تدارك بقية العمر في سورة العصر

بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَٰنِ الرَّحِيمِ

وَالْعَصْرِ (1) إِنَّ الْإِنْسَانَ لَفِي خُسْرٍ (2) إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَتَوَاصَوْا بِالْحَقِّ وَتَوَاصَوْا بِالصَّبْرِ (3)

ما هي الأسماء الواردة فيها ؟

ليس لها اسم سوى العصر، أو والعصر.

مكان نزولها؟

الظاهر أنها مكية وأكثر المفصل من المكي.

كم عدد آياتها ؟

ثلاثة بلا خلاف.

هل ثبت شيء في فضلها ؟

لم يرد في فضلها شيء من الوحي.

ما هو مقصد السورة وما هي القرائن التي دلت على ذلك، وما مناسبة الاسم للمقصد؟

مقصد السورة واضح من اسمها فالعصر هنا بمعنى الدهر أو الوقت أو الزمان، وهذا ما رجحه الطبري في تفسيره، والسياق يؤيده وهو المتعين، أما من قال أنها صلاة العصر فقول بعيد.

ومن هنا ظهر لنا أن مقصد السورة له علاقة بالوقت أو الزمن، بمعنى استغلال العمر بما ينفع وملئه بالطاعات، ثم بدا لنا بعد التأمل أن هناك معنى أدق في هذه السورة وهو الإشارة ليس إلى مجرد الوقت فحسب، بل إلى ( ما تبقى من العمر ) وسيأتي بيان ذلك، ومن هنا رأينا أن يكون مقصد السورة ( تدارك بقية العمر في سورة العصر ).

والسورة قسمان:

الأول: في بيان الخسر

الثاني: في بيان الربح.

ولو تأمل الإنسان حاله حين يبلغ الأربعين، ما هي الأعمال التي يمكن أن يقدمها بين يدي وقوفه أمام ربه عز وجل؟ فالخاسر من لم يجد شيئا والرابح من وجد.

ما مناسبة القسم بالعصر هنا على الخسر ابتداء؟ وما مناسبة استخدام هذه اللفظة بعينها دون غيرها؟

الذي يظهر أن الله أقسم في هذه السورة بالوقت على خسر الإنسان، لأنه رزق الإنسان الوحيد الذي يتناقص بشكل دائم، فالمتبقي من العمر رأس مال متناقص بشكل مستمر، ولا أحد يستطيع أن يوقف هذا التناقص أو يحد منه، لذلك فهو في خسر دائم.

كل أرزاق الإنسان تزيد وتنقص، المال يزيد وينقص، الصحة تزيد وتنقص قد تمرض دهرا ثم يكتب الله لك العافية مرة أخرى، الفراغ يزيد وينقص، الأولاد يزيدون وينقصون، وكثيرا ما سمعنا عمن يرزق أولادا كثرا في آخر عمره، إلا العمر والوقت فإنه في نقص مستمر.

ولما كان العمر أو ما تبقى منه هو ظرف جميع الأعمال أقسم الله عز وجل به على خسر الإنسان للتنبيه على أن من غفل عن هذا المعنى فهو خاسر لا محالة.

يقول الإمام الغزالي في كتاب بداية الهداية: ( وأوقاتك عمرك، وعمرك رأس مالك، وعليه تجارتك، وبه وصولك إلى نعيم الأبد في جوار الله تعالى، فكل نفس من أنفاسك جوهر لا قيمة له، إذ لا بدل له، فإذا فات فلا عودة له.

فلا تكن كالحمقى الذين يفرحون في كل يوم بزيادة أموالهم مع نقص أعمارهم، فأي خير في مال يزيد وعمر ينقص!؟

فلا تفرح إلا بزيادة علم أو عمل، فإنهما رفيقاك يصحبانك في القبر حيث يتخلف عنك أهلك ومالك وولدك وأصدقاؤك ).

وقد نقلنا هذا النص من الكتاب الماتع ( قيمة الزمن عند العلماء ) للشيخ عبد الفتاح أبو غدة وهو من أمتع ما كتب في هذا الموضوع، ولا غنى – لا نقول لطالب علم – بل لمسلم عن مثل هذا الكتاب.

وكأن المعنى: والعصر العجيب أمره حيث يفرح الإنسان بمضيه ظانا أنه ود الربح مع أنه هدم لعمره وإنه لفي خسر.

ويبين خطر هذه المسألة: أن الإنسان إذا كان في آخر عمره، وشعر بأيامه المعدودة وساعاته المحدودة، وأراد زيادة يوم فيها، يتزود منها أو ساعة وجيزة يستدرك بعضا مما فاته، لم يستطع لذلك سبيلا، فيشعر بالأسى والحزن على الأيام والليالي والشهور والسنين التي ضاعت عليه في غير ما كسب ولا فائدة، كان من الممكن أن تكون مربحة له، وفي الحديث الصحيح: «نعمتان مغبون فيهما الإنسان: الصحة والفراغ» .

