خصمان
خصمان
وَمِنَ النَّاسِ مَن يُجَادِلُ فِي اللَّهِ بِغَيْرِ عِلْمٍ وَيَتَّبِعُ كُلَّ شَيْطَانٍ مَّرِيدٍ(3) كُتِبَ عَلَيْهِ أَنَّهُ مَن تَوَلَّاهُ فَأَنَّهُ يُضِلُّهُ وَيَهْدِيهِ إِلَىٰ عَذَابِ السَّعِيرِ(4) يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِن كُنتُمْ فِي رَيْبٍ مِّنَ الْبَعْثِ فَإِنَّا خَلَقْنَاكُم مِّن تُرَابٍ ثُمَّ مِن نُّطْفَةٍ ثُمَّ مِنْ عَلَقَةٍ ثُمَّ مِن مُّضْغَةٍ مُّخَلَّقَةٍ وَغَيْرِ مُخَلَّقَةٍ لِّنُبَيِّنَ لَكُمْ ۚ وَنُقِرُّ فِي الْأَرْحَامِ مَا نَشَاءُ إِلَىٰ أَجَلٍ مُّسَمًّى ثُمَّ نُخْرِجُكُمْ طِفْلًا ثُمَّ لِتَبْلُغُوا أَشُدَّكُمْ ۖ وَمِنكُم مَّن يُتَوَفَّىٰ وَمِنكُم مَّن يُرَدُّ إِلَىٰ أَرْذَلِ الْعُمُرِ لِكَيْلَا يَعْلَمَ مِن بَعْدِ عِلْمٍ شَيْئًا ۚ وَتَرَى الْأَرْضَ هَامِدَةً فَإِذَا أَنزَلْنَا عَلَيْهَا الْمَاءَ اهْتَزَّتْ وَرَبَتْ وَأَنبَتَتْ مِن كُلِّ زَوْجٍ بَهِيجٍ(5) ذَٰلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ هُوَ الْحَقُّ وَأَنَّهُ يُحْيِي الْمَوْتَىٰ وَأَنَّهُ عَلَىٰ كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ(6) وَأَنَّ السَّاعَةَ آتِيَةٌ لَّا رَيْبَ فِيهَا وَأَنَّ اللَّهَ يَبْعَثُ مَن فِي الْقُبُورِ(7) وَمِنَ النَّاسِ مَن يُجَادِلُ فِي اللَّهِ بِغَيْرِ عِلْمٍ وَلَا هُدًى وَلَا كِتَابٍ مُّنِيرٍ(8) ثَانِيَ عِطْفِهِ لِيُضِلَّ عَن سَبِيلِ اللَّهِ ۖ لَهُ فِي الدُّنْيَا خِزْيٌ ۖ وَنُذِيقُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ عَذَابَ الْحَرِيقِ(9) ذَٰلِكَ بِمَا قَدَّمَتْ يَدَاكَ وَأَنَّ اللَّهَ لَيْسَ بِظَلَّامٍ لِّلْعَبِيدِ(10) وَمِنَ النَّاسِ مَن يَعْبُدُ اللَّهَ عَلَىٰ حَرْفٍ ۖ فَإِنْ أَصَابَهُ خَيْرٌ اطْمَأَنَّ بِهِ ۖ وَإِنْ أَصَابَتْهُ فِتْنَةٌ انقَلَبَ عَلَىٰ وَجْهِهِ خَسِرَ الدُّنْيَا وَالْآخِرَةَ ۚ ذَٰلِكَ هُوَ الْخُسْرَانُ الْمُبِينُ(11) يَدْعُو مِن دُونِ اللَّهِ مَا لَا يَضُرُّهُ وَمَا لَا يَنفَعُهُ ۚ ذَٰلِكَ هُوَ الضَّلَالُ الْبَعِيدُ(12) يَدْعُو لَمَن ضَرُّهُ أَقْرَبُ مِن نَّفْعِهِ ۚ لَبِئْسَ الْمَوْلَىٰ وَلَبِئْسَ الْعَشِيرُ(13) إِنَّ اللَّهَ يُدْخِلُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ ۚ إِنَّ اللَّهَ يَفْعَلُ مَا يُرِيدُ(14) مَن