جذور النبوات

(جذور النبوات)

وَلَقَدْ آتَيْنَا مُوسَىٰ وَهَارُونَ الْفُرْقَانَ وَضِيَاءً وَذِكْرًا لِلْمُتَّقِينَ ﴿٤۸﴾ الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ بِالْغَيْبِ وَهُمْ مِنَ السَّاعَةِ مُشْفِقُونَ ﴿٤۹﴾ وَهَٰذَا ذِكْرٌ مُبَارَكٌ أَنْزَلْنَاهُ ۚ أَفَأَنْتُمْ لَهُ مُنْكِرُونَ ﴿٥۰﴾ وَلَقَدْ آتَيْنَا إِبْرَاهِيمَ رُشْدَهُ مِنْ قَبْلُ وَكُنَّا بِهِ عَالِمِينَ ﴿٥۱﴾ إِذْ قَالَ لِأَبِيهِ وَقَوْمِهِ مَا هَٰذِهِ التَّمَاثِيلُ الَّتِي أَنْتُمْ لَهَا عَاكِفُونَ ﴿٥۲﴾ قَالُوا وَجَدْنَا آبَاءَنَا لَهَا عَابِدِينَ ﴿٥۳﴾ قَالَ لَقَدْ كُنْتُمْ أَنْتُمْ وَآبَاؤُكُمْ فِي ضَلَالٍ مُبِينٍ ﴿٥٤﴾ قَالُوا أَجِئْتَنَا بِالْحَقِّ أَمْ أَنْتَ مِنَ اللَّاعِبِينَ ﴿٥٥﴾ قَالَ بَلْ رَبُّكُمْ رَبُّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ الَّذِي فَطَرَهُنَّ وَأَنَا عَلَىٰ ذَٰلِكُمْ مِنَ الشَّاهِدِينَ ﴿٥٦﴾ وَتَاللَّهِ لَأَكِيدَنَّ أَصْنَامَكُمْ بَعْدَ أَنْ تُوَلُّوا مُدْبِرِينَ ﴿٥٧﴾ فَجَعَلَهُمْ جُذَاذًا إِلَّا كَبِيرًا لَهُمْ لَعَلَّهُمْ إِلَيْهِ يَرْجِعُونَ ﴿٥۸﴾ قَالُوا مَنْ فَعَلَ هَٰذَا بِآلِهَتِنَا إِنَّهُ لَمِنَ الظَّالِمِينَ ﴿٥۹﴾ قَالُوا سَمِعْنَا فَتًى يَذْكُرُهُمْ يُقَالُ لَهُ إِبْرَاهِيمُ ﴿٦۰﴾ قَالُوا فَأْتُوا بِهِ عَلَىٰ أَعْيُنِ النَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَشْهَدُونَ ﴿٦۱﴾ قَالُوا أَأَنْتَ فَعَلْتَ هَٰذَا بِآلِهَتِنَا يَا إِبْرَاهِيمُ ﴿٦۲﴾ قَالَ بَلْ فَعَلَهُ كَبِيرُهُمْ هَٰذَا فَاسْأَلُوهُمْ إِنْ كَانُوا يَنْطِقُونَ ﴿٦۳﴾ فَرَجَعُوا إِلَىٰ أَنْفُسِهِمْ فَقَالُوا إِنَّكُمْ أَنْتُمُ الظَّالِمُونَ ﴿٦٤﴾ ثُمَّ نُكِسُوا عَلَىٰ رُءُوسِهِمْ لَقَدْ عَلِمْتَ مَا هَٰؤُلَاءِ يَنْطِقُونَ ﴿٦٥﴾ قَالَ أَفَتَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لَا يَنْفَعُكُمْ شَيْئًا وَلَا يَضُرُّكُمْ ﴿٦٦﴾ أُفٍّ لَكُمْ وَلِمَا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ ۖ أَفَلَا تَعْقِلُونَ ﴿٦٧﴾ قَالُوا حَرِّقُوهُ وَانْصُرُوا آلِهَتَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ فَاعِلِينَ ﴿٦۸﴾ قُلْنَا يَا نَارُ كُونِي بَرْدًا وَسَلَامًا عَلَىٰ إِبْرَاهِيمَ ﴿٦۹﴾ وَأَرَادُوا بِهِ كَيْدًا فَجَعَلْنَاهُمُ الْأَخْسَرِينَ ﴿٧۰﴾ وَنَجَّيْنَاهُ وَلُوطًا إِلَى الْأَرْضِ الَّتِي بَارَكْنَا فِيهَا لِلْعَالَمِينَ ﴿٧۱﴾ وَوَهَبْنَا لَهُ إِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ نَافِلَةً ۖ وَكُلًّا جَعَلْنَا صَالِحِينَ ﴿٧۲﴾ وَجَعَلْنَاهُمْ أَئِمَّةً يَهْدُونَ بِأَمْرِنَا وَأَوْحَيْنَا إِلَيْهِمْ فِعْلَ الْخَيْرَاتِ وَإِقَامَ الصَّلَاةِ وَإِيتَاءَ الزَّكَاةِ ۖ وَكَانُوا لَنَا عَابِدِينَ ﴿٧۳﴾ وَلُوطًا آتَيْنَاهُ حُكْمًا وَعِلْمًا وَنَجَّيْنَاهُ مِنَ الْقَرْيَةِ الَّتِي كَانَتْ تَعْمَلُ الْخَبَائِثَ ۗ إِنَّهُمْ كَانُوا قَوْمَ سَوْءٍ فَاسِقِينَ ﴿٧٤﴾ وَأَدْخَلْنَاهُ فِي رَحْمَتِنَا ۖ إِنَّهُ مِنَ الصَّالِحِينَ ﴿٧٥﴾ وَنُوحًا إِذْ نَادَىٰ مِنْ قَبْلُ فَاسْتَجَبْنَا لَهُ فَنَجَّيْنَاهُ وَأَهْلَهُ مِنَ الْكَرْبِ الْعَظِيمِ ﴿٧٦﴾ وَنَصَرْنَاهُ مِنَ الْقَوْمِ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا ۚ إِنَّهُمْ كَانُوا قَوْمَ سَوْءٍ فَأَغْرَقْنَاهُمْ أَجْمَعِينَ ﴿٧٧﴾ وَدَاوُودَ وَسُلَيْمَانَ إِذْ يَحْكُمَانِ فِي الْحَرْثِ إِذْ نَفَشَتْ فِيهِ غَنَمُ الْقَوْمِ وَكُنَّا لِحُكْمِهِمْ شَاهِدِينَ ﴿٧۸﴾ فَفَهَّمْنَاهَا سُلَيْمَانَ ۚ وَكُلًّا آتَيْنَا حُكْمًا وَعِلْمًا ۚ وَسَخَّرْنَا مَعَ دَاوُودَ الْجِبَالَ يُسَبِّحْنَ وَالطَّيْرَ ۚ وَكُنَّا فَاعِلِينَ ﴿٧۹﴾ وَعَلَّمْنَاهُ صَنْعَةَ لَبُوسٍ لَكُمْ لِتُحْصِنَكُمْ مِنْ بَأْسِكُمْ ۖ فَهَلْ أَنْتُمْ شَاكِرُونَ ﴿۸۰﴾ وَلِسُلَيْمَانَ الرِّيحَ عَاصِفَةً تَجْرِي بِأَمْرِهِ إِلَى الْأَرْضِ الَّتِي بَارَكْنَا فِيهَا ۚ وَكُنَّا بِكُلِّ شَيْءٍ عَالِمِينَ ﴿۸۱﴾ وَمِنَ الشَّيَاطِينِ مَنْ يَغُوصُونَ لَهُ وَيَعْمَلُونَ عَمَلًا دُونَ ذَٰلِكَ ۖ وَكُنَّا لَهُمْ حَافِظِينَ ﴿۸۲﴾ وَأَيُّوبَ إِذْ نَادَىٰ رَبَّهُ أَنِّي مَسَّنِيَ الضُّرُّ وَأَنْتَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ ﴿۸۳﴾ فَاسْتَجَبْنَا لَهُ فَكَشَفْنَا مَا بِهِ مِنْ ضُرٍّ ۖ وَآتَيْنَاهُ أَهْلَهُ وَمِثْلَهُمْ مَعَهُمْ رَحْمَةً مِنْ عِنْدِنَا وَذِكْرَىٰ لِلْعَابِدِينَ ﴿۸٤﴾ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِدْرِيسَ وَذَا الْكِفْلِ ۖ كُلٌّ مِنَ الصَّابِرِينَ ﴿۸٥﴾ وَأَدْخَلْنَاهُمْ فِي رَحْمَتِنَا ۖ إِنَّهُمْ مِنَ الصَّالِحِينَ ﴿۸٦﴾ وَذَا النُّونِ إِذْ ذَهَبَ مُغَاضِبًا فَظَنَّ أَنْ لَنْ نَقْدِرَ عَلَيْهِ فَنَادَىٰ فِي الظُّلُمَاتِ أَنْ لَا إِلَٰهَ إِلَّا أَنْتَ سُبْحَانَكَ إِنِّي كُنْتُ مِنَ الظَّالِمِينَ ﴿۸٧﴾ فَاسْتَجَبْنَا لَهُ وَنَجَّيْنَاهُ مِنَ الْغَمِّ ۚ وَكَذَٰلِكَ نُنْجِي الْمُؤْمِنِينَ ﴿۸۸﴾ وَزَكَرِيَّا إِذْ نَادَىٰ رَبَّهُ رَبِّ لَا تَذَرْنِي فَرْدًا وَأَنْتَ خَيْرُ الْوَارِثِينَ ﴿۸۹﴾ فَاسْتَجَبْنَا لَهُ وَوَهَبْنَا لَهُ يَحْيَىٰ وَأَصْلَحْنَا لَهُ زَوْجَهُ ۚ إِنَّهُمْ كَانُوا يُسَارِعُونَ فِي الْخَيْرَاتِ وَيَدْعُونَنَا رَغَبًا وَرَهَبًا ۖ وَكَانُوا لَنَا خَاشِعِينَ ﴿۹۰﴾ وَالَّتِي أَحْصَنَتْ فَرْجَهَا فَنَفَخْنَا فِيهَا مِنْ رُوحِنَا وَجَعَلْنَاهَا وَابْنَهَا آيَةً لِلْعَالَمِينَ ﴿۹۱﴾ إِنَّ هَٰذِهِ أُمَّتُكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً وَأَنَا رَبُّكُمْ فَاعْبُدُونِ ﴿۹۲﴾

