بين يدي الإسراء

( بين يدي الإسراء )

بسم الله الرحمن الرحيم

سُبْحَانَ الَّذِي أَسْرَى بِعَبْدِهِ لَيْلًا مِنَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ إِلَى الْمَسْجِدِ الْأَقْصَى الَّذِي بَارَكْنَا حَوْلَهُ لِنُرِيَهُ مِنْ آيَاتِنَا إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ (1) وَآتَيْنَا مُوسَى الْكِتَابَ وَجَعَلْنَاهُ هُدًى لِبَنِي إِسْرَائِيلَ أَلَّا تَتَّخِذُوا مِنْ دُونِي وَكِيلًا (2) ذُرِّيَّةَ مَنْ حَمَلْنَا مَعَ نُوحٍ إِنَّهُ كَانَ عَبْدًا شَكُورًا (3) وَقَضَيْنَا إِلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ فِي الْكِتَابِ لَتُفْسِدُنَّ فِي الْأَرْضِ مَرَّتَيْنِ وَلَتَعْلُنَّ عُلُوًّا كَبِيرًا (4) فَإِذَا جَاءَ وَعْدُ أُولَاهُمَا بَعَثْنَا عَلَيْكُمْ عِبَادًا لَنَا أُولِي بَأْسٍ شَدِيدٍ فَجَاسُوا خِلَالَ الدِّيَارِ وَكَانَ وَعْدًا مَفْعُولًا (5) ثُمَّ رَدَدْنَا لَكُمُ الْكَرَّةَ عَلَيْهِمْ وَأَمْدَدْنَاكُمْ بِأَمْوَالٍ وَبَنِينَ وَجَعَلْنَاكُمْ أَكْثَرَ نَفِيرًا (6) إِنْ أَحْسَنْتُمْ أَحْسَنْتُمْ لِأَنْفُسِكُمْ وَإِنْ أَسَأْتُمْ فَلَهَا فَإِذَا جَاءَ وَعْدُ الْآخِرَةِ لِيَسُوءُوا وُجُوهَكُمْ وَلِيَدْخُلُوا الْمَسْجِدَ كَمَا دَخَلُوهُ أَوَّلَ مَرَّةٍ وَلِيُتَبِّرُوا مَا عَلَوْا تَتْبِيرًا (7) عَسَى رَبُّكُمْ أَنْ يَرْحَمَكُمْ وَإِنْ عُدْتُمْ عُدْنَا وَجَعَلْنَا جَهَنَّمَ لِلْكَافِرِينَ حَصِيرًا (8)

ما موضوع هذا الفصل، وما هي مناسبته لمقصد السورة؟

هذا الفصل هو القطعة الأولى من مجموع قطعتين تحيطان بمواضيع السورة، وهو يتحدث بشكل صريح عن الإسراء هذه الرحلة التي تم فيها انتقال الإمامة ومسؤولية الوحي إلى أمة الإسلام، ليس هذا فحسب، بل جاء فيها الحديث بإسهاب عن إنهاء أمة الإسلام لدورتي الفساد التي سيقوم بها بنو إسرائيل في العالمين.

وهذا المقطع عجيب غريب، فهو خطاب لمشركي قريش الذين بقوا كل هذه السنوات على الكفر والاستكبار وخطاب للمسلمين وأخيرا خطاب لبني إسرائيل:

خطاب للمشركين: يقص عليهم شيئا من تاريخ الأمم قبلهم وهم أمة بني إسرائيل إذ ضيعوا الوحي وانصرفوا عنه إلى الفساد، فأصابهم ما أصابهم من الحرمان من إمامة الأمم بل وتسليط المسلمين عليهم في المرتين ليصنعوا فيهم ما قصت الآيات، من إهلاك القرى وتسليط المسلمين عليهم مرتين، وكل هذا في معرض التعريض بهم.

وهَذا تَعْرِيضٌ بِالتَّهْدِيدِ لِقُرَيْشٍ؛ بِأنَّهم إنْ لَمْ يَرْجِعُوا أبْدَلَ أمْنَهم في الحَرَمِ خَوْفًا؛ وعِزَّهم ذُلًّا؛ فَأدْخَلَ عَلَيْهِمْ جُنُودًا لا قِبَلَ لَهم بِها؛ وقَدْ فَعَلَ ذَلِكَ عامَ الفَتْحِ؛ لَكِنَّهُ فِعْلُ إكْرامٍ؛ لا إهانَةٍ؛ بِبَرَكَةِ هَذا النَّبِيِّ الكَرِيمِ – صَلّى اللَّهُ عَلَيْهِ وعَلى آلِهِ وسَلَّمَ

وخطاب للمسلمين: يبشرهم بأنهم قد استلموا إمامة الأمم وأمانة الوحي وأنهم منصورون غالبون وأنهم سيجوسوا خلال الديار، ولاحقا سيتبروا ما علا اليهود، فلا تهتموا لتكذيب المشركين وامتناعهم عن الإيمان لشبهات فارغة يلقونها واستعدوا لما سيكون معكم من الإمامة بالقرآن والتوحيد.

وخطاب لبني إسرائيل: يبشرهم ببوار أمرهم مرة بعد مرة، وتسليط المسلمين عليهم.

