(زيف الجدل العقيم)

 وَلَمَّا ضُرِبَ ابْنُ مَرْيَمَ مَثَلًا إِذَا قَوْمُكَ مِنْهُ يَصِدُّونَ (57) وَقَالُوا أَآلِهَتُنَا خَيْرٌ أَمْ هُوَ مَا ضَرَبُوهُ لَكَ إِلَّا جَدَلًا بَلْ هُمْ قَوْمٌ خَصِمُونَ (58) إِنْ هُوَ إِلَّا عَبْدٌ أَنْعَمْنَا عَلَيْهِ وَجَعَلْنَاهُ مَثَلًا لِبَنِي إِسْرَائِيلَ (59) وَلَوْ نَشَاءُ لَجَعَلْنَا مِنْكُمْ مَلَائِكَةً فِي الْأَرْضِ يَخْلُفُونَ (60)وَإِنَّهُ لَعِلْمٌ لِلسَّاعَةِ فَلَا تَمْتَرُنَّ بِهَا وَاتَّبِعُونِ هَذَا صِرَاطٌ مُسْتَقِيمٌ (61) وَلَا يَصُدَّنَّكُمُ الشَّيْطَانُ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُبِينٌ (62) وَلَمَّا جَاءَ عِيسَى بِالْبَيِّنَاتِ قَالَ قَدْ جِئْتُكُمْ بِالْحِكْمَةِ وَلِأُبَيِّنَ لَكُمْ بَعْضَ الَّذِي تَخْتَلِفُونَ فِيهِ فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَطِيعُونِ (63) إِنَّ اللَّهَ هُوَ رَبِّي وَرَبُّكُمْ فَاعْبُدُوهُ هَذَا صِرَاطٌ مُسْتَقِيمٌ (64) فَاخْتَلَفَ الْأَحْزَابُ مِنْ بَيْنِهِمْ فَوَيْلٌ لِلَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْ عَذَابِ يَوْمٍ أَلِيمٍ (65)


ما هو مقصد هذا المقطع وما هي مناسبته لمقصد السورة وما هي الرسالة التي يحملها؟

هذا المقطع يشبه أن يكون استكمالا لما بدأ في أول السورة في الحديث عن زيوف الشرك، وهذا المقطع يتألف من مقطعين جزئيين:

الأول: قسم يتناول مسألة موقفهم من ضربه مثلا عليه السلام، وخصامهم في أمره لأجل المخاصمة فقط لا لأجل شبهة وذلك من قوله ( ولما ضرب ابن مريم مثلا .. ) 

الثاني: ذكر فيه خبر بعثه وطرفا مما جرى بينه وبين بني إسرائيل، وذلك من قوله ( ولما جاء عيسى بالبينات .. )

وكلا القسمان محددان متميزان، وكل منهما أصل في بابه، وهذا المقطع جمع في قصة واحدة – هي قصة عيسى عليه السلام – حديثا عن المشركين وعن بني إسرائيل، فجاء المقطع الأول استكمالا للحديث عن الشرك وخاصة الملائكة، وجاء القسم الثاني استكمالا لضرب الأمثال ( وكم أرسلنا من نبي في الأولين )، وربما كان مجيء هذين المقطعين يحمل دلالة في الربط بين حال المشركين اليوم وما هم عليه، وبين موقف بني إسرائيل من عيسى عليه السلام، وكأن الآيات تعرض بموقفهم من النبي صلى الله عليه وسلم وتحذرهم من أن يكون موقفهم منه صلى الله عليه وسلم مشابها لموقف بني إسرائيل من عيسى عليه السلام، لئلا تكون عاقبتهم مشابهة لعاقبتهم.

