بين يدي السورة

إمامة الأمم في سورة الإسراء

ما هي الأسماء الواردة فيها ؟

سُمِّيَتْ في كَثِيرٍ مِنَ المَصاحِفِ سُورَةَ الإسْراءِ، وصَرَّحَ الأُلُوسِيُّ بِأنَّها سُمِّيَتْ بِذَلِكَ؛ إذْ قَدْ ذُكِرَ في أوَّلِها الإسْراءُ بِالنَّبِيِّ ، واخْتُصَّتْ بِذِكْرِهِ.

وتُسَمّى في عَهْدِ الصَّحابَةِ (سُورَةَ بَنِي إسْرائِيلَ)، فَفي جامِعِ التِّرْمِذِيِّ في أبْوابِ الدُّعاءِ «عَنْ عائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْها قالَتْ: كانَ النَّبِيُّ لا يَنامُ حَتّى يَقْرَأ الزُّمَرَ وبَنِي إسْرائِيلَ» .

وفِي صَحِيحِ البُخارِيِّ «عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَسْعُودٍ أنَّهُ قالَ في بَنِي إسْرائِيلَ والكَهْفِ ومَرْيَمَ: إنَّهُنَّ مِنَ العِتاقِ الأُوَلِ وهُنَّ مِن تِلادِي»، وبِذَلِكَ تَرْجَمَ لَها البُخارِيُّ في كِتابِ التَّفْسِيرِ، والتِّرْمِذِيُّ في أبْوابِ التَّفْسِيرِ.

وتُسَمّى أيْضًا سُورَةَ سُبْحانَ؛ لِأنَّها افْتُتِحَتْ بِهَذِهِ الكَلِمَةِ، قالَ في بَصائِرِ ذَوِي التَّمْيِيزِ.

مكان نزولها؟

وهِيَ مَكِّيَّةٌ عِنْدَ الجُمْهُورِ، قِيلَ: إلّا آيَتَيْنِ مِنها، وهُما ﴿وإنْ كادُوا لَيَفْتِنُونَكَ﴾ [الإسراء: ٧٣] إلى قَوْلِهِ قَلِيلًا، وقِيلَ: إلّا أرْبَعًا، هاتَيْنِ الآيَتَيْنِ، وقَوْلُهُ ﴿وإذْ قُلْنا لَكَ إنَّ رَبَّكَ أحاطَ بِالنّاسِ﴾ [الإسراء: ٦٠]، وقَوْلُهُ ﴿وقُلْ رَبِّ أدْخِلْنِي مُدْخَلَ صِدْقٍ﴾ [الإسراء: ٨٠] الآيَةَ، وقِيلَ: إلّا خَمْسًا، هاتِهِ الأرْبَعُ، وقَوْلُهُ ﴿إنَّ الَّذِينَ أُوتُوا العِلْمَ مِن قَبْلِهِ﴾ [الإسراء: ١٠٧] إلى آخِرِ السُّورَةِ، وقِيلَ: إلّا خَمْسَ آياتٍ غَيْرَ ما تَقَدَّمَ، وهي المُبْتَدَأةُ بِقَوْلِهِ ﴿ولا تَقْتُلُوا النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إلّا بِالحَقِّ﴾ [الإسراء: ٣٣] الآيَةَ، وقَوْلُهُ ﴿ولا تَقْرَبُوا الزِّنى﴾ [الإسراء: ٣٢] الآيَةَ، وقَوْلُهُ ﴿أُولَئِكَ الَّذِينَ يَدْعُونَ﴾ [الإسراء: ٥٧] الآيَةَ، وقَوْلُهُ ﴿أقِمِ الصَّلاةَ﴾ [الإسراء: ٧٨] الآيَةَ، وقَوْلُهُ ﴿وآتِ ذا القُرْبى حَقَّهُ﴾ [الإسراء: ٢٦] الآيَةَ، وقِيلَ إلّا ثَمانِيًا مِن قَوْلِهِ ﴿وإنْ كادُوا لَيَفْتِنُونَكَ﴾ [الإسراء: ٧٣] إلى قَوْلِهِ ﴿سُلْطانًا نَصِيرًا﴾ [الإسراء: ٨٠] .