أي: أنهما يمضيان لا يستغلهما في أوجه الكسب المكتملة، فيفوتان عليه بدون عوض يذكر، ثم يندم ولات حين مندم.

وما مناسبة استخدام هذه اللفظة بعينها دون غيرها؟

لاستخدام هذه اللفظة مناسبات:

منها: أن لفظة العصر تستخدم للدلالة على آخر وقت النهار وكأنها تلفت نظر المتدبر إلى دنو أجله وأن ما بقي من عمره قليل مهما ظنه كثيرا فكأنه صار في آخر عمره، وكأنما شارفت شمس العمر على الغروب.

ومنها: أن العصر يستخدم أيضا في عملية الحصول على الخلاصة من المعصور، فكأن هذه اللفظة تنبه المتدبر إلى ضرورة أن تعصر ما تبقى من عمرك لتستخرج أفضل ما فيه.

ومنها: أن الزمن سيعصرك إن لم تنتبه لتناقص أنفاسك المتبقية فيه.

وأهم ما يشير إلى المقصود : ( قصر السورة ) فكأنها تشير أيضا إلى قصر ما تبقى من العمر فكأنها موعظة مودع في قليل بقية.

ومنها: أن مثل هذا الوقت وهو العصر بالنسبة لموقعه في اليوم في الثلث الأخير، هو أكثر الفترات إنجازا في المشاريع، فهي تبدأ متعثرة عادة ثم يزيد فيها الإنتاج حتى يبلغ أعلى مستوياته في نهاية الثلث الثاني وبداية الثلث الثالث، فكأن فيه إشارة إلى ملء الوقت بأعلى معدلات الإنجاز.

مؤكدات الخسر:

جاء الخسر هنا مؤكدا بمؤكدين لفظيين:

إن واللام، وفي هذا تأكيد على موضوع كون الإنسان خاسرا ولا شك في أصل الأمر، إلا من جاء الاستثناء فيهم.

كما أن طريقة التعبير عن الخسران في قوله ( في خسر ) أبلغ بكثير من قول ( إن الإنسان لخاسر ) مثلا، فالأولى تفيد أن الإنسان واقع في الخسر، والخسر محيط به من كل جانب وهذا أقوى في الدلالة.

ما دلالة الاستثناء هنا؟

الاستثناء إشارة إلى أن الناجين من الخسر والذين هم مستثنين، هم أقل عددا، فالاستثناء دائما يكون أقل عددا من المستثنى منه.

ما مناسبة سورة العصر لما قبلها سورة التكاثر؟

بداية سورة التكاثر تحدثت عن الإلهاء وهو الفعل وسورة العصر تحدثت عن الزمن، فكأن من تلهى ملء وقته بما لا ينفع فجاءت السورتان متكاملتان.

كما تحدثت السورة عن النعيم، وإذا ربطنا بينها وبين سورة العصر وجدنا أن المذموم هو من ألهاه التنعم

ما مناسبة مطلع السورة لمقطعها؟

ابتدأت السورة بالعصر وانتهت بلفظة الصبر، فالكلمتان متناسبتان من أوجه:

منها: أن الكلمتان على وزن واحد

ومنها: أن الكلمتان متناسبتان في الحروف وليس بينهما خلاف إلا في حرف واحد.

ومنها: أن الصبر هو حبس النفس على العمل مع مرور الوقت، والصبر والاستمرار هو دليل الصدق في النية، فكم من إنسان بدأ بمشروع ولم يصبر نفسه على إتمامه، وآفة الأعمال الانقطاع نتيجة فقدان الصبر على العمل الذي تكرهه النفوس، وقس على ذلك ما شئت.

روى البخاري عَنْ عَائِشَةَ، قَالَتْ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «أَحَبُّ الْأَعْمَالِ إِلَى اللهِ تَعَالَى أَدْوَمُهَا، وَإِنْ قَلَّ»، قَالَ: وَكَانَتْ عَائِشَةُ إِذَا عَمِلَتِ الْعَمَلَ لَزِمَتْهُ

ما مناسبة اختيار هذه الأمور الأربعة للتفريق بين الخاسرين والرابحين؟ وما هي مناسبتها لبعضها البعض؟

بدأت السورة بالحديث عن الإيمان، والإيمان هو أصل الحياة الكبيرة والعقيدة التي تنبثق منها كل فروغ الخير، وهو النبع الذي تنبثق منه الأعمال الصالحات المذكورة بعدها مباشرة، فالإيمان هي الحقيقة الإيجابية المتحركة التي ما إن تستقر في الضمير حتى تنعكس في الخارج على صورة عمل صالح، وهذه هي العقيدة الإسلامية لا يمكن أن تظل خامدة لا تتحرك، فإن لم تفعل فهي مزيفة أو ميتة، وهل تستطيع عطور الزهرة ألا تفوح؟

ومن هنا كانت قيمة الإيمان إنه حركة وعمل وبناء وتعمير يتجه إلى الله، وليس مجرد نوايا طيبة لا تتمثل في حركة ولا انكماشا وسلبية وانزواء في مكنونات النفس، ومن تتبع ارتباط الإيمان بالعمل الصالح في القرآن لوجد عجبا.

