في التوحيد

(في التوحيد)

وَمَا خَلَقْنَا السَّمَاءَ وَالْأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا لَاعِبِينَ ﴿۱٦﴾ لَوْ أَرَدْنَا أَنْ نَتَّخِذَ لَهْوًا لَاتَّخَذْنَاهُ مِنْ لَدُنَّا إِنْ كُنَّا فَاعِلِينَ ﴿۱٧﴾ بَلْ نَقْذِفُ بِالْحَقِّ عَلَى الْبَاطِلِ فَيَدْمَغُهُ فَإِذَا هُوَ زَاهِقٌ ۚ وَلَكُمُ الْوَيْلُ مِمَّا تَصِفُونَ ﴿۱۸﴾ وَلَهُ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ ۚ وَمَنْ عِنْدَهُ لَا يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِهِ وَلَا يَسْتَحْسِرُونَ ﴿۱۹﴾ يُسَبِّحُونَ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ لَا يَفْتُرُونَ ﴿۲۰﴾ أَمِ اتَّخَذُوا آلِهَةً مِنَ الْأَرْضِ هُمْ يُنْشِرُونَ ﴿۲۱﴾ لَوْ كَانَ فِيهِمَا آلِهَةٌ إِلَّا اللَّهُ لَفَسَدَتَا ۚ فَسُبْحَانَ اللَّهِ رَبِّ الْعَرْشِ عَمَّا يَصِفُونَ ﴿۲۲﴾ لَا يُسْأَلُ عَمَّا يَفْعَلُ وَهُمْ يُسْأَلُونَ ﴿۲۳﴾ أَمِ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ آلِهَةً ۖ قُلْ هَاتُوا بُرْهَانَكُمْ ۖ هَٰذَا ذِكْرُ مَنْ مَعِيَ وَذِكْرُ مَنْ قَبْلِي ۗ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لَا يَعْلَمُونَ الْحَقَّ ۖ فَهُمْ مُعْرِضُونَ ﴿۲٤﴾ وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ إِلَّا نُوحِي إِلَيْهِ أَنَّهُ لَا إِلَٰهَ إِلَّا أَنَا فَاعْبُدُونِ ﴿۲٥﴾ وَقَالُوا اتَّخَذَ الرَّحْمَٰنُ وَلَدًا ۗ سُبْحَانَهُ ۚ بَلْ عِبَادٌ مُكْرَمُونَ ﴿۲٦﴾ لَا يَسْبِقُونَهُ بِالْقَوْلِ وَهُمْ بِأَمْرِهِ يَعْمَلُونَ ﴿۲٧﴾ يَعْلَمُ مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَمَا خَلْفَهُمْ وَلَا يَشْفَعُونَ إِلَّا لِمَنِ ارْتَضَىٰ وَهُمْ مِنْ خَشْيَتِهِ مُشْفِقُونَ ﴿۲۸﴾ وَمَنْ يَقُلْ مِنْهُمْ إِنِّي إِلَٰهٌ مِنْ دُونِهِ فَذَٰلِكَ نَجْزِيهِ جَهَنَّمَ ۚ كَذَٰلِكَ نَجْزِي الظَّالِمِينَ ﴿۲۹﴾ أَوَلَمْ يَرَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنَّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ كَانَتَا رَتْقًا فَفَتَقْنَاهُمَا ۖ وَجَعَلْنَا مِنَ الْمَاءِ كُلَّ شَيْءٍ حَيٍّ ۖ أَفَلَا يُؤْمِنُونَ ﴿۳۰﴾ وَجَعَلْنَا فِي الْأَرْضِ رَوَاسِيَ أَنْ تَمِيدَ بِهِمْ وَجَعَلْنَا فِيهَا فِجَاجًا سُبُلًا لَعَلَّهُمْ يَهْتَدُونَ ﴿۳۱﴾ وَجَعَلْنَا السَّمَاءَ سَقْفًا مَحْفُوظًا ۖ وَهُمْ عَنْ آيَاتِهَا مُعْرِضُونَ ﴿۳۲﴾ وَهُوَ الَّذِي خَلَقَ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ ۖ كُلٌّ فِي فَلَكٍ يَسْبَحُونَ ﴿۳۳

ما هو موضوع هذا الفصل؟ وما علاقته بالمقصد؟

الموضوع الأعظم في هذا الفصل هو التوحيد، ولا غرابة أن يأتي التوحيد ثاني فصل في هذه السورة، فإنه الأمر الذي اجتمعت الأنبياء جميعا على الدعوة إليه والمجيء به والتمسك به، ولم يقتصر الحديث هنا عن التوحيد فحسب بل خالط الحديث عن التوحيد، الحديث عن صدق النبي صلى الله عليه وسلم في رسالته، ولا عجب في ذلك فإن التصديق بالرسالة صنو الشهادة بالتوحيد، وجاء معها أيضا الاستدلال بخلق السموات والأرض على التوحيد كما سنرى.

