في التوحيد .. ليذكروا
(في التوحيد .. ليذكروا)
أَفَأَصْفَاكُمْ رَبُّكُمْ بِالْبَنِينَ وَاتَّخَذَ مِنَ الْمَلَائِكَةِ إِنَاثًا إِنَّكُمْ لَتَقُولُونَ قَوْلًا عَظِيمًا (40) وَلَقَدْ صَرَّفْنَا فِي هَذَا الْقُرْآنِ لِيَذَّكَّرُوا وَمَا يَزِيدُهُمْ إِلَّا نُفُورًا (41) قُلْ لَوْ كَانَ مَعَهُ آلِهَةٌ كَمَا يَقُولُونَ إِذًا لَابْتَغَوْا إِلَى ذِي الْعَرْشِ سَبِيلًا (42) سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَمَّا يَقُولُونَ عُلُوًّا كَبِيرًا (43) تُسَبِّحُ لَهُ السَّمَاوَاتُ السَّبْعُ وَالْأَرْضُ وَمَنْ فِيهِنَّ وَإِنْ مِنْ شَيْءٍ إِلَّا يُسَبِّحُ بِحَمْدِهِ وَلَكِنْ لَا تَفْقَهُونَ تَسْبِيحَهُمْ إِنَّهُ كَانَ حَلِيمًا غَفُورًا (44) وَإِذَا قَرَأْتَ الْقُرْآنَ جَعَلْنَا بَيْنَكَ وَبَيْنَ الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ حِجَابًا مَسْتُورًا (45) وَجَعَلْنَا عَلَى قُلُوبِهِمْ أَكِنَّةً أَنْ يَفْقَهُوهُ وَفِي آذَانِهِمْ وَقْرًا وَإِذَا ذَكَرْتَ رَبَّكَ فِي الْقُرْآنِ وَحْدَهُ وَلَّوْا عَلَى أَدْبَارِهِمْ نُفُورًا (46) نَحْنُ أَعْلَمُ بِمَا يَسْتَمِعُونَ بِهِ إِذْ يَسْتَمِعُونَ إِلَيْكَ وَإِذْ هُمْ نَجْوَى إِذْ يَقُولُ الظَّالِمُونَ إِنْ تَتَّبِعُونَ إِلَّا رَجُلًا مَسْحُورًا (47) انْظُرْ كَيْفَ ضَرَبُوا لَكَ الْأَمْثَالَ فَضَلُّوا فَلَا يَسْتَطِيعُونَ سَبِيلًا (48) وَقَالُوا أَإِذَا كُنَّا عِظَامًا وَرُفَاتًا أَإِنَّا لَمَبْعُوثُونَ خَلْقًا جَدِيدًا (49) قُلْ كُونُوا حِجَارَةً أَوْ حَدِيدًا (50) أَوْ خَلْقًا مِمَّا يَكْبُرُ فِي صُدُورِكُمْ فَسَيَقُولُونَ مَنْ يُعِيدُنَا قُلِ الَّذِي فَطَرَكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ فَسَيُنْغِضُونَ إِلَيْكَ رُءُوسَهُمْ وَيَقُولُونَ مَتَى هُوَ قُلْ عَسَى أَنْ يَكُونَ قَرِيبًا (51) يَوْمَ يَدْعُوكُمْ فَتَسْتَجِيبُونَ بِحَمْدِهِ وَتَظُنُّونَ إِنْ لَبِثْتُمْ إِلَّا قَلِيلًا (52) وَقُلْ لِعِبَادِي يَقُولُوا الَّتِي هِيَ أَحْسَنُ إِنَّ الشَّيْطَانَ يَنْزَغُ بَيْنَهُمْ إِنَّ الشَّيْطَانَ كَانَ لِلْإِنْسَانِ عَدُوًّا مُبِينًا (53) رَبُّكُمْ أَعْلَمُ بِكُمْ إِنْ يَشَأْ يَرْحَمْكُمْ أَوْ إِنْ يَشَأْ يُعَذِّبْكُمْ وَمَا أَرْسَلْنَاكَ عَلَيْهِمْ وَكِيلًا (54) وَرَبُّكَ أَعْلَمُ بِمَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَلَقَدْ فَضَّلْنَا بَعْضَ النَّبِيِّينَ عَلَى بَعْضٍ وَآتَيْنَا دَاوُودَ زَبُورًا (55) قُلِ ادْعُوا الَّذِينَ زَعَمْتُمْ مِنْ دُونِهِ فَلَا يَمْلِكُونَ كَشْفَ الضُّرِّ عَنْكُمْ وَلَا تَحْوِيلًا (56) أُولَئِكَ الَّذِينَ يَدْعُونَ يَبْتَغُونَ إِلَى رَبِّهِمُ الْوَسِيلَةَ أَيُّهُمْ أَقْرَبُ وَيَرْجُونَ رَحْمَتَهُ وَيَخَافُونَ عَذَابَهُ إِنَّ عَذَابَ رَبِّكَ كَانَ مَحْذُورًا (57) وَإِنْ مِنْ قَرْيَةٍ إِلَّا نَحْنُ مُهْلِكُوهَا قَبْلَ يَوْمِ الْقِيَامَةِ أَوْ مُعَذِّبُوهَا عَذَابًا شَدِيدًا كَانَ ذَلِكَ فِي الْكِتَابِ مَسْطُورًا (58( وَمَا مَنَعَنَا أَنْ نُرْسِلَ بِالْآيَاتِ إِلَّا أَنْ كَذَّبَ بِهَا الْأَوَّلُونَ وَآتَيْنَا ثَمُودَ النَّاقَةَ مُبْصِرَةً فَظَلَمُوا بِهَا وَمَا نُرْسِلُ بِالْآيَاتِ إِلَّا تَخْوِيفًا (59) وَإِذْ قُلْنَا لَكَ إِنَّ رَبَّكَ أَحَاطَ بِالنَّاسِ وَمَا جَعَلْنَا الرُّؤْيَا الَّتِي أَرَيْنَاكَ إِلَّا فِتْنَةً لِلنَّاسِ وَالشَّجَرَةَ الْمَلْعُونَةَ فِي الْقُرْآنِ وَنُخَوِّفُهُمْ فَمَا يَزِيدُهُمْ إِلَّا طُغْيَانًا كَبِيرًا (60)
ما موضوع هذا الفصل، وما هي مناسبته لمقصد السورة؟ وما مناسبته لما قبله من الفصول؟
ابتدأ المقطع السابق بالنهي عن الشرك، وانتهى بالنهي عن الشرك، ويستمر هذا المقطع بالحديث عن التوحيد ويسهب الكلام فيه، ويفصل بعد إجمال، وكأنه يشرح ما سبق من قوله تعالى ( لا تجعل مع الله إلها آخر )، بل يجمع أصول العقيدة في عشرين آية فحسب، كل هذا للتأكيد على أن التوحيد هو الأصل الذي تقوم عليه إمامة الأمة لهذه الأمم، وأنه السبب في استلامها لهذه الإمامة بعد بني إسرائيل، وأنه مناط الشرف والرفعة، وأنه هو مهمتها للتبليغ، فما كانت أمة الإسلام إمام الأمم إلا لحملها راية التوحيد ولتبليغه للناس كافة.
وقد جمع هذا المقطع معاني عديدة:
منها: نسبة البنات لله واتخاذه الملائكة إناثا.
ومنها: وجود شركاء ينازعونه السلطان، وبين عظمة الله وتسبيح خلقه له.
ومنها: إنكار الرسالة، ورد شبهاتهم حولها.
ومنها: إنكار البعث.
كما وتحدث عن الآيات وسبب عدم إرسالها وتحدث عن إهلاك القرى في خيط متصل بما قبله كما سيأتي بيانه.
وأما مناسبته لمقصد السورة فظاهر، فإن التوحيد من معاني السورة البارزة، ولا عجب: فهو الرسالة التي تحملها هذه الأمة إلى الأمم، وهي التي أهلتها لتكون إماما لهم، فعندما تفصل السورة في التوحيد وتسهب الكلام فيه، فكأنها تقول لنا: اعتنوا غاية العناية بالتوحيد فهو المبدأ والمنتهى.
ما مناسبة البداية في هذا المقطع؟
ابتدأ المقطع بنقاش فيه رد حجة على نقطتين زعمهما المشركون:
الأول: كون الملائكة إناثا.
الثاني: وجود شركاء لله يساوونه في القوة.
وقد رد القرآن على هاتين الشبهتين ردا علميا منطقيا، فرد الشبهة الأولى: بكون اتخاذ البنات – وهن أدنى في نظر المشركين – مما لا يليق بالله عز وجل، فإن الخالق لو أراد أن يتخذ ولدا لاصطفى مما يخلق ما يشاء، فكيف يصفي المشركين بالجنس الأعلى – بحسب زعمهم – ويتخذ الجنس الأدنى.
أما الشبهة الثانية: فيرد عليها بأنه لو كان معه شركاء لنازعوه الملك، ولصاروا هم الآلهة المتصرفة بالكون تعالى عما يقولون علوا كبيرا، فلما كان هو وحده المتصرف بالكون دل ذلك على أنه الإله الواحد الأحد لا ينازعه في ملكه أحد.