ولعمرك من يستطيع رسم خارطة التاريخ سوى من يستطيع أن يضبط مجرياته.

ما هي المعاني التي ينتهي إليها افتتاح السورة بمصدر التسبيح؟

الافتتاح بكلمة التسبيح دون سبق كلام يستوجب التسبيح، يؤذن بأن خبرا عجيبا دالا على عظيم قدرة المتكلم ورفيع منزلته سيأتي.

وذكر الاسم الموصول بعده إنما هو للتنبيه على هذا الأمر وهو أمر الإسراء، فلم يقل سبحان الله، وإنما عرفه بالاسم الموصول ليدل على ما استوجب التسبيح.

والتسبيح التمجيد بالصفات السلبية ببيان براءة الله عز وجل منها، بخلاف التوقير إذ هو التمجيد بالصفات الوجودية التي هي من كمالاته جل وعلا.

والتسبيح جاء بصيغ عديدة في القرآن: منها الفعل الماضي، والمضارع، والأمر مفردا وجمعا، وجاء هنا باسم المصدر للدلالة على عدم ارتباط التسبيح بزمان ولا بفاعل بخلاف الصيغ الأخرى، فسواء وجد هناك من سبح أو لم يسبح فالتسبيح والتنزيه له جل وعلا في كل آن وحين، سواء قبل الخلق أو بعده، وهذا فيه تعريض بالمشركين إذ لم يصدقوا النبي صلى الله عليه وسلم في حادثة الإسراء، فنسبوا النقص لله تعالى بأنه غير قادر على مثل هذا الفعل.

ما هي المعاني التي ينتهي إليها إضافة الهمزة والتعدية بالباء في قوله أسرى بعبده؟

الهمزة هنا ليست للتعدية وإنما هي لغة في سرى.

وأما التعدية بالباء أبلغ لأنها في أصل الوضع تقتضي مشاركة الفاعل المفعول في الفعل، فأصل ذهب به أنه استصحبه، ومنه ( سار بأهله ).

ومجموع الأمرين يفيد معنى معية الله لرسوله في إسرائه بعنايته وتوفيقه كقوله تعالى ( فإنك بأعيننا ) وكقوله ( لا تحزن إن الله معنا )، وهذا أول الخيط في معنى التثبيت الذي سيأتي كثيرا لاحقا كقوله تعالى ( وإذ قلنا لك إن ربك أحاط بالناس ) وغيره.

ما هي المعاني التي ينتهي إليها وصف النبي صلى الله عليه وسلم بعبده؟

الإضافة هنا إضافة تشريف لا إضافة تعريف، والمراد عبدا اختصه الله له، وأفادت هذه التسمية أن العبودية مرتبة عظيمة ينزلها العبد بدليل أنه لو كان غير هذا الاسم أشرف منه لسماه الله سبحانه في هذا المقام العظيم والحالة العلية.

ويفهم من الكلام أن تمام العبودية هي التي رفعت شأن النبي صلى الله عليه وسلم إلى هذه المرتبة التي أكرمه الله بسببها هذه الكرامة فجعله إمام المرسلين وجعل أمته إمام الأمم، وأورثهم الدين والوحي.

وهذا أيضا أول خيط في ذكر العبودية التي كثر ورودها في هذه السورة، وكل ما جاء فيها – على ما ظهر لنا – في معنى العبودية الاختيارية التي يستحق صاحبها المدح عليها، ولا غرابة في هذا فإن إمامة الأمم لا تكون إلا لعباد صالحين على أمر الله.

فالعبودية الحقة هي بوابة الإمامة

ما هي المعاني التي ينتهي إليها استخدام كلمة ليلا مع أن السرى هو السير ليلا أصلا؟

التنكير هنا يفيد معنيين:

الأول: التبعيض فكأنه إشار إلى أن الإسراء كان في جزء من الليلة وإلا لم يكن ذكره إلا تأكيدا، وإفادة معنى جديد أولى من إفادة التأكيد، وهذا أيضا فيه مزيد لفت نظر إلى القدرة والغرابة في الأمر، حيث قطع كل هذه المسافة في جزء من الليل، بخلاف لو قال سريت الليل فهذا يفيد أن السرى استغرق الليل كله.

الثاني: التعظيم، فكأنه قال: أسرى بعبده في جزء من ليلة عظيمة، ليلا أي ليل.

ما هي المعاني التي ينتهي إليها الاقتران بين ذكر المسجد الحرام والمسجد الأقصى؟

المسجد الأقصى من مبتكرات القرآن ولم تكن العرب تسميه بهذا الاسم من قبل، ووصفه بالأقصى – أي الأبعد – فيه إيماء إلى مسجد عظيم آخر قريب وهو مسجد النبي صلى الله عليه وسلم.

وفيه إشارة إلى عودة الإمامة إلى المسجد الحرام الذي خرجت منه الحنيفية وتفرعت في المسجد الأقصى ثم عادت إليه كما عاد الإسراء إلى مكة.