كَانَ يَظُنُّ أَن لَّن يَنصُرَهُ اللَّهُ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ فَلْيَمْدُدْ بِسَبَبٍ إِلَى السَّمَاءِ ثُمَّ لْيَقْطَعْ فَلْيَنظُرْ هَلْ يُذْهِبَنَّ كَيْدُهُ مَا يَغِيظُ(15) وَكَذَٰلِكَ أَنزَلْنَاهُ آيَاتٍ بَيِّنَاتٍ وَأَنَّ اللَّهَ يَهْدِي مَن يُرِيدُ(16) إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَالَّذِينَ هَادُوا وَالصَّابِئِينَ وَالنَّصَارَىٰ وَالْمَجُوسَ وَالَّذِينَ أَشْرَكُوا إِنَّ اللَّهَ يَفْصِلُ بَيْنَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ ۚ إِنَّ اللَّهَ عَلَىٰ كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ(17) أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ يَسْجُدُ لَهُ مَن فِي السَّمَاوَاتِ وَمَن فِي الْأَرْضِ وَالشَّمْسُ وَالْقَمَرُ وَالنُّجُومُ وَالْجِبَالُ وَالشَّجَرُ وَالدَّوَابُّ وَكَثِيرٌ مِّنَ النَّاسِ ۖ وَكَثِيرٌ حَقَّ عَلَيْهِ الْعَذَابُ ۗ وَمَن يُهِنِ اللَّهُ فَمَا لَهُ مِن مُّكْرِمٍ ۚ إِنَّ اللَّهَ يَفْعَلُ مَا يَشَاءُ ۩(18) ۞ هَٰذَانِ خَصْمَانِ اخْتَصَمُوا فِي رَبِّهِمْ ۖ فَالَّذِينَ كَفَرُوا قُطِّعَتْ لَهُمْ ثِيَابٌ مِّن نَّارٍ يُصَبُّ مِن فَوْقِ رُءُوسِهِمُ الْحَمِيمُ(19) يُصْهَرُ بِهِ مَا فِي بُطُونِهِمْ وَالْجُلُودُ(20) وَلَهُم مَّقَامِعُ مِنْ حَدِيدٍ(21) كُلَّمَا أَرَادُوا أَن يَخْرُجُوا مِنْهَا مِنْ غَمٍّ أُعِيدُوا فِيهَا وَذُوقُوا عَذَابَ الْحَرِيقِ(22) إِنَّ اللَّهَ يُدْخِلُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ يُحَلَّوْنَ فِيهَا مِنْ أَسَاوِرَ مِن ذَهَبٍ وَلُؤْلُؤًا ۖ وَلِبَاسُهُمْ فِيهَا حَرِيرٌ(23) وَهُدُوا إِلَى الطَّيِّبِ مِنَ الْقَوْلِ وَهُدُوا إِلَىٰ صِرَاطِ الْحَمِيدِ (24)
ما هو موضوع هذا الفصل وما هي علاقته بمقصد السورة؟
لعل سائلا يسأل: ما أهمية التعظيم؟ ولماذا أفرد الكلام عنه ههنا على طول السورة؟ فيأتي هذا المقطع ليشرح للقارئ المتدبر أن التعظيم قسم الناس قسمين:
الأول: فقد التعظيم من قلبه فانحرف في أصناف ثلاثة: إما ضالا متبعا لشيطان مريد، أو مضلا شيطانا مريدا يضل عن سبيل الله، أو متذبذبا لا إلى هؤلاء ولا إلى هؤلاء، إن أصابته سراء ثبت، وإن أصابته ضراء انقلب، ومرد هذا كله إلى الاستخفاف بالله جل وعلا وعدم تعظيمه.