ما هو المثل المضروب في قوله تعالى: ( ولما ضرب ابن مريم مثلا )؟

أول آيتين في هذا المقطع تتحدث عن مغالطات ذكرها القوم جدلا وخصومة ولجاجة، وإذ لم تذكر الآيات الشيء الذي جعلوه مثلا لعيسى عليه السلام، أي الشيء الذي شبهوا عيسى به، ولم تذكر من ضرب المثل، وهذا الإغفال له معنى ودلالة: وهو فيما يظهر لنا التركيز على ثلاثة أمور ذكرتها الآيتان:

الأولى: إحدى مغالطاتهم المنطقية وهي: الصياح والصخب في التشغيب على الحق لإيهام العامة بانتصارهم ( إذا قومك منه يصدون )

الثاني: الهدف الذي ضرب له هذا المثل ( ما ضربوه لك إلا جدلا )، إذ كان هدفهم مجرد الخصومة والجدال، لا التبين والبحث عن الحق نتيجة لشبهة عرضت عليهم.

الثالث:التركيز على صفتهم التي التصقت بهم وصارت لهم ديدنا ومعرفا ( بل هم قوم خصمون ).

فالكلام يقتضي أنهم شبهوا عيسى بشيء لم تذكره الآية،  فمن هنا اختلف المفسرون في ذكر هذا المثل وفي ذكر الضارب، ولو أننا مددنا النظر قليلا إلى الآية التي بعدها لظهر لنا ذلك في أولها في قوله ( وقالوا أآلهتنا خير أم هو )، إذ أن محاولة فهم الآيات منعزلة ستؤدي ولا شك إلى نتائج بعيدة، والعبارة في قولهم ( أآلهتنا خير أم هو ) تحتمل معنيان رجح عندنا منهما: أنهم يقولون بأن الملائكة خير من المسيح عليه السلام، وقالوا: إذا كانت النصارى قد عبدت عيسى فنحن خير منهم، إذ أن الملائكة خير من عيسى عليه السلام، فهو قد ولد بغير أب والملائكة لا أب لهم ولا أم، وهذا الذي اخترناه هو الراجح من السياق، والسياق من أقوى المرجحات على اختيار المعاني، والآيات التالية لهذا الكلام مباشرة ترجح اختيارنا لهذا المعنى إذ أنها ذكرت ردودا على شبهاتهم تناسب تماما ما اخترناه من معان، كما أن الآية نفسها تذكر ضارب المثل وذلك في قوله ( ما ضربوه ) فذكرت أن الضارب هم قوم النبي صلى الله عليه وسلم الذي سبقت الإشارة إليهم في قوله ( قومك ).

ما مناسبة الآيات من قوله ( إن هو إلا عبد .. إنه لكم عدو مبين )؟

هذه ثلاثة آيات في الرد على الشبهة التي أثاروها سابقا:

الآية الأولى: ذكرت صفات عيسى عليه السلام وذكرت منها ثلاث صفات ( عبد، أنعمنا عليه، جعلناه مثلا ) فأما الأولى: فأكدت على معنى عبودتيه لله جل وعلا وأن ولادته من غير أب ليس مبررا لاتخاذه إلها ولا مستلزما له ولا ارتباط بين الأمرين أبدا، وأما الثانية: فتذكر أن ما أوتيه عيسى عليه السلام من النبوة والمعجزات والكرامة كان نعمة أنعمها عليه الله عز وجل وليس مستلزما لألوهيته عليه السلام، وأما الثالثة: فتذكر كونه مثلا لبني إسرائيل، مثلا يحتذى في التوحيد وفهم التوراة وبيانها وتجديد ما جاء به موسى عليه السلام، وفيها أيضا إشارة إلى كلمة المثل التي ذكرت في بداية المقطع ( جعلناه مثلا ) فإن المثل الذي ضربه لك قومك، هو مثل، لكنه مثل في التوحيد والحكمة.  

والغرض من سياق هذه الصفات، الرد على المثال الذي ضربوه في بداية المقطع، والاستدلال الذي استدلوا به على باطلهم في عبادة الملائكة.