واللافت للنظر في هذه القضية أن المعراج لم يبتدئ من مكة، لا، ولكنه كان من المسجد الأقصى، فإن النبي صلى الله عليه وسلم أم الأنبياء هناك وصلى بهم، ثم عرج من هناك إلى السماء ثم عاد للمسجد الأقصى ثم عاد للمسجد الحرام، وكل هذا تشريف وتعظيم للمسجد الأقصى، فهو الطريق إلى السماء والرفعة والشرف، ومنه تبدأ الحكاية وبه تنتهي.

فالمسجد الأقصى أول طريق السماء

ما هي المعاني التي ينتهي إليها ذكر البركة حوله؟

هذه الكلمة وصف يرسم البركة محيطة بالمسجد حافة به، فائضة عليه، بسبب وجود المسجد الأقصى في هذه البقعة، فما حوله بارك الله به فما بالك به هو؟

وهذا التعبير يفيض ظلل لم يكن ليلقيه تعبير مباشر مثل: باركناه أو باركنا فيه، وذلك من دقائق التعبير القرآني التي تحتاج تأملا ووقفة.

والبركة حوله بركة دنيوية، وأما في الداخل فالبركة في كلا المسجدين بل هي في الحرام أتم، وهي كثرة الثواب بالعبادة فيهما.

ما هي المعاني التي ينتهي إليها ذكر سبب الإسراء وهو إراءة النبي صلى الله عليه وسلم الآيات؟

في هذه الرحلة وبعد سبع سنوات من التكذيب، إضافة إلى فقدان أبي طالب وخديجة رضي الله عنها، جاءت هذه الرحلة ليرى فيها النبي صلى الله عليه وسلم آيات لم يكن قد رآها من قطع المسافات بمدة قصيرة ومن رؤية الأنبياء في الأقصى ومن صلاته بهم هناك، ثم تبعتها رحلة المعراج – وإن لم تكن قد ذكرت في هذه السورة بتاتا – إلا أنها مرتبطة بالإسراء بشكل أو بآخر، وعلى كل حال فالكلام على الآيات التي رآها النبي صلى الله عليه وسلم.

وهذه القضية – قضية الآيات وطلبها ورؤيتها – أخذت حيزا كبيرا من السورة لاحقا كما سنرى، والحديث هنا يشعر أن إراءة الآيات فيه نوع من التكريم، وأنه كان جائزة وكرامة من الله تعالى ( لعبده ) النبي صلى الله عليه وسلم، فكأنها صارت جزاء له لعبوديته الرفيعة.

وإراءة الآيات للنبي صلى الله عليه وسلم مما يطمئن القلب ويثبت النفس، وتجد هذا المعنى كثيرا واضحا بارزا أيضا على طول السورة، والناس جميعا محتاجون لهذا التثبيت وكلما زادت العبودية زاد هذا التثبيت وأولى الناس به النبي صلى الله عليه وسلم فهو أتقانا لله وأعبدنا له، فحق له أن يكون مثل هذا الشرف العظيم، وأما عامة الأمة فقد أكرمهم الله كرامة عالية بالقرآن، وهو أعظم الآيات وأهم المثبتات مع أشياء أخر سيأتي ذكرها لاحقا أيضا في السورة.

وفي الآيات أيضا تنويه بأن إراءة الآيات إنما يكون للتشريف والتعظيم، ومثل هذا الشرف العالي فقده كفار قريش فلم يرفعوا أنفسهم إلى مثل هذه المكانة العالية التي تؤهلهم لرؤية الآيات التي طلبوها، فلما تنكبوا عن سبيل العبودية عوقبوا بالحرمان من مثل هذه الآيات، فكانت شرفا خالصا للنبي صلى الله عليه وسلم بسبب عبوديته لله.

ما هي المعاني التي ينتهي إليها التذييل بالسميع البصير؟

تأمل بداية انتقال السياق من صيغة التسبيح لله بصيغة الغائب ( سبحان الذي أسرى ) ثم الانتقال إلى صيغة التقرير من الله بضمير المتكلم ( لنريه من آياتنا ) إلى صيغة الوصف لله بضمير الغائب مرة أخرى ( إنه هو السميع البصير )، فالتسبيح يرتفع متوجها إلى الله سبحانه وتقرير القصد من الإسراء يجي منه تعالى نصا والوصف بالسمع والبصر يجيء في صورة الخبر الثابت لذاته الإلهية، وتجتمع هذه الصيغ المختلفة في الآية الواحدة لتؤدي دلالاتها بدقة كاملة.

ففيها ثناء على الله وتأكيد لمعنى التسبيح، وفيها تعليل لاختيار النبي صلى الله عليه وسلم لمرتبة العبودية كما سيأتي لاحقا (وربك أعلم بمن في السموات والارض)، فكأن الآي تقول لنا: أن الله سميع بأقوال النبي صلى الله عليه وسلم بصير بأفعاله وأنها خالصة مقرونة بالصدق والصفاء محلاة بالعبودية الرفيعة، لذلك خصه الله بهذه المرتبة العالية والكرامات.

وفيها ختاما تهديد للمشركين، فكأنها تقول لهم: أن الله سميع بأقوالهم ( نحن أعلم بما يستمعون به ) عليم بأفعالكم من التكذيب وغيره ( وإن كادوا ليستفزونك ) فاحذروا أن يصيبكم ما أصاب قبلكم من القرى من الهلاك والبوار.