وبين هاتين الحجتين ذكر آية في غاية الأهمية، وهي التنبيه إلى تصريف المعاني في القرآن لأجل أن يتذكروا، وكأن هذه الآية تبين لك سبب تقليب الكلام عن التوحيد في هذه الآية، والتصريف هو صرف المعاني في عدة وجوه ومنه تصريف الرياح أي تقليبها في اتجاهات مختلفة، وكأن هذه الآية تصف بكل دقة الحديث عن التوحيد في هذا المقطع، فقد جاء الحديث هنا فعلا شاملا مقلبا للمعاني يرد شبهة هنا وشبهة هناك، ويبين حالا هنا وحالا هناك.
وقد نوهت الآية إلى مكان التصريف وهو القرآن: للتنبيه على الإقبال عليه لمن أراد التذكر.
وبينت سبب هذا التصريف: وهو التذكر، أي التنبه إلى معاني التوحيد بعد الغفلة والذهول عنها، إما بسبب النشأة على غير التوحيد أو الجحود أو اتباع الهوى أو تفضيل الحياة الدنيا إلى غير ذلك.
وحتى يكتمل المعنى ذيلت الآيات بالحديث عن موقفهم في مقابل هذا التصريف الذي لا يكاد يقف أمامه أحد، لم يزدهم هذا التصريف إلا نفورا، والنفور لا يكون إلا للوحشي من العجماوات، فكأنه أرادهم في ذلك،
ما هي المعاني التي ينتهي إليها وصف الله عز وجل هنا بأنه: ذي العرش؟
الوصف هنا بذي العرش لاستحضار جلالة الله عز وجل، وأنه الوحيد على عرشه، مجيد لا ينازعه في ملكه أحد، وذكر العلو بعد ذكر ذي العرش في أعلى مراتب البلاغة كما قال الآلوسي.
ما هي المعاني التي ينتهي إليها توسط الحديث عن التصريف في القرآن لهاتين الشبهتين؟
مجيء هذه الآية هنا فيه إشارة إلى ما قبلها وما بعدها، فكأنها قلب الآيات الثلاث، ففيهما تصريف لشبهات الكفار هؤلاء وتقليب لوجوهها ووجوه الرد عليها.
فكأن هذه الآية تقول لهم: قد أجبنا عن شبهاتكم بعدة وجوه وصرفناها لكم في القرآن فاسمعوا وعوا.
لكن ماذا كانت النتيجة: لم يزدهم القرآن إلا نفورا.
ما هي المعاني التي ينتهي إليها وصف إعراضهم بالنفور؟
أصل النفور هروب الحيوان الوحشي أو الدابة بجزع وخشية من الأذى، واستعير هنا تنزيلا لهم منزلة الدواب والأنعام، وفي هذا غاية الذم لهم.
ما مناسبة التثنية بتسبيح السموات والأرض؟
ذكر التسبيح هنا استمرارا لسياق التعظيم في الآية السابقة، فكأن الآية السابقة – عندما نفت الشركاء المساوين له في القوة، ووصفته بأنه ذو العرش جل وعلا – أثارت في نفس قارئها تساؤلا، أو أثارت في نفسها مناسبة عن هذا الذي لا يستطيع إليه أحد سبيلا، ولا ينبغي لأحد أن يكون له إليه سبيلا: فجاءت هذه الآيت تحكي بعض صفاته.
ما هي المعاني التي ينتهي إليها التذييل بقوله: إنه كان حليما غفورا؟
هذه الجملة مستأنفة وهي تحمل رسالة لهؤلاء الذين لا يفقهون التسبيح قائلة لهم: قد استحققتهم العقاب بهذا الإعراض وقلة الفقه ولولا أن الله عاملكم بالحلم والإمهال لأخذكم، ولكنه حليم غفور لا يعجل عقوبته على عباده.
ما مناسبة قوله تعالى وإذا قرأت القرآن في هذا الموضع؟
القرآن كعادته دائما يجمع بين الآيات الكونية والآيات المقروءة، فكأنه يقول لنا في هذا الموضع: حري بمن لم يعتبر بالكون ومخلوقاته وتسبيحهم ألا يعتبر بالقرآن ومواعظه، فكما أنهم محجوبون عن الاعتبار بخلق الله هم أيضا محجوبون بالاعتبار بالكتاب.
وفي الآية خيط متصل بقوله تعالى في بداية السورة ( إن هذا القرآن يهدي للتي هي أقوم )، ثم مضى يقلب الأوجه للناس في الكتاب، ثم جاء هنا ليبين سبب عدم انتفاع البعض به.
كما أن فيها تهيئة وتوطئة لما سيأتي بعدها من الحديث عن سماعهم بهذا الشكل.