وأحْسَبُ أنَّ مَنشَأ هاتِهِ الأقْوالِ أنَّ ظاهِرَ الأحْكامِ الَّتِي اشْتَمَلَتْ عَلَيْها تِلْكَ الأقْوالُ يَقْتَضِي أنَّ تِلْكَ الآيَ لا تُناسِبُ حالَةَ المُسْلِمِينَ فِيما قَبْلَ الهِجْرَةِ فَغَلَبَ عَلى ظَنِّ أصْحابِ تِلْكَ الأقْوالِ أنَّ تِلْكَ الآيَ مَدَنِيَّةٌ. وسَيَأْتِي بَيانُ أنَّ ذَلِكَ غَيْرُ مُتَّجِهٍ عِنْدَ التَّعَرُّضِ لِتَفْسِيرِها والظاهر أنها كلها مكية نزلت مرة واحدة عقب حادثة الإسراء .

وقَدِ اخْتُلِفَ في وقْتِ الإسْراءِ، والأصَحُّ أنَّهُ كانَ قَبْلَ الهِجْرَةِ بِنَحْوِ سَنَةٍ وخَمْسَةِ أشْهُرٍ، فَإذا كانَتْ قَدْ نَزَلَتْ عَقِبَ وُقُوعِ الإسْراءِ بِالنَّبِيِّ تَكُونُ قَدْ نَزَلَتْ في حُدُودِ سَنَةِ اثْنَتَيْ عَشْرَةَ بَعْدَ البَعْثَةِ، وهي سَنَةُ اثْنَتَيْنِ قَبْلَ الهِجْرَةِ في مُنْتَصَفِ السَّنَةِ فهي من أواخر السور المكية التي نزلت..

ولَيْسَ افْتِتاحُها بِذِكْرِ الإسْراءِ مُقْتَضِيًا أنَّها نَزَلَتْ عَقِبَ وُقُوعِ الإسْراءِ، بَلْ يَجُوزُ أنَّها نَزَلَتْ بَعْدَ الإسْراءِ بِمُدَّةٍ.

نَزَلَتْ هَذِهِ السُّورَةُ بَعْدَ سُورَةِ القَصَصِ، وقَبْلَ سُورَةِ يُونُسَ

وعُدَّتِ السُّورَةُ الخَمْسِينَ في تَعْدادِ نُزُولِ سُورَةِ القُرْآنِ.

فَقَدْ أخْرَجَ ابْنُ جَرِيرٍ عَنِ ابْنِ عَبّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ تَعالى عَنْهُما أنَّهُ قالَ: إنَّ التَّوْراةَ كُلَّها في خَمْسَ عَشْرَةَ آيَةً مِن سُورَةِ بَنِي إسْرائِيلَ، وذَكَرَ تَعالى فِيها عِصْيانَهم وإفْسادَهم وتَخْرِيبَ مَسْجِدِهِمْ واسْتِفْزازَهُمُ النَّبِيَّ ﷺ وإرادَتَهم إخْراجَهُ مِنَ المَدِينَةِ وسُؤالَهم إيّاهُ عَنِ الرُّوحِ، ثُمَّ خَتَمَها جَلَّ شَأْنُهُ بِآياتِ مُوسى عَلَيْهِ السَّلامُ التِّسْعِ وخِطابِهِ مَعَ فِرْعَوْنَ، وأخْبَرَ تَعالى أنَّ فِرْعَوْنَ أرادَ أنْ يَسْتَفِزَّهم مِنَ الأرْضِ فَأُهْلِكَ ووَرِثَ بَنُو إسْرائِيلَ مِن بَعْدِهِ، وفي ذَلِكَ تَعْرِيضٌ بِهِمْ أنَّهم سَيَنالُهم ما نالَ فِرْعَوْنَ حَيْثُ أرادُوا بِالنَّبِيِّ ﷺ ما أرادَ هو بِمُوسى عَلَيْهِ السَّلامُ وأصْحابِهِ، ولَمّا كانَتْ هَذِهِ السُّورَةُ مُصَدَّرَةً بِقِصَّةِ تَخْرِيبِ المَسْجِدِ الأقْصى افْتُتِحَتْ بِذِكْرِ إسْراءِ المُصْطَفى ﷺ تَشْرِيفًا لَهُ بِحُلُولِ رِكابِهِ الشَّرِيفِ جَبْرًا لِما وقَعَ مِن تَخْرِيبِهِ.
وقالَ أبُو حَيّانَ في ذَلِكَ: إنَّهُ تَعالى لَمّا أمَرَ نَبِيَّهُ عَلَيْهِ الصَّلاةُ والسَّلامُ بِالصَّبْرِ ونَهاهُ عَنِ الحُزْنِ عَلى الكَفَرَةِ وضِيقِ الصَّدْرِ مِن مَكْرِهِمْ، وكانَ مِن مَكْرِهِمْ نِسْبَتُهُ ﷺ إلى الكَذِبِ والسِّحْرِ والشِّعْرِ وغَيْرِ ذَلِكَ مِمّا رَمَوْهُ وحاشاهُ بِهِ عَقِبَ ذَلِكَ بِذِكْرِ شَرَفِهِ وفَضْلِهِ وعُلُوِّ مَنزِلَتِهِ عِنْدَهُ عَزَّ شَأْنُهُ، وقِيلَ: وجْهُ ذَلِكَ اشْتِمالُها عَلى ذِكْرِ نِعَمٍ مِنها خاصَّةٌ ومِنها عامَّةٌ، وقَدْ ذَكَرَ في سُورَةِ النَّحْلِ مِنَ النِّعَمِ ما سُمِّيَتْ لِأجْلِهِ سُورَةَ النِّعَمِ واشْتِمالِها عَلى ذِكْرِ شَأْنِ القُرْآنِ العَظِيمِ كَما اشْتَمَلَتْ تِلْكَ، وذَكَرَ سُبْحانَهُ هُناكَ في النَّحْلِ: ﴿يَخْرُجُ مِن بُطُونِها شَرابٌ مُخْتَلِفٌ ألْوانُهُ فِيهِ شِفاءٌ لِلنّاسِ﴾ وذَكَرَ هاهُنا في القُرْآنِ: ﴿ونُنَزِّلُ مِنَ القُرْآنِ ما هو شِفاءٌ ورَحْمَةٌ لِلْمُؤْمِنِينَ﴾ وذَكَرَ سُبْحانَهُ في تِلْكَ أمْرَهُ بِإيتاءِ ذِي القُرْبى وأمَرَ هُنا بِذَلِكَ مَعَ زِيادَةٍ في قَوْلِهِ سُبْحانَهُ: ﴿وآتِ ذا القُرْبى حَقَّهُ والمِسْكِينَ وابْنَ السَّبِيلِ ولا تُبَذِّرْ تَبْذِيرًا﴾ وذَلِكَ بَعْدَ أنْ أمَرَ جَلَّ وعَلا بِالإحْسانِ بِالوالِدَيْنِ اللَّذَيْنِ هُما مَنشَأُ القَرابَةِ إلى غَيْرِ ذَلِكَ مِمّا لا يُحْصى فَلْيُتَأمَّلْ. واللَّهُ تَعالى المُوَفِّقُ.