والمتأمل في هذه الآيات يرى أنها تنفي الشريك عن الله تبارك في علاه مهما بلغت منزلة هذا المخلوق عنده جل وعلا، والتركيز ههنا على الملائكة واضح، وقد صرفت أوجه الكلام فيهم من عدة وجوه، وربما كان ذلك متناسبا مع اسم السورة إن قلنا أنه مشتق من جذر: نبو، فهؤلاء خلق عال متميز عن غيرهم فجاء نفي الشريك فيهم إشارة إلى نفي الشريك فيمن دونهم من باب أولى.

ما مناسبة البدء بقوله تعالى: وما خلقنا السماء والأرض؟

ابتدأ المقطع بثلاث آيات أوردت بعض الأدلة العقلية على الوحدانية، وهكذا القرآن يأتي ليحرك العقول وينبه الأفهام إلى بدهية التوحيد، وجاء هنا بنفي أن يكون الخلق سدى لا حساب فيه ولا جزاء، وأنه يستوي فيه البر والفاجر والعاصي والطائع، فإن الأمر لو كان هكذا لكان لعبا ولهوا لا فائدة منه، وقد جاء هذا المعنى في مواضع عدة من القرآن: كقوله تعالى: ﴿أفحسبتم أنما خلقناكم عبثا وأنكم إلينا لا ترجعون﴾ [المؤمنون: ١١٥] في آخر سورة المؤمنين، وقوله تعالى: ﴿وما خلقنا السماوات والأرض وما بينهما إلا بالحق وإن الساعة لآتية فاصفح الصفح الجميل﴾ [الحجر: ٨٥] آخر الحجر، وقوله تعالى ﴿إن الذين يضلون عن سبيل الله لهم عذاب شديد بما نسوا يوم الحساب﴾ [ص: ٢٦] ﴿وما خلقنا السماء والأرض وما بينهما باطلا ذلك ظن الذين كفروا فويل للذين كفروا من النار﴾ [ص: ٢٧] ﴿أم نجعل الذين آمنوا وعملوا الصالحات كالمفسدين في الأرض أم نجعل المتقين كالفجار﴾ [ص: ٢٨] في سورة ”ص“، وقوله تعالى: ﴿أهم خير أم قوم تبع والذين من قبلهم أهلكناهم إنهم كانوا مجرمين﴾ [الدخان: ٣٧] ﴿وما خلقنا السماوات والأرض وما بينهما لاعبين﴾ [الدخان: ٣٨] ﴿ما خلقناهما إلا بالحق ولكن أكثرهم لا يعلمون﴾ [الدخان: ٣٩] ﴿إن يوم الفصل ميقاتهم أجمعين﴾ [الدخان: ٤٠] في سورة الدخان، وقوله تعالى: ﴿ما خلقنا السماوات والأرض وما بينهما إلا بالحق وأجل مسمى والذين كفروا عما أنذروا معرضون﴾ [الأحقاف: ٣] في سورة الأحقاف إلى غير هذه الآيات.

واللعب: العمل أو القول الذي لا يقصد به تحصيل فائدة من مصلحة أو دفع مفسدة، ولا تحصيل نفع أو دفع ضر، وإنما يقصد به إرضاء النفس حين تميل إلى العبث كما قيل: لا بد للعاقل من حمقة يعيش بها. ويرادفه العبث واللهو، وضده: الجد. واللعب من الباطل؛ إذ ليس في عمله حكمة فضده الحق أيضا.

وأما الآية الثانية فجاء لتؤكد مدلول الجملة الأولى بدليل آخر، فإن من أراد أن يتخذ لهوا فالأولى أن يكون هذا اللهو من جنس الآلهة وليس من جنس الملائكة أو البشر.