ما هو موضوع هذا الفصل؟ وما علاقته بالمقصد؟ وما علاقته بما قبله من الكلام؟

هذه بداية فصل جديد في السورة، فصل يسرد حكاية أحوال مجموعة من الأنبياء قبل النبي صلى الله عليه وسلم، وإياك أن تظن أن ذكر الأنبياء ههنا هو عينه ذكر الأنبياء في سور أخرى، كلا، فإن ذكر الأنبياء في كل سورة جاء لخدمة غرض السورة ومقصدها على ما سنبين فيما يلي.

ما مناسبة البدء بذكر موسى وهارون عليهما السلام؟

جاء ذكر موسى وهارون هنا مطعما بذكر ما أوتياه من كتاب عليهما السلام، فقد افتتح الكلام عليهما أصلا بذكر إيتاءهما الكتاب، واستطرد السياق في نقطتين:

الأولى: وصف الكتاب بأنه:

أولا: فرقان: أي يفرق بين الحق والباطل.

ثانيا: ضياء: أي نور يهتدي به من أراد الهداية في الطريق.

ثالثا: ذكر: أي مانعا من النسيان يعيد الناس من بعدهم ويوقظهم من غفلتهم.

والتعاطف هنا ليس لقصد التغاير، فليس الفرقان قسيما للضياء أو الذكر، بل كلهم شيء واحد.

وهذا الذكر مناسب لما ذكر آنفا من قوله تعالى (قل إنما أنذركم بالوحي)، ومناسب أيضا للحديث المتطاول عن الذكر منذ بداية السورة حتى هذا الموضع، وفيه تهيئة وتوطئة لما ذكر آنفا من

الثاني: بيان صفات المتقين الذين سينتفعون بما سبق الحديث عنه من الكتاب، بأنهم:

أولا: يخشون ربهم بالغيب: في مقابل الذين أسروا النجوى هل هذا إلا بشر مثلكم.

