(مثال عن الزيفين السابقين)

وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا مُوسَى بِآيَاتِنَا إِلَى فِرْعَوْنَ وَمَلَئِهِ فَقَالَ إِنِّي رَسُولُ رَبِّ الْعَالَمِينَ (46) فَلَمَّا جَاءَهُمْ بِآيَاتِنَا إِذَا هُمْ مِنْهَا يَضْحَكُونَ (47)وَمَا نُرِيهِمْ مِنْ آيَةٍ إِلَّا هِيَ أَكْبَرُ مِنْ أُخْتِهَا وَأَخَذْنَاهُمْ بِالْعَذَابِ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ (48) وَقَالُوا يَاأَيُّهَ السَّاحِرُ ادْعُ لَنَا رَبَّكَ بِمَا عَهِدَ عِنْدَكَ إِنَّنَا لَمُهْتَدُونَ (49) فَلَمَّا كَشَفْنَا عَنْهُمُ الْعَذَابَ إِذَا هُمْ يَنْكُثُونَ (50) وَنَادَى فِرْعَوْنُ فِي قَوْمِهِ قَالَ يَاقَوْمِ أَلَيْسَ لِي مُلْكُ مِصْرَ وَهَذِهِ الْأَنْهَارُ تَجْرِي مِنْ تَحْتِي أَفَلَا تُبْصِرُونَ (51) أَمْ أَنَا خَيْرٌ مِنْ هَذَا الَّذِي هُوَ مَهِينٌ وَلَا يَكَادُ يُبِينُ (52) فَلَوْلَا أُلْقِيَ عَلَيْهِ أَسْوِرَةٌ مِنْ ذَهَبٍ أَوْ جَاءَ مَعَهُ الْمَلَائِكَةُ مُقْتَرِنِينَ (53) فَاسْتَخَفَّ قَوْمَهُ فَأَطَاعُوهُ إِنَّهُمْ كَانُوا قَوْمًا فَاسِقِينَ (54) فَلَمَّا آسَفُونَا انْتَقَمْنَا مِنْهُمْ فَأَغْرَقْنَاهُمْ أَجْمَعِينَ (55) فَجَعَلْنَاهُمْ سَلَفًا وَمَثَلًا لِلْآخِرِينَ (56)


ما هو مقصد هذا المقطع وما هي مناسبته لمقصد السورة وللمقطع السابق وما هي الرسالة التي يحملها؟

بعد أن ذكر الله في المقطعين السابقين نوعين من أنواع الأوهام التي يتعلق بها أهل الباطل، ويصدون بها عن سبيل الله، أتبعها بذكر مثال يعرفونه عن حالة جمعت بين هذين الزيفين، ألا وهي حالة فرعون وقومه:

فأما فرعون فخدع نفسه بما يملك من الجاه والسلطان والمال واستدل بذلك على أنه على حق وأن موسى عليه السلام بما كان عليه من ضعف على باطل.

ونتيجة لهذا استخف قومه فأطاعوه، فكان قرينهم الذي سلطه الله عليهم بسبب إعراضهم عن موسى والحق الذي معه، وكانوا هم قرناء بعضهم الذين تسلوا بسلوكهم جميعا لطريق الباطل، وجمعت القصة هكذا بين المعاني التي سبقت في المقطعين.

ثم ذكرت الآيات النهاية الوخيمة التي أصابتهم بسبب إعراضهم وكفرهم.

وقد عرجت الآيات على بعض المعاني التي تخدم الموضوع والمقصد، وطوت ذكر ما دون ذلك من قصة فرعون مع موسى مما لا يخدم قصة السورة ومقصدها، فذكرت كثرة الآيات التي جاءتهم والعذاب الذي نزل عليهم لعلهم يتبعوا موسى، وفعلا بدت هذه الآيات تؤتي أكلها وبدأ القوم يستجيبون لموسى فطلبوا منه أن يكشف عنهم العذاب ونادوه نداء تعظيم ( يا أيها الساحر ) وأقبلوا عليه وبدأ التغيير يدب في نفوسهم خاصة بعد أن دعا موسى ربه فكشف عنهم العذاب فدخلوا من عتبة الإيمان، وهنا بدأ فرعون يستشعر الخطر وبدأ التلبيس على قومه بما سبق ذكره، وتأمل كلمة ( في قومه ) وهذا معناه أنه بعث بهذه الرسالة إلى كل تجمع في أرض مصر، بعث بها مع حاشيته ليغري الناس بهؤلاء الأقران، وناداهم بجملة أولها تلطف ( يا قومِ ) وآخرها خشونة ( أفلا تبصرون )، وتلتها كلمات مليئة بالغضب والحرقة والغيظ والكذب على موسى عليه السلام ( مهين – لا يكاد يبين )، بعد أن كاد أن يوقظ الناس ويسلب منه ملكه.