ما مناسبة ذكر الكتاب الذي أنزل على موسى في هذا الموضع؟

هذه هي بداية القصة وهذا هو الصلاح الأول الذي أتاهم ليكونوا أئمة العالم ويحملوا الوحي والرسالة، ولما كانت دلالة الإسراء على انتقال الإمامة بين الدلالة ظاهرا، جاء السياق هنا ليقص علينا سبب هذا الانتقال ويبدأ من بداية القصة من إيتاء موسى الكتاب.

ولا عجب أن يفتتح الحديث عن الإصلاح بالكتاب، فالحديث عن الكتاب – القرآن – حديث بارز على طول السورة كما سنرى لاحقا.

وجملة ( وجعلناه هدى لبني إسرائيل ) فيه أيضا تعريض بأمة الإسلام: أن قد جعلت لكم القرآن هدى كما جعلت التوراة هدى لبني إسرائيل، فأنتم الأئمة ما تمسكتم به فإن تركتموه يستبدل قوما غيركم ثم لا يكونوا أمثالكم.

ما مناسبة تفسير الهدى هنا: بعدم اتخاذ وكيل سوى الله؟

الوكيل هو المتصرف في شؤون الموكل بإذنه، فالموكل يكل إلى الوكيل التصرف في شيء ما، فيكون الوكيل نائبا عن صاحب الأمر، وأن هنا مفسرة على الأرجح أي في شرح الهدى المذكور قبلها تماما، فلو سأل سائل: ما هو هذا الهدى الذي جاء به الكتاب لبني إسرائيل؟ يأتي الجواب بعد أن ( لا تتخذوا من دوني وكيلا ) وهذه القضية أيضا من القضايا البارزة في السورة كما سيأتي لاحقا ودار حولها حديث طويل، والمراد منها التوحيد وجاء التعبير عن التوحيد هنا بالاتخاذ وكيلا، فإن من وحد الله اتبع أمره ونهيه في كل شأنه، ففوض أمره إليه، والإسلام والتوحيد والتوكل معان في سياق واحد.

ووجه التخصيص بالوكالة دون غيرها لمناسبة هذه القضية لوقت نزول السورة، حيث كان وقتا مليئا بالصعوبات والتكذيب كما مر في المقدمة، فحتى تطمئن السورة النبي صلى الله عليه وسلم جاءت لترشده إلى توكيل الله عز وجل بأمره جميعا، أي الرضا بتصريفه هو للأمور جميعها، وهكذا يطمئن القلب فيزداد ثباتا.

فالاتخاذ وكيلا داخل في التوحيد وبالتالي بالتثبيت، والتوحيد من أهم المعينات على التثبيت.

ما هي مناسبة ذكر نوح بعد ذلك؟ وما مناسبة التذييل بوصفه عبدا شكورا؟

الذرية هنا منصوبة:

إما على الاختصاص: فيكون المعنى ( أخص ذرية من حملنا مع نوح )

أو على النداء: فيكون المعنى ( يا ذرية من حملنا مع نوح )

وعلى كلى المعنيين يكون المقصود هنا تذكيرهم بنعمة الله عليهم بإنجاء أصولهم من المهلكة التي وقعت في عهد نوح عليه السلام، وهذا المعنى – أي الإهلاك – من المعاني البارزة في السورة كما سيأتي لاحقا وأخذت حيزا كبيرا فيها، وكل هذا للتعريض بالمشركين أولا وببني إسرائيل في عهد النبي صلى الله عليه وسلم: أن سيصيبكم مثل ما أصاب قوم نوح إن أنتم أتيتم بمثل ما أتوا به من التكذيب، وهذا تهديد في غاية القوة.

وأما التذييل بكون نوح عبدا شكورا، فالجملة مستأنفة هنا والمراد بها: بيان سبب إنجاء نوح، وهما صفتان:

الأولى: العبودية، وتأمل كيف جاءت هذه الكلمة مرتبطة بخيط بقوله في الآية الأولى ( بعبده )

الثانية: الشكر، والشكر في اللغة رد الجميل بمثله أو أكثر، ومنه الفرس الشكور الذي يكفيه القليل من العلف والناقة الشكور التي تعلف فتنتج وتحلب.

وأما من فاتته هاتين الصفتين فسيأتيه عذاب الاستئصال كما قال تعالى ﴿قِيلَ يا نُوحُ اهْبِطْ بِسَلامٍ مِنّا وبَرَكاتٍ عَلَيْكَ وعَلى أُمَمٍ مِمَّنْ مَعَكَ وأُمَمٌ سَنُمَتِّعُهم ثُمَّ يَمَسُّهم مِنّا عَذابٌ ألِيمٌ﴾ [هود: ٤٨] .