كم عدد آياتها ؟

وعَدَدُ آيِها مِائَةٌ وعَشْرٌ في عَدِّ أهْلِ المَدِينَةِ، ومَكَّةَ، والشّامِ، والبَصْرَةِ، ومِائَةٍ وإحْدى عَشْرَةَ في عَدِّ أهْلِ الكُوفَةِ.

هل ثبت شيء في فضلها ؟

لم يثبت في فضلها شيء بخصوصها.

ما هو مقصد السورة وما هي القرائن التي دلت على ذلك، وما مناسبة الاسم للمقصد؟

لولا اسم السورة لكان اختيار مقصد هذه السورة بالذات من أصعب الأمور وذلك لشدة تنوع المعاني وتشعثها فيها، جريا على عادة السور المكية التي تسلب الألباب لما فيها من تنوع في المعاني، والتي يظنها القارئ المستعجل الجاهل ضربا من عدم التناسق، أما القارئ المتدبر المتأني فيعلم أن وراء هذا التنوع إعجازا لا يستطيعه البشر.

وللسورة اسمان يبدو أن كلاهما توقيفي:

الأول: الإسراء

الثاني: بني إسرائيل.

ولم تسم هذه السورة بسورة بني إسرائيل لافتتاحها بذكر بني إسرائيل فحسب، ولكن وراء هذا الاختيار أمر أبعد مرتبط بذكر بني إسرائيل في أول وآخر السورة من جهة، ومرتبط بالإسراء من جهة أخرى، والإسراء معروف كان قبل الهجرة إلى المدينة بسنة واحدة أو سنتين، أي بعد مرور اثني عشر عامًا من البَعثة، وهي سنوات ذاق خلالها النبي صلى الله عليه وسلم وصحبه الكرام ألوانًا وأصنافًا من الاضطهاد والعذاب، شمل الجانب النفسي والاجتماعي والاقتصادي.