الثاني: قسم امتلأ قلبه بالتعظيم فآمن وعمل صالحا فقص علينا القرآن ما ستكون عاقبته.
وهذا القسمان كما ذكرنا مردهما إلى وجود التعظيم في القلب أو عدمه.
فكما بدأت سورة البقرة بتقسيم الناس بحسب مقصد السورة وهو الإيمان بالغيب أو الإسلام لله تعالى، بدأت هذه السورة بتقسيم الناس بحسب المقصد أيضا وهو التعظيم إلى هذه الأصناف.
وهذا التقسيم لاستشعار أهمية هذا المقصد، فإن سائلا قد يسأل عن أهميته وعن أثره في الحياة، ولماذا ينبغي لنا أن نهتم بالتعظيم ونزرعه في قلوبنا،
ما مناسبة الابتداء بالقسم الأول؟ وما مناسبة ذكر صفاته؟
وصفت هذه الطائفة بقوله تعالى: ومن الناس، ليشمل أي أحد في أي زمان أو مكان يتصف بهذه الصفات، فالقرآن لم ينزل ليعالج مدة زمنية محددة أو أشخاصا وأسماء بعينها، بل هو يذكر صفاتا ليقيس عليها الناس في كل زمان.
وذكر من صفاته:
يجادلون في الله: أي في صفاته وأسماءه وأفعاله وقدرته جل وعلا.
وهذه المجادلة: بغير علم، فليست جدالا عن بصيرة، فيأتي السؤال هنا: ما هو الدافع لذلك؟ لتجيبنا الآية: ويتبع كل شيطان مريد، أي متجرد للفساد لا شغل له غيره، فهم هذا الصنف وشغله اتباع الشياطين، ليس شيطانا واحدا، ولكنه يبحث عن أي شيطان يتبعه فيما يقول، همه الأول والآخر الجدال في الله بغير بصيرة.
ثم جاءت الآية التالية تبين حال هذا الصنف من الناس: وأن مآله الذي لا يتأخر هو الضلال على يد هؤلاء الشياطين، ثم مضت تسخر منهم وتعرض بهم بالهداية إلى عذاب السعير، في إشارة إلى استبدالهم الهدى بالضلال.
ما مناسبة الاستدلال على البعث بالخلق في الآية التالية؟
الكلام كله مؤسس على إثبات البعث، وإثبات البعث هنا لازم بعد الحديث عن زلزلة الساعة، فكأن خاطرا يخطر للقارئ، إن كان الداعي الأكبر للتعظيم هو الساعة، فماذا نفعل مع من لا يؤمن بالساعة؟
وهنا يأتي الجواب: إن كنتم في ريب من البعث .. إلى آخر الكلام.
وتأمل التطويل والاستطراد في الحديث عن مراحل خلق الإنسان، لعل معتبرا يعتبر أو متعظا يتعظ بما يسمع.
يا أيها الناس هنا خارجة من رحم يا أيها الناس في بداية السورة، والحقيقة أن القارئ المتعجل قد يظن انقطاعا ههنا، أو تحولا غير مبرر وانتقالا غير مفهوم بين الحديث عمن يجادل في الله بغير علم، إلى الحديث عن الاستدلال على البعث بالخلق الأول، خاصة إن لم يستحضر علمي مقاصد السور والمناسبات في هذا الموضع: والحقيقة أن الكلام هنا مناسب غاية المناسبة لما سبق من وجهين:
الأول: أنه عود على ما بدأت به السورة، وكأن الكلام هنا جاء ليعالج سبب عدم تقوى كثير من الناس، والذي نبهت عليه السورة في بدايتها حين قالت: إن زلزلة الساعة شيء عظيم، فكأن هذا الصنف من الناس الذي يجادل في الله بغير علم ضعف يقينه بالآخرة والبعث وشك في إمكان حدوثه فجاءت هذه الآية لتعالج هذه النقطة.