ومما يؤكد هذا الأمر ما جاء في المقطع الذي يليه من قوله تعالى ( وكم أهلكنا من القرون من بعد نوح ) ففيه تعريض واضح بإهلاكهم إن لم يكونوا ( عبادا ) ويكونوا ( شاكرين ) كما كان نوح عليه السلام.
وفِيهِ أنَّ ذُرِّيَّةَ نُوحٍ كانُوا شِقَّيْنِ: شِقٌّ بارٌّ مُطِيعٌ، وهُمُ الَّذِينَ حَمَلَهم مَعَهُ في السَّفِينَةِ، وشِقٌّ مُتَكَبِّرٌ كافِرٌ وهو ولَدُهُ الَّذِي غَرِقَ، فَكانَ نُوحٌ عَلَيْهِ السَّلامُ مَثَلًا لِأبِي فَرِيقَيْنِ، وكانَ بَنُو إسْرائِيلَ مِن ذُرِّيَّةِ الفَرِيقِ البارِّ

وكانَتِ العَرَبُ تَعْرِفُ ذَلِكَ، وتَنْبَعِثُ عَلى الِاقْتِداءِ بِهِ، قالَ النّابِغَةُ:

فَألْفَيْتَ الأمانَةَ لَمْ تَخُنْهَـا     كَذَلِكَ كانَ نُوحٌ لا يَخُونُ

وفيه أيضا إشارة إلى انتهاء علاقة نوح مع ابنه حين كفر، وأن هذا الأمر ينطبق على العلاقة بين موسى عليه السلام وبين بني إسرائيل بسبب شركهم وفسادهم.

فكما لم ينفع النسب ابن نوح عليه اسلام لن ينفع بني إسرائيل ذلك النسب حين اتخذوا من دون الله وكيلا.

كما أن في الإشارة هذه إلى نوح تنبيه مهم على أول رسول أرسل بالإصلاح إلى قومه، فإن آدم لم يكن رسولا عليه السلام، ثم اختلفت القرون بعد آدم عليه السلام فبعث نوح عليه السلام لأجل أن يصلح ما أفسدته القرون بينهم.

ما هي مناسبة قصة إفساد بني إسرائيل في الأرض هنا؟ وما هي المعاني التي تنتهي إليها؟

جاءت قصة الإفساد هنا عقيب الحديث عن الكتاب لبيان أنهم لم يهتدوا بهدي التوراة، وإنما وقعوا في الإفساد لا في الفساد فحسب، وفي هذا رسائل عديدة:

منها: رسالة إلى المسلمين يحدد لهم جهة العدو أولا، ويبشرهم بالغلبة والقهر عليه ثانيا، ويبين لهم سوء أفعالهم في تحريف العقائد ثالثا.

ومنها: رسالة إلى كفار مكة: تحذرهم أن يصنعوا مثل ما صنعت بنو إسرائيل فيجري عليهم ما جرى عليهم.

ومنها: رسالة إلى بني إسرائيل ليؤمنوا ويهتدوا.

ما هو المقصود بالإفساد بالأرض ههنا؟ وما هو المقصود بالأرض؟

الراجح أن المقصود بالأرض هنا عموم الأرض كلها، لأن بني إسرائيل أفسدوا في الأرض كلها كما سيأتي.

والجوس والجوسان هو التردد خلال الديار والبيوت لطلب من فيها، والخلال: هو الانفراج بين الشيئين.

وليس المقصود بالإفساد – على ما يظهر والله أعلم – مجرد قتل الأنبياء كما ذهب إليه كثير من المفسرين، ولكنه معنى أوسع من هذا بكثير، ألا وهو تزييف الوحي وتغييره بحيث يصبح محرفا وبحيث تتحول العداوة من إبليس إلى الله جل وعلا كما فعلوا في تحريف قصة آدم كما جاء في الكتاب المقدس، في سفر التكوين ( 1 وَكَانَتِ الْحَيَّةُ أَحْيَلَ جَمِيعِ حَيَوَانَاتِ الْبَرِّيَّةِ الَّتِي عَمِلَهَا الرَّبُّ الإِلهُ، فَقَالَتْ لِلْمَرْأَةِ: «أَحَقًّا قَالَ اللهُ لاَ تَأْكُلاَ مِنْ كُلِّ شَجَرِ الْجَنَّةِ؟»

2 فَقَالَتِ الْمَرْأَةُ لِلْحَيَّةِ: «مِنْ ثَمَرِ شَجَرِ الْجَنَّةِ نَأْكُلُ،

3 وَأَمَّا ثَمَرُ الشَّجَرَةِ الَّتِي فِي وَسَطِ الْجَنَّةِ فَقَالَ اللهُ: لاَ تَأْكُلاَ مِنْهُ وَلاَ تَمَسَّاهُ لِئَلاَّ تَمُوتَا».

4 فَقَالَتِ الْحَيَّةُ لِلْمَرْأَةِ: «لَنْ تَمُوتَا!

5 بَلِ اللهُ عَالِمٌ أَنَّهُ يَوْمَ تَأْكُلاَنِ مِنْهُ تَنْفَتِحُ أَعْيُنُكُمَا وَتَكُونَانِ كَاللهِ عَارِفَيْنِ الْخَيْرَ وَالشَّرَّ».

6 فَرَأَتِ الْمَرْأَةُ أَنَّ الشَّجَرَةَ جَيِّدَةٌ لِلأَكْلِ، وَأَنَّهَا بَهِجَةٌ لِلْعُيُونِ، وَأَنَّ الشَّجَرَةَ شَهِيَّةٌ لِلنَّظَرِ. فَأَخَذَتْ مِنْ ثَمَرِهَا وَأَكَلَتْ، وَأَعْطَتْ رَجُلَهَا أَيْضًا مَعَهَا فَأَكَلَ.

7 فَانْفَتَحَتْ أَعْيُنُهُمَا وَعَلِمَا أَنَّهُمَا عُرْيَانَانِ. فَخَاطَا أَوْرَاقَ تِينٍ وَصَنَعَا لأَنْفُسِهِمَا مَآزِرَ.

8 وَسَمِعَا صَوْتَ الرَّبِّ الإِلهِ مَاشِيًا فِي الْجَنَّةِ عِنْدَ هُبُوبِ رِيحِ النَّهَارِ، فَاخْتَبَأَ آدَمُ وَامْرَأَتُهُ مِنْ وَجْهِ الرَّبِّ الإِلهِ فِي وَسَطِ شَجَرِ الْجَنَّةِ.

9 فَنَادَى الرَّبُّ الإِلهُ آدَمَ وَقَالَ لَهُ: «أَيْنَ أَنْتَ؟».

10 فَقَالَ: «سَمِعْتُ صَوْتَكَ فِي الْجَنَّةِ فَخَشِيتُ، لأَنِّي عُرْيَانٌ فَاخْتَبَأْتُ».

11 فَقَالَ: «مَنْ أَعْلَمَكَ أَنَّكَ عُرْيَانٌ؟ هَلْ أَكَلْتَ مِنَ الشَّجَرَةِ الَّتِي أَوْصَيْتُكَ أَنْ لاَ تَأْكُلَ مِنْهَا؟»

12 فَقَالَ آدَمُ: «الْمَرْأَةُ الَّتِي جَعَلْتَهَا مَعِي هِيَ أَعْطَتْنِي مِنَ الشَّجَرَةِ فَأَكَلْتُ».

13 فَقَالَ الرَّبُّ الإِلهُ لِلْمَرْأَةِ: «مَا هذَا الَّذِي فَعَلْتِ؟» فَقَالَتِ الْمَرْأَةُ: «الْحَيَّةُ غَرَّتْنِي فَأَكَلْتُ».

14 فَقَالَ الرَّبُّ الإِلهُ لِلْحَيَّةِ: «لأَنَّكِ فَعَلْتِ هذَا، مَلْعُونَةٌ أَنْتِ مِنْ جَمِيعِ الْبَهَائِمِ وَمِنْ جَمِيعِ وُحُوشِ الْبَرِّيَّةِ. عَلَى بَطْنِكِ تَسْعَيْنَ وَتُرَابًا تَأْكُلِينَ كُلَّ أَيَّامِ حَيَاتِكِ.

15 وَأَضَعُ عَدَاوَةً بَيْنَكِ وَبَيْنَ الْمَرْأَةِ، وَبَيْنَ نَسْلِكِ وَنَسْلِهَا. هُوَ يَسْحَقُ رَأْسَكِ، وَأَنْتِ تَسْحَقِينَ عَقِبَهُ».

16 وَقَالَ لِلْمَرْأَةِ: «تَكْثِيرًا أُكَثِّرُ أَتْعَابَ حَبَلِكِ، بِالْوَجَعِ تَلِدِينَ أَوْلاَدًا. وَإِلَى رَجُلِكِ يَكُونُ اشْتِيَاقُكِ وَهُوَ يَسُودُ عَلَيْكِ».

17 وَقَالَ لآدَمَ: «لأَنَّكَ سَمِعْتَ لِقَوْلِ امْرَأَتِكَ وَأَكَلْتَ مِنَ الشَّجَرَةِ الَّتِي أَوْصَيْتُكَ قَائِلًا: لاَ تَأْكُلْ مِنْهَا، مَلْعُونَةٌ الأَرْضُ بِسَبَبِكَ. بِالتَّعَبِ تَأْكُلُ مِنْهَا كُلَّ أَيَّامِ حَيَاتِكَ.

18 وَشَوْكًا وَحَسَكًا تُنْبِتُ لَكَ، وَتَأْكُلُ عُشْبَ الْحَقْلِ.

19 بِعَرَقِ وَجْهِكَ تَأْكُلُ خُبْزًا حَتَّى تَعُودَ إِلَى الأَرْضِ الَّتِي أُخِذْتَ مِنْهَا. لأَنَّكَ تُرَابٌ، وَإِلَى تُرَابٍ تَعُودُ».

20 وَدَعَا آدَمُ اسْمَ امْرَأَتِهِ «حَوَّاءَ» لأَنَّهَا أُمُّ كُلِّ حَيٍّ.

21 وَصَنَعَ الرَّبُّ الإِلهُ لآدَمَ وَامْرَأَتِهِ أَقْمِصَةً مِنْ جِلْدٍ وَأَلْبَسَهُمَا.

22 وَقَالَ الرَّبُّ الإِلهُ: «هُوَذَا الإِنْسَانُ قَدْ صَارَ كَوَاحِدٍ مِنَّا عَارِفًا الْخَيْرَ وَالشَّرَّ. وَالآنَ لَعَلَّهُ يَمُدُّ يَدَهُ وَيَأْخُذُ مِنْ شَجَرَةِ الْحَيَاةِ أَيْضًا وَيَأْكُلُ وَيَحْيَا إِلَى الأَبَدِ».

