الْمِيزَانَ
الْمِيزَانَ
الأنعام
وَلَا تَقْرَبُوا مَالَ الْيَتِيمِ إِلَّا بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ حَتَّى يَبْلُغَ أَشُدَّهُ وَأَوْفُوا الْكَيْلَ وَالْمِيزَانَ بِالْقِسْطِ لَا نُكَلِّفُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا وَإِذَا قُلْتُمْ فَاعْدِلُوا وَلَوْ كَانَ ذَا قُرْبَى وَبِعَهْدِ اللَّهِ أَوْفُوا ذَلِكُمْ وَصَّاكُمْ بِهِ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ (152(
الأعراف
وَإِلَى مَدْيَنَ أَخَاهُمْ شُعَيْبًا قَالَ يَاقَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ قَدْ جَاءَتْكُمْ بَيِّنَةٌ مِنْ رَبِّكُمْ فَأَوْفُوا الْكَيْلَ وَالْمِيزَانَ وَلَا تَبْخَسُوا النَّاسَ أَشْيَاءَهُمْ وَلَا تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ بَعْدَ إِصْلَاحِهَا ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ (85(
هود
وَإِلَى مَدْيَنَ أَخَاهُمْ شُعَيْبًا قَالَ يَاقَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ وَلَا تَنْقُصُوا الْمِكْيَالَ وَالْمِيزَانَ إِنِّي أَرَاكُمْ بِخَيْرٍ وَإِنِّي أَخَافُ عَلَيْكُمْ عَذَابَ يَوْمٍ مُحِيطٍ (84(
وَيَاقَوْمِ أَوْفُوا الْمِكْيَالَ وَالْمِيزَانَ بِالْقِسْطِ وَلَا تَبْخَسُوا النَّاسَ أَشْيَاءَهُمْ وَلَا تَعْثَوْا فِي الْأَرْضِ مُفْسِدِينَ (85) بَقِيَّتُ اللَّهِ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ وَمَا أَنَا عَلَيْكُمْ بِحَفِيظٍ (86(
الشورى
اللَّهُ الَّذِي أَنْزَلَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ وَالْمِيزَانَ وَمَا يُدْرِيكَ لَعَلَّ السَّاعَةَ قَرِيبٌ (17(
الرحمن
وَالسَّمَاءَ رَفَعَهَا وَوَضَعَ الْمِيزَانَ (7(
أَلَّا تَطْغَوْا فِي الْمِيزَانِ (8(
وَأَقِيمُوا الْوَزْنَ بِالْقِسْطِ وَلَا تُخْسِرُوا الْمِيزَانَ (9(
الحديد
لَقَدْ أَرْسَلْنَا رُسُلَنَا بِالْبَيِّنَاتِ وَأَنْزَلْنَا مَعَهُمُ الْكِتَابَ وَالْمِيزَانَ لِيَقُومَ النَّاسُ بِالْقِسْطِ وَأَنْزَلْنَا الْحَدِيدَ فِيهِ بَأْسٌ شَدِيدٌ وَمَنَافِعُ لِلنَّاسِ وَلِيَعْلَمَ اللَّهُ مَنْ يَنْصُرُهُ وَرُسُلَهُ بِالْغَيْبِ إِنَّ اللَّهَ قَوِيٌّ عَزِيزٌ (25(
الأنعام:
وَلَا تَقْرَبُوا مَالَ الْيَتِيمِ إِلَّا بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ حَتَّى يَبْلُغَ أَشُدَّهُ وَأَوْفُوا الْكَيْلَ وَالْمِيزَانَ بِالْقِسْطِ لَا نُكَلِّفُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا وَإِذَا قُلْتُمْ فَاعْدِلُوا وَلَوْ كَانَ ذَا قُرْبَى وَبِعَهْدِ اللَّهِ أَوْفُوا ذَلِكُمْ وَصَّاكُمْ بِهِ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ (152(
الطبري:
يقول: لا تبخسوا الناس الكيلَ إذا كلتموهم، والوزنَ إذا وزنتموهم، ولكن أوفوهم حقوقهم. وإيفاؤهم ذلك، إعطاؤهم حقوقهم تامة
فتح البيان:
(وأوفوا الكيل والميزان) وهما الآلة التي يكال بها ويوزن، وأصل الكيل مصدر ثم أطلق على الآلة، والميزان في الأصل مفعال من الوزن، ثم نقل لهذه الآلة كالمصباح والمقياس لما يستصبح به ويقاس (بالقسط) أي بالعدل في الأخذ والإعطاء عند البيع والشراء وترك البخس.
ابن كثير- الشوكاني - القرطبي:
يأمر تعالى بِإِقَامَةِ الْعَدْلِ فِي الْأَخْذِ وَالْإِعْطَاءِ،
ابن عطية:
اَلْآيَةَ؛ أمْرٌ بِالِاعْتِدالِ في الأخْذِ؛ والإعْطاءِ؛ و"اَلْقِسْطُ": اَلْعَدْلُ
أضواء البيان:
وْلُهُ تَعالى: ﴿وَأوْفُوا الكَيْلَ والمِيزانَ بِالقِسْطِ لا نُكَلِّفُ نَفْسًا إلّا وُسْعَها﴾، أمَرَ تَعالى في هَذِهِ الآيَةِ الكَرِيمَةِ بِإيفاءِ الكَيْلِ والمِيزانِ بِالعَدْلِ، وذَكَرَ أنَّ مَن أخَلَّ بِإيفائِهِ مِن غَيْرِ قَصْدٍ مِنهُ لِذَلِكَ، لا حَرَجَ عَلَيْهِ لِعَدَمِ قَصْدِهِ، ولَمْ يَذْكُرْ هُنا عِقابًا لِمَن تَعَمَّدَ ذَلِكَ، ولَكِنْ تَوَعَّدَهُ بِالوَيْلِ في مَوْضِعٍ آخَرَ، ووَبَّخَهُ بِأنَّهُ لا يَظُنُّ البَعْثَ لِيَوْمِ القِيامَةِ، وذَلِكَ في قَوْلِهِ: ﴿وَيْلٌ لِلْمُطَفِّفِينَ﴾ ﴿الَّذِينَ إذا اكْتالُوا عَلى النّاسِ يَسْتَوْفُونَ﴾ ﴿وَإذا كالُوهم أوْ وزَنُوهم يُخْسِرُونَ﴾ ﴿ألا يَظُنُّ أُولَئِكَ أنَّهم مَبْعُوثُونَ﴾ ﴿لِيَوْمٍ عَظِيمٍ﴾ ﴿يَوْمَ يَقُومُ النّاسُ لِرَبِّ العالَمِينَ﴾ [المطففين: ١ - ٦] .
