما لا خَيْرَ فِيهِ مِنَ المَباهِي والمَلاهِي.

ولأجل تقبيح صورة المبذرين جعلهم إخوان الشياطين، أي أمثالهم، وبين بعدها مباشرة أن السبب في النهي عن التبذير هو أن التبذير كفر بالنعمة وبطر بها، وأن هذا الكفر والبطر إنما هو سبيل الشياطين.

ومن صور التبذير شراء المفترات، ومنها ما يزيد على حاجة المدعوين في الولائم ثم يرمى الزائد في القمامات، ومنه إنفاق أموال كثيرة في إطلاق قذائف نارية تري في الجو ما يعجب النظر وتنظفئ في عدة ثوان، ومنها وما يصنع للنساء من ثياب مزخرفة مزركشة لحضور حفلات يتباهين بها على قريناتهن وهي ذوات قيم باهظة الثمن ولا تلبس إلا لحفلة أو حفلتين، ومنها ما يبذل من أموال لتزيين البيوت والقصور من أوثان وغيره للتباهي والتفاخر، ولا سيما ما تغلف جدرانه وأغمدته بصفائح الذهب والفضة،

ما مناسبة الأمر بالقول الميسور بعد هذا؟

هذه هي الحال الأخرى للإنسان، حين يكون معسرا لا يستطيع أن يؤتي المحتاجين، فبين له القرآن في هذه الحالة ما يجب عليه وهو: القول الميسور.

ولقد أحسن من قال:

أن لا يكن ورق يوماً أجود بها … للسائلين فإني لين العود

لا يعدم السائلون الخير من خلقي … إما نوال وإما حسن مردود

ما مناسبة الآية التي بعدها: ولا تجعل يدك .. الآية؟

بعد أن بين النفقة الواجبة والنفقة المحرمة وبين الواجب في حال عدم القدرة على النفقة، بين هنا حال النفقات المباحة، فأمر بالتوسط، لا يضيق على نفسه وأهله، ولا يوسع في الإنفاق توسيعا لا حاجه به، وهذا هو العدل الذي ندب الله إليه.

والمحسور المنقطع، أي: مُنْقَطِعًا بِكَ لا شَيْءَ عِنْدَكَ مِن حَسَرَهُ السَّفَرُ إذا بَلَغَ مِنهُ،

كِلا طَرَفَيْ قَصْدِ الأُمُورِ ذَمِيمُ

ما مناسبة قوله تعالى بعدها: إن ربك يبسط الرزق لمن يشاء ويقدر .. ؟

المَقْصُودُ أنَّهُ عَرَّفَ رَسُولَهُ ﷺ كَوْنَهُ رَبًّا. والرَّبُّ هو الَّذِي يُرَبِّي المَرْبُوبَ ويَقُومُ بِإصْلاحِ مُهِمّاتِهِ ودَفْعِ حاجاتِهِ عَلى مِقْدارِ الصَّلاحِ والصَّوابِ فَيُوَسِّعُ الرِّزْقَ عَلى البَعْضِ ويُضَيِّقُهُ عَلى البَعْضِ. والقَدْرُ في اللُّغَةِ التَّضْيِيقُ، ومِنهُ قَوْلُهُ تَعالى: ﴿ومَن قُدِرَ عَلَيْهِ رِزْقُهُ﴾ [الطلاق: ٧] وقَوْلُهُ تَعالى: ﴿وأمّا إذا ما ابْتَلاهُ فَقَدَرَ عَلَيْهِ رِزْقَهُ﴾ [الفجر: ١٦] أيْ: ضَيَّقَ وإنَّما وسَّعَ عَلى البَعْضِ لِأنَّ ذَلِكَ هو الصَّلاحُ لَهم قالَ تَعالى: ﴿ولَوْ بَسَطَ اللَّهُ الرِّزْقَ لِعِبادِهِ لَبَغَوْا في الأرْضِ ولَكِنْ يُنَزِّلُ بِقَدَرٍ ما يَشاءُ﴾ [الشورى: ٢٧]
ثُمَّ قالَ تَعالى: ﴿إنَّهُ كانَ بِعِبادِهِ خَبِيرًا بَصِيرًا﴾ يَعْنِي أنَّهُ تَعالى عالِمٌ بِأنَّ مَصْلَحَةَ كُلِّ إنْسانٍ في أنْ لا يُعْطِيَهُ إلّا ذَلِكَ القَدْرَ، فالتَّفاوُتُ في أرْزاقِ العِبادِ لَيْسَ لِأجْلِ البُخْلِ، بَلْ لِأجْلِ رِعايَةِ المَصالِحِ كم قال الرازي رحمه الله.