23 فَأَخْرَجَهُ الرَّبُّ الإِلهُ مِنْ جَنَّةِ عَدْنٍ لِيَعْمَلَ الأَرْضَ الَّتِي أُخِذَ مِنْهَا.

24 فَطَرَدَ الإِنْسَانَ، وَأَقَامَ شَرْقِيَّ جَنَّةِ عَدْنٍ الْكَرُوبِيمَ، وَلَهِيبَ سَيْفٍ مُتَقَلِّبٍ لِحِرَاسَةِ طَرِيقِ شَجَرَةِ الْحَيَاةِ.

فالمتأمل في هذه القصة يرى أن التحريف جاء فيها ليجعل عدو الإنسان هو ( الله ) تعالى الله عما يقولون علوا كبيرا، وليس إبليس، فالرب – بزعمهم – شرير مخادع لا يريد لآدم أن يفتح عينيه ويصبح مثل الله والملائكة عارفا الخير والشر، بل لا يريده أن يأكل من شجرة الحياة فيحيا أبدا، لذلك طرده من الجنة، وهذا كله من تحريف الوحي الذي بنيت عليه أكثر المذاهب المعاصرة في عداوة مبطنة لله ولرسالته، وهذا كله مخالف للوحي الذي جاء به القرآن حيث جعل نزول آدم إلى الأرض بداية امتحانه للعودة إلى الجنة، وجعل ما فيها مسخرا له تكريما له كما جاء ذلك بارزا في هذه السورة.

هذه هو الإفساد الذي ارتكبه بنو إسرائيل في تزييف الوحي وصرف الناس عن التوحيد الحق.

ما معنى الإحسان والإساءة هنا؟

المعنى أنكم إن أحسنتم أحسنتم بفعل الطاعات فقد أحسنتم إلى أنفسكم من حيث أنه ببركة تلك الطاعات يفتح الله عليكم أبواب الخير والبركات، وإن أسأتم فعلا بالإفساد مرة أخرى فقد أسأتم إلى أنفسكم من حيث أنه بشؤم هذا الإفساد سيفتح الله عليكم باب العقوبات مرة أخرى، وسيهلك قراكم كما هي سنته جل وعلا في الأمم.

ما مناسبة تكرار فعل الإحسان دون فعل الإساءة؟

هذا للدلالة على أن جانب الرحمة أغلب فكرر الأول دون الثاني.

ما هما المرتان اللتان جاء فيهما إفساد بني إسرائيل؟

ذهب الرازي من المفسرين بأن تحديد هؤلاء الأقوام وهاتين المرتين لا يتعلق غرض من أغراض التفسير بمعرفتهم، والذي يظهر خلاف ذلك، فإن الاقتصار على معرفة السنة هكذا مجردة درجة من العلم، وأما معرفة هؤلاء الأقوام فدرجة أعلى من العلم تفيد معاني أخرى مهمة.

وأكثر المفسرين على اختلافهم ذهبوا إلى أن المرتان قد مضتا مع اختلافهم في تحديدهما:

المرجع

الوعد الأول

وعد الآخرة

التحرير والتنوير

مجموع حوادث متسلسلة تسمى في التاريخ بالأسر البابلي، وهي غزوات (بختنصر) ملك بابل وآشور بلاد أورشليم

على يد الرومان جيجوس ثم أدريانوس

معارج التفكر ودقائق التدبر

بختنصر

العصر الحالي

ابن جرير

ملك النبط

استرداد ما فقدوه من ملك النبط

القرطبي

ذكر أقوالا دون ترجيح

ذكر أقوالا دون ترجيح

وأما الوحيد الذي قيد المرة الثانية بالعصر الحالي فقد كان الشيخ عبد الرحمن حسن حبنكة الميداني باعتباره معاصرا للأحداث الجارية، والذي نراه – والله أعلم وأحكم – أن:

الإفساد الأول: كان من بعد عهد موسى إلى عهد النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه، فإن الله قد أرسل لهم التوراة بالتوحيد فاتبعوها زمنا ثم حرفوها على يد بولس الصغير وتلميذه متى كما هي في الكتاب المقدس الحالي، وأضلوا بهذه العقيدة الفاسدة أهل أوربا كلها، وكثيرا من أهل المشرق، وعم فسادهم بهذا، ناهيك عن غير ذلك من المذاهب الباطلة في الشرق والغرب كالبوذية وكثير من الحركات السرية في تلك العصور ومن تأمل في أصول هذه المذاهب يراها واحدة تقريبا.

ثم جاء وعد الأولى: فكان بنزول القرآن وتصحيح التوحيد ونسف هذه المذاهب الباطلة بالإسلام، وأما القوم الأولو بأس شديد فهم أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم، فهم الذين دخلوا المسجد الأقصى أول مرة، ومما يؤيد ذلك وصفهم بأنهم ( عباد لنا ) وهذا تكريم وتشريف لهؤلاء الداخلين، يبعد احتمال أن يكونوا غيرهم سواء كان بختنصر أو النبط لأنهم لم يكونوا موحدين، فالوعد الأول لا يكون إلا على يد عباد صالحين أعلنوا عبوديتهم لله المرتبطة بخيط بقوله في أول السورة ( بعبده )، وقد كان من فعلهم رضي الله عنهم ما ذكرت الآية من الجوس خلال الديار، والجوس التخلل فيها، فقد انتشروا في الأرض كلها حاملين معهم هذا الخير العظيم.