ثانيا: هم من الساعة مشفقون: وقد سبق الحديث عن الساعة في أول السورة وفي آخر آية من الفصل السابق فتأمل هذا.

ومناسبة الاسترسال في الحديث عن صفات المتقين، ما ذكر آنفا من الحديث عن (الصم) الذين لا ينتفعون بشيء من هذا الذكر الذي هو عماد الحديث عن قصة موسى وهارون عليهما السلام، بل لم يكد يذكر شيء معه البتة.

وكأن كل ما سبق فيه إغراء للمشركين بأن يؤمنوا بالكتاب الذي جاء به النبي صلى الله عليه وسلم، إذ أنه من جنس الكتاب الذي أوتيه موسى وهارون، وهذا ما يشير إليه ختام الحديث عن موسى وهارون عليهما السلام بالاستفهام الإنكاري في حق المشركين: أفأنتم له منكرون.

وهذا فيما يبدو هي مناسبة ذكر موسى وهارون ههنا.

وتأمل وصفهم بالمشفقين من الساعة في اشتراك مع وصف الملائكة قبلهم بأنه من خشية الله مشفقون، فكأنما فيهم شيء من الملائكية حين أشركتهم الآيات معهم بصفة من الصفات.

ولم تفصل السورة في حكاية قصة موسى وهارون عليهما السلام، كما فصلت سورة الأعراف أوسورة القصص أو سورة طه أو غيرها من السور، لأن المقصد من السورة استحضار اجتماع الأنبياء كأمة واحدة فكان الأولى أن يؤخذ طرف من قصة بما يتناسب مع مقصد السورة، فكان الجانب ههنا هو الإنكار على كفار قريش كفرهم بالكتاب، وتذكيرهم بكتاب موسى عليه السلام واليهود بين أظهرهم، ولأجل هذا ختم الحديث عن موسى وهارون عليهما السلام بالحديث عن القرآن (وهذا ذكر مبارك أنزلناه أفأنتم له منكرون)، فالقرآن لا يترك الأمر دون إشارات يجدها من يتدبر الكلام ليصل إلى المعاني المطلوبة.

كما أن موسى وهارون عليهما السلام ليس لهما تعلق بالعرب كما هو تعلق ابراهيم عليه السلام فإنه هو باني الكعبة التي يحشدون فيها الأصنام ويعكفون عليها بالعبادة، وهو الذي حطم الأصنام، وهو جد العرب لذلك تطاول الحديث عن ابراهيم عليه السلام في مقابل الحديث عن موسى وهارون عليهما السلام.

ما مناسبة التثنية بذكر إبراهيم عليه السلام؟

ابتدأت قصة إبراهيم عليه السلام بذات اللفظ الذي ابتدأ به الحديث عن موسى وهارون عليهما السلام وهو الإيتاء بصيغة الجمع (آتينا) وربما كان في هذا بشارة للنبي صلى الله عليه وسلم بأنه سيؤتى كما أوتي الذين من قبله، وخص بإيتاء الرشد دون إيتاء ذكر أو كتاب، والظاهر أن المراد بالرشد هنا هو الهداية للتوحيد وهي فحوى قصة ابراهيم عليه السلام وهو يشبه حال النبي صلى الله عليه وسلم كثيرا، حيث كان يتعبد في غار حراء، ولم يكن من العاكفين على الأصنام والأوثان التي عكف عليها قومه.

وقوله جل وعلا من قبل: يحتمل معنيين: الأول من قبل الوحي.

والثاني: من قبل النبي صلى الله عليه وسلم، وكلا المعنيين محتمل مناسب للسياق، فهو يشبه النبي صلى الله عليه وسلم من هذا الباب كما ذكرنا، كما أن في الكلام ربطا بينه وبين النبي صلى الله عليه وسلم.