وكان من ذلك أنَّ قريشًا سعت إلى تفعيل سياسة الحصار الاقتصادي لبني عبد مناف، والتجويع الجماعي لهم، كُفَّارًا ومسلمين، واتفقوا على ألاَّ يُنَاكحوهم، ولا يُزَوِّجوهم ولا يتزوَّجوا منهم، ولا يُبايعوهم، ولا يجالسوهم، ولا يَدخلوا بيوتهم، ولا يكلِّموهم، وأن لا يَقْبَلوا من بني هاشم وبني المطَّلب صلحًا أبدًا، ولا تأخذهم بهم رأفة حتى يُسْلِموا رسول الله صلى الله عليه وسلم لهم للقتل!!

وهنا بدأت حِقبة جديدة من المعاناة والألم، حيث حُوصِر المسلمون والمشركون من بني عبد مناف ومعهم أبو طالب في “شِعْبِ أبي طالب”، وقد بلغ الجهد بهم حتى إنه كانت تُسمَع أصوات النساء والصبيان وهم يصرخون من شدَّة الألم والجوع، وحتى اضطرُّوا إلى أكل أوراق الشجر والجلود. انظر مقال: الفصولة والحصار الاقتصادي في شعب أبي طالب

وقد ظلَّت تلك المأساة البشريَّة طيلة ثلاثة أعوام كاملة، حتى جاء شهر المحرم من السنة العاشرة من البعثة، وشاء الله تعالى أن يُفَكَّ الحصار البشع عن بني هاشم وبني عبد المطَّلب، وكان ذلك على يد ثُلَّة من مشركي قريش جمعتهم النخوة والحميَّة القبليَّة.

وما إن انتهت هذه السنون العجاف حتى تلاها عام الحزن، الذي لم يكن تسميته إشفاقًا من أحد، ولكنها تسمية النبي صلى الله عليه وسلم لمَّا حدثتْ له مصيبتان كبيرتان في هذا العام (العاشرة من البعثة)، أمَّا الأولى فهي موت أبي طالب، عمِّ رسول الله صلى الله عليه وسلم، والسند الاجتماعي له، وأمَّا الثانية فهي وفاة خديجة رضي الله عنها، زوج رسول الله صلى الله عليه وسلم والسند العاطفي والقلبي له!!

وقعت هاتان الحادثتان المؤلمتان خلال أيَّام معدودة، فازدادت مشاعر الحزن والألم في قلب رسول الله صلى الله عليه وسلم، وزاد عليه ما كان مِن تجرُّؤ المشركين عليه؛ حيث كاشفوه بالنكال والأذى بعد موت عمِّه أبي طالب.

وقد ازداد رسول الله صلى الله عليه وسلم غمًّا على غمٍّ حتى يئس من قريش، وخرج إلى أكبر القبائل بعد قريش وهي قبيلة ثقيف بالطائف؛ رجاء أن يستجيبوا لدعوته أو يُئووه وينصروه على قومه، فلم يرَ ناصرًا ولم يرَ مَن يُئوي، وقد قال له أحدهم: أما وجد الله أحدًا يرسله غيرك؟ وقال آخر: والله لا أُكلِّمك أبدًا… لئن كنت رسولاً من الله كما تقول لأنت أعظم خطرًا من أن أردَّ عليك الكلام، ولئن كنت تكذب على الله ما ينبغي لي أن أكلمك!