أما التواصي بالحق وبالصبر فتبرز بها صورة جماعة المسلمين التي تشعر بكيانها كما تشعر بواجبها والتي تعرف حقيقة ما هي مقدمة عليه من الإيمان العمل الصالح، فتتواصى فيما بينها بالنهوض بالأمانة الكبرى.

فمن خلال لفظ التواصي ومعناه وطبيعته وحقيقته تبرز صورة جماعة المسلمين أمة خيرة قوية واعية قائمة على حراسة الحق والخير، متواصية بالحق والصبر.

والتواصي بالحق ضرورة فالنهوض به عسير والمعوقات كثيرة: هوى النفس، ومنطق المصلحة وتصورات البيئة وطغيان الطغاة.

والتواصي بالصبر كذلك ضرورة، فالقيام بما سبق ذكره من الإيمان والعمل الصالح وحراسة الحق والعدل، من أصعب ما يواجه الفرد والجماعة ولا بد إذا من الصبر.

والتواصي بالصبر يضاعف المقدرة بما يبعثه من الإحساس بوحدة الهدف وما يثيره من معاني الجماعة التي لا تعيش حقيقة الإسلام إلا في جوها ولا تبرز إلا بها.

والسورة بهذا تنسف مفهوم الدين القاصر على الفرد وعلى العبادات المجردة، وتحل مكانه مفهوم الدين بمعناه الواسع الذي يمتد ليشمل كل المحيطين بالفرد المؤمن، فلم تكتفي الآية بوصف الرابحين بصفات ذاتية شخصية مثل الإيمان والعمل الصالح، وثباتهم على الحق وتحليهم بالصبر، بل زادت على ذلك وصفا آخر وهو ( التواصي )، والتواصي على وزن التفاعل، أي يوصي بعضهم بعضا، بالحق وبالصبر، فلم تكن مثل هذه السور الفاذة أن تمر على وصف الرابحين دون أن تبرز جانب العبادات المتعدية للغير، فلا ينبغي للمؤمن أن يكون صلاحه مقتصرا على نفسه بل لا بد أن يكون من المصلحين الآمرين بالمعروف والناهين عن المنكر، ومن تتبع هذا المعنى في القرآن وجد عجبا، وليس المقام مقام تفصيل، ولكن مقام تنبيه ولفت نظر.

ما مناسبة ذكر الخسر مع الظرفية؟

في هذه السورة قال تعالى ( إن الإنسان لفي خسر ) ولم يقل مثلا ( إن الإنسان لخاسر ) وهذه الصيغة تفيد صورة الإنسان والخسر محيط به من كل جانب، وهذا أبلغ بكثير من قوله إن الإنسان لخاسر.

ما مناسبة تنكير الخسر؟

يحتمل أن يكون للتنويع أي في خسر متعدد، والأقرب أنه للتعظيم والتعميم، أي في خسر عظيم عام، وهذا فيه مبالغة بالمعنى لينتبه السامع ويستقيظ الغافل.

ما مناسبة اختيار الحق والصبر كأمرين للتواصي بهما بين المسلمين؟

ذكر التواصي هنا مع أمرين:

الحق والصبر

فأما الأول: فلأجل أن يبحث الإنسان عن الحق ويعرفه ويستقر عليه.

وأما الثاني: فلأجل أن يستمر الإنسان على الحق الذي هو عليه.

وفي هذا أيضا إشارة إلى أمر مهم جدا: وهو أن الاستمرار على الحق صعب ولا بد، وأن من لوازم البقاء عليه أن يحبس الإنسان نفسه فيه على ما يكره، وأنه لا بد من ابتلاءات وامتحانات، حتى يتبين الصادق من الكاذب، فإذا عرف الإنسان هذا، استعد وتهيأ، وشمر وأعد العدة فيهون عليه ما يلاقيه.

ما مناسبة تكرار لفظ التواصي وإفراد الحق والصبر بلفظين منفصلين؟

هذا التكرار يفيد التأكيد على كل أمر لوحده، وذلك لإبراز أهميته، فكأن الآية تقول: الالتزام بالحق والصبر عليه أمراه مهمان فانتبهوا لكليهما، وتواصوا بالثاني بمقدار تواصيكم بالأول.Map Shot 1

 

Map Shot 2

Map Shot 3

2019 04 12 23h18 251

 

 

جميع الحقوق متاحة للمسلمين دون اشتراط ذكر المصدر © 2023 7a9ad.com. All Rights Reserved