الثاني: أنه بمثابة تنبيه لهؤلاء الضالين المتبعين للشياطين بغير علم، على مصدر علم مستقل لا ينازع فيه أحد، وهو بدء الخلق على إمكانية البعث، فلفتت الآية أنظار (الناس) عموما باعتبارهم المخاطبين على طولها، إلى التأمل في خلق الإنسان ليكونوا على علم يحميهم من اتباع الشياطين، خاصة وأن الحديث عن خلق الإنسان ختم بقوله (لكيلا يعلم من بعد علم شيئا)، فكأنه تعرض به بالمسارعة إلى النظر في الآيات قبل أن يأتيه الكبر فلا يعلم بعد علم شيئا.
فالأمر يحتمل أن يكون علاجا خاصة بالصنف الأول ودواء نافعلا لحالته خاصة دون غيره، أو أن يكون تخللا للكلام عن أصناف الناس فيكون علاجا لهم جميعا.
ما مناسبة الحديث عن الأرض بعد الحديث عن خلق الإنسان؟
لا تستغرب الحديث عن إحياء الأرض بعد الحديث عن خلق الإنسان، فالإنسان ابن هذه الأرض منها خلق، وعليها وبما عليها يعيش، وهو يشبه أمه في كثير من النقاط، فذكر الأصل بعد أن تحدث عن الفرع.
وخلق السموات والأرض أكبر من خلق الإنسان، وتأمل كيف تدب الحياة في الأرض بعدما يسقيها الله بالمطر مثال مشاهد على كيفية إعادة إحياء ما مات بإذن الله.
كما أن إحياء الأرض مشاهد عكس خلق الجنين، فلربما عاند جاهل لم ير خلق الجنين، أما إحياء الأرض بالماء فيعلمه كل أحد.
وهو من باب التنويع في ضرب الأمثال حتى لا تبقى حجة لأحد.
ما مناسبة الآيتين بعدها؟ وما مناسبة القضايا التي رتبت على آية البعث؟
هذه الآيات والقضايا بمثابة فذلكة لكل ما تقدم، وهي المراد منه والنتيجة له.
جاءت الآيات بعد الحديث عن زلزلة الساعة وأحوال الناس في هذا اليوم المهول، ثم الاستدلال على البعث بذكر ابتداء خلق الإنسان ثم إحياء الأرض بعد موتها، ليستدل بكل ما فات على ما جاء في هاتين الآيتين، فقد ذكرت قضايا:
الأولى: أن الله هو الحق
الثانية: أن الله يحيي الموتى
الثالثة: أنه على كل شيء قدير
الرابعة: أن الساعة آتية لا ريب فيها
الخامسة: أن الله يبعث من في القبور.
وهذا كله بمثابة الخلوص إلى النتيجة بعد أن عرض لوقائع وأحداث ودلائل يشاهدها كل أحد تدل على أمر البعث والرجوع.
فخرج بهذه النتائج الخمسة التي أغلقت الحلقة، فقد ابتدأ الكلام بالحديث عن البعث ( يا أيها الناس إن كنتم في ريب من البعث) وانتهى بالحديث عن البعث أيضا ( وأن الله يبعث من في القبور) وكل ما سبق في سياق تعظيم الله عز وجل.
ما مناسبة العودة إلى بيان الصنف الثاني من الجنس الأول من الناس؟
أما الصنف الأول: فجاهل يتبع الشياطين فجاءت آيات خلق الإنسان وإحياء الأرض لتعالج هذه القضية، وهذا أمر واضح، فبمجرد ظهور دلائل الآخرة يعود التعظيم إلى القلب فيترك ما عدا الله وينصرف إلى ربه.
فلأجل هذا بينت الآيات مرض الصنف الأول وذكرت علاجه.