وهنا قام رسول الله صلى الله عليه وسلم من عندهم وقد يئس من خيرهم، وقال لهم: “إِذْ قَدْ فَعَلْتُمْ فَاكْتُمُوا عَنِّي”. إلاَّ إنهم لم يفعلوا، بل تطاولوا عليه صلى الله عليه وسلم، وأَغْرَوْا به سفهاءهم الذين رَمَوْهُ بالحجارة هو ومولاه زيد بن حارثة، حتى دَمِيَتْ قدمه الشريفة، وشُجَّ رأس زيد، ولم يزل به السفهاء حتى ألجئُوه إلى حائط لعتبة وشيبة ابني ربيعة، فخرج وقد امتلأ قلبه صلى الله عليه وسلم كآبة وحزنًا ممَّا لقي من الشدَّة، وأسفًا على أنه لم يؤمن به أحد، وقد جاء هذا الحزن وذاك الألم معبَّرًا عنه في حديث عائشة رضي الله عنها المتفق عليه؛ إذ سألتْ رسول الله صلى الله عليه وسلم: هَلْ أَتَى عَلَيْكَ يَوْمٌ كَانَ أَشَدَّ مِنْ يَوْمِ أُحُدٍ؟ فَقَالَ صلى الله عليه وسلم: “لَقَدْ لَقِيتُ مِنْ قَوْمِكِ مَا لَقِيتُ، وَكَانَ أَشَدُّ مَا لَقِيتُ… إِذْ عَرَضْتُ نَفْسِي عَلَى ابْنِ عَبْدِ يَالِيلَ بْنِ عَبْدِ كُلاَلٍ فَلَمْ يُجِبْنِي إِلَى مَا أَرَدْتُ، فَانْطَلَقْتُ وَأَنَا مَهْمُومٌ عَلَى وَجْهِي، فَلَمْ أَسْتَفِقْ إِلاَّ وَأَنَا بِقَرْنِ الثَّعَالِبِ، فَرَفَعْتُ رَأْسِي، فَإِذَا أَنَا بِسَحَابَةٍ قَدْ أَظَلَّتْنِي، فَنَظَرْتُ فَإِذَا فِيهَا جِبْرِيلُ، فَنَادَانِي فَقَالَ: إِنَّ اللَّهَ قَدْ سَمِعَ قَوْلَ قَوْمِكَ لَكَ وَمَا رَدُّوا عَلَيْكَ، وَقَدْ بَعَثَ إِلَيْكَ مَلَكَ الْجِبَالِ لِتَأْمُرَهُ بِمَا شِئْتَ فِيهِمْ. فَنَادَانِي مَلَكُ الْجِبَالِ فَسَلَّمَ عَلَيَّ، ثُمَّ قَالَ: يَا مُحَمَّدُ، فَقَالَ: ذَلِكَ فِيمَا شِئْتَ، إِنْ شِئْتَ أَنْ أُطْبِقَ عَلَيْهِمُ الأَخْشَبَيْنِ. فَقَالَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم: بَلْ أَرْجُو أَنْ يُخْرِجَ اللَّهُ مِنْ أَصْلاَبِهِمْ مَنْ يَعْبُدُ اللَّهَ وَحْدَهُ لاَ يُشْرِكُ بِهِ شَيْئًا”

ثم إنه صلى الله عليه وسلم لما عاد إلى مكة حزينًا كسيرَ النفس لم يستطع أن يَدْخُلْهَا إلاَّ في جوار مشرك، وهو مطعم بن عديّ!!

وفي هذه الظروف العصيبة والمحن المتلاحقة؛ في الطائف وفيما سبقها من وثيقة الفصولة والحصار، ووفاة سَنَدَي الرسول الكريم صلى الله عليه وسلم العاطفي والاجتماعي، زوجه السيدة خديجة -رضي الله عنها- وعمه أبي طالب ؛ في هذه الظروف وبعد أن ضاقت به الأرض من المشركين اتَّسعت له أفق السماء، وجاءت معجزة الإسراء والمعراج تثبيتًا له صلى الله عليه وسلم ومواساة وتكريمًا؛ لتنقله مما كان فيه من الأذى إلى ما يشبه حفل تتويجه صلى الله عليه وسلم، لا ملكا ولكن إماما للمرسلين وتتويج أمته صلى الله عليه وسلم إماما للأمم حتى قيام الساعة تقوم بأمر ربها في تبليغ وحيه.

كانت رحلة الإسراء رحلة تكليف بإمامة الأمم

ومن هنا يتضح لنا مقصد السورة فهي كانت رحلة لاستلام الإمامة من بني إسرائيل، إمامة الأمم، فبعد أن كان بنو إسرائيل هم أصحاب الوحي والأمناء عليه والمكلفون بحمايته وتبليغه، صار الوحي أمانة عند أمة الإسلام وانتقلت الأمانة من فرع إسحق عليه السلام إلى فرع اسماعيل عليه السلام.

كل هذا قد جاء وومضات الحديث عن القرآن تسدده وتهديه.

ليس هذا فحسب بل إن السورة تتحدث عن إنهاء أمة الإسلام لدورتي الإفساد التي قام بها بنو إسرائيل على ما سيأتي بيانه، كما جاءت تحمل في جعبتها موضوعان هامان وهما:

  • ·وصايا الحكمة المحاطة بالتوحيد، وهذا واضح في هداية أمة الإسلام للفطرة ومتسق مع الحادثة التي جرت في الإسراء والتي رواها الشيخان قالا: قَالَ ‌أَبُو هُرَيْرَةَ : «أُتِيَ رَسُولُ اللهِ – صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ – لَيْلَةَ أُسْرِيَ بِهِ بِإِيلِيَاءَ بِقَدَحَيْنِ مِنْ خَمْرٍ وَلَبَنٍ، فَنَظَرَ إِلَيْهِمَا، فَأَخَذَ اللَّبَنَ، قَالَ جِبْرِيلُ: الْحَمْدُ لِلهِ الَّذِي هَدَاكَ لِلْفِطْرَةِ، لَوْ أَخَذْتَ الْخَمْرَ غَوَتْ أُمَّتُكَ.»، وهذا له علاقة وطيدة بقضية إفساد بني إسرائيل وإضلال الناس عن الوحي المتسق أصلا مع الفطرة، ولذلك جاءت الوصايا في السورة متسقة معها، ناهيك عن الحديث عن القرآن في كل منعطف من منعطفات السورة.
  • · إضافة إلى تثبيت النبي صلى الله عليه وسلم في غير موضع في هذه السورة سواء في قضية طلبهم الآيات، وهذه النقطة لها ارتباط بارز بحادثة الإسراء لما رواه البخاري ومسلم عن ‌جَابِرَ بْنَ عَبْدِ اللهِ – رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا – قَالَ: سَمِعْتُ النَّبِيَّ – صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ – يَقُولُ: «لَمَّا كَذَّبَنِي قُرَيْشٌ، قُمْتُ فِي الْحِجْرِ، فَجَلَّى اللهُ لِي بَيْتَ الْمَقْدِسِ، فَطَفِقْتُ أُخْبِرُهُمْ عَنْ آيَاتِهِ، وَأَنَا أَنْظُرُ إِلَيْهِ» وهذا متسق أيضا مع زمن نزول السورة حيث زادت وتير التكذيب من قبل قريش وبلغت ذروتها مع التعجيز بطلب هذه الآيات، مع امتداد زمن البعثة في مكة كل هذه السنوات.

هذه هي أهم المحاور التي تقوم عليها السورة، وسيأتي بيان ارتباط الفصول بالمقصد كما سيأتي.

الجواب عن الاختيارات الأخرى:

ليس بعيدا عن هذا الاختيار اختيار كثير من أهل العلم، فقد اختار البقاعي مثلا في نظم الدرر أن مقصدها ( الإقبال على الله وحده وخلع ما سواه )، ويبدو أنه استشف ذلك من قوله تعالى ألا تتخذوا من دوني وكيلا، وهذا قريب جدا وملمح ذكي منه جدا رحمه الله، إلا أنه معنى فرعي يندرج تحت أحد المعاني الثلاثة التي ذكرت آنفا.

واختار أصحاب المختصر في التفسير من مركز تفسير أن المقصد هو كمال الرسالة المحمدية وهذا أقرب للمقصد الذي اخترته، وقد أخبرني صاحب الكتاب أن المقاصد فيه ليست محررة وإنما أعدت على عجل جزاهم الله خيرا على ما قدموه.

وأقرب اختيار لما رأيته هو اختيار الدكتور محمد عبد الهادي المصري حيث اختار مقصد السورة: انتقال الكتاب ومسؤوليته من أمة إلى أمة حتى استقر في أمة النبي صلى الله عليه وسلم، إلى آخر تقريره رحمه الله.

وأما اختيار جميلة خليف ( القرآن هو العاصم حتى نهاية الزمان ) وهاني درغام ( بشائر التأييد والتثبيت ) وعبد الله شحاتة ( موقف المشركين من القرآن الذي نزل على النبي صلى الله عليه وسلم ) فقريب أيضا لكن قاصر على جانب واحد من جوانب السورة الثلاثة المذكورة آنفا.

والله أعلى وأعلم وهو الهادي إلى الصواب، وليس هذا تقليلا من شأن اختيارات أهل العلم بل هو من باب المناقشة العلمية نسأل الله الهدى والسداد وجزاهم الله خيرا على الطريق الذي مهدوه لمن بعدهم.

ما هي العلاقة بين التثبيت اللازم في شدة التكذيب وقضية إمامة الأمم؟

القرآن له طريقة فريدة في التثبيت، ولا عجب فإن منزله هو الله الأول الآخر الوحيد الذي يملك القرار في التاريخ، لذلك فهذه السورة جاءت لتخرج النبي صلى الله عليه وسلم من ضيق الأذى إلى سعة الأكوان وإمامة الأمم، فهي لا تخفف عنه أحزانه فحسب، بل ترفعه إلى مقام عال سام، فينسى تماما ما هو فيه من الحزن والضيق والألم الناتج عن هذا التكذيب.