وزاد عليها قوله: وكنا به عالمين: أي باستعداده لحمل الأمانة التي يحملها الأنبياء، وربما كان في هذا إيماء للنبي صلى الله عليه وسلم بأن الله عليم به وبأنه على خطى أبيه إبراهيم مستعد لحمل الأمانة كما حملها أبوه عليه السلام، والمتأمل في قصته عليه السلام في هذه السورة يجد أنها ركزت على إبراز عدة قضايا:

الأولى: محاولاته لإثبات عجز التماثيل التي يعبدونها، ولم يسمها آلهة بل سماها تماثيل، وكأنها شرح عملي لحالة عملية من قوله تعالى: أم لهم آلهة تمنعهم من دوننا، ولقوله تعالى: قل من يكلؤكم بالليل والنهار من الرحمن، ولقوله تعالى: أم اتخذوا من دون الله آلهة من الأرض هم ينشرون، فإذا كانت الآلهة لا تملك ضرا ولا نفعا فهي غير جديرة بالعبادة، ووصفهم بأنهم لها عاكفون: للإشارة إلى انكبابهم على العبادة لها أبدا.

الثانية: إنجاؤه عليه الصلاة والسلام، وكأنها بشارة للنبي صلى الله عليه وسلم بالنجاة كما نجى، وإنجاء لوط معه وكأنها بشارة بنجاة من معه من المؤمنين كما نجى لوطا عليه السلام معه، وزيادته في العطاء حيث وهب الله له إسحاق ويعقوب نافلة أي زيادة، وكأنها بشارة بزيادة العطايا للنبي صلى الله عليه وسلم إن صبر وثبت وسار على نهج الأنبياء، فكما ترك إبراهيم عليه اسلام وطنا وأهلا وقوما عوضه الله الأرض المباركة وطنا خيرا من وطنه وعوضه إسحاق ويعقوب أهلا خيرا من أهله، وعوض من ذريته أمة عظيمة العدد قوما خيرا من قومه، وجعل من نسله أئمة يهدون الناس بأمر الله، وأوحى أليهم فعل الخيرا وإقامة الصلاة وإيتاء الزكان، وكانوا طائعين لله عابدين، كذلك سيكون حال النبي صلى الله عليه وسلم إن ساء على نهج أبيه.

وربما كان الحديث عن الإنجاء إلى الأرض المباركة بشارة للنبي صلى الله عليه وسلم بفتح الشام، ووراثة الوحي كما جاءت به سورة التين.

الثالثة: الثناء عليهم جميعا بأنهم صاروا أئمة يدلون الناس على الهدى بأمره جل وعلا، وبأنهم صاروا أهل وحي لم يتركوا بابا من أبواب العبادة إلا ولجوه: من فعل الخير للناس أو العبادة المحضرة وخص منها إقامة الصلاة وإيتاء الزكاة لأهميتها.

ما هي المعاني التي ينتهي إليها التذييل بقوله: وكنا به عالمين؟

هذا هو الشطر الثاني من الآية بعد قوله آتينا، فكأن هذه الجملة توضح سبب إيتاءه رشده عليه السلام، والمعنى: أننا آتيناه رشده لما علمناه منه من معان جاءت على طول السورة: كاشتغال بالعبادة والصلاح والصبر والخشوع والتقوى.

والمراد من هذا بيان سبب (النبوة) وهو الإتيان بما يريده الله عز وجل من الصفات الحميدة والمباني الرفيعة.

ما هي المعاني الواردة في قصة ابراهيم والتي تربط النبي صلى الله عليه وسلم ومن بعده من الدعاة به عليه الصلاة والسلام؟

المتأمل في قصة إبراهيم يجدها مرتبطة بقضايا السورة في عدة مواضع:

أولها: وصفهم إبراهيم بالفتى، وهذا لأجل التقليل من شأنه والفتى هو من دخل في سن الشباب، وقد يطلق للمدح أو للذم حسب السياق، والسياق هنا للذم وهذه حلقة من حلقات سخرية الأقوام بأنبياءهم.

ثانيها: ثباته على دعوته وهذا فيها تعريض بالنبي صلى الله عليه وسلم ومن خلفه من الدعاة أن يثبتوا كما ثبت عليه الصلاة والسلام.

ثالثها: عيب ابراهيم لآلهتهم بقوله (سمعنا فتى يذكرهم) وقد جاء سابقا (أهذا الذي يذكر آلهتكم) وهذا كله في وضوح البلاغ والدعوة إليه.

