( رحمة الهداية )

( رحمة الهداية )

وَمَا يَسْتَوِي الْأَعْمَى وَالْبَصِيرُ (19) وَلَا الظُّلُمَاتُ وَلَا النُّورُ (20) وَلَا الظِّلُّ وَلَا الْحَرُورُ (21) وَمَا يَسْتَوِي الْأَحْيَاءُ وَلَا الْأَمْوَاتُ إِنَّ اللَّهَ يُسْمِعُ مَنْ يَشَاءُ وَمَا أَنْتَ بِمُسْمِعٍ مَنْ فِي الْقُبُورِ (22) إِنْ أَنْتَ إِلَّا نَذِيرٌ (23) إِنَّا أَرْسَلْنَاكَ بِالْحَقِّ بَشِيرًا وَنَذِيرًا وَإِنْ مِنْ أُمَّةٍ إِلَّا خَلَا فِيهَا نَذِيرٌ (24) وَإِنْ يُكَذِّبُوكَ فَقَدْ كَذَّبَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ جَاءَتْهُمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّنَاتِ وَبِالزُّبُرِ وَبِالْكِتَابِ الْمُنِيرِ (25) ثُمَّ أَخَذْتُ الَّذِينَ كَفَرُوا فَكَيْفَ كَانَ نَكِيرِ (26)

ما هو موضوع هذا المقطع وما هي مناسبته لمقصد السورة؟ وما هي مناسبته لما قبله من الكلام؟

هذا المقطع يشبه أن يكون تماما لقوله تعالى ( ما يفتح الله من رحمة فلا ممسك لها ) وقوله تعالى: ( وإن يكذبوك ) ولقوله تعالى ( إن الله يضل من يشاء ويهدي من يشاء ) في أول السورة، ولما سبقه مباشرة من الكلام بقوله تعالى ( إنما تنذر الذين يخشون ربهم بالغيب ) إلى آخر الآيات.

وكعادة هذه السورة جاء الحديث عن خلق متباين يزيد بعضه على بعض، واستشهدت الآيات بهذا الخلق المتباين – الذي زاد الله بعضه على بعض – والذي نراه عيانا على قضية أخروية، وهي الهدى، فكما زاد الله خلقا على خلق فإن الله هو الذي يهدي من يشاء، ولكن الآيات توجهت هنا في خطابها إلى المخاطبين بالدعوة وكأنها تقول لهم:

إذا رمتم الهدى فتوجهوا إلى الله وحده، الله الذي بيده هو مفاتح الرحمة وأي رحمة مثل رحمة أن يهديك الله ويوفقك لسماع الحق.

وكأنها أيضا تقول لهم:

على الرغم من كل دعواتكم وما فيها من الحق سيبقى بعض الناس على كفرهم، عمي كالأموات لن يسمعوا، إنما تنذر الذين يخشون ربهم بالغيب وأما الذين لا يخشون فلتن تنفعهم ذكرى.

ولاحظ كثرة الأمثلة هنا، والغرض من ذلك فيما يظهر والله أعلم هو تثبيت هذا الأمر في النفوس وكلما زادت الأمثلة المضروبة زاد المعنى وضوحا في النفس، إضافة إلى أمر مهم جدا وهو ضرب الأمثلة المحسوسة المرئية، فإن الإنسان يميل إلى تصديق ما يراه، فإذا مثلت له شيئا لا يراه بل يشعر به ويحسه بشيء يراه بعينيه أوشك المعنى أن يكون واضحا في نفسه، وهذا هو سر الربط بين هذه الأمثلة المرئية وبين الأمثلة المعنوية المحسوسة أقصد موضوع الهدى والضلال.

فمن السهل جدا التمييز بين الأعمى والبصير وبين الظل والحرور وبين الظلمات والنور، لكن ليس من السهل تمييز الفرق بين الكافر والمؤمن ولذلك ضربت هذه الأمثال.

كما تحدثت عن باب مهم من أبواب الرحمة لعله خامس الأبواب، وهي إرسال النذر وما معهم من البينات والزبر والكتاب المنير، هداية للناس، ومن يملك مثل هذه الرحمة، من يملك أن يرسل للناس رسولا يهديهم إلى سواء الصراط ويبين لهم ما يختلفون فيه،

ما مناسبة التتابع بين هذه الأمثلة؟

ذكر الله عز وجل في هذه الأمثلة معان متتابعة كالتالي:

أعمى – ظلمات – حرور – أموات

في مقابل:

بصير – نور – ظل – أحياء

فكأنها تقول لنا :

أن الكفار حزب عميان يسيرون في الظلمات إلى الحرور ، بينما أهل الإيمان حزب مبصرون يسيرون في النور إلى الظل.

ما مناسبة إعادة الفعل مع الأحياء والأموات؟

أعاد الفعل هنا كأنه جعل هذا مقابلا لذلك، وكأنه يقول: الكافرون أموات والمؤمنون أحياء، وجاء مثل هذا في قوله صلى الله عليه وسلم في البخاري ( مثل الذي يذكر ربه ولا يذكر ربه كمثل الحي والميت ) هذا فيمن يذكر ولا يذكر فما بالك بالكافر والمؤمن.

ما مناسبة تشبيه الإيمان بالحياة والكفر بالموت؟

معلوم أن ما يميز الكائن الحي هو إدراكه لما يجري حوله وسعيه فيما ينفعه، وأما الميت فلا يشعر بما حوله ولا يستطيع أن يسعى بما ينفعه، فشبه الإيمان بالحياة لاشتراكهما في معنى انبعاث خير الدنيا والآخرة منه، وفي تلقي الوحي وفهمه، وشبه الكفر بالموت لما فيه من الانقطاع عن الأعمال النافعة أو إدراك ما ينفع.

ما مناسبة ترك حرف النفي بين الأعمى والبصير؟

تركها لعدم المنافاة التامة بين الأعمى والبصير، فالأعمى والبصير يشتركان في أشياء، أما الظلمة والنور والظل والحرور فالمنافاة بينهما كلية لا يجتمعان أبدا ففصل بينها بحرف النفي.

ما مناسبة تقديم الشر في المثالين الأوليين وتقديم الخير في الآخرين؟

لما ضرب الله المثلين الأوليين قدم الأعمى والظلمات على البصير والنور، ثم في الآخرين قدم الظل والأحياء على الحرور والأموات، والمناسبة فيما يظهر والله أعلم أن التقديم في الأوليين بسبب وجود الكفر قبل بعثة النبي صلى الله عليه وسلم، فلما كان موجودا قبله قدمه، وحتى في الآيات الماضيات قدم ذكر الذين كفروا على المؤمنين لأنهم محل الاهتمام في هذه السورة، أما لما صار الحديث عن المآل قدم الرحمة والنجاة على الغضب والخسران لأن رحمته أقرب، وسبقت غضبه كما جاء مرارا في عدة نصوص.

ما وجه جمع الظلمات وإفراد النور من جهة، وإيراد مثال الأحياء والأموات بالجمع من جهة أخرى؟

افرد النور لأن الحق واحد لا يتعدد وجمع الظلمات لأن طريق الباطل لا نهاية له فكلما تجددت أجيال جاؤوا بما لم يأت به آباؤهم من الضلال والكفر.

وجمع الأحياء والأموات لأن التفاوت بينهما أكثر، إذ أن الأحياء لا يساوون الأموات سواء قابلت الجنس بالجنس أو الفرد بالفرد.

بينما أفرد الأعمى والبصير لأن التباين قلا لا يكون في الأفراد، فقد يكون الأعمى الفطين خير من البصير البليد، أما بالنسبة للجنس فلا يستوون.

ما مناسبة الحديث عن البينات والزبر والكتاب المنير؟

تأمل هذا المعنى وعلاقته بقوله تعالى ( ما يفتح الله للناس من رحمة ) وأي رحمة أعظم من إنزال الله عز وجل لهذه الكتب على الناس، ثم تأمل هذا المعنى ( ما يفتح الله للناس من رحمة ) مع قوله تعالى ( وإن يكذبوك ) فرحمة الهداية بالنسبة للمدعوين ورحمة الركن الشديد والأتباع بالنسبة للداعية، أبواب لا يملك مفاتحها إلا الله عز وجل.

ما مناسبة ختام هذا المقطع بقوله تعالى ( ثم أخذت الذين كفروا فكيف كان نكير )؟

وحتى لا يتصور إنسان أن هؤلاء المكذبين في بحبوحة من الأمر، وأن تكذيبهم هذا بالبينات والزبر والكتاب المنير بلا مسؤولية ملقاة على عاتقهم، انتهت الآيات بالتهديد الشديد، حتى يبقى الخوف حاضرا في قلوب هؤلاء المكذبين الكافرين.

 

Map Shot 4

Map Shot 3

 

 

جميع الحقوق متاحة للمسلمين دون اشتراط ذكر المصدر © 2023 7a9ad.com. All Rights Reserved