الآية الثانية: رد آخر على شبهاتهم في قولهم ( أآلهتنا خير أم هو )، وهنا ذكرت الآية عبارة تحتمل معنيين: الأول: لجعلنا بدلكم ملائكة في الأرض يخلفونكم، والثاني: لو شئنا لجعنا من اصلابكم ملائكة فتلد نساؤكم ملائكة بدل أن تلد أناسي، وهذه الآية تحمل رسالة مفادها: أن الملائكة خلق من خلق الله، وأن سكناهم حيث الملأ الأعلى والعرش لا يمنحهم شيئا من الألوهية، وأنه لو شاء لأسكنهم في الارض، وجعلهم بدلكم، ولوشاء لكان أبعد من ذلك ولاستخرجهم من أصلابكم، وأن من خلق عيسى من غير أب قادر عل أن يخلق الملائكة من أبوين ليسا من الملائكة، وكما أنه لا وجه لمن عبد عيسى لذلك، فلا وجه أيضا لمن عبد الملائكة لذلك.

الآية الثالثة: عاد الحديث فيها عن عيسى عليه السلام بعد أن انقطع الكلام لذكر الملائكة، وهذه الآية ذكرت أمرا وهو أن عيسى عليه السلام علم للساعة.

ما مناسبة الحديث عن كون عيسى علم للساعة هنا؟

هذه الآية تحمل في طياتها معنيين: الأول استمرار لما سبق من الحديث عن عيسى عليه السلام والرفع من شأنه وتكريمه، والثاني: تمهيد لما سيأتي من الحديث عن الساعة، وكأن المناسبة من هذا الجمع فيما يظهر لنا على سبيل الاجتهاد والظن لا على سبيل القطع فالله أعلم بمراده، هو ( الموعظة بالساعة ) فكأن الآيات تذكر هؤلاء المعاندين الغارقين في تناقضاتهم بيوم المعاد، وكفى بالساعة موعظة.

ومما يؤيد هذه المناسبة ما تلا كلمة ( الساعة ) ههنا من موعظة، قوله ( فلا تمترن بها واتبعون )، والجملة التي أتت بعدها على القطع والاستئناف ( هذا صراط مستقيم ) وكأن ما سبق صار من ثبوته كالشمس ماثلة للعيون، وقوله ( ولا يصدنكم الشيطان ) تأكيد لما سبق فإن الذي يصد عن هذا الصراط المستقيم ليس عقلا ولا تفكيرا منطقيا، وإنما هي تليسات عدو ظاهر العداوة، ونهي عن اتخاذ الشيطان قرينا يصدهم كما سبقت الإشارة إلى هذا ( وإنهم ليصدونهم عن السبيل ).

وفي هذا توجيه للدعاة أيما توجيه، إلى عدم الاكتفاء بمخاطبة العقول بالحجج فقط، وإنما مخاطبة القلوب والمشاعر بالحكمة والموعظة الحسنة، لتكون الموعظة رديفا للحجج العقلية في در الشبهات.

ما دلالة قطع الحديث عن عيسى عليه السلام للحديث عن الملائكة؟

نلاحظ أن الآيات الثلاثة التي ردت شبهات قريش توسطها آية الحديث عن الملائكة، وكان الحديث قبلها وبعدها عن عيسى عليه السلام، وهذه العودة معناها أن دخول الملائكة في هذا المثل ليس أولوية، وإنما الأهم كان ذكر عيسى عليه السلام، وأن الشأن الأكبر كان لذكره ودخلت الملائكة فرعا أو جزءا محدودا في المثل، وأن الأصل هو الحديث عن عبادة النصارى لعيسى عليه السلام، وليس عبادة الملائكة.

ما هي مناسبة ترتيب المقطعين؟

الظاهر أن الترتيب مناسب لأهمية الموضوعين، إذ أن المقطع الأول أبرز قضية جدلهم وخصومتهم دون دليل وبرهان، وهذا أنسب لمقصد السورة وموضوعها، فإن قريشا هم المخاطبون أصلا بهذا القرآن، ثم ناسب الأمر أن يذكر موقف بني إسرائيل من عيسى عليه السلام تعريضا بهم وتحذيرا لهم، فقدم المقطع الأول لما له من علاقة بمقصد السورة، 

Map Shot 1

 

Map Shot 2

 

Map Shot 3

جميع الحقوق متاحة للمسلمين دون اشتراط ذكر المصدر © 2023 7a9ad.com. All Rights Reserved