رابعها: الحديث عن نصر الآلهة في قولهم (حرقوه وانصروا آلهتكم) وكأنه مثال عملي عن قوله آنفا (لا يستطيعون نصر أنفسهم) وكله لبيان عجز آلهتهم وعدم قدرتها لا على بدء خلق ولا على إحياء ولا على نصر ولا على دفع.

خامسها: إرادة الكيد بإبراهيم وإنجاء الله له، وفيه أيضا تعريض للنبي صلى الله عليه وسلم بما يريد كفار مكة من إيذائه وأن الله ناصره، وفيه رسالة مستمرة لمن خلفهم من حملة رسالة التوحيد بأن الله قادر على إنجاءهم كما أنجى ابراهيم ومحمدا صلى الله عليه وسلم، وإن كان الأمر على غير ذلك أحيانا فلأمر يريده الله ولحكمة يعلمها.

ما مناسبة ذكر لوط هنا بعد إبراهيم؟

ذكر إنجاء لوط آنفا في السورة، فجاء ذكره متصلا هنا خاصة أن لوطا ابن أخي ابراهيم ولصيق به، وقد ذكرت عدة نقاط في قصته:

الأولى: إيتاءه حكما وعلما: وفي هذا تذكير للنبي صلى الله عليه وسلم بنعمة النبوة والعلم الذين أوتيهما.

الثانية: إنجاؤه من القرية التي كانت تعمل الخبائث: وفي هذا بشارة للنبي صلى الله عليه وسلم بإنجاءه كما أنجى من قبله إبراهيم ولوطا.

الثالثة: إدخاله في رحمة الله: وهي أيضا بشرى للنبي صلى الله عليه وسلم بأن الله مدخله في رحمته كما أدخل لوطا في رحمته باعتباره فردا من هؤلاء الأنبياء الصالحين الذين أدخلهم الله في رحمته لصلاحهم.

ويا لتلك المشاعر الجميلة التي ستنقدح في قلب النبي صلى الله عليه وسلم ومن بعده من الدعاة حين يقرؤون مثل هذه القصص التي تربطهم بمن قبلهم على نفس المسير.

ما مناسبة ذكر نوح عليه السلام بعد ذلك؟

قلنا أن الغرض الرئيس من ذكر الأنبياء ههنا هو ربط النبي صلى الله عليه وسلم بسلسلة منهم عليهم الصلاة والسلام، وقد ابتدأ الحديث عنهم بأقربهم بالنبي صلى الله عليه وسلم موسى وهارون وعاد الحديث إلى نوح مرورا بإبراهيم ولوط عليهم السلام، ومما يؤكد هذا المعنى قوله تعالى (من قبل) أن من قبل هؤلاء الأنبياء وهذه اللفظة تفيد التنبيه على أن نصر الله لأنبياءه سنته الماضية في الأمم جميعا بما فيهم قريش، وأنه لم يشذ عن هذه القاعدة شاذة ولا فاذة.

وقد جرى لنوح ما جرى لمن بعده من الأنبياء:

إنجاءه وأهله من الطوفان.

إلا أن هذه أول مرة تذكر فيها الاستجابة حيث دعا نوح ربه أن ينجيه من الإهلاك بالطوفان، وضمن النصر هنا معنى الإنجاء حيث عدي بحرف الجر من، فصار المعنى: نصرناه ونجيناه من القوم الذين كذبوا بآياتنا.

ما مناسبة ذكر داود وسليمان بعدها؟ وما مناسبة ذكر حادثة النفش لمقصد السورة؟

ذكر داود وسليمان عليهما السلام هنا يحمل معنيين رئيسين:

الأول:بشارته بالتمكين صلى الله عليه وسلم، ومن بعده من الدعاة، خاصة وقد جاء في آخر السورة ذكر الزبور، وذكر فيه قضية خاصة، وهي: إيراث الأرض لعباد الله الصالحين.

الثاني: ضرب مثال عن الابتلاء بالخير لقوله تعالى (ونبلوكم بالشر والخير فتنة) أي امتحانا واختبارا، وداود وسليمان عليهما السلام ابتليا بالخير فنجحا في الامتحان فلأجل ذلك ضرب الله فيهما المثل.