السورة تقول للنبي صلى الله عليه وسلم: لا تحزن فأنت إمام المرسلين وأمتك إمام الأمم وأنتم من سيكتب آخر فصول التاريخ

هل كانت رحلة الإسراء بالجسد أم بالنفس؟ ومن أين كانت؟

جرى في المسألة جدل طويل لا يينبغي فيما نرى والله أعلم الانشغال بمثل هذا عن المعاني العظيمة وراء مثل هذه الحادثة الكبيرة العظيمة، فسواء كانت بالجسد أم بالنفس، وسواء أسري به من دار أم هانئ أم من المسجد الحرام، تبقى الدروس هي الدروس والعبر هي العبر والشأن واحد، وإن كان الراجح أنها كانت بجسده الشريف وبنفسه صلى الله عليه وسلم إذ لم يرد خلاف ذلك، وأما قضية بدء الإسراء فسهل هين يمكن الجمع بين الأقوال فيه بكل يسر ولا ينبني عليه شيء، والمقصد من هذا كله عدم الانشغال بالقضايا الجزئية عن لب الموضوع وأسه.

الأحاديث الواردة في الصحيحين حول قضية الإسراء:

ورد في الصحيحين أحاديث حول هذه القضية منها:

ü     روى البخاري في ( باب حديث الإسراء ) عن جَابِرَ بْنَ عَبْدِ اللَّهِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا، أَنَّهُ سَمِعَ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ: «لَمَّا كَذَّبَتْنِي قُرَيْشٌ، قُمْتُ فِي الحِجْرِ، فَجَلاَ اللَّهُ لِي بَيْتَ المَقْدِسِ، فَطَفِقْتُ أُخْبِرُهُمْ عَنْ آيَاتِهِ وَأَنَا أَنْظُرُ إِلَيْهِ» ورواه مسلم أيضا.

ü     ثم روى بعده مباشرة في ( باب المعراج ) حديث مالك بن صعصة الطويل وفي أوله ( عَنْ مَالِكِ بْنِ صَعْصَعَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا، أَنَّ نَبِيَّ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حَدَّثَهُمْ عَنْ لَيْلَةِ أُسْرِيَ بِهِ: ” بَيْنَمَا أَنَا فِي الحَطِيمِ، – وَرُبَّمَا قَالَ: فِي الحِجْرِ – مُضْطَجِعًا إِذْ أَتَانِي آتٍ، فَقَدَّ: قَالَ: وَسَمِعْتُهُ يَقُولُ: فَشَقَّ مَا بَيْنَ هَذِهِ إِلَى هَذِهِ – فَقُلْتُ لِلْجَارُودِ وَهُوَ إِلَى جَنْبِي: مَا يَعْنِي بِهِ؟ قَالَ: مِنْ ثُغْرَةِ نَحْرِهِ إِلَى شِعْرَتِهِ، وَسَمِعْتُهُ يَقُولُ: مِنْ قَصِّهِ إِلَى شِعْرَتِهِ – فَاسْتَخْرَجَ قَلْبِي، ثُمَّ أُتِيتُ بِطَسْتٍ مِنْ ذَهَبٍ [ص:53] مَمْلُوءَةٍ إِيمَانًا، فَغُسِلَ قَلْبِي، ثُمَّ حُشِيَ ثُمَّ أُعِيدَ، ثُمَّ أُتِيتُ بِدَابَّةٍ دُونَ البَغْلِ، وَفَوْقَ الحِمَارِ أَبْيَضَ، – فَقَالَ لَهُ الجَارُودُ: هُوَ البُرَاقُ يَا أَبَا حَمْزَةَ؟ قَالَ أَنَسٌ: نَعَمْ – يَضَعُ خَطْوَهُ عِنْدَ أَقْصَى طَرْفِهِ، فَحُمِلْتُ عَلَيْهِ، فَانْطَلَقَ بِي جِبْرِيلُ حَتَّى أَتَى السَّمَاءَ الدُّنْيَا ) إلى آخر الحديث، وهذا فيه إشارة إلى أن الإسراء والمعراج كانتا في ليلة واحدة، ومما يزيد هذا تأكيدا أنه روى بعده مباشرة حديث ( عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا، فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: {وَمَا جَعَلْنَا الرُّؤْيَا الَّتِي أَرَيْنَاكَ إِلَّا فِتْنَةً لِلنَّاسِ} [الإسراء: 60] قَالَ: «هِيَ رُؤْيَا عَيْنٍ، أُرِيَهَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَيْلَةَ أُسْرِيَ بِهِ إِلَى بَيْتِ المَقْدِسِ»، قَالَ: {وَالشَّجَرَةَ المَلْعُونَةَ فِي القُرْآنِ} [الإسراء: 60]، قَالَ: «هِيَ شَجَرَةُ الزَّقُّومِ» )