أما الصنف الثاني: فشأنه مختلف فلذلك فصل عن الأول.
وهذا الصنف هم المضلون الذين تنكبوا طريق الله عز وجل كبرا وعنتا، كما أن ذكر هؤلاء المضلين بعد الصفات المترتبة على ما سبق من آيات البعث والنشور يزيد الحديث عنهم تشنيعا وبشاعة.
ما مناسبة ذكر الصنف الثالث؟
الصنف الثالث هو عبد العافية، إن أصابه في دينه سراء ثبت، وإن أصابه في دينه بأس انقلب على عقبيه، روى البخاري عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ – رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا – قَالَ: «{وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَعْبُدُ اللهَ عَلَى حَرْفٍ} قَالَ: كَانَ الرَّجُلُ يَقْدَمُ الْمَدِينَةَ، فَإِنْ وَلَدَتِ امْرَأَتُهُ غُلَامًا، وَنُتِجَتْ خَيْلُهُ، قَالَ: هَذَا دِينٌ صَالِحٌ، وَإِنْ لَمْ تَلِدِ امْرَأَتُهُ وَلَمْ تُنْتَجْ خَيْلُهُ، قَالَ: هَذَا دِينُ سُوءٍ»
وهذا لا يلزم منه أن الآية نزلت في المدينة، ولا يعني هذا قصر الآية على هذه الصورة ولكنه من باب التفسير بالمثال، فالآية تشمل كل صورة مشابهة لهذه الصورة،
ما مناسبة التعقيب على هذا الصنف؟
عقبت الآيت بعدة نقاط على هذا الصنف، فذكرت:
أولا: الدعاء: وأن هذا الشخص المتردد يدعو من دون الله شيئا، وأن تردده وتعلق قلبه إنما هو بالضر والنفع، وسماه دعاء أي طلب في غياب تام لوجود الله وتعظيمه في قلبه، أين تعظيم الله المفضي إلى إفراده بالدعاء في جلب نفع أو دفع ضر؟
ثانيا: ذكر الضر والنفع لأنها محور تذبذب هذا المتردد، فهو يتوجه نحو النفع بقلبه ويهرب من الضر بكل قلبه، فلا يرجو إلا جلب النفع ودفع الضر ولا يلقي بالا لعظمة الله وقدره، وقد سمته الآيات (ضلالا بعيدا) لما فيه من شدة الانصراف.
ثالثا: ختمت الآيات بذم هذا الذي تعلق به قلب المتردد لجلب النفع ودفع الضر، وسمته (بئس المولى وبئس العشير)
ما مناسبة الانتقال إلى الحديث عن الذين آمنوا وعملوا الصالحات؟ وما مناسبة صياغة الآية؟
هذه عادة القرآن لا يذكر ترهيبا إلا ويتبعه بالترغيب، ولا يتحدث عن ثواب إلا ويتبعه بحديث عن عقاب، ولا عن نار إلا ويتبعه بحديث عن جنة، وهذا الانتقال هنا من هذا الباب، وتأمل كيف كان يتحدث عن أصناف من أهل النار والضلال الذين فقد تعظيم الله من قلوبهم بصيغة (ومن الناس) وفيها شيء من الاستصغار والتهكم، وتأمل كيف جاء هنا بالجملة الاسمية المؤكدة، وتأمل كيف ركزت الآيات على عاقبتهم بدخول الجنة، وكيف نسبت هذا الأمر لله جل وعلا.
ما مناسبة الآية بعدها في العودة للحديث عن عبد العافية؟
الذي يظهر والله أعلم أن الآيات جاءت في ذكر الطرف المقابل وعاقبته حتى تكتمل الصورة في ذهن القارئ قبل الانتقال إلى مثال السبب.
وكأنها تقول للقارئ: انظر حال الطرف المقابل وما صار إليه حالهم في مقابل هؤلاء حتى تكتمل الصورة، وحتى تثبت ولا تتزعزع واستبق ثقتك برحمة الله وقدرته على كشف الضر وعلى العوض والجزاء.