وقد ذكر في قصة سليمان وداود عليهم السلام نقاط:

أولها: قضية الحكم بين القوم الذين نفشت في أرضهم غنم القوم: وأتبعت هذه الحادثة بالامتنان عليهما بإيتائهما حكما وعلما: وفي هذا عودة إلى ما أوتيه لوط عليه السلام، وبيان لفضل العلم على سائر النعم التي ذكرت لاحقا من تسخير الجبال والطير والريح والجن، فإن كان العلم والحكمة مقدمان على هذه النعم فما بالك بغيرها؟

والذي يظهر في مناسبة ذكر حادثة النفش أمرين:

الأول: هو تنبيه النبي صلى الله عليه وسلم في هذه المرحلة العصيبة من الدعوة، على أن ما هو عليه من العلم والحكمة أعلى شأنا بكثير من التمكين الذي ربما تتشوف إليه نفسه أو يتمناه من هو معه، وهذا معنى في غاية الجلال فتدبره جيدا، ولأجل هذا لم تذكر تفاصيل الحادثة ولا ما حكم به سليمان ولا ما حكم به داود عليهما السلام، حتى لا ينشغل القارئ المتدبر بما ليس له علاقة بمقصد القصة.

الثاني: ربما كان فيه إشارة إلى رفعة مرتبة النبي صلى الله عليه وسلم على الرغم من كونه خاتم المرسلين، صلى الله عليه وسلم وآخرهم، فإن سليمان مع كونه تاليا لداود عليهما السلام إلا أنه فاقه في العلم والحكم وذلك فضل الله يؤتيه من يشاء.

ثانيها: مظاهر التمكين لكليهما عليهم السلام: وهذا في بيان الزيادة التي أعطياها عليهما السلام، وبشارة للنبي بأن سيكون له من التمكين كما كان لأخويه داود وسليمان، وقد كان هذا فلم يمت النبي صلى الله عليه وسلم حتى دخلت الجزيرة كلها في دين الله.

ما مناسبة ذكر أيوب بعد داود وسليمان عليهم السلام جميعا؟

عادت الآيات لتحكي قصص الصابرين من الأنبياء، بعد أن عرجت سريعا على ذكر الممكنين، لأن مساحة الصبر في حياتهم أكبر وأطول، والمتدبر المتأني في قصة أيوب عليه السلام يجد ذكر:

مناداته: وفي هذا توجيه للنبي صلى الله عليه وسلم ومن خلفه من ورثته بأن يجأروا إلى الله بالدعاء دائما.

كما أن فيها تعريضا بالنبي صلى الله عليه وسلم بالصبر، خاصة وقد ذكر بعده مباشرة اسماعيل وإدريس وذا الكفل، وأثنت الآيات عليهم بأنهم من الصابرين أسوة بأيوب عليه السلام.

وتأمل حال أيوب في دعائه، فلم يزد على أن وصف حاله (مسني الضر) ووصف ربه بصفته (وأنت أرحم الراحمين)

ما مناسبة ذكر ذي النون عليه السلام بعدهم؟

يونس عليه السلام أرسله الله إلى قوم يدعوهم فلما استعصوا عليه، ضاق بهم صدرا وغادرهم مغاضبا، ولم يصبر على معاناة الدعوة معهم، ظانا أن الله لن يضيق عليه الأرض، فالقرى كثيرة والأقوام متعددون وما دام هؤلاء يستعصون على الدعوة فليذهب إلى قوم آخرين، ثم ركب السفينة مغادرا فثقلت عليهم وقال ربانها لا بد من إلقاء أحدهم في البحر فاقترعوا فخرجت القرعة عليه، فألقى بنفسه فالتقمه الحوت مضيقا عليه أشد الضيق، فنادى في الظلمات: ظلمة الليل وظلمة البحر وظلمة بطن الحوت، إلا أن الله الذي لا يخفى عليه شيء في الارض ولا في السماء سمع نداءه وسط الظلمات فاستجاب له ونجاه.