ما مناسبة قوله تعالى: حجابا مستورا بدلا من حجابا ساترا؟
المستور هو المخفي، فليس المراد أن يكون الحجاب ساترا وإنما المراد أن يكون الحجاب نفسه غير مرئي للناس، فتكون الحاسة سليمة والمرئي حاضرا ومع ذلك لا يراه الإنسان لأجل أن الله تعالى خلق في عينيه مانعا يمنعه من رؤيته بهذا الحجاب.
فليس الحجاب حجاب مادي مرئي ولكنه عدم التوفيق وعمى القلوب.
ما مناسبة قوله بعدها نحن أعلم بما يستمعون.. الآية؟
كان المشركون يحيطون بالنبيء ﷺ في المسجد الحرام إذا قرأ القرآن يستمعون لما يقوله؛ ليتلقفوا ما في القرآن مما ينكرونه، مثل توحيد الله، وإثبات البعث بعد الموت، فيعجب بعضهم بعضا من ذلك، فكان الإخبار عنهم بأنهم جعلت في قلوبهم أكنة أن يفقهوه، وفي آذانهم وقر، وأنهم يولون على أدبارهم نفورا إذا ذكر الله وحده، ويثير في نفس السامع سؤالا عن سبب تجمعهم لاستماع قراءة النبيء ﷺ، فكانت هذه الآية جوابا عن ذلك السؤال، فالجملة مستأنفة استئنافا بيانيا. وافتتاح الجملة بضمير الجلالة؛ لإظهار العناية بمضمونهما، والمعنى: أن الله يعلم علما حقا داعي استماعهم، فإن كثرت الظنون فيه فلا يعلم أحد ذلك السبب.
ما هي المعاني التي ينتهي إليها ربط الانتفاع هنا باليوم الآخر؟
هذا فيه توطئة وتهيئة لما سيأتي من الحديث عن اليوم الآخر، وإنكار البعث في قوله تعالى ( وقالوا أئذا كنا عظاما ورفاتا .. ) الآية.
ما مناسبة الرد عليهم بقوله: قل كونوا حجارة أو حديدا؟
في الآية وجوه:
أحدها: بمعنى: سواء كنتم عظاما ورفاتا، أي أجسادا طرية تتفتت بعد الموت، لأن الرفات هي الشيء المرفوت أي المفتت، أو كنتم حجارة أو حديدا، أي أجساما صلبة لا تتفتت، والحجارة والحديد أبعد في قبول الحياة من الأجسام المفتتة، أو حتى مادة أخرى هي أشد بعدا من الحجارة والحديد في قبول الحياة، فستبعثون حتما فإن الله لا يعجزه شيء.
والمعنى: حتى لو كنتم حجارة أو حديدا, أو شيئا أبعد عن إمكان إعادة البعث والنشور من الحجارة والحديد لأعادكم كما بدأكم ولأماتكم ثم أحياكم.
وأدمج في الآية الجواب على هذه الشبهة بقوله ( قل الذي فطركم أول مرة ) فإن الذي فطر أول مرة من العدم لا يعسر عليه أن يعيد الخلق مهما كان.
ما هي المعاني التي ينتهي إليها الجواب بقوله: عسى أن يكون قريبا؟
اعلم بداية أن هذا الاعتراض بقولهم: متى هو؟ اعتراض فاسد، لأنه لما تبين إمكانية البعث والنشور مهما كان الأمر، فاعتراضم بالوقت لا علاقة له بما سبق، لأن أصل البعث ثبت بالعقل أما متى سيكون فلا يمكن إثباته بالعقل ولكن بالخبر الصادق من الوحي.
فالمقطع فيما مضى على طوله كان يجيب أجوبة علمية منطقية على شبهات المشركين، أما وقد فرغت جعبتهم من الحجج المنطقية ودخلوا في الهزء والسخرية والتهكم من الآخرة والبعث، جاء الجواب هنا مهددا إياهم، وعسى هنا بمعنى لا يبعد، أي انتظروا فإنه قريب، وكل آت قريب.
ثم تكمل الآية في الجواب عن هذا السؤال: متى هو؟ مستحضرة صورة من صور الإجابة، وهي قيامهم يوم البعث حامدين لله، ظانين أنكم إنما لبثتم في حياتكم الدنيا – التي استبعدتم فيها البعث – يوما أو بعض يوم.
ما مناسبة قوله بعدها: يوم يدعوكم؟
الآية هذه جزآن:
الأول: في بيان حال الناس وقد قاموا للبعث، مستجيبين بحمد الله، فكما أن السموات والأرض تسبح لله، فسيقوم الذين أبوا الانقياد والخضوع لله في الدنيا، سيقومون يوم القيامة وهم يسبحون بحمد الله، مستجيبين لدعوته لهم للقيام، وهذا فيه استمرار لسياق التعظيم.