ثم تعود به مرة أخرى إلى لومهم وتقريعهم، وهذا ترتيب في غاية الجمال والإبداع.
ما مناسبة المثال بعدها؟
موقع هذه الآية وتفسيرها كذلك من الأمور التي تحتاج بحثا وتحريرا في هذه السورة، حتى أنها أشكلت على الطاهر بن عاشور رحمه الله إلى درجة أنه قال: مَوْقِعُ هَذِهِ الآيَةِ غامِضٌ، ومُفادُها كَذَلِكَ. ولْنَبْدَأْ بِبَيانِ مَوْقِعِها ثُمَّ نُتْبِعُهُ بِبَيانِ مَعْناها فَإنَّ بَيْنَ مَوْقِعِها ومَعْناها اتِّصالًا.
وقيل فيها وجهان:
الأول: أنها استئناف لنوع رابع، وأن ضمير: ينصره هنا عائد على النبي صلى الله عليه وسلم.
الثاني: أنها تتمة لما مضى من الكلام عمن يعبد الله على حرف، ويكون عود الضمير هنا على هذا الصنف وهم المرادون بقوله: من كان يظن.
والحقيقة أن الراجح في الآية أنها استمرار للحديث عن الصنف الثالث وليست استئنافا، وإنما توسط الحديث عن إدخال المؤمنين الجنة الحديث عن الصنف الثالث: زيادة في تبشيع حالهم كما يظهر والله أعلم.
ومما يؤكد هذا الوجه ورجحانه ثلاثة نقاط:
الأولى: عبارتي ( خسر الدنيا والآخرة) و(أن لن ينصره الله في الدنيا والآخرة) فكلتاهما ارتبطتا بعبارة (الدنيا والآخرة).
الثانية:عدم العطف بالواو كما في سابقتيه (ومن الناس) ولم ترد فيه هذه الجملة أصلا فيكون تابعا للقسم الثالث.
الثالثة: عود الضمير في قوله ينصره على من وهو مذكور قلبه، إذ لا بد للضمير أن يعود على مذكور، ولا ذكر هنا للنبي صلى الله عليه وسلم.
ومقتضى الظاهر أن يقال بعد قوله (إن الله يفعل ما يريد) أن يقال: فليمدد بسبب من السماء، إلا أن الآيات أظهرت صفة في هؤلاء وهي: ظنهم أن الله لن ينصرهم في الدنيا والآخرة أو لن ينصر نبيه صلى الله عليه وسلم في الدنيا والآخرة على ما سيأتي من أوجه التفسير، والذي يعنينا هو ظنهم بأن الله لن ينصرهم في الدنيا: فقد أيسوا من النصر استبطاء، ولن ينصرهم أيضا في الآخرة: لشكهم في البعث والحساب والجزاء، فكأن الآية تقول أن عبادتهم لله على حرف وتوليهم لدعوة من لا يملك ضرا ولا نفعا إنما كان بسبب هذا الظن، فإن القرآن لا يترك ظاهرة إلا ويبين دوافعها وعلاجها، فبين أن الدافع هو هذا الظن.
والصورة فيمن علق نفسه بحبل إلى سقف أو نحوه ثم شنق نفسه، والمراد: افعل ما تشاء كقولنا للحسود مت كمدا فإنك لن تبلغ ما تريد.
ويكون معنى الآية على هذا الوجه المختار: فليذهب هؤلاء الذين يعبدون الله على حرف، وقلوبهم متعلقة بما يصيبهم من الخير والفتنة، مغتاظين من حالهم المتقلب، ويظنون أن الله لن ينصرهم، فليذهبوا وليفعلوا ما يشاؤون، وليموتوا بغيظهم فإنهم لا يقدرون على غير ذلك، فالأمور بيد الله يفعل ما يشاء، فلا ينبغي لأحد أن يتسخط من قضاء الله ولا ينقلب إذا أصابته فتنة.
ومن هذا الباب قوله تعالى قوله عز وجل: وَإِنْ كانَ كَبُرَ عَلَيْكَ إِعْراضُهُمْ فَإِنِ اسْتَطَعْتَ أَنْ تَبْتَغِيَ نَفَقاً فِي الْأَرْضِ أَوْ سُلَّماً فِي السَّماءِ فتأتيهم بآية ولو شاء الله لجمعهم على الهدى فلا تكونن من الجاهلين [الأنعام: 35]
ولو ذهبنا للمعنى الآخر وأن الضمير في قوله تعالى: ينصره عائد على النبي صلى الله عليه وسلم، يكون المعنى من كان يظن أن لن ينصر الله نبيه صلى الله عليه وسلم في الدنيا والآخرة فليمدد بسلم إلى السماء ثم ليقطع الوحي عنه ولينظر هل سينتهي هذا الدين وينقضي ويكون له ما أراد مما يغيظه من انتشار هذا الدين وعلوه؟
وهذا المعنى ليس ببعيد وإن كان الأول أقرب.
ما مناسبة الحديث بعدها عن أصناف الأمم؟ ثم عن سجود المخلوقات لله؟
يمكن جعل الثلاث آيات قبل الحديث عن الخصمين كتلة واحدة:
فأما الآية الأولى فتقول للقارئ المتدبر: بمثل ما سبق من الأمثلة والتوضحات ونماذج الهدى والضلال أنزل الله هذا القرآن ليهتدي به الناس، إلا أن الهدى بأمر الله على الرغم من وصول الحق واضحا به للناس.
وأما الثانية فتقول له: بمناسبة أن الله يهدي من يريد، وعلى الرغم من وضوح الآيات كما سبق سابقا: فإن الناس انقسموا واختلفوا في هذا الأمر الجليل، فالأمر في النهاية إلى الله وحده، هو يجمع الناس ويحاسبهم يوم القيامة، وهو على كل شيء شهيد.
وأما الثالثة فتقول: صحيح أن الناس اختلفوا في هذا الهدى فرقا وجماعات، إلا أن الكون كله فيما عداهم يتوجه إلى الله بفطرته ويخضع بناموسه ويسجد لوجهه، إلا الإنسان فهو الوحيد الذي يتفرق، فكثير من الناس يتجه مع الكون ساجدا خاضعا لله خضوع اختيار، وكثير حق عليه العذاب، وهو المهانة الحقيقية فلا كرامة إلا بإكرام الله ولا مهانة إلا بما يهين الله به العاصين، وقد ذل من دان لغير الديان.
وهذا كله غير خارج عن سياق الحديث فإن الكلام افتتح بالحديث عن أصناف المجادلين الضالين، واستمر هنا في الحديث عن الهدى وأنه من الله وحده، وأن الناس ضلوا على الرغم من الآيات الظاهرات، وأن هؤلاء الضالون صوت نشاز في هذا الكون، مهانون سفهاء.
ما مناسبة ختام الفصل بالحديث عن الخصمين؟
هذا بمثابة فذلكة لما سبق واختصار له، فبعد أن بين وأصل وفصل واستدل، جاء هنا بالحديث عن فرقتين اختلفتا في الله عز وجل، فئة معظمة وأخرى فاتها التعظيم فانصرفت ذات اليمين وذات الشمال، إما ضال أو مضل أو متردد، وفي هذه الفذلكة زيادة عما سبق، في نقطتين رئيستين:
الأولى: الحديث عن مآل الفريقين فقد مضى الحديث عن حالهما سابقا دون تفصيل في مآلهما الآخروي، فجاء هذه الآيات لتبين أصناف العذاب عند هؤلاء وأصناف النعيم عند هؤلاء وهذا ما لم يتم التفصيل فيه سابقا، خاصة وأن العذاب ذكر قريبا من هذا الموضع آنفا (وكثير حق عليه العذاب) فجاء هنا ليفصل ويصرف، ويأتي بالكلام على وجه آخر لبيان المعنى وتثبيته، ومما يؤكد ذلك أمران:
الأول: ذكر أصنافا قوية من العذاب، وصور مؤلمة جدا منه، وختم الحديث عنهم بعذاب (الحريق)، تماما كما ختم في الحديث قبل ذلك عنهم بعذاب (الحريق).