والذي يظهر أن في ذكر يونس عليه السلام معنيان:

الأول: تحذير للنبي صلى الله عليه وسلم من أن يصيبه الجزع كما أصاب يونس عليه السلام، خاصة مع ما أصابه من طول البلاء، ومعنى أن لن نقدر عليه: أي ظن أن لن نضيق عليه تحتيم الإقامة مع القوم الذين أرسل إليهم أو تحتيم قيامه بتبليغ الرسالة، وأنه إذا خرج من ذلك المكان سقط تعلق تكليف التبليغ عنه اجتهادا منه، فعوتب بما حل به إذ كان عليه أن يستعلم ربه عما يريد فعله.

فلا بد لأصحاب الدعوات أن يصبروا ويحتملوا ولا بد أن يثابروا ويثبتوا، فلا يجوز عليهم اليأس من استجابة القلوب مهما واجهوا من إنكار وتكذيب، فقد تصل المرة الواحدة بعد المئة وقد تصل المرة الواحدة بعد الألف، فطريق الدعوات ليس هينا لينا واستجابة النفوس ليست قريبة يسيرة، فهناك ركام من الباطل والضلال والتقاليد والعادات، فلا بد من إزالة هذا الركام الجاثم، ولا بد لإحدى المحاولات أن تصل وتلامس القلوب، فتحول الإنسان تحويلا تاما، وإن الإنسان ليدهش أحيانا وهو يحاول ألف مرة، ثم إذا لمسة عابرة تصيب موضعها في الجهاز البشري فينتفض كله بأيسر مجهود.

الثاني: وعده بإنجاءه كما أنجى يونس بعد أن تاب ورجع واستغفر.

ما مناسبة ذكر زكريا بعد يونس عليهما السلام؟

الذي يظهر من ذكر زكريا ههنا أن النبي صلى الله عليه وسلم قد أهمه أن لا ولد له وأن لا وارث له، وسأل الله أن يجعل له من صفته شيئا إذ أنه الوارث الحق لكل شيء، أو أن المعنى: أنه يريد من يرثه من بعده ثم الله عز وجل يرث كل شيء إرثا أبديا لأنه أشمل وابقى.

ما هي المعاني التي ينتهي إليها تذييل القصص السابقة بقوله تعالى: إنهم كانوا يسارعون .. الآية؟

الضمير هنا عائد على المذكورين جميعا ابتداء من موسى وهارون وانتهاء بزكريا عليه السلام، وهي في مقام التعليل لكل ما سبق من المقامات العالية والإنجاء والاستجابة والنصر، وقد ذكر فيها ثلاثة أمور:

المسارعة في الخيرات

الدعوة رغبا ورهبا

الخشوع لله.

ما هي المعاني التي ينتهي إليها الختام بذكر مريم عليها السلام؟

ختم الثناء هنا على أمة الأنبياء بذكر امرأة نبيئة ليشمل الفضل الرجال والنساء من جهة، ولتشمل عباد الله الصالحين السائرين على نهج الأنبياء حتى لو لم يكونوا رسلا إلى أقوامهم، ولتكون كما قال جل وعلا: أمة واحدة، وافتتح الكلام بالثناء عليها بصفة من صفاتها عليها السلام وهي: إحصان الفرج، فكافأها الله بأن جعلها آية من آياته على قدرته هي وابنها المسيح عليه السلام.

وكأنه أمر للنساء بأمر زائد عن جميع ما سبق من النصر والدعاء بإحصان الفرج لنيل المراتب العالية والفوز بالكرامات السالفة الذكر.

ما مناسبة اختتام المقطع بقوله تعالى: إن هذه أمتكم .. الآية؟

إن هنا مكسورة الهمزة عند جميع القراء فهي ابتداء كلام، وكأنها زبدة الختام لكل ما سبق، وانتقال من حكاية القصص إلى التقرير الذي تدور حوله فصول السورة وهو:

تأكيد ارتباط الأنبياء ببعضهم وكونهم سلسلة واحدة آخذ بعضها بحجز بعض.

أما نتيجة هذه الدعوات فنجدها في الفصل التالي مباشرة.

Map Shot 1

 

Map Shot 2

 

Map Shot 3

جميع الحقوق متاحة للمسلمين دون اشتراط ذكر المصدر © 2023 7a9ad.com. All Rights Reserved