ما مناسبة الحديث عن النهي عن قتل الأولاد بعد الحديث عن النفقة؟

ذكر الرازي عدة وجوه للنظم كما يسميها نسوقها كما هي من كتابه:

الوَجْهُ الأوَّلُ: أنَّهُ تَعالى لَمّا بَيَّنَ في الآيَةِ الأُولى أنَّهُ هو المُتَكَفِّلُ بِأرْزاقِ العِبادِ حَيْثُ قالَ: ﴿إنَّ رَبَّكَ يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَن يَشاءُ ويَقْدِرُ﴾ أتْبَعَهُ بِقَوْلِهِ: ﴿ولا تَقْتُلُوا أوْلادَكم خَشْيَةَ إمْلاقٍ نَحْنُ نَرْزُقُهم وإيّاكُمْ﴾ .
الوَجْهُ الثّانِي: أنَّهُ تَعالى لَمّا عَلَّمَ كَيْفِيَّةَ البِرِّ بِالوالِدَيْنِ في الآيَةِ المُتَقَدِّمَةِ عَلَّمَ في هَذِهِ الآيَةِ كَيْفِيَّةَ البِرِّ بِالأوْلادِ، ولِهَذا قالَ بَعْضُهم: إنَّ الَّذِينَ يُسَمَّوْنَ بِالأبْرارِ إنَّما سُمُّوا بِذَلِكَ لِأنَّهم بَرُّوا الآباءَ والأبْناءَ وإنَّما وجَبَ بِرُّ الآباءِ مُكافَأةً عَلى ما صَدَرَ مِنهُما مِن أنْواعِ البِرِّ بِالأوْلادِ. وإنَّما وجَبَ البِرُّ بِالأوْلادِ لِأنَّهم في غايَةِ الضَّعْفِ ولا كافِلَ لَهم غَيْرُ الوالِدَيْنِ.
الوَجْهُ الثّالِثُ: أنَّ امْتِناعَ الأوْلادِ مِنَ البِرِّ بِالآباءِ يُوجِبُ خَرابَ العالَمِ، لِأنَّ الآباءَ إذا عَلِمُوا ذَلِكَ قَلَّتْ رَغْبَتُهم في تَرْبِيَةِ الأوْلادِ، فَيَلْزَمُ خَرابُ العالَمِ مِنَ الوَجْهِ الَّذِي قَرَّرْناهُ، فَثَبَتَ أنَّ عِمارَةَ العالَمِ إنَّما تَحْصُلُ إذا حَصَلَتِ المَبَرَّةُ بَيْنَ الآباءِ والأوْلادِ مِنَ الجانِبَيْنِ.
الوَجْهُ الرّابِعُ: أنَّ قَتْلَ الأوْلادِ إنْ كانَ لِخَوْفِ الفَقْرِ فَهو سُوءُ ظَنٍّ بِاللَّهِ، وإنْ كانَ لِأجْلِ الغَيْرَةِ عَلى البَناتِ فَهو سَعْيٌ في تَخْرِيبِ العالَمِ، فالأوَّلُ ضِدُّ التَّعْظِيمِ لِأمْرِ اللَّهِ تَعالى، والثّانِي ضِدُّ الشَّفَقَةِ عَلى خَلْقِ اللَّهِ تَعالى وكِلاهُما مَذْمُومٌ. واللَّهُ أعْلَمُ.
الوَجْهُ الخامِسُ: أنَّ قَرابَةَ الأوْلادِ قَرابَةُ الجُزْئِيَّةِ والبَعْضِيَّةِ، وهي مِن أعْظَمِ المُوجِباتِ لِلْمَحَبَّةِ. فَلَوْ لَمْ تَحْصُلِ المُحِبَّةُ دَلَّ ذَلِكَ عَلى غِلَظٍ شَدِيدٍ في الرُّوحِ، وقَسْوَةٍ في القَلْبِ، وذَلِكَ مِن أعْظَمِ الأخْلاقِ الذَّمِيمَةِ، فَرَغَّبَ اللَّهُ في الإحْسانِ إلى الأوْلادِ إزالَةً لِهَذِهِ الخَصْلَةِ الذَّمِيمَةِ.