وأما الآية الثالثة فجاءت بعد الإضراب ببل، والمعنى: أن شأننا أن نبين الحق ونظهره ونكسر به الباطل الأجوف الفارغ كراهية له، فكيف تدعون أننا نفعل مثل هذا باطلا؟

وختمت هذه الآيات الثلاث بالتهديد بالويل لأجل هذه الادعاءات.

ما مناسبة الآيتين بعدها: وله من في السموات .. إلى قوله: لا يفترون؟

هذا من تنويع الكلام في بيان مظهر آخر من مظاهر الربوبية، وهو تأكيد للمعنى السابق تماما، فإنه لما نفى اتخاذ اللهو من غير جنسه جل وعلا، أكد عنا أن هذه المخلوقات ليست سوى ملك من ملكه جل وعلا، وحاشا للعبيد والمملوكين أن يكونوا شركاء.

بل إن أعلى هؤلاء المماليك وهم الملائكة لا يخطر ببالهم تكبر عن عباده أو تعب منها، ثم إن سائلا يسأل: فيم يمكن أن يتعبوا؟ فتأتي الآية التالية لتجيب: من تسبيحهم ليل نهار عليهم السلام.

ما مناسبة الآيات الثلاث بعدها؟

قوله تعالى: (أم اتخذوا آلهة من الأرض هم ينشرون) يبتدأ بأم، وأم هذه منقطعة عطفت جملة على جملة عطف إضراب انتقالي، أي أن المعنى انتقل من وجه من أوجه ربوبيته إلى وجه آخر، بل واتخذ العرض هنا طريقة أخرى، وهي سؤالهم عن النشور، سؤال مشوب بالتهكم بهم، فكأن الآية تقول لهم: هل عبدتم تلك الآلهة لأنها تخرج الموتى من القبور؟

وجملة (من الأرض) زيادة في التهكم بهم، وهي عطف على قوله آنفا (ومن عنده) أي في السماء، فكأنه تقول لهم: أجعلتم من عالم الأرض آلهة لكم، أو من جنس الأرض كالحجارة والخشب آلهة لكم، في حين أن من في السماء يسبحون في كل وقت وحين لا يفترون؟ فيا لفساد رأيكم وبطلان مذهبكم.

أما الآية التي بعدها ففصلت ولم تعطف لأنها مبينة للإنكار الذي في قوله تعالى (أم اتخذوا آلهة من الأرض هم ينشرون)، وهي مستمرة في سياق إنكار تصرف أحد مع الله عز وجل في ملكه، أو اتخاذه شريكا له.

وهي من قبيل قوله تعالى ( وما كان معه من إله إذا لذهب كل إله بما خلق ولعلا بعضهم على بعض) في سورة المؤمنون.

وفرع على هذا الاستدلال: تنزيه الله عز وجل في قوله ( فسبحان)، و إظهار وصف الجلالة في مقام الإضمار لتربية المهابة، فإنه كان يكفي قوله: فسبحانه، إلا أن لفظ الجلالة أظهر لأجل تربية المهابة.

وصف بأنه ذو العرش جل وعلا زيادة في بيان عظمته وتعاليه، فإن العروش لا تكون إلا للملوك المقتدرين، خاصة مع عظم عرشه من بين مخلوقاته.

ثم جاء الآية الثالثة لتكمل المعنى في قوله تعالى: (يسبحون الليل والنهار لا يفترون)، والمعنى: أن الفرق بين الرب جل وعلا وبين عباده المقربين من هؤلاء الملائكة: أنه جل وعلا لا يحاسب على أفعاله ولا يطلب منه أحد بيان سبب الفعل أو إبداء المعذرة أو رفع الملام أو العتاب عن بعض ما يفعل، بخلاف غيره من المخلوقات التي يسأل أكرمها وأجلها عنده عن فعلهم بدليل دوامهم على التسبيح في كل حين.

ما مناسبة قوله تعالى: أم اتخذوا من دونه آلهة؟

هذه الجملة: أم اتخذوا من دونه آلهة: مؤكدة لجملة أم اتخذوا آلهة من الأرض هم ينشرون، وخارجة من رحمها، وأكد الإضراب الانتقالي هنا بمثله استعظاما لشناعة هذا الفعل وهو اتخاذ آلهة سوى الله.

وانتقل هنا من الاستدلال العقلي: بحتمية الفساد في حال تعدد الآلهة، إلى طلب دليل نقلي: من كتب السابقين، فكأنها تقول للمشركين: ها هي كتب الذكر الدينية في متناول الناس، فانظروا هل تجدون في أحد منها أن لله شركاء، وأن الله قد أذن باتخاذهم آلهة.

أو أن يكون المعنى: هذا ذكر من معي من الموافقين والمخالفين، ومن قبلي من الأنبياء مع من وافقهم وخالفهم، فاختاروا لأنفسكم أحد الطرفين، وكل ما سبق لإفادة التهديد.

وكرر الذكر لأجل بيان الفرق بين القرآن وبين غيره من الكتب السابقة.

وجاءت بل هنا: لتضرب عن هذا الاستدلال بأنه استدلال مضيع فيهم، ولتقول للنبي صلى الله عليه وسلم: لا ترج منهم اعترافا ببطلان شركهم لا بدليل عقلي ولا بدليل نقلي فإن أكثرهم لا يبحثون عن الحق ولا يتطلبون علمه، فهم معرضون عن الأدلة التي تدعوهم أنت إلى معرفتها والنظر فيها.

وجاء ذكر الأكثر عنا: إما لبيان أن بعضهم اجتهد في البحث عن الحق وعلمه ولكنه أنكره وجحده، أو للإيماء إلى أن قليلا منهم تهيأت نفوسهم إلى قبول الحق وهي قاب قوسين أو أدنى من الدخول في دين الله .

ما مناسبة قوله تعالى بعدها: وما أرسلا من قبلك من رسول .. الآية؟

هذه هي واسطة العقد في هذا الفصل، وإليه ترجع كل المعاني السابقة واللاحقة فيه، وهو خارج من رحم قوله: هذا ذكري وذكر من معي: فكأنه إعلان لما في القرآن وما في الكتب من قبله من التوحيد، هذه الكتب النازلة على المرسلين جميعا صلى الله عليهم وسلم.

وهي في محل التقرير لكل ما سبق من الحديث عن التوحيد.

ما مناسبة الآيات التي بعدها؟

جاءت بعد هذه الآية أربع آيات في نفس السياق السابق، وهو نفي أي شريك متصرف مع الله عز وجل مهما بلغت منزلته، وافتتح الكلام بذكر مقالتهم من باب التشنيع والرد عليها، وبيان أوجه بطلان أن تكون الملائكة أولادا لله جل وعلا، وبين وفصل مرة أخرى في أوجه ألوهيته وتعبيد الملائكة له مع إكرامه إياهم، وهذه الوجوه:

الأول: لا يسبقونه بالقول: أي لا يتكلمون قبله، وهو كناية عن التعظيم والتوقير

الثاني: يعلم ما بين أيديهم وما خلفهم:

الثالث: لا يشفعون إلا لمن ارتضى: أي لمن رضي الله عنه وأراد به الشفاعة، فالله يختار من تناله الشفاعة ثم يأذن لهم بها أظهارا لكرامتهم عند الله أو استجابة لاستغفارهم لمن في الأرض.

الرابع: أنهم من خشيته مشفقون: والخشية خوف مع تعظيم ومهابة فالخوف فيه حركة والخشية انجماع وانقباض وسكون، فإن من خاف شيئا هرب منه ومن خشي شيئا سكن إلى مكان لا يصل إليه عدوه فيه، والإشفاق خوف مع اعتناء وتلطف ويعدى بمن كما يعدى الخوف، ويعدى بعلى بمعنى الحنو والعطف.

وإياك أن تمر على كلمة (الظالمين) هنا دون أن تقفز إلى ذهنك صورة الهاربين من قراهم التي تهلك وهم يقولون (يا ويلنا إنا كنا ظالمين)

ما مناسبة الآيات التالية؟

لا تكاد تمر على نقاش مع المشركين المكذبين إلا ويمر عليك الإشارة إلى الآيات الكونية في الحجاج معهم، وقد جاء الحديث هنا مصرفا:

فمن فتق السموات والأرض

إلى خل الأحياء من الماء

إلى الآيات التي في السماء بعد جعلها سقفا محفوظا

إلى خلق الليل والنهار

إلى انتظام سير الشمس والقمر.

Map Shot 1

 

Map Shot 2

 

Map Shot 3

جميع الحقوق متاحة للمسلمين دون اشتراط ذكر المصدر © 2023 7a9ad.com. All Rights Reserved