( سليمان وداود عليهما السلام)
( سليمان وداود عليهما السلام )
وَلَقَدْ آتَيْنَا دَاوُودَ وَسُلَيْمَانَ عِلْمًا وَقَالَا الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي فَضَّلَنَا عَلَى كَثِيرٍ مِنْ عِبَادِهِ الْمُؤْمِنِينَ (15) وَوَرِثَ سُلَيْمَانُ دَاوُودَ وَقَالَ يَا أَيُّهَا النَّاسُ عُلِّمْنَا مَنْطِقَ الطَّيْرِ وَأُوتِينَا مِنْ كُلِّ شَيْءٍ إِنَّ هَذَا لَهُوَ الْفَضْلُ الْمُبِينُ (16) وَحُشِرَ لِسُلَيْمَانَ جُنُودُهُ مِنَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ وَالطَّيْرِ فَهُمْ يُوزَعُونَ (17) حَتَّى إِذَا أَتَوْا عَلَى وَادِ النَّمْلِ قَالَتْ نَمْلَةٌ يَا أَيُّهَا النَّمْلُ ادْخُلُوا مَسَاكِنَكُمْ لَا يَحْطِمَنَّكُمْ سُلَيْمَانُ وَجُنُودُهُ وَهُمْ لَا يَشْعُرُونَ (18) فَتَبَسَّمَ ضَاحِكًا مِنْ قَوْلِهَا وَقَالَ رَبِّ أَوْزِعْنِي أَنْ أَشْكُرَ نِعْمَتَكَ الَّتِي أَنْعَمْتَ عَلَيَّ وَعَلَى وَالِدَيَّ وَأَنْ أَعْمَلَ صَالِحًا تَرْضَاهُ وَأَدْخِلْنِي بِرَحْمَتِكَ فِي عِبَادِكَ الصَّالِحِينَ (19)
ما موضوع هذا الفصل، وما هي مناسبته لمقصد السورة؟
هذا الفصل من فصول السورة يفتتح الحديث عن سليمان عليه السلام، وخص سليمان عليه السلام بنصيب الأسد من الحديث في هذه السورة لما حباه الله من ملك وتقدم علمي مدني، ومعجزات باهرة، أعطاه الله إياها ليسخر به الجن والإنس والحيوانات والرياح والنحاس وغير ذلك من فضل الله، وهذا الفصل يحوي قصة النمل التي تحوي مقصد السورة – كما بينا سابقا -، وهي أول فصل في فصول الحديث عن سليمان عليه السلام في هذه السورة.
ما مناسبة الافتتاح بالامتنان على داوود وسليمان بإيتائهم العلم؟
هذه البداية للإشارة إلى الجزء الأول من مقصد السورة هو ( العلم المادي ) وما أوتياه عليهما الصلاة والسلام من التمكين في الأرض بأشياء اختصا بها.
ومما يؤيد هذا قوله تعالى بعد حديثه عن وراثة سليمان لداوود ( يا أيها الناس علمنا منطق الطير وأوتينا من كل شيء ) فالحديث هنا عن علم غير العلم الأخروي.
وهذا فيه تنويه بالعلم والإشارة إلى شرفه وتقدم حملته وأهله إن كانوا من المؤمنين الذين لم يصرفهم علمهم هذا عن الطريق الصحيح.
وابتدء بذكر داوود ليبني عليه ذكر سليمان إذ كان ملكه ورثة من أبيه داوود، كما أن فيه تهيئة وتوطئة لما سيذكر لاحقا من قول سليمان ( رب أوزعني أن أشكر نعمتك علي وعلى والدي ) فقدم ذكر سليمان لنعرف حقيقة النعمة التي أنعم الله بها على والده، وليظهر للقارئ المتدبر أن المدنية مهما علت لم تقطع أوصال الأبوة والبنوة طالما أهلها قائمون بدين الله مهتدون بهدي الآخرة.
ما هي المعاني التي ينتهي إليها كلمة آتينا؟
كلمة آتينا للإشارة إلى مصدر العلم، وأن العلم هذا محض إيتاء من الله، لا بكسب الإنسان ولا بجهده.
وعلى هذا النسق سارت أفعال كثيرة مثل قوله تعالى ( الحمد لله الذي فضلنا على كثير من عباده المؤمنين ) وقوله تعالى ( علمنا منطق الطير ) ( أوتينا من كل شيء ) ( وأوتيت من كل شيء ) لتؤكد على أن الذي فضل وأعطى وعلم وآتى هو الله وحده، حتى تتعلق القلوب به ولا تتعلق بسواه.
ما هي المعاني التي ينتهي إليها تنكير العلم؟
التنكير هنا إما للإشارة إلى نوع معين من العلم، أو للتعظيم، والذي يظهر أن هذا النوع من العلم هو العلم المادي الذي يسخر الإنسان به قوى الطبيعة لأجله، وعلى المعنى الثاني يكون هذا العلم من النوع العظيم الذي لا يستطيعه الناس عادة.
ما مناسبة ذكر داوود مع سليمان، ووراثة سليمان لداوود عليهما السلام؟
ربما كان في هذا إشارة إلى العلاقات الأسرية التي يجب أن تبقى متينة متماسكة حتى في ظل التقدم المادي المدني، فإضافة إلى أن داوود وسليمان لم ينسيا فضل الله عليهما فقالا ( الحمد لله الذي فضلنا على كثير من عباده المؤمنين ) فنسبا الفضل لله وحمداه على ذلك، وجودهما أيضا في هذه السورة سوية، مع حضور الوالدين في دعاء سليمان ربما كان فيه إشارة أيضا إلى ضرورة الحفاظ على البر بالوالدين مهما بلغنا من العلم المادي المجرد.
وربما كان فيها أيضا إشارة إلى السلسلة التي ابتدأت بموسى عليه السلام وامتدت في داوود ثم سليمان.
ما مناسبة ذكر منطق الطير دون غيره من العجماوات؟
ذكر الطير ظاهر هنا في هذا الجزء من السورة وكرر اللفظ ثلاث مرات في هذا الموضع، وعلل بعضهم ذلك بأنه توطئة لذكر الحديث مع الهدهد لاحقا، لكن أرى والله أعلم أن فيه معنى أعمق من هذا، وأظهر ما بان من المناسبات أن الطير هي أشد المخلوقات نفورا من الناس وأبعدها عن إلف الإنسان ومع ذلك هيأ الله لسليمان معرفة منطقها وسخرها له، وجعلها من جنده، هذا في أنفر المخلوقات فما بالك من دونها.
وقس على ذلك المنطق، فإنه إذا علم منطق الطير وهي أبعد الحيوان عن الركون إلى الإنسان وأسرعها نفورا منه، كان علم ما هو أكثر اختلاطا بالإنسان حاصل له من باب أولى.
كما أن فيه توطئة وتهيئة لما سيأتي لاحقا من حديث الهدهد العجيب، فإن القصة لو ابتدأت بالحديث عن الكلام مع الهدهد لكان الأمر عجيبا، إلا أن الكلام عن منطق الطير قبلها هيأت الأنفس لما سيأتي من الحديث معه ومع النمل أيضا.
ما مناسبة ذكر حشر الجنود؟
فيه إشارة إلى عظم ملك سليمان، ومهما بلغ المعاصرون من التقدم العلمي لن يستطيعوا تسخير الجن والطير كما سخره الله لسليمان عليه السلام، وشتان بين ملكه وقوة الناس اليوم.
ما مناسبة ذكر الوزع هنا؟
فيه إشارة إلى التمكن والسيطرة، فلكل نوع من الجنود وازع يزعهم، وهذا من أساسيات الإدارة الناجحة التي تقود إلى التقدم.
ما مناسبة ذكر ضاحكا؟
هذا لبيان سبب تبسمه عليه الصلاة والسلام، فهو لم يتبسم هازئا بها – حاشاه -، ولا مستخفا بشأنها، ولكنه تبسم الضحك، وهكذا المؤمنون إن أوتوا القوة، لا يهزؤون ولا يسخرون بمن دون ولا يستخفون بشأنهم فكله خلق الله.
ما مناسبة الأدعية التي جاءت على لسان سليمان عليه السلام في هذا الموضع؟
دعا هنا سليمان بثلاث دعوات مبتدئا بالفعل ( أوزعني ) أي كفني وامنعني، واستعمل هذا الفعل هنا للإشارة إلى أن التقدم العلمي يجعل الإنسان يطغى ويجنح فيحتاج إلى من يزعه ويكفه، فالذي يظهر أنه لأجل هذا المعنى افتتح الكلام بأوزعني، ثم دعا سليمان عليه السلام بثلاث كلمات:
الأولى: شكر النعمة عليه وعلى والديه
الثانية: العمل الصالح
الثالثة: الإدخال في العباد الصالحين.
ولم يكتف بالثالثة بالسؤال مجردا ولكنه ذكر الواسطة ( برحمتك )، وكله من باب التجرد لله واستحضار فضله في مثل هذه المواضع.
أما الأولى فابتدأ بشكر النعمة، واستحضر الوالدين، للإشارة إلى الروابط الإنسانية حتى في ظل الملك والعلم، وثنى بالعمل الصالح، ووصفه بأنه مما يرضاه الله زيادة في نفاسة هذا العمل، فإن الله لا يرضى إلا الطيب، وثلث بنتيجة هذا العمل، وهي: الدخول في العباد الصالحين.
وتأمل هذا التجرد والتواضع لله في مقابل ما أوتي سليمان من العلم والملك والتمكين.
ما هي المعاني التي ينتهي إليها قول سليمان: برحمتك؟
فيه تأكيد على الحاجة إلى الله في كل شأن، وأن الدخول في العباد الصالحين إنما هو برحمة منه فحسب، وكل هذا لأجل أن تتعلق القلوب به فلا تنساه ولا تنشغل عنه بشيء.
جميع الحقوق متاحة للمسلمين دون اشتراط ذكر المصدر © 2023 7a9ad.com. All Rights Reserved