الثاني: ختم به الفصل كما ختم سابقا بالحديث عنهم فقوله جل وعلا ( إن الله يدخل الذين آمنوا ) ههنا خارجة من رحم قوله قبلها ( إن الله يدخل الذين آمنوا) ومتصلة بها صلة وثيقة، مع فرق ما ذكر بين الثوابين، حيث اختصر في الأولى لأنها جاءت في معرض ذكر الفريق المقابل، أما هنا فجاء في معرض ذكر التفصيل السابق في عذاب أهل الكفر ونعيم أهل الإيمان.
الثانية: بيان وجود الخصومة بين الفريقين، وتكاد تكون هذه النقطة هي الأهم، إذ أن العرض السابق المتطاول لربما يتطرق إلى ذهن القارئ عدم وجود خصومة بين هذه الفرق، وأن التعايش بين الكافرين الذين لم يقدروا الله حق قدره وبين المؤمنين المعظمين لله وشريعته، سائغ مناسب، فجاءت هذه الآيات لتنفي ذلك ولتبين وجود خصومة وعداوة بناء على هذه العقيدة، وهذا ما يفسر الواقع، فإن العقائد لا تبقى ثابتة بل تتحرك وتتمدد، ويسعى أصحابها في نشرها وإلزام الناس بها حتى لا يشعر أصحابها بغربتهم بين الناس، ومن هنا تنشأ الخصومات والعداوات، خاصة مع وجود المضلين وهم الصنف الثاني الذي جاء الحديث عنهم.
وتأمل كيف جاءت معظم ألفاظ الهدى والضلال في هذا الفصل ما عدا موضعين، فاجتمعت في الفصل الذي تحدث عن الخصمين الذين اختصما في ربهم، فرق بينهم الهدى والضلال.
وكان مقتضى الظاهر في الجملة الأخيرة ( إن الله يدخل ..) أن تكون معطوفة بالواو فتكون: والذين آمنوا وعملوا الصالحات .. إلى آخره، إلا أنها جاءت مبتدأ به مستقلة مفتتحة بحرف التأكيد ومتوجة باسم الجلالة لأجل إثارة انتباه القارئ ليستمع لهذا الكلام والبليغ لا تفوته معرفة أن هذا الكلام قسيم للذي قبله في تفصيل إجمال الخصومة ومآلها، لكن عدل عنه لأجل إثارة الانتباه.
وانظر إلى المقابلة بين ذكر أصناف النعيم وذكر أصناف العذاب:
فالتحلية مقابل يصب من فوق رؤوسهم الحميم
ولباسهم فيها حرير مقابل قطعت لهم ثياب من نار
وهدوا إلى الطيب من القول مقابل وذوقوا عذاب الحريق.
وأما قوله تعالى (وهدوا إلى صراط الحميد) ففيها عودة على قوله سابقا (وأن الله يهدي من يريد) وفيه توطئة ما سيأتي لاحقا من الحديث عن الهدى في الحج، بل يمكن أن نقول أن كل ما سبق من الحديث عن الأصناف عموما وعن الخصومة خصوصا في ختام الفصل، إنما هو تهيئة وتوطئة لما سيأتي لاحقا من الحديث عن بعض آثار هذه الخصومة.
جميع الحقوق متاحة للمسلمين دون اشتراط ذكر المصدر © 2023 7a9ad.com. All Rights Reserved