ما مناسبة النهي عن قربان الزنى بعد الحديث عن قتل الأولاد؟

لأن الزنى يشبه قتل الولد، ففيه اختلاط الأنساب فلا يعرف الرجل ولد من هو ولا يقوم أحد بتربيته، وذلك يوجب ضياع الأولاد وانقطاع النسل، وهذا يؤدي إلى خراب العالم.

والزنا فيه مساوئ ومثالب لا تخفى على عاقل:

منها: اختلاط الأنساب كما ذكرنا

ومنها: لو لم تختص المرأة بأحد من الرجال لم يبق هناك إلا التواثب والتخاصم لأجل النساء، وهذا يفضي إلى باب الهرج والمرج والاعتداءات، وكم سمعنا وقوع القتل الذريع بسبب إقدام المرأة الواحدة على الزنا.

ومنها: أن المرأة إذا باشرت الزنا وتمرنت عليه يستقذرها كل صاحب طبع سليم، وحينئذ لا تحص المحبة والألفة ولا السكن والازدواج، فتصبح المرأة متعة عابرة.

ومنها: أنه إذا فتح باب الزنا لا يبقى اختصاص امرأة برجل، وحينها يمكن لكل رجل أن ينال من أي امرأة متى شاءت وأرادت، وحينها لا يبقى بين الإنسان والبهائم فرق.

ومنها: أن المقصود من المرأة ليس مجرد قضاء الشهوة، ولكن أن تكون شريكة له في تكوين أسرة وإعداد بيت ومحضن تربية، وهذه المهمات لا تكون إلا بانقطاعها إلى رجل واحد.

ومنها: أن الوطء يوجب الذل، لذلك كان السعي في تقليله موافقا للعقول فاقتصار المرأة الواحدة على رجل واحد يقلل من هذا ويجبره بالمنافع الحاصلة بالنكاح، بعكس الزنا فإنه يذهب الحياء والمروءة.

ما مناسبة ما تلاها من الوصايا؟

كل ما تلاها من الوصايا متسقة مع الفطرة و( الحكمة ) كما سماها الله في هذا المقطع فمنها:

صيانة مال اليتيم

الإيفاء بالعهد

إيفاء الكيل

وكلها في حقوق العباد مما لو شاع بين الناس انتظمت حياتهم ومعاشهم.

ما مناسبة الوصية بعدم قفو ما ليس للإنسان به علم؟

الوصايا الماضية كلها كانت في حقوق الآخرين في أنفسهم وأموالهم، ثم جاءت هذه الوصية لتنبه الإنسان على صيانة نفسه، صيانة حواسه ( السمع والبصر ) وصيانة فؤاده أي ما تتعلق به النفس، صيانة هذه الطاقة النفسية والذهنية أن تصرف فيما لا ينفع، واستعمل لفظة الفؤاد بدل القلب لأنها تدل على التفؤد والاحتراق كما قال ابن فارس في مقاييس اللغة: (الْفَاءُ وَالْأَلِفُ وَالدَّالُ هَذَا أَصْلٌ صَحِيحٌ يَدُلُّ عَلَى حُمَّى وَشِدَّةِ حَرَارَةٍ. مِنْ ذَلِكَ: فَأَدْتُ اللَّحْمَ: شَوَيْتُهُ. وَهَذَا فَئِيدٌ، أَيْ مَشْوِيٌّ. وَالْمِفْأَدُ: السَّفُودُ. وَالْمُفْتَأَدُ: الْمَوْضِعُ يُشْوَى فِيهِ. قَالَ:

كَأَنَّهُ خَارِجًا مِنْ جَنْبِ صَفْحَتِهِ … سَفُودُ شَرْبٌ نَسُوهُ عِنْدَ مُفْتَأَدِ

وَمِمَّا هُوَ مِنْ قِيَاسِ الْبَابِ عِنْدَنَا: ‌الْفُؤَادُ، سُمِّيَ بِذَلِكَ لِحَرَارَتِهِ. وَالْفَأْدُ: مَصْدَرُ فَأَدْتُهُ، إِذَا أَصَبْتَ ‌فُؤَادَهُ. وَيَقُولُونَ: فَأَدْتُ الْمَلَّةَ، إِذَا مَلَلْتُهَا) فكأن القلب يتحرق شوقا في حرارة لأجل التشوف إلى ما ليس له به علم، فنهى الله عز وجل عن ذلك، فهو أدب في الخلق، وإصلاح للعقل ويعلم الأمة أن تفرق بين العلم والظن، ويدعوها إلى التبين بدل الوقوع في أضرار ومهالك جراء الاستناد إلى أدلة موهومة.

ويدخل في ذلك الكذب وشهادة الزور والقول بغير علم، والتخرص بما ليس له فيه علم.

ما هي المعاني التي ينتهي إليها التذييل بقوله تعالى: كل أولئك كان عنه مسؤولا؟

التذييل هنا جاء للتعليل، فكأنه نهى الإنسان عن تتبع الظنون والأوهام

ما مناسبة ختم الصفات بالنهي عن المشي في الأرض مرحا؟

يقول ابن فارس في المعجم ( ‌‌(‌مَرِحَ) الْمِيمُ وَالرَّاءُ وَالْحَاءُ أَصْلٌ يَدُلُّ عَلَى مَسَرَّةٍ لَا يَكَادُ يَسْتَقِرُّ مَعَهَا طَرَبًا ) والمراد بالنهي التكبر، فإن المرح علامة ظاهرة لشعور في القلب ألا وهو التكبر، وكما علل في الآية السابقة النهي عن التكبر بالرجوع، علل هنا النهي عن التكبر بأن هذا المتكبر السعيد بما هو فيه من القوة، لن يستطيع أن يخرق الأرض التي يمشي عليها لشدتها وصلابتها ولن يستطيع أن يبلغ الجبال طولا لضآلة حجمه، فليس هناك أي داع لمثل هذا المشي المرح في الأرض.

والتكبر رأس الكفر وسببه الأول، وهو يصد صاحبه عن اتباع الحق وعن الرأفة بالخلق.

ما مناسبة الحديث عن الوحي والحكمة في آخر آية في المقطع؟

وصف ما سبق بأنه وحي وأنه حكمة للإغراء بالاستمساك بما فيها، فوصفها بأنها وحي إعلاء لشأنها باعتبار أنها نازلة من الله لن يستطيع الناس أن يأتوا بمثلها لولا فضل الله عليهم بإنزال الوحي، وأما وصفها بالحكمة فللتنبيه على الخير الكثير والسداد الذي تحويه هذه الأحكام.

 

Map Shot 1

 

Map Shot 2

 

Map Shot 3

 

Map Shot 4

( الهدى والضلال في ظلال القرآن )

جميع الحقوق متاحة للمسلمين دون اشتراط ذكر المصدر © 2023 7a9ad.com. All Rights Reserved