والثاني: حالهم يومها وهم مستقلون لمدة حياتهم في الدنيا، فكأنها حلم مر بالإنسان، وهذا مستمر في سياق بيان سفول الدنيا وأحوالها، وأن الإنسان إنما يعجل بالإقبال عليها غير مدرك لحقيقتها.
ما مناسبة قوله بعدها: وقل لعبادي.. الآية؟
ندع الجواب للرازي رحمه الله ليجيبنا عن هذا السؤال قائلا: ﴿وقُلْ لِعِبادِي﴾ أيِ المُؤْمِنِينَ فالإضافَةُ لِتَشْرِيفِ المُضافِ ﴿يَقُولُوا﴾ عِنْدَ مُحاوَرَتِهِمْ مَعَ المُشْرِكِينَ ﴿الَّتِي﴾ أيِ الكَلِمَةَ أوِ العِبارَةَ الَّتِي ﴿هِيَ أحْسَنُ﴾ ولا يُخاشِنُوهم كَقَوْلِهِ تَعالى: ﴿ولا تُجادِلُوا أهْلَ الكِتابِ إلا بِالَّتِي هي أحْسَنُ﴾
﴿إنَّ الشَّيْطانَ يَنْزَغُ بَيْنَهُمْ﴾ أيْ: يُفْسِدُ ويُهَيِّجُ الشَّرَّ بَيْنَ المُؤْمِنِينَ والمُشْرِكِينَ بِالمُخاشَنَةِ فَلَعَلَّ ذَلِكَ يُؤَدِّي إلى تَأكُّدِ العِنادِ وتَمادِي الفَسادِ فالجُمْلَةُ تَعْلِيلٌ لِلْأمْرِ السّابِقِ
اعْلَمْ أنَّ قَوْلَهُ: ﴿قُلْ لِعِبادِيَ﴾ فِيهِ قَوْلانِ:
القَوْلُ الأوَّلُ: أنَّ المُرادَ بِهِ المُؤْمِنُونَ، وذَلِكَ لِأنَّ لَفْظَ العِبادِ في أكْثَرِ آياتِ القُرْآنِ مُخْتَصٌّ بِالمُؤْمِنِينَ قالَ تَعالى: ﴿فَبَشِّرْ عِبادِي﴾ ﴿الَّذِينَ يَسْتَمِعُونَ القَوْلَ﴾ [الزمر: ١٧ – ١٨] وقالَ: ﴿فادْخُلِي في عِبادِي﴾ [الفجر: ٢٩] وقالَ: ﴿عَيْنًا يَشْرَبُ بِها عِبادُ اللَّهِ﴾ [الإنسان: ٦] .
إذا عَرَفْتَ هَذا فَنَقُولُ: إنَّهُ تَعالى لَمّا ذَكَرَ الحُجَّةَ اليَقِينِيَّةَ في إبْطالِ الشِّرْكِ وهو قَوْلُهُ: ﴿لَوْ كانَ مَعَهُ آلِهَةٌ كَما يَقُولُونَ إذًا لابْتَغَوْا إلى ذِي العَرْشِ سَبِيلًا﴾ [الإسراء: ٤٢] وذَكَرَ الحُجَّةَ اليَقِينِيَّةَ في صِحَّةِ المَعادِ وهو قَوْلُهُ: ﴿قُلِ الَّذِي فَطَرَكم أوَّلَ مَرَّةٍ﴾ [الإسراء: ٥١] قالَ في هَذِهِ الآيَةِ وقُلْ يا مُحَمَّدُ لِعِبادِي إذا أرَدْتُمْ إيرادَ الحُجَّةِ عَلى المُخالِفِينَ فاذْكُرُوا تِلْكَ الدَّلائِلَ بِالطَّرِيقِ الأحْسَنِ. وهو أنْ لا يَكُونَ ذِكْرُ الحُجَّةِ مَخْلُوطًا بِالشَّتْمِ والسَّبِّ، ونَظِيرُ هَذِهِ الآيَةِ قَوْلُهُ: ﴿ادْعُ إلى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالحِكْمَةِ والمَوْعِظَةِ الحَسَنَةِ﴾ [النحل: ١٢٥] وقَوْلُهُ: ﴿ولا تُجادِلُوا أهْلَ الكِتابِ إلّا بِالَّتِي هي أحْسَنُ﴾ [العنكبوت: ٤٦] وذَلِكَ لِأنَّ ذِكْرَ الحُجَّةِ لَوِ اخْتَلَطَ بِهِ شَيْءٌ مِنَ السَّبِّ والشَّتْمِ لَقابَلُوكم بِمِثْلِهِ كَما قالَ: ﴿ولا تَسُبُّوا الَّذِينَ يَدْعُونَ مِن دُونِ اللَّهِ فَيَسُبُّوا اللَّهَ عَدْوًا بِغَيْرِ عِلْمٍ﴾ [الأنعام: ١٠٨] ويَزْدادُ الغَضَبُ وتَتَكامَلُ النَّفْرَةُ ويَمْتَنِعُ حُصُولُ المَقْصُودِ، أمّا إذا وقَعَ الِاقْتِصارُ عَلى ذِكْرِ الحُجَّةِ بِالطَّرِيقِ الأحْسَنِ الخالِي عَنِ الشَّتْمِ والإيذاءِ أثَّرَ في القَلْبِ تَأْثِيرًا شَدِيدًا فَهَذا هو المُرادُ مِن قَوْلِهِ: ﴿وقُلْ لِعِبادِي يَقُولُوا الَّتِي هي أحْسَنُ﴾ ثُمَّ إنَّهُ تَعالى نَبَّهَ عَلى وجْهِ المَنفَعَةِ في هَذا الطَّرِيقِ فَقالَ: ﴿إنَّ الشَّيْطانَ يَنْزَغُ بَيْنَهُمْ﴾ جامِعًا لِلْفَرِيقَيْنِ أيْ: مَتى صارَتِ الحُجَّةُ مَرَّةً مَمْزُوجَةً بِالبَذاءَةِ صارَتْ سَبَبًا لِثَوَرانِ الفِتْنَةِ.
ما مناسبة قوله بعدها: ربكم أعلم بكم؟
الرازي يجيبنا أيضا عن هذا السؤال: ثُمَّ قالَ لَهم: ﴿رَبُّكم أعْلَمُ بِكم إنْ يَشَأْ يَرْحَمْكُمْ﴾ بِأنْ يُوَفِّقَكم لِلْإيمانِ والهِدايَةِ والمَعْرِفَةِ. وإنْ يَشَأْ يُمِتْكم، عَلى الكُفْرِ فَيُعَذِّبْكم، إلّا أنَّ تِلْكَ المَشِيئَةَ غائِبَةٌ عَنْكم فاجْتَهِدُوا أنْتُمْ في طَلَبِ الدِّينِ الحَقِّ، ولا تُصِرُّوا عَلى الباطِلِ والجَهْلِ لِئَلّا تَصِيرُوا مَحْرُومِينَ عَنِ السَّعاداتِ الأبَدِيَّةِ والخَيْراتِ السَّرْمَدِيَّةِ، ثُمَّ قالَ لِمُحَمَّدٍ ﷺ: ﴿وما أرْسَلْناكَ عَلَيْهِمْ وكِيلًا﴾ أيْ: لا تُشَدِّدِ الأمْرَ عَلَيْهِمْ ولا تُغْلِظْ لَهم في القَوْلِ، والمَقْصُودُ مِن كُلِّ هَذِهِ الكَلِماتِ: إظْهارُ اللِّينِ والرِّفْقِ لَهم عِنْدَ الدَّعْوَةِ فَإنَّ ذَلِكَ هو الَّذِي يُؤَثِّرُ في القَلْبِ ويُفِيدُ حُصُولَ المَقْصُودِ.
ما هي المعاني التي ينتهي إليها ذكر داوود هنا وكذلك ذكر الزبور؟
ذكر داوود هنا هو الرد على اعتراضهم على نبوة محمد صلى الله عليه وسلم، فإنه في نظر الجاهلين وقاصري النظر غير أهل للنبوة، باعتبار أنه كان يتيما فقيرا، فذكر داوود هنا إذ كان راعيا للغنم في بني إسرائيل، فلما قتل داود جالوت آتاه الله النبوة وصيره ملكا لبني إسرائيل، فهو النبي الذي تجلى فيه اصطفاء الله لمن لم يكن ذا عظمة وسيادة.
وذكر إيتاءه الزبور تعريض بالمشركين بأن المسلمين سيرثون أرضهم، وينتصرون عليهم، لأن ذلك مكتوب في الزبور كما قال تعالى ( ولقد كتبنا في الزبور من بعد الذكر أن الأرض يرثها عبادي الصالحون )، وقد أوتي داود الزبور ولم يؤت أحد من أنبياء بني إسرائيل كتابا بعد موسى عليه السلام.
ما مناسبة الحديث بعدها عن كشف الضر وابتغاء الوسيلة في الآيتين بعدها؟
ولازال السياق مستمرا في بيان أوجه العظمة الإلهية، فبعد الأمر بالمهادنة والتلطف في الخطاب وعرضه رجاء دخولهم في الإسلام، انتقل الكلام إلى نوع من التهديد لهم، فذكر هنا أنه لا يكشف الضر إلى الله وأن هؤلاء الآلهة التي يدعونهم لا يملكون كشف ضر أراد الله إنزاله بهم، ليس هذا فحسب، بل إن هؤلاء الآلهة التي يزعمونها مع الله شركاء، هم أنفسهم يبتغون الوسيلة إلى الله أيهم ينال رضاه وينعم بقربه جل وعلا، ولما كان الجو جو تهديد ختمت الآية بختام مناسب لها ( إن عذاب ربك كان محذورا ) أي جديرا بأن يكون محذورا، فإنه عذاب شديد من رب مقتدر.
روى البخاري عَنْ عَبْدِ اللهِ : «{إِلَى رَبِّهِمُ الْوَسِيلَةَ} قَالَ: كَانَ نَاسٌ مِنَ الْإِنْسِ يَعْبُدُونَ نَاسًا مِنَ الْجِنِّ، فَأَسْلَمَ الْجِنُّ، وَتَمَسَّكَ هَؤُلَاءِ بِدِينِهِمْ.
زَادَ الْأَشْجَعِيُّ: عَنْ سُفْيَانَ، عَنِ الْأَعْمَشِ: {قُلِ ادْعُوا الَّذِينَ زَعَمْتُمْ}»
لماذا ألزم الله الهلاك على أهل القرى جميعا؟ وما مناسبة هذه الآية هنا؟
ليس المقصود بالآية إهلاك جميع القرى كما يتبادر للذهن أول الأمر، وإنما القرى التي مردت على الكفر، وجاءت هذه الآية في هذا الموضع لتهديدهم تهديدا مباشرا بسبب شركهم وأن هذه سنة من كانت مثل قريتهم من القرى، فأصابها عذاب الاستئصال التام، أو عذاب الانتقام بالسيف والذل والأسر والخوف والجوع، وكل ذلك في الدنيا.
ما مناسبة التقييد بقوله: قبل يوم القيامة؟
التقييد بما قبل يوم القيامة مفيد زيادة في الإنذار والوعيد، لأنهم استطالوا وقت البعث وقالوا: متى هو؟ فجاء هنا مؤقتا لهم وقتا قبل البعث الذي استطالوا مدته.
ما المقصود بالكتاب هنا؟
المقصود بالكتاب أحد أمرين:
علم الله وقضاءه السابق
أو الكتب المنزلة على الأنبياء السابقين، ويشمل القرآن وغيره.
أو يكون المراد كلاهما ولا تعارض بينهما فسبحان من جمع في الكلام اليسير معاني جمة.
ما مناسبة الحديث عن سبب عدم إرسال الآيات في هذا الموضع؟
هذه الآية امتداد للآية التي قبلها، والحديث في نفس السياق يحمل رسالة للقارئ المتدبر: أننا إنما أمهلنا هذه القرى الكافرة إلى أجل نزول العذاب، ولم نجبهم إلى ما طلبوا من الآيات، لعدم جدوى إرسال الآيات لمن قبلهم، فقد أرسلناها لمن كان قبلهم ولم يؤمنوا فحق عليهم الهلاك، لأن من سنن الله في خلقه أنه إن أتت آية لا تحتمل التكذيب ولم يؤمن الناس أهلهكم في الحال، فكان عدم إرسال الآيات رحمة منه جل وعلا، إبقاء على قريش ورحمة بهم ليدخل منهم في الإسلام كثير ويكون نشر الدين على يد كثير منهم وتلك مكرمة للنبي صلى الله عليه وسلم.
والحديث هنا متصل بما جاء في أول السورة من قوله جل وعلا ( لنريه من آياتنا )، فقد شرفه الله عز وجل ورفع مكانته حين أراه الآيات لما معه من الإيمان واليقين والمرتبة العالية، وليواسيه ويخفف عنه، ومنعهها عن هؤلاء المشركين أيضا رحمة بهم.
كما أنها توطئ وتهيئ لما سيأتي لاحقا من قولهم ( وقالوا لن نؤمن لك حتى تفجر لنا من الأرض ينبوعا )، وهذا الحديث المتصل عن الآيات له علاقة بالإسراء خاصة حيث أنكرها مشركو قريش، ويبدو أيضا أنها جاءت في وقت صاروا يطلبون منه آيات مثل هذه على صدق نبوته وأكثروا من السؤال فجاءت الآيات جوابا عنها والله أعلم.
ومما يؤكد ذلك ذكر ثمود بعدها، فقد جاءتهم آية لا مراء فيها مبصرة أي تجعل من رآها ذا بصيرة وتفيده بأنها آية، ومع ذلك لم يؤمنوا بها.
وأنَّ المَعْنى: وما صَرَفَنا عَنْ إرْسالِ الآياتِ المُقْتَرَحَةِ إلّا تَكْذِيبُ الأوَّلِينَ المُقْتَرِحِينَ المُسْتَتْبِعُ لِاسْتِئْصالِهِمْ فَإنَّهُ يُؤَدِّي إلى تَكْذِيبِ الآخَرِينَ المُقْتَرِحِينَ بِحُكْمِ اشْتِراكِهِمْ في العُتُوِّ والعِنادِ وهو مُفْضٍ إلى أنْ يَحِلَّ بِهِمْ مِثْلُ ما حَلَّ بِهِمْ بِحُكْمِ الشَّرِكَةِ في الجَرِيرَةِ والفَسادِ وجَرَيانِ السُّنَّةِ الإلَهِيَّةِ والعادَةِ الرَّبّانِيَّةِ بِذَلِكَ، وفِعْلُ ذَلِكَ بِهِمْ مُخالِفٌ لِما كُتِبَ في لَوْحِ القَضاءِ بِمِدادِ الحِكْمَةِ مِن تَأْخِيرِ عُقُوبَتِهِمْ، وحاصِلُهُ أنّا تَرَكْنا إرْسالَ الآياتِ لِسَبْقِ مَشِيئَتِنا تَأْخِيرَ العَذابِ عَنْهم لِحِكَمٍ نَعْلَمُها، واسْتَشْعَرَ بَعْضُهم مِنَ الصَّرْفِ نَوْعَ مَحْذُورٍ فَجَعَلَ المَنعَ مَجازًا عَنِ التَّرْكِ. وتُعُقِّبَ بِأنَّهُ لا يَصِحُّ مَعَ كَوْنِ الفاعِلِ التَّكْذِيبَ لِأنَّ التّارِكَ هو اللَّهُ تَعالى.
ما مناسبة تعدية الظلم بالباء؟
ضمن الظلم هنا معنى الكفر لذلك عدي بالباء، والمعنى: ظلموا أنفسهم وكفروا بها.
ما مناسبة الحديث في الآية التي بعدها عن إحاطة الله للناس والشجرة الملعونة في القرآن؟
السياق هنا مستمر في تسلية النبي صلى الله عليه وسلم على حزنه بسبب تكذيب قومه، ومن إمهال عتاة الكافرين الذين فتنوا المؤمنين فجاءت الآية هنا لتذكره بوعده إياه بالنصر وبأن كيد أعداءه بين يديه وهذا ما يدل عليه لفظ الإحاطة الذي يدل على الغلبة، وأنهم هم الهالكون إن بقوا على ما هم عليه كما جاء الآية التي قبلها مباشرة.
ومما يؤكد هذا المعنى استخدام لفظة الرب التي تدل على العناية والرعاية والحياطة، وأنه بحفظ الله ومعيته.
فكأنها تقول للنبي صلى الله عليه وسلم: لا تحزن لافترائهم وتطاولهم وإمهالنا لهم فسننتقم منهم فهم تحت المشيئة والطول.
وأما المراد بالرؤيا فهو قصة الإسراء على الراجح من أقوال أهل العلم، لأن الرؤيا تطلق أيضا على الرؤيا البصرية، وذكرت معها قضية مشابهة لها تماما وهي قضية شجرة الزقوم التي تنبت في جهنم، إذ كان موقف المشركين من الإسراء مثل موقفهم من شجرة الزقوم.
وما أحلى القرآن وهو يقص عليك أحوالهم في مقابل هذه الآيات، فيعلل سبب إرسالها ( ونخوفهم ) أي نخوفهم بهذه الآيات، فماذا كان حالهم؟ زيادة في التكذيب، وطغيانا، ليس طغيانا عاديا بل طغيانا كبيرا.
روى البخاري عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ – رَضِيَ اللهُ عَنْهُ -: «{وَمَا جَعَلْنَا الرُّؤْيَا الَّتِي أَرَيْنَاكَ إِلا فِتْنَةً لِلنَّاسِ} قَالَ: هِيَ رُؤْيَا عَيْنٍ، أُرِيَهَا رَسُولُ اللهِ – صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ – لَيْلَةَ أُسْرِيَ بِهِ، {وَالشَّجَرَةَ الْمَلْعُونَةَ} شَجَرَةُ الزَّقُّومِ»
( الهدى والضلال في ظلال القرآن )
جميع الحقوق متاحة للمسلمين دون اشتراط ذكر المصدر © 2023 7a9ad.com. All Rights Reserved