ثم جاءت سلسلة من الجمل مرتبطة ببعضها بفاء التعقيب ارتباطا وثيقا تمسك بها كل جملة بالتي بعدها، ابتدأت باستخفاف فرعون لقومه ثم طاعتهم إياه ثم انتقام الله عز وجل منهم أجمعين، لا فرق بين فرعون وزبانيته وبين من أطاعهم، ولا بين من كذب وبين من صدق الكذب، وإن انقياد الدهماء للصادين عن سبيل الله لا يعفيهم من المسؤولية ولا يجعلهم أقل عذابا منهم، ويبدو أن كلمة ( أجمعين ) التي انتهى بها المقطع موجهة نحو هؤلاء المخدوعين المنقادين بزيف الباطل لتقول لهم: إن ما أنتم فيه من ضعف واستسلام لا يعفيكم من العذاب وأنتم سواء في الجرم مع من يغلبونكم على أمركم وأن النجاة إنما تكون باتباع الحق لا بالانخداع بزيف الباطل، فإن من أبدع الضلالة ومن راجت عنده سواء عن الله.

وتأمل كيف تأتي الآيات مرة أخرى لتحكي قصة موسى عليه السلام مع المكذبين من قومه وتقتصر على ذلك، وما ذلك إلا لمناسبته لمحور السورة ومقصدها.

ما مناسبة مناداة فرعون في قومه بعد أن نكثوا ما عاهدوا عليه موسى عليه السلام؟

يشبه هذا أن يكون هناك طائفتان عند فرعون:

الطائفة الأولى: هم الزبانية والمرتبطون به في مصالحهم وهم الذين حملوا نداء فرعون، ومثل هؤلاء هم الشياطين القرناء الذين تحدثت عنهم الآيات ( نقيض له شيطانا فهو له قرين )

الطائفة الثانية: هم عموم الناس في عهده وهم الذين حملت لهم الرسالة، وهم التبع، وهم الذين لم يتبصروا في دينهم وإنما اتبعوا كل ناعق وهم الذي قالت عنهم الآيات ( ومن يعش عن ذكر الرحمن )

فالطائفة الأولى هي التي نكثت حل انكشاف العذاب عنهم، وهم المقصودون بقوله ( إذا هم ينكثون ) يعني يسارعون إلى نقض العهد، إلا أن الطائفة الثانية لم تسرع في نكث العهد وإنما اتبعت الطائفة الأولى حين حملوا عليهم وزينوا لهم الباطل، فجعلهم الله في العذاب سواء، وهم الذي توجه إليهم الخطاب في قوله ( أجمعين ) كما مر آنفا.

ما هي دلالة قول فرعون ( أو جاء معه الملائكة ) وهو لا يقر لموسى بالنبوة ؟

مر معنا سابقا أن الكفار قالوا ( لولا نزل هذا القرآن على رجل من القريتين عظيم ) يعنون من أهل الثراء، وهذا مثل قول فرعون ( أو جاء معه الملائكة مقترنين ) وأوجه ما قيل فيها أنها للسخرية منه، كأنه يقول: إذا كان هذا رسول الله إليكم فلماذا لا يلقى إليه أسورة مثل أساور الملوك، أو يأتي بالملائكة الذين يزعم أنهم من خلق ربه ليكونوا له عونا ونصيرا.

وبهذه الفاصلة ( ومثلا للآخرين ) تنتهي قصة موسى مؤذنية بنهاية السورة، كما انتهت مقدمتها بقوله جل وعلا ( مثل الأولين ). 

Map Shot 1

 

Map Shot 2

 

Map Shot 3

جميع الحقوق متاحة للمسلمين دون اشتراط ذكر المصدر © 2023 7a9ad.com. All Rights Reserved