ü     ثم روى البخاري في ( بَابُ قَوْلِهِ: {أَسْرَى بِعَبْدِهِ لَيْلًا مِنَ المَسْجِدِ الحَرَامِ} [الإسراء: 1] ) حديث أبي هُرَيْرَةَ: ” أُتِيَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَيْلَةَ أُسْرِيَ بِهِ بِإِيلِيَاءَ بِقَدَحَيْنِ مِنْ خَمْرٍ، وَلَبَنٍ فَنَظَرَ إِلَيْهِمَا فَأَخَذَ اللَّبَنَ، قَالَ جِبْرِيلُ: الحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي هَدَاكَ لِلْفِطْرَةِ، لَوْ أَخَذْتَ الخَمْرَ غَوَتْ أُمَّتُكَ “

ثم روى بعده مباشرة حديث جَابِرَ بْنَ عَبْدِ اللَّهِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا، قَالَ: سَمِعْتُ النَّبِيَّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ: «لَمَّا كَذَّبَتْنِي قُرَيْشٌ قُمْتُ فِي الحِجْرِ فَجَلَّى اللَّهُ لِي بَيْتَ المَقْدِسِ، فَطَفِقْتُ أُخْبِرُهُمْ عَنْ آيَاتِهِ وَأَنَا أَنْظُرُ إِلَيْهِ» زَادَ يَعْقُوبُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ، حَدَّثَنَا ابْنُ أَخِي ابْنِ شِهَابٍ، عَنْ عَمِّهِ، «لَمَّا كَذَّبَتْنِي قُرَيْشٌ حِينَ أُسْرِيَ بِي إِلَى بَيْتِ المَقْدِسِ» نَحْوَهُ. {قَاصِفًا} [الإسراء: 69]: «رِيحٌ تَقْصِفُ كُلَّ شَيْءٍ»

ü     وقد روى مسلم عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، قَالَ: قَالَ رَسُولَ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «لَقَدْ رَأَيْتُنِي فِي الْحِجْرِ وَقُرَيْشٌ تَسْأَلُنِي عَنْ مَسْرَايَ، فَسَأَلَتْنِي عَنْ أَشْيَاءَ مِنْ بَيْتِ الْمَقْدِسِ لَمْ أُثْبِتْهَا، فَكُرِبْتُ كُرْبَةً مَا كُرِبْتُ مِثْلَهُ قَطُّ»، قَالَ: ” فَرَفَعَهُ اللهُ لِي أَنْظُرُ إِلَيْهِ، مَا يَسْأَلُونِي عَنْ شَيْءٍ إِلَّا أَنْبَأْتُهُمْ بِهِ، وَقَدْ رَأَيْتُنِي فِي جَمَاعَةٍ مِنَ الْأَنْبِيَاءِ، فَإِذَا مُوسَى قَائِمٌ يُصَلِّي، فَإِذَا رَجُلٌ ضَرْبٌ، جَعْدٌ كَأَنَّهُ مِنْ رِجَالِ شَنُوءَةَ، وَإِذَا عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ عَلَيْهِ السَّلَامُ قَائِمٌ يُصَلِّي، أَقْرَبُ النَّاسِ بِهِ شَبَهًا عُرْوَةُ بْنُ مَسْعُودٍ الثَّقَفِيُّ، وَإِذَا إِبْرَاهِيمُ عَلَيْهِ السَّلَامُ قَائِمٌ يُصَلِّي، أَشْبَهُ النَّاسِ بِهِ صَاحِبُكُمْ – يَعْنِي نَفْسَهُ – فَحَانَتِ الصَّلَاةُ فَأَمَمْتُهُمْ، فَلَمَّا فَرَغْتُ مِنَ الصَّلَاةِ قَالَ قَائِلٌ: يَا مُحَمَّدُ، هَذَا مَالِكٌ صَاحِبُ النَّارِ، فَسَلِّمْ عَلَيْهِ، فَالْتَفَتُّ إِلَيْهِ، فَبَدَأَنِي بِالسَّلَامِ “

 

Map Shot 1

 

Map Shot 2

 

Map Shot 3

 

Map Shot 4

جميع الحقوق متاحة للمسلمين دون اشتراط ذكر المصدر © 2023 7a9ad.com. All Rights Reserved