وَذَكَرَ في مَوْضِعٍ آخَرَ أنَّ إيفاءَ الكَيْلِ والمِيزانِ خَيْرٌ لِفاعِلِهِ، وأحْسَنُ عاقِبَةً، وهو قَوْلُهُ تَعالى: ﴿وَأوْفُوا الكَيْلَ إذا كِلْتُمْ وزِنُوا بِالقِسْطاسِ المُسْتَقِيمِ ذَلِكَ خَيْرٌ وأحْسَنُ تَأْوِيلًا﴾ [الإسراء: ٣٥] .
الأعراف:
وَإِلَى مَدْيَنَ أَخَاهُمْ شُعَيْبًا قَالَ يَاقَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ قَدْ جَاءَتْكُمْ بَيِّنَةٌ مِنْ رَبِّكُمْ فَأَوْفُوا الْكَيْلَ وَالْمِيزَانَ وَلَا تَبْخَسُوا النَّاسَ أَشْيَاءَهُمْ وَلَا تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ بَعْدَ إِصْلَاحِهَا ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ (85(
الطبري:
قَوْلُهُ: ﴿فَأوْفُوا الكَيْلَ والمِيزانَ﴾ أمَرَهم بِإيفاءِ الكَيْلِ والمِيزانِ لِأنَّهم كانُوا أهْلَ مُعامَلَةٍ بِالكَيْلِ والوَزْنِ، وكانُوا لا يُوَفُّونَهُما، وذَكَرَ الكَيْلَ الَّذِي هو المَصْدَرُ وعَطَفَ عَلَيْهِ المِيزانَ الَّذِي هو اسْمٌ لِلْآلَةِ.
التحرير والتنوير:
والكَيْلُ مَصْدَرٌ، ويُطْلَقُ عَلى ما يُكالُ بِهِ، وهو المِكْيالُ كَقَوْلِهِ تَعالى: ﴿ونَزْدادُ كَيْلَ بَعِيرٍ﴾ [يوسف: ٦٥] وهو المُرادُ هُنا: لِمُقابَلَتِهِ بِالمِيزانِ، ولِقَوْلِهِ في الآيَةِ الأُخْرى: ﴿ولا تَنْقُصُوا المِكْيالَ والمِيزانَ﴾ [هود: ٨٤] ومَعْنى إيفاءِ المِكْيالِ والمِيزانِ أنْ تَكُونَ آلَةُ الكَيْلِ وآلَةُ الوَزْنِ بِمِقْدارِ ما يُقَدَّرُ بِها مِنَ الأشْياءِ المُقَدَّرَةِ. وإنَّما خَصَّ هَذَيْنِ التَّحَيُّلَيْنِ بِالأمْرِ والنَّهْيِ المَذْكُورَيْنِ: لِأنَّهُما كانا شائِعَيْنِ عِنْدَ مَدْيَنَ، ولِأنَّ التَّحَيُّلاتِ في المُعامَلَةِ المالِيَّةِ تَنْحَصِرُ فِيهِما إذْ كانَ التَّعامُلُ بَيْنَ أهْلِ البَوادِي مُنْحَصِرًا في المُبادَلاتِ بِأعْيانِ الأشْياءِ: عَرْضًا وطَلَبًا.
وبِهَذا يَظْهَرُ أنَّ النَّهْيَ في قَوْلِهِ: ولا تَبْخَسُوا النّاسَ أشْياءَهم أفادَ مَعْنًى غَيْرَ الَّذِي أفادَهُ الأمْرُ في قَوْلِهِ: فَأوْفُوا الكَيْلَ والمِيزانَ. ولَيْسَ ذَلِكَ النَّهْيُ جارِيًا مَجْرى العِلَّةِ لِلْأمْرِ، أوِ التَّأْكِيدِ لِمَضْمُونِهِ، كَما فَسَّرَ بِهِ بَعْضُ المُفَسِّرِينَ.
أبو السعود:
﴿فَأوْفُوا الكَيْلَ﴾؛ أيِ: المِكْيالَ، كَما وقَعَ في سُورَةِ هُودٍ.
وَيُؤَيِّدُهُ قَوْلُهُ تَعالى: ﴿والمِيزانَ﴾ فَإنَّ المُتَبادِرَ مِنهُ الآلَةُ، وإنْ جازَ كَوْنُهُ مَصْدَرًا كالمِيعادِ. وقِيلَ: آلَةُ الكَيْلِ، والوَزْنُ عَلى الإضْمارِ، والفاءُ لِتَرْتِيبِ الأمْرِ عَلى مَجِيءِ البَيِّنَةِ، ويَجُوزُ أنْ تَكُونَ عاطِفَةً عَلى اعْبُدُوا، فَإنَّ عِبادَةَ اللَّهِ تَعالى مُوجِبَةٌ لِلِاجْتِنابِ عَنِ المَناهِي الَّتِي مُعْظَمُها بَعْدَ الكُفْرِ البَخْسُ الَّذِي كانُوا يُباشِرُونَهُ.
هود:
وَإِلَى مَدْيَنَ أَخَاهُمْ شُعَيْبًا قَالَ يَاقَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ وَلَا تَنْقُصُوا الْمِكْيَالَ وَالْمِيزَانَ إِنِّي أَرَاكُمْ بِخَيْرٍ وَإِنِّي أَخَافُ عَلَيْكُمْ عَذَابَ يَوْمٍ مُحِيطٍ (84(
وَيَاقَوْمِ أَوْفُوا الْمِكْيَالَ وَالْمِيزَانَ بِالْقِسْطِ وَلَا تَبْخَسُوا النَّاسَ أَشْيَاءَهُمْ وَلَا تَعْثَوْا فِي الْأَرْضِ مُفْسِدِينَ (85) بَقِيَّتُ اللَّهِ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ وَمَا أَنَا عَلَيْكُمْ بِحَفِيظٍ (86(
الطبري:
﴿ولا تنقصوا المكيال والميزان﴾ ، يقول: ولا تنقصوا الناس حقوقهم في مكيالكم وميزانكم
الآلوسي:
أيْ لا تَنْقُصُوا النّاسَ مِنَ المِكْيالِ والمِيزانِ يَعْنِي مِمّا يُكالُ ويُوزَنُ عَلى ذِكْرِ المَحَلِّ وإرادَةِ الحالِ، واسْتَظْهَرَ أنَّ المُرادَ لا تَنْقُصُوا حَجْمَ المِكْيالِ عَنِ المَعْهُودِ وكَذا الصَّنَجاتُ، وقَدْ تَقَدَّمَ في الأعْرافِ الكَيْلُ بَدَلُ المِكْيالِ فَتَذَكَّرْ وتَأمَّلْ،
القنوجي:
والمراد بالمكيال المكيل به وبالميزان الموزون به
الشورى:
اللَّهُ الَّذِي أَنْزَلَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ وَالْمِيزَانَ وَمَا يُدْرِيكَ لَعَلَّ السَّاعَةَ قَرِيبٌ (17(
الطبري:
﴿اللَّهُ الَّذِي أَنزلَ﴾ هذا ﴿الكِتَابَ﴾ يعني القرآن ﴿بِالْحَقِّ وَالْمِيزَانَ﴾ يقول: وأنزل الميزان وهو العدل، ليقضي بين الناس بالإنصاف، ويحكم فيهم بحكم الله الذي أمر به في كتابه.
ابن كثير:
﴿وَالْمِيزَانَ﴾ ، وَهُوَ: الْعَدْلُ وَالْإِنْصَافُ، قَالَهُ مُجَاهِدٌ، وَقَتَادَةُ. وَهَذِهِ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: ﴿لَقَدْ أَرْسَلْنَا رُسُلَنَا بِالْبَيِّنَاتِ وَأَنزلْنَا مَعَهُمُ الْكِتَابَ وَالْمِيزَانَ لِيَقُومَ النَّاسُ بِالْقِسْطِ﴾ [الْحَدِيدِ:٢٥] وَقَوْلُهُ: ﴿وَالسَّمَاءَ رَفَعَهَا وَوَضَعَ الْمِيزَانَ. أَلا تَطْغَوْا فِي الْمِيزَانِ. وَأَقِيمُوا الْوَزْنَ بِالْقِسْطِ وَلا تُخْسِرُوا الْمِيزَانَ﴾ [الرَّحْمَنِ:٧-٩] .
القرطبي:
قوْلُهُ تَعَالَى: ﴿اللَّهُ الَّذِي أَنْزَلَ الْكِتابَ﴾ يَعْنِي الْقُرْآنَ وَسَائِرَ الْكُتُبِ الْمُنَزَّلَةِ. "بِالْحَقِّ" أَيْ بِالصِّدْقِ. "وَالْمِيزانَ" أَيِ الْعَدْلَ، قَالَهُ ابْنُ عَبَّاسٍ وَأَكْثَرُ الْمُفَسِّرِينَ. وَالْعَدْلُ يُسَمَّى مِيزَانًا، لِأَنَّ الْمِيزَانَ آلَةُ الْإِنْصَافِ وَالْعَدْلِ. وَقِيلَ: الْمِيزَانُ مَا بُيِّنَ فِي الْكُتُبِ مِمَّا يَجِبُ عَلَى الْإِنْسَانِ أَنْ يَعْمَلَ بِهِ. وَقَالَ قَتَادَةُ: الْمِيزَانُ الْعَدْلُ فِيمَا أَمَرَ بِهِ وَنَهَى عَنْهُ. وَهَذِهِ الْأَقْوَالُ مُتَقَارِبَةُ الْمَعْنَى. وَقِيلَ: هُوَ الْجَزَاءُ عَلَى الطَّاعَةِ بِالثَّوَابِ وَعَلَى الْمَعْصِيَةِ بِالْعِقَابِ. وَقِيلَ: إِنَّهُ الْمِيزَانُ نَفْسُهُ الَّذِي يُوزَنُ بِهِ، أَنْزَلَهُ مِنَ السَّمَاءِ وَعَلَّمَ الْعِبَادَ الْوَزْنَ بِهِ، لِئَلَّا يَكُونَ بَيْنَهُمْ تَظَالُمٌ وَتَبَاخُسٌ، قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: ﴿لَقَدْ أَرْسَلْنا رُسُلَنا بِالْبَيِّناتِ وَأَنْزَلْنا مَعَهُمُ الْكِتابَ وَالْمِيزانَ لِيَقُومَ النَّاسُ بِالْقِسْطِ﴾(١) [الحديد: ٢٥]. قَالَ مُجَاهِدٌ: هُوَ الَّذِي يُوزَنُ بِهِ. وَمَعْنَى أنزل الميزان. هو إلهامه للخلق أن يعملوه وَيَعْمَلُوا] بِهِ [. وَقِيلَ: الْمِيزَانُ مُحَمَّدٌ ﷺ، يَقْضِي بَيْنَكُمْ بِكِتَابِ اللَّهِ. "وَما يُدْرِيكَ لَعَلَّ السَّاعَةَ قَرِيبٌ" فَلَمْ يُخْبِرْهُ بِهَا. يَحُضُّهُ عَلَى الْعَمَلِ بِالْكِتَابِ وَالْعَدْلِ وَالسَّوِيَّةِ، وَالْعَمَلِ بِالشَّرَائِعِ قَبْلَ أَنْ يُفَاجِئَ الْيَوْمَ الَّذِي يَكُونُ فِيهِ الْمُحَاسَبَةُ وَوَزْنُ الْأَعْمَالِ، فَيُوَفِّي لِمَنْ أَوْفَى وَيُطَفِّفُ لِمَنْ طَفَّفَ.
البغوي:
قَالَ قَتَادَةُ، وَمُجَاهِدٌ، وَمُقَاتِلٌ: سُمِّيَ الْعَدْلُ مِيزَانًا لِأَنَّ الْمِيزَانَ آلَةُ الْإِنْصَافِ وَالتَّسْوِيَةِ.
ابن الجوزي:
﴿اللَّهُ الَّذِي أنْزَلَ الكِتابَ﴾ يَعْنِي القُرْآنَ ﴿بِالحَقِّ﴾ أيْ: لَمْ يُنْزِلْهُ لِغَيْرِ شَيْءٍ ﴿والمِيزانَ﴾ فِيهِ قَوْلانِ. أحَدُهُما: أنَّهُ العَدْلُ، قالَهُ ابْنُ عَبّاسٍ، وقَتادَةُ، والجُمْهُورُ. والثّانِي: أنَّهُ الَّذِي يُوزَنُ بِهِ، حُكِيَ عَنْ مُجاهِدٍ. ومَعْنى إنْزالِهِ: إلْهامُ الخَلْقِ أنْ يَعْمَلُوا بِهِ، وأمْرُ اللَّهِ عَزَّ وجَلَّ إيّاهم بِالإنْصافِ. وسُمِّي العَدْلُ مِيزانًا؛ لِأنَّ المِيزانَ آلَةُ الإنْصافِ والتَّسْوِيَةِ بَيْنَ الخَلْقِ.
أضواء البيان:
بَيَّنَ - جَلَّ وعَلا - في هَذِهِ الآيَةِ الكَرِيمَةِ أنَّهُ هو الَّذِي أنْزَلَ الكِتابَ في حالِ كَوْنِهِ مُتَلَبِّسًا بِالحَقِّ الَّذِي هو ضِدُّ الباطِلِ، وقَوْلُهُ: الكِتابَ اسْمُ جِنْسٍ مُرادٌ بِهِ جَمِيعُ الكُتُبِ السَّماوِيَّةِ.
وَقَدْ أوْضَحْنا في سُورَةِ ”الحَجِّ“ أنَّ المُفْرَدَ الَّذِي هو اسْمُ الجِنْسِ يُطْلَقُ مُرادًا بِهِ الجَمْعُ، وذَكَرْنا الآياتِ الدّالَّةَ عَلى ذَلِكَ مَعَ الشَّواهِدِ العَرَبِيَّةِ.
وَقَوْلُهُ تَعالى في هَذِهِ الآيَةِ الكَرِيمَةِ: والمِيزانَ يَعْنِي أنَّ اللَّهَ - جَلَّ وعَلا - هو الَّذِي أنْزَلَ المِيزانَ، والمُرادُ بِهِ العَدْلُ والإنْصافُ.
وَقالَ بَعْضُ أهْلِ العِلْمِ: المِيزانُ في الآيَةِ هو آلَةُ الوَزْنِ المَعْرُوفَةُ.
وَمِمّا يُؤَيِّدُ ذَلِكَ أنَّ المِيزانَ مِفْعالٌ، والمِفْعالُ قِياسِيٌّ في اسْمِ الآلَةِ.
وَعَلى التَّفْسِيرِ الأوَّلِ - وهو أنَّ المِيزانَ العَدْلُ والإنْصافُ - فالمِيزانُ الَّذِي هو آلَةُ الوَزْنِ المَعْرُوفَةُ داخِلٌ فِيهِ؛ لِأنَّ إقامَةَ الوَزْنِ بِالقِسْطِ مِنَ العَدْلِ والإنْصافِ.
وَما تَضَمَّنَتْهُ هَذِهِ الآيَةُ الكَرِيمَةُ مِن أنَّ اللَّهَ تَعالى هو الَّذِي أنْزِلَ الكِتابَ والمِيزانَ - أوْضَحَهُ في غَيْرِ هَذا المَوْضِعِ، كَقَوْلِهِ تَعالى في سُورَةِ ”الحَدِيدِ“: ﴿لَقَدْ أرْسَلْنا رُسُلَنا بِالبَيِّناتِ وأنْزَلْنا مَعَهُمُ الكِتابَ والمِيزانَ لِيَقُومَ النّاسُ بِالقِسْطِ﴾ [الحديد: ٢٥] .
فَصَرَّحَ تَعالى بِأنَّهُ أنْزَلَ مَعَ رُسُلِهِ الكِتابَ والمِيزانَ لِأجْلِ أنْ يَقُومَ النّاسُ بِالقِسْطِ، وهو العَدْلُ والإنْصافُ. وكَقَوْلِهِ تَعالى في سُورَةِ ”الرَّحْمَنِ“: ﴿والسَّماءَ رَفَعَها ووَضَعَ المِيزانَ﴾ ﴿ألّا تَطْغَوْا في المِيزانِ﴾ ﴿وَأقِيمُوا الوَزْنَ بِالقِسْطِ ولا تُخْسِرُوا المِيزانَ﴾ [الرحمن: ٧ - ٩] .
قالَ مُقَيِّدُهُ - عَفا اللَّهُ عَنْهُ وغَفَرَ لَهُ -: الَّذِي يَظْهَرُ لِي واللَّهُ تَعالى أعْلَمُ: أنَّ المِيزانَ في سُورَةِ ”الشُّورى“ وسُورَةِ ”الحَدِيدِ“ هو العَدْلُ والإنْصافُ، كَما قالَهُ غَيْرُ واحِدٍ مِنَ المُفَسِّرِينَ.
وَأنَّ المِيزانَ في سُورَةِ ”الرَّحْمَنِ“ هو المِيزانُ المَعْرُوفُ، أعْنِي آلَةَ الوَزْنِ الَّتِي يُوزَنُ بِها بَعْضُ المَبِيعاتِ.
وَمِمّا يَدُلُّ عَلى ذَلِكَ أنَّهُ في سُورَةِ ”الشُّورى“ وسُورَةِ ”الحَدِيدِ“ عَبَّرَ بِإنْزالِ المِيزانِ لا بِوَضْعِهِ، وقالَ في سُورَةِ ”الشُّورى“: ﴿اللَّهُ الَّذِي أنْزَلَ الكِتابَ بِالحَقِّ والمِيزانَ﴾ . وقالَ في ”الحَدِيدِ“: ﴿وَأنْزَلْنا مَعَهُمُ الكِتابَ والمِيزانَ﴾ [الحديد: ٢٥] .
وَأمّا في سُورَةِ ”الرَّحْمَنِ“ فَقَدْ عَبَّرَ بِالوَضْعِ لا الإنْزالِ، قالَ: ﴿والسَّماءَ رَفَعَها ووَضَعَ المِيزانَ﴾ [الرحمن: ٧] . ثُمَّ أتْبَعَ ذَلِكَ بِما يَدُلُّ عَلى أنَّ المُرادَ بِهِ آلَةُ الوَزْنِ المَعْرُوفَةُ، وذَلِكَ في قَوْلِهِ: ﴿وَأقِيمُوا الوَزْنَ بِالقِسْطِ ولا تُخْسِرُوا المِيزانَ﴾ [الرحمن: ٩] لِأنَّ المِيزانَ الَّذِي نُهُوا عَنْ إخْسارِهِ هو أخُو المِكْيالِ، كَما قالَ تَعالى: ﴿أوْفُوا الكَيْلَ ولا تَكُونُوا مِنَ المُخْسِرِينَ﴾ ﴿وَزِنُوا بِالقِسْطاسِ المُسْتَقِيمِ﴾ ﴿وَلا تَبْخَسُوا النّاسَ أشْياءَهُمْ﴾ [الشعراء: ١٨١ - ١٨٣] . وقالَ تَعالى: ﴿وَيْلٌ لِلْمُطَفِّفِينَ﴾ ﴿الَّذِينَ إذا اكْتالُوا عَلى النّاسِ يَسْتَوْفُونَ﴾ ﴿وَإذا كالُوهم أوْ وزَنُوهم يُخْسِرُونَ﴾ [المطففين: ١ - ٣] . وقالَ تَعالى عَنْ نَبِيِّهِ شُعَيْبٍ: ﴿وَلا تَنْقُصُوا المِكْيالَ والمِيزانَ﴾ الآيَةَ [هود: ٨٤] . وقالَ تَعالى عَنْهُ أيْضًا: ﴿قَدْ جاءَتْكم بَيِّنَةٌ مِن رَبِّكم فَأوْفُوا الكَيْلَ والمِيزانَ﴾ الآيَةَ [الأعراف: ٨٥] . وقالَ تَعالى في سُورَةِ ”الأنْعامِ“: ﴿وَأوْفُوا الكَيْلَ والمِيزانَ بِالقِسْطِ لا نُكَلِّفُ نَفْسًا إلّا وُسْعَها﴾ [الأنعام: ١٥٢] . وقالَ تَعالى في سُورَةِ ”بَنِي إسْرائِيلَ“: ﴿وَأوْفُوا الكَيْلَ إذا كِلْتُمْ وزِنُوا بِالقِسْطاسِ المُسْتَقِيمِ ذَلِكَ خَيْرٌ وأحْسَنُ تَأْوِيلًا﴾ .
التحرير والتنوير:
والمِيزانُ حَقِيقَتُهُ: آلَةُ الوَزْنِ، والوَزْنُ: تَقْدِيرُ ثِقَلِ جِسْمٍ، والمِيزانُ آلَةٌ ذاتُ كِفَّتَيْنِ مُعْتَدِلَتَيْنِ مُعَلَّقَتَيْنِ في طَرَفَيْ قَضِيبٍ مُسْتَوٍ مُعْتَدِلٍ، لَهُ عُرْوَةٌ في وسَطِهِ، بِحَيْثُ لا تَتَدَلّى إحْدى الكِفَّتَيْنِ عَلى الأُخْرى إذا أُمْسِكَ القَضِيبُ مِن عُرْوَتِهِ.
والمِيزانُ هُنا مُسْتَعارٌ لِلْعَدْلِ والهَدْيِ بِقَرِينَةِ قَوْلِهِ: (أنْزَلَ) فَإنَّ الدِّينَ هو المُنَزَّلُ والدِّينُ يَدْعُو إلى العَدْلِ والإنْصافِ في المُجادَلَةِ في الدِّينِ وفي إعْطاءِ الحُقُوقِ، فَشُبِّهَ بِالمِيزانِ في تَساوِي رُجْحانِ كِفَّتَيْهِ قالَ تَعالى: ﴿وأنْزَلْنا مَعَهُمُ الكِتابَ والمِيزانَ لِيَقُومَ النّاسُ بِالقِسْطِ﴾ [الحديد: ٢٥] .
ابن عطية:
و"المِيزانُ" هُنا: العَدْلُ، قالَهُ ابْنُ عَبّاسٍ، ومُجاهِدٌ، وقَتادَةُ، والناسُ، وحَكى الثَعْلَبِيُّ عن مُجاهِدٍ أنَّهُ قالَ: هو هُنا المِيزانُ الَّذِي بِأيْدِي الناسِ.
قالَ القاضِي أبُو مُحَمَّدٍ رَحِمَهُ اللهُ:
ولا شَكَّ أنَّهُ داخِلٌ في العَدْلِ وجُزْءٍ مِنهُ، وكُلِّ شَيْءٍ مِنَ الأُمُورِ، فالعَدْلُ فِيهِ إنَّما هو بِتَقْدِيرٍ ووَزْنٍ مُسْتَقِيمٍ، فَيَحْتاجُ في الأجْرامِ إلى آلَةٍ، وهي العَمُودُ والكَفَّتانِ الَّتِي بِأيْدِي البَشَرِ، ويَحْتاجُ في المَعانِي إلى هَيْئاتٍ في النُفُوسِ وفُهُومٍ تُوازِنُ بَيْنَ الأشْياءِ.
أبو السعود:
﴿والمِيزانَ﴾ والشَّرْعِ الَّذِي يُوزَنُ بِهِ الحُقُوقُ ويُسَوّى بَيْنَ النّاسِ أوْ نَفْسُ العَدْلِ بِأنْ أنْزَلَ الأمْرَ بِهِ أوْ آلَةُ الوَزْنِ.
الزمخشري:
أَنْزَلَ الْكِتابَ أى جنس الكتاب وَالْمِيزانَ والعدل والتسوية.
التفسير الميسر – المختصر في التفسير:
الله الذي أنزل القرآن وسائر الكتب المنزلة بالصدق، وأنزل الميزان وهو العدل؛ ليحكم بين الناس بالإنصاف.
السعدي:
وأما الميزان، فهو العدل والاعتبار بالقياس الصحيح والعقل الرجيح، فكل الدلائل العقلية، من الآيات الآفاقية والنفسية، والاعتبارات الشرعية، والمناسبات والعلل، والأحكام والحكم، داخلة في الميزان الذي أنزله الله تعالى ووضعه بين عباده، ليزنوا به ما اشتبه من الأمور، ويعرفوا به صدق ما أخبر به وأخبرت رسله، مما خرج عن هذين الأمرين عن الكتاب والميزان مما قيل إنه حجة أو برهان أو دليل أو نحو ذلك من العبارات، فإنه باطل متناقض، قد فسدت أصوله، وانهدمت مبانيه وفروعه، يعرف ذلك من خبر المسائل ومآخذها، وعرف التمييز بين راجح الأدلة من مرجوحها، والفرق بين الحجج والشبه، وأما من اغتر بالعبارات المزخرفة، والألفاظ المموهة، ولم تنفذ بصيرته إلى المعنى المراد، فإنه ليس من أهل هذا الشأن، ولا من فرسان هذا الميدان، فوفاقه وخلافه سيان.
أيسر التفاسير:
والميزان: أي وأنزل الميزان وهو العدل ليحق الحق. وأنزل الميزان وذلك من أجل إحقاق الحق في الأرض وإبطال الباطل فيها، فلا يعبد إلا الله ولا يحكم إلا شرع الله وفي ذلك كمال الإنسانية وسعادتها،
الرحمن:
وَالسَّمَاءَ رَفَعَهَا وَوَضَعَ الْمِيزَانَ (7(
أَلَّا تَطْغَوْا فِي الْمِيزَانِ (8(
وَأَقِيمُوا الْوَزْنَ بِالْقِسْطِ وَلَا تُخْسِرُوا الْمِيزَانَ (9(
الطبري:
يقول: ووضع العدل بين خلقه في الأرض.
ابن كثير:
وَقَوْلُهُ: ﴿وَالسَّمَاءَ رَفَعَهَا وَوَضَعَ الْمِيزَانَ﴾ يَعْنِي: الْعَدْلَ، كَمَا قَالَ: ﴿لَقَدْ أَرْسَلْنَا رُسُلَنَا بِالْبَيِّنَاتِ وَأَنزلْنَا مَعَهُمُ الْكِتَابَ وَالْمِيزَانَ لِيَقُومَ النَّاسُ بِالْقِسْطِ﴾ [الْحَدِيدِ: ٢٥] ، وَهَكَذَا قَالَ هَاهُنَا: ﴿أَلا تَطْغَوْا فِي الْمِيزَانِ﴾ أي: خلق السموات وَالْأَرْضَ بِالْحَقِّ وَالْعَدْلِ، لِتَكُونَ(٨) الْأَشْيَاءُ كُلُّهَا بِالْحَقِّ وَالْعَدْلِ؛ وَلِهَذَا قَالَ: ﴿وَأَقِيمُوا الْوَزْنَ بِالْقِسْطِ وَلا تُخْسِرُوا الْمِيزَانَ﴾ أَيْ: لَا تَبْخَسُوا الْوَزْنَ، بَلْ زِنوا بِالْحَقِّ وَالْقِسْطِ، كَمَا قَالَ [تَعَالَى](٩) ﴿وَزِنُوا بِالْقِسْطَاسِ الْمُسْتَقِيمِ﴾ [الشُّعَرَاءِ: ١٨٢] .
القرطبي:
(وَوَضَعَ الْمِيزانَ) أَيِ الْعَدْلَ، عَنْ مُجَاهِدٍ وَقَتَادَةَ وَالسُّدِّيِّ، أَيْ وَضَعَ فِي الْأَرْضِ الْعَدْلَ الَّذِي أَمَرَ بِهِ، يُقَالُ: وَضَعَ اللَّهُ الشَّرِيعَةَ. وَوَضَعَ فُلَانٌ كَذَا أَيْ أَلْقَاهُ، وَقِيلَ: عَلَى هَذَا الْمِيزَانُ الْقُرْآنُ، لِأَنَّ فِيهِ بَيَانَ مَا يُحْتَاجُ إِلَيْهِ وَهُوَ قَوْلُ الْحُسَيْنِ بْنِ الْفَضْلِ. وَقَالَ الْحَسَنُ وَقَتَادَةُ- أَيْضًا- وَالضَّحَّاكُ: هُوَ الْمِيزَانُ ذُو اللِّسَانِ الَّذِي يُوزَنُ بِهِ لِيَنْتَصِفَ بِهِ النَّاسُ بَعْضُهُمْ مِنْ بَعْضٍ، وَهُوَ خَبَرٌ بِمَعْنَى الْأَمْرِ بِالْعَدْلِ، يَدُلُّ عَلَيْهِ قَوْلُهُ تَعَالَى: ﴿وَأَقِيمُوا الْوَزْنَ بِالْقِسْطِ﴾ وَالْقِسْطُ الْعَدْلُ. وَقِيلَ: هُوَ الْحُكْمُ. وَقِيلَ: أَرَادَ وَضْعَ الْمِيزَانِ فِي الْآخِرَةِ لِوَزْنِ الْأَعْمَالِ. وَأَصْلُ مِيزَانٍ مِوْزَانٍ وَقَدْ مَضَى فِي (الْأَعْرَافِ)(٨) الْقَوْلُ فِيهِ.
البغوي:
﴿وَالسَّمَاءَ رَفَعَهَا﴾ ، فَوْقَ الْأَرْضِ، ﴿وَوَضَعَ الْمِيزَانَ﴾ ، قَالَ مُجَاهِدٌ: أَرَادَ بِالْمِيزَانِ الْعَدْلَ. الْمَعْنَى: أَنَّهُ أَمَرَ بِالْعَدْلِ يَدُلُّ عَلَيْهِ قَوْلُهُ تَعَالَى: ﴿أَلَّا تَطْغَوْا فِي الْمِيزَانِ﴾ ، أَيْ لَا تُجَاوِزُوا الْعَدْلَ. وَقَالَ الْحَسَنُ وقَتَادَةُ وَالضَّحَّاكُ: أَرَادَ بِهِ الَّذِي يُوزَنُ بِهِ لِيُوصَلَ بِهِ إِلَى الْإِنْصَافِ وَالِانْتِصَافِ، وَأَصْلُ الْوَزْنِ التَّقْدِيرُ "أَلَّا تَطْغَوْا" يَعْنِي لِئَلَّا تَمِيلُوا وَتَظْلِمُوا وَتُجَاوِزُوا الْحَقَّ فِي الْمِيزَانِ.
﴿وَأَقِيمُوا الْوَزْنَ بِالْقِسْطِ﴾ ، بِالْعَدْلِ، وَقَالَ أَبُو الدَّرْدَاءِ وَعَطَاءٌ: مَعْنَاهُ أَقِيمُوا لِسَانَ الْمِيزَانِ بِالْعَدْلِ. قَالَ ابْنُ عُيَيْنَةَ: الْإِقَامَةُ بِالْيَدِ وَالْقِسْطُ بِالْقَلْبِ، ﴿وَلَا تُخْسِرُوا﴾ ، وَلَا تَنْقُصُوا ﴿الْمِيزَانَ﴾ ، وَلَا تُطَفِّفُوا فِي الْكَيْلِ وَالْوَزْنِ.
الماوردي:
﴿وَوَضَعَ المِيزانَ﴾ فِيهِ ثَلاثَةُ أقاوِيلَ:
أحَدُها: أنَّهُ المِيزانُ ذُو اللِّسانِ لِيَتَناصَفَ بِهِ النّاسُ في الحُقُوقِ، قالَهُ الضَّحّاكُ.
الثّانِي: أنَّ المِيزانَ الحَكَمُ.
الثّالِثُ: قالَهُ قَتادَةُ، ومُجاهِدٌ، والسُّدِّيُّ: أنَّهُ العَدْلُ، ومِنهُ قَوْلِ حَسّانٍ
ويَثْرِبُ تَعْلَمُ أنّا بِها إذا التَبَسَ الأمْرُ مِيزانُها
تفسير مكي:
ثم قال ﴿أَلاَّ تَطْغَوْاْ فِي ٱلْمِيزَانِ * وَأَقِيمُواْ ٱلْوَزْنَ﴾ أي: العدل، فهو خبر فيه معنى الأمر بالعدل ودل على ذلك قوله ﴿أَلاَّ تَطْغَوْاْ فِي ٱلْمِيزَانِ﴾ وقيل هو الميزان الذي يتناصف به الناس.
القاسمي:
﴿ووَضَعَ المِيزانَ﴾ [الرحمن: ٧] أيِ: العَدْلَ بَيْنَ خَلْقِهِ في الأرْضِ.
قالَ القاشانِيُّ: أيْ: خَفَضَ مِيزانَ العَدْلِ إلى أرْضِ النَّفْسِ والبَدَنِ، فَإنَّ العَدالَةَ هَيْئَةٌ نَفْسانِيَّةٌ، لَوْلاها لَما حَصَلَتِ الفَضِيلَةُ الإنْسانِيَّةُ. ومِنهُ الِاعْتِدالُ في البَدَنِ الَّذِي لَوْ لَمْ يَكُنْ لَما وُجِدَ ولَمْ يَبْقَ. ولَمّا اسْتَقامَ أمْرُ الدِّينِ والدُّنْيا بِالعَدْلِ واسْتَتَبَّ كَمالُ النَّفْسِ والبَدَنِ بِهِ، بِحَيْثُ لَوْلاهُ لَفَسَدَ أمْرٌ بِمُراعاتِهِ ومُحافَظَتِهِ قَبْلَ تَعْدِيدِ الأُصُولِ بِتَمامِها، لِشِدَّةِ العِنايَةِ بِهِ، وفَرْطِ الِاهْتِمامِ بِأمْرِهِ. وقَوْلُهُ تَعالى:
﴿ألا تَطْغَوْا في المِيزانِ﴾ أيْ: بِالإفْراطِ عَنْ حَدِّ الفَضِيلَةِ والِاعْتِدالِ، فَيَلْزَمُ الجَوْرُ المُوجِبُ لِلْفَسادِ. و(أنْ) مَصْدَرِيَّةٌ عَلى تَقْدِيرِ الجارِّ، أيْ: لِئَلّا تَطْغَوْا فِيهِ، أوْ مُفَسِّرَةٌ لِما في وضْعِ المِيزانِ مِن مَعْنى القَوْلِ، لِأنَّهُ بِالوَحْيِ وإعْلامِ الرُّسُلِ.
﴿وأقِيمُوا الوَزْنَ بِالقِسْطِ﴾ [الرحمن: ٩] أيْ: الِاسْتِقامَةُ في الطَّرِيقَةِ، ومُلازَمَةُ حَدِّ الفَضِيلَةِ، ونُقْطَةِ الِاعْتِدالِ في جَمِيعِ الأُمُورِ، وكُلِّ القُوى.
﴿ولا تُخْسِرُوا المِيزانَ﴾ [الرحمن: ٩] قالَ القاشانِيُّ: أيْ: بِالتَّفْرِيطِ عَنْ حَدِّ الفَضِيلَةِ.
قالَ بَعْضُ الحُكَماءِ: العَدْلُ مِيزانُ اللَّهِ تَعالى، وضَعَهُ لِلْخَلْقِ، ونَصَبَهُ لِلْحَقِّ. انْتَهى.
ومِمَّنْ فَسَّرَ المِيزانَ في الآيَةِ بِالعَدْلِ مُجاهِدٌ وتَبِعَهُ ابْنُ جَرِيرٍ وكَذا ابْنُ كَثِيرٍ، ونَظَرَ لِذَلِكَ بِآيَةِ ﴿لَقَدْ أرْسَلْنا رُسُلَنا بِالبَيِّناتِ وأنْـزَلْنا مَعَهُمُ الكِتابَ والمِيزانَ لِيَقُومَ النّاسُ بِالقِسْطِ﴾ [الحديد: ٢٥] وجَوَّزَ أنْ يُرادَ بِالمِيزانِ ما يُعْرَفُ بِهِ مَقادِيرُ الأشْياءِ مِن مِيزانٍ ومِكْيالٍ ونَحْوِهِما. ومِنهُ قالَ السُّيُوطِيُّ في (الإكْلِيلِ): فِيهِ وُجُوبُ العَدْلِ في الوَزْنِ، وتَحْرِيمُ البَخْسِ فِيهِ، وعَلَيْهِ فَوَجْهُ اتِّصالِ قَوْلِهِ: ووَضَعَ المِيزانَ بِما قَبْلَهُ، هو أنَّهُ لَمّا وصَفَ السَّماءَ بِالرِّفْعَةِ الَّتِي هي مَصْدَرُ القَضايا والأقْدارِ، أرادَ وصْفَ الأرْضِ بِما فِيها، مِمّا يَظْهَرُ بِهِ التَّفاوُتُ، ويُعْرَفُ بِهِ المِقْدارُ، ويُسَوّى بِهِ الحُقُوقُ والمَواجِبُ، كَذا ارْتَآهُ القاضِي، واللَّهُ أعْلَمُ.
وفِي الحَقِيقَةِ، الثّانِي مَن أفْرادِ الأوَّلِ، وأخْذُ اللَّفْظِ عامًّا أوْلى وأفْيَدُ.
ومِنَ اللَّطائِفِ الَّتِي يَتَّسِعُ لَها نَظْمُ الآيَةِ الكَرِيمَةِ قَوْلُ الرّازِيِّ:
المِيزانُ ذُكِرَ ثَلاثَ مَرّاتٍ، كُلَّ مَرَّةٍ بِمَعْنى، فالأوَّلُ: هو الآلَةُ، والثّانِي: لِلْمَفْعُولِ بِمَعْنى المَصْدَرِ، والثّالِثُ: لِلْمَفْعُولِ. قالَ: وهو كالقُرْآنِ، ذُكِرَ بِمَعْنى المُناسَبَةِ، قَوْلُهُ تَعالى:
﴿فاتَّبِعْ قُرْآنَهُ﴾ [القيامة: ١٨] وبِمَعْنى المَقْرُوءِ في قَوْلِهِ: ﴿إنَّ عَلَيْنا جَمْعَهُ وقُرْآنَهُ﴾ [القيامة: ١٧] وبِمَعْنى الكِتابِ الَّذِي فِيهِ المَقْرُوءُ في قَوْلِهِ تَعالى: ﴿ولَوْ أنَّ قُرْآنًا سُيِّرَتْ بِهِ الجِبالُ﴾ [الرعد: ٣١] فَكَأنَّهُ آلَةٌ ومَحَلٌّ لَهُ، وفي قَوْلِهِ تَعالى: ﴿آتَيْناكَ سَبْعًا مِنَ المَثانِي والقُرْآنَ العَظِيمَ﴾ [الحجر: ٨٧] ثُمَّ قالَ: وبَيْنَ القُرْآنِ والمِيزانِ مُناسَبَةٌ، فَإنَّ القُرْآنَ فِيهِ مِنَ العِلْمِ ما لا يُوجَدُ في غَيْرِهِ مِنَ الكُتُبِ، والمِيزانَ فِيهِ مِنَ العَدْلِ ما لا يُوجَدُ في غَيْرِهِ مِنَ الآلاتِ.
السمرقندي:
ووضع الميزان. يعني: أنزل العدل في الأرض ألا تطغوا فى الميزان. يعني: لكي لا تميلوا عن العدل وَأَقِيمُوا الْوَزْنَ بِالْقِسْطِ يعني: اعدلوا في الوزن وَلا تُخْسِرُوا الْمِيزانَ يعني: لا تنقصوا حقوق الناس في الوزن.
فتح القدير:
﴿ووَضَعَ المِيزانَ﴾ المُرادُ بِالمِيزانِ العَدْلُ: أيْ وضَعَ في الأرْضِ العَدْلَ الَّذِي أمَرَ بِهِ كَذا قالَ مُجاهِدٌ، وقَتادَةُ، والسُّدِّيُّ وغَيْرُهم.
قالَ الزَّجّاجُ: المَعْنى أنَّهُ أمَرَنا بِالعَدْلِ، ويَدُلُّ عَلَيْهِ: قَوْلُهُ: ﴿ألّا تَطْغَوْا في المِيزانِ﴾ أيْ لا تُجاوِزُوا العَدْلَ.
وقالَ الحَسَنُ، والضَّحّاكُ: المُرادُ بِهِ آلَةُ الوَزْنِ لِيُتَوَصَّلَ بِها إلى الإنْصافِ والِانْتِصافِ.
وقِيلَ المِيزانُ القُرْآنُ لِأنَّ فِيهِ بَيانُ ما يُحْتاجُ إلَيْهِ، وبِهِ قالَ الحُسَيْنُ بْنُ الفَضْلِ، والأوَّلُ أوْلى.
ثُمَّ أمَرَ سُبْحانَهُ بِإقامَةِ العَدْلِ بَعْدَ إخْبارِهِ لِلْعِبادِ بِأنَّهُ وضَعَهُ لَهم فَقالَ: ﴿وأقِيمُوا الوَزْنَ بِالقِسْطِ﴾ أيْ قَوِّمُوا وزْنَكم بِالعَدْلِ، وقِيلَ المَعْنى: أقِيمُوا لِسانَ المِيزانِ بِالعَدْلِ، وقِيلَ المَعْنى: أنَّهُ وضَعَ المِيزانَ في الآخِرَةِ لِوَزْنِ الأعْمالِ، وأنْ في قَوْلِهِ: ألّا تَطْغَوْا مَصْدَرِيَّةٌ: أيْ لِئَلّا تَطْغَوْا، و" لا " نافِيَةٌ: أيْ وضَعَ المِيزانَ لِئَلّا تَطْغَوْا، وقِيلَ هي مُفَسِّرَةٌ، لِأنَّ في الوَضْعِ مَعْنى القَوْلِ، والطُّغْيانُ مُجاوَزَةُ الحَدِّ، فَمَن قالَ: المِيزانُ العَدْلُ، قالَ طُغْيانُهُ الجَوْرُ ومَن قالَ: المِيزانُ الآلَةُ الَّتِي يُوزَنُ بِها، قالَ طُغْيانُهُ البَخْسُ ﴿ولا تُخْسِرُوا المِيزانَ﴾ أيْ لا تَنْقُصُوهُ. أمَرَ سُبْحانَهُ أوَّلًا بِالتَّسْوِيَةِ، ثُمَّ نَهى عَنِ الطُّغْيانِ الَّذِي هو المُجاوَزَةُ لِلْحَدِّ بِالزِّيادَةِ، ثُمَّ نَهى عَنِ الخُسْرانِ الَّذِي هو النَّقْصُ والبَخْسُ.
الحديد:
لَقَدْ أَرْسَلْنَا رُسُلَنَا بِالْبَيِّنَاتِ وَأَنْزَلْنَا مَعَهُمُ الْكِتَابَ وَالْمِيزَانَ لِيَقُومَ النَّاسُ بِالْقِسْطِ وَأَنْزَلْنَا الْحَدِيدَ فِيهِ بَأْسٌ شَدِيدٌ وَمَنَافِعُ لِلنَّاسِ وَلِيَعْلَمَ اللَّهُ مَنْ يَنْصُرُهُ وَرُسُلَهُ بِالْغَيْبِ إِنَّ اللَّهَ قَوِيٌّ عَزِيزٌ (25(
الطبري:
لقد أرسلنا رسلنا بالمفصَّلات من البيان والدلائل، وأنزلنا معهم الكتاب بالأحكام والشرائع، والميزان بالعدل.
ابن كثير:
قُولُ تَعَالَى: ﴿لَقَدْ أَرْسَلْنَا رُسُلَنَا بِالْبَيِّنَاتِ﴾ أَيْ: بِالْمُعْجِزَاتِ، وَالْحُجَجِ الْبَاهِرَاتِ، وَالدَّلَائِلِ الْقَاطِعَاتِ، ﴿وَأَنزلْنَا مَعَهُمُ الْكِتَابَ﴾ وَهُوَ: النَّقْلُ الْمُصَدِّقُ ﴿وَالْمِيزَانَ﴾ وَهُوَ: الْعَدْلُ.
القرطبي:
قَوْلُهُ تَعَالَى: ﴿لَقَدْ أَرْسَلْنا رُسُلَنا بِالْبَيِّناتِ﴾ أَيْ بِالْمُعْجِزَاتِ الْبَيِّنَةِ وَالشَّرَائِعِ الظَّاهِرَةِ. وَقِيلَ: الْإِخْلَاصُ لِلَّهِ تَعَالَى فِي الْعِبَادَةِ، وَإِقَامِ الصَّلَاةِ وَإِيتَاءِ الزَّكَاةِ، بِذَلِكَ دَعَتِ الرُّسُلُ: نُوحٌ فَمَنْ دُونَهُ إِلَى مُحَمَّدٍ ﷺ.
(وَأَنْزَلