(زيف الأقران)
وَمَنْ يَعْشُ عَنْ ذِكْرِ الرَّحْمَنِ نُقَيِّضْ لَهُ شَيْطَانًا فَهُوَ لَهُ قَرِينٌ (36) وَإِنَّهُمْ لَيَصُدُّونَهُمْ عَنِ السَّبِيلِ وَيَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ مُهْتَدُونَ (37) حَتَّى إِذَا جَاءَنَا قَالَ يَالَيْتَ بَيْنِي وَبَيْنَكَ بُعْدَ الْمَشْرِقَيْنِ فَبِئْسَ الْقَرِينُ (38) وَلَنْ يَنْفَعَكُمُ الْيَوْمَ إِذْ ظَلَمْتُمْ أَنَّكُمْ فِي الْعَذَابِ مُشْتَرِكُونَ (39) أَفَأَنْتَ تُسْمِعُ الصُّمَّ أَوْ تَهْدِي الْعُمْيَ وَمَنْ كَانَ فِي ضَلَالٍ مُبِينٍ (40) فَإِمَّا نَذْهَبَنَّ بِكَ فَإِنَّا مِنْهُمْ مُنْتَقِمُونَ (41) أَوْ نُرِيَنَّكَ الَّذِي وَعَدْنَاهُمْ فَإِنَّا عَلَيْهِمْ مُقْتَدِرُونَ (42) فَاسْتَمْسِكْ بِالَّذِي أُوحِيَ إِلَيْكَ إِنَّكَ عَلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ (43) وَإِنَّهُ لَذِكْرٌ لَكَ وَلِقَوْمِكَ وَسَوْفَ تُسْأَلُونَ (44) وَاسْأَلْ مَنْ أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رُسُلِنَا أَجَعَلْنَا مِنْ دُونِ الرَّحْمَنِ آلِهَةً يُعْبَدُونَ (45)
ما هو مقصد هذا المقطع وما هي مناسبته لمقصد السورة وما هي الرسالة التي يحملها؟
يمكن تقسيم المقطع إلى ثلاثة مقاطع جزئية، مرتبة على بعضها بفاء التفريع :
فالأول: في ذكر زيف الأقران وإبطاله في أربع آيات ( ومن يعش عن ذكر الرحمن … )
والثاني: تسلية النبي صلى الله عليه وسلم وتهديد المشركين في ثلاث آيات ( أفأنت تسمع الصم أو تهدي العمي … )
والثالث: في الوصية بالاستمساك بما ابتدأ المقطع بالحديث عنه، وكذلك السورة، ألا وهو القرآن، ثم بالتوحيد، سنة الأولين، ( فاستمسك .. )
أما الجزء الأول، فيتناول زيفا ثالثا من زيوف الباطل، ألا وهو قرناء السوء والاغترار بهم في سلوك طريق الباطل، وقد بدأ المقطع بداية بديعة مختلفة عن سابقيه من المغالطات فدلت على السبب والعلاج في كلام جزل مختصر، ألا وهو العشى عن القرآن وهو كناية عن عم تدبره ببصيرة، لتبين أن الضلال والتعامي كان من المتعامي أصلا كسوء نيته وخبث طويته فكان للشيطان سبيلا عليه، كما أنها بدأت بالمفرد وهذا بيان للكسب فلا تكسب كل نفس إلا عليها، ثم انتقل الحديث إلى الجماعة في وصفهم جميعا، ثم رجع إلى الحديث عن المفرد ثم الجمع، وما وراء ذلك من البيان الذي لا يوصف، وهذا الوهم الباطل أقصد التسلي بالقرناء والركون إليهم من جملة الأوهام التي يتعلق بها بنو آدم، وهذا الزيف يشتمل على نوعين من الأوهام:
فأما الأول: فإن هؤلاء الناس يتسلون برؤية أمثالهم، وهذا يظهر جليا في المصائب فإن رؤية من أصيب بمصيبة تخفف عن صاحب المصاب مصابه.
وأما الثاني: فإن هؤلاء المصدودون عن السبيل يتبعون شياطين الإنس والجن ويحسبون في حقيقة الأمر أنهم على الهدى، لا عن استدلال ولا تفكير، وإنما مجاراة لهؤلاء القرناء الذين يبذلون كل جهدهم في إضلالهم، ومثل هذا الحسبان يغلق في وجوههم أبواب المراجعة والتفكير.
وقد نسفت الآيتين الثالثة والرابعة من المقطع الجزئي الأول هذين الوهمين:
فبينت الأولى: أن هؤلاء العاشين عن القرآن مؤاخذون بطاعتهم للقرناء قائلة لهم: لا تلقوا التبعة عليهم فإنكم مؤاخذون بطاعتهم كما هم مؤاخذون بإضلالكم، ولن ينفعكم يوم الحقيقة أن تتمنوا أن يكون بينكم وبينهم أبد المسافات.
وبينت الثانية: أن وهم التسلي الذي كان في الدنيا سيزول في الآخرة، فإن اشتراكهم جميعا في العذاب لن يخفف عنهم شيئا منه فإن الآخرة هي عالم الحقائق دون الأوهام.
وقد استهلت الآيات هذا المقطع بأحسن استهلال، فبينت السبب والعلاج لمثل هذه المغالطة كما ذكرنا للتو، فأما السبب فهو ( عدم الإقبال على القرآن بتدبر وتأمل ) والاكتفاء بالسماع الذي لا يغني من جهل ولا ينفع في تزكية، وأما العلاج فظاهر في نفس العبارة ألا وهو ( الإقبال على القرآن تدبرا ).
ومن اللافت للنظر في الآية الأخيرة وهي الرابعة، وجود ثلاثة أزمنة فيها وهي: المستقبل بقوله ( لن ) والماضي ( ظلمتم ) والحاضر ( اليوم ) في علاقة تظهر اتصال عاقبة الظلم إلى عدم الانتفاع إلى أبد الآبدين.
ثم انتقلت الآيات إلى تسلية النبي صلى الله عليه وسلم قائلة له: لا تحزن عليهم ولا تذهب نفس عليهم حسرة أن لم يكونوا مؤمنين فإن إيمانهم وكفرهم ليس لك فيه شيء، وإنما يقدر ذلك الله عز وجل، وسيأتيهم انتقامنا وغضبنا سواء كان ذلك في حياتك أو بعد وفاتك.
أما الجزء الثالث: فقد أمر النبي صلى الله عليه وسلم بالثبات على ما هو عليه والمبالغة في ذلك وعللته بكونه على الحق المبين، لينتهي المقطع بالثناء على القرآن بأمرين جمعا في كلمة واحدة وهي كونه موعظة وكونه شرفا ورفعة للنبي صلى الله عليه وسلم وقومه، كأنها تقول لهم: إن عزكم ورفعتكم وشرفكم وانتفاعكم إنما هو بهذا القرآن فما بالكم قد أعرضتم عنه وتركتموه.
ثم تنتقل الآيات انتقالا سلسا حسنا إلى المعنى في المقطع التالي، فمن قوله ( وسوف تسألون ) إلى قوله ( واسأل من أرسلنا قبلك من رسلنا .. ) وهذا الرابط اللفظي بين الآيتين، إلى قوله ( ولقد أرسلنا موسى )، ففي الأولى سؤال وفي الثانية سؤال وإرسال وفي الثالثة إرسال، ومثل هذه الآيات تأتي في مفاصل المعاني لتجمع بين المقاطع بحيث لا يكاد يحس القارئ بالانتقال.
إذا كان المعنى المقصود في المقطع الجزئي الثاني هو التسلية بالوعد بنصرة الدين وظهوره فلماذا جاء بهذا الأسلوب؟
الملاحظ في هذا المقطع أن الوعد هنا قد ارتبط بموته في الشرط الأول، وحياته في الثاني صلى الله عليه وسلم، والغرض من هذا فيما يظهر التأكيد على معنى غاية في الأهمية، وهو أن الدعاة إلى الحق عليهم أن يخلصوا في دعوتهم إلى ما آمنوا به غير ناظرين إلى نتائج هذه الدعوة أو عدد الأتباع المستجيبين، وإنما يدعو الداعي بفهم وصبر وصدق وتجرد ومراجعة دائمة حتى لا يداخل الخلل دعوته.
لاحظ أيضا تقديم الذهاب على الإبقاء، وكأنها تقول: الشأن شأننا والأمر أمرنا نفعل ما نراه لحكمة وليس ما يتمناه أولياؤنا.
ما هي المناسبة بين المعاني الثلاثة ؟
المقطعين الثاني والثالث أقرب إلى بعضهما من الأول ولو شئت أن تجعلهما مقطعا مستقلا لم يكن بعيدا، ويبدو أنهما جاءا استطرادا بعد ذكر الزيفين السابقين وما لهما من أثر في نفس النبي صلى الله عليه وسلم، فالكلام استدار من خطاب الضال وشيطانه إلى خطاب رسوله، ولا شك أن هذه الآيات متناسبة غاية التناسب فإن النبي صلى الله عليه وسلم كان في هذه الفترة محاطا بالكافرين، وكانوا ولا زالوا يحاولون ثنيه وعطفه عن الحق الذي هو عليه، فجاءت الآيات تسلي وتثبيتا وتوضيحا لمهمته صلى الله عليه وسلم بعد الحديث عن الأقران.
جميع الحقوق متاحة للمسلمين دون اشتراط ذكر المصدر © 2023 7a9ad.com. All Rights Reserved