الإفساد الثاني: فهو ما عليه بنو إسرائيل اليوم من العلو الكبير، إضافة إلى تمكنهم من المسجد الأقصى وهذه لم تكن لهم منذ عهد داوود وسليمان عليهما السلام، فإنهم بعد ذلك تفرقوا في الأرض أشتاتا وتحكموا عن طريق الخديعة والسر ولم يكن لهم علو من حينها، أما اليوم فقد صار لهم شوكة وكيان، ناهيك عن تحكمهم في كثير من مفاصل الحياة الحديثة كالإعلام والمال والمصارف والشركات والمراكز الحساسة، واستطاعوا بهذا كله نشر رزمة من العقائد الباطلة استكمالا لفسادهم الأول: من ماركسية وشيوعية وإلحاد وفاحشة وإباحية وعبادة شيطان ورأسمالية، ليس هذا فحسب بل إن محاولات الإفساد بدأت منذ عهد النبي صلى الله عليه وسلم كما جاء في حادثة الرجل اليهودي الذي زنا بالمرأة اليهودية، واستمر برزمة أخرى من المذاهب الباطلة: كالباطنية بفروعها، والمتأمل في هذه المذاهب يرى أنها فروع من شجرة الإفساد البني إسرائيلي، وقد فصل الدكتور بهاء الأمير في كتابه ( شفرة سورة الإسراء ) وفي كتبه الأخرى هذا الأمر فلينظر في موضعه وكل ما ذكر هنا من كتابه.

وأما الإصلاح الثاني: فسيأتي بإذن الله حين ترجع الأمة إلى عقيدتها بعد هذا الغياب الطويل، فيكون كما أخبرت الآيات: يسوؤوا وجوه بني إسرائيل ويحطموا هذا العلو الذي علوه في الأرض، وما ذلك على الله بعزيز.

ما مناسبة ذكر المصدر بعد الفعل في التتبير؟

التتبير الهلاك والتدمير وكل شيء جعلته مكسرا ومفتتا فقد تبرته ومنه تبر الذهب لمكسره، وجاء بالمصدر بعد الفعل لتحقيق الخبر وإزالة الشك في صدقه، وقول القائل: والله لأقتلنكم تقتيلا، أشد في النفس من قوله: والله لأقتلنكم.

ما مناسبة تذييل الآيات بقوله: وجعلنا جهنم للكافرين حصيرا؟

فيه إشارة إلى أن ما كل ما سبق من العذاب إنما هو من عذاب الدنيا وأن الأمر لن ينتهي بعذاب الدنيا وإنما وراءه عذاب أكبر هو عذاب الآخرة.

والحصير هو المكان الذي يحصر فيه فلا يستطاع الخروج منه، وهو إما فعيل بمعنى فاعل أي حاصر للكافرين، أو بمعنى مفعول: أي الكافرين محصورين فيه.

واستخدم هذا اللفظ: حصير، دون غيره مناسب لما سيأتي لاحقا من قوله تعالى في وعد الآخرة: حئنا بكم لفيفا أي مجتمعين نحصركم في مكان واحد ثم يأتيكم وعد الآخرة.

ما هي دلالة استخدام نا الدالة على الجماعة في رواية الأحداث؟

المتأمل في هذا المقطع يلحظ بشكل واضح أن إدارة الأحداث في هذا المشهد التاريخي الممتد أكثر من ستمائة سنة بين الإفساد الأول والإصلاح الأول، وحوالي ألف وأربعمائة بين الإصلاح الأول والثاني، أن إدارة هذه الأحداث التاريخية الجسيمة لا يقدر عليه إلا الله عز وجل، وقد استسلم كثير من شباب المسلمين اليوم البعيدين عن القرآن لفكرة سيطرة الإسرائيليين التامة على مجريات الأحداث والتحكم بكل شيء فيها، حتى جعلوهم آلهة من دون الله، يدبرون الأمر كيف شاؤوا فتأتي هذه الألفاظ مثل:

قضينا

بعثنا عليكم عبادا

ثم رددنا

أمددناكم

جعلناكم

لتبين أن الله هو المدبر الحقيقي لكل هذا وهو المتحكم الفعلي في سيرورة التاريخ وخط حركته على حسب ما وعد ( وكان وعدا مفعولا ).

وحاشا أن تصيب مثل هذه الهزيمة من امتلأ قلبه بالقرآن وتأمل معانيه التي تنتهي إليها ألفاظه، وإنما أتينا من بعدنا عن القرآن لذلك جاء التنبيه عليه كثيرا في هذه السورة.

 

Map Shot 1

 

Map Shot 2

 

Map Shot 3

 

Map Shot 4

جميع الحقوق متاحة للمسلمين دون اشتراط ذكر المصدر © 2023 7a9ad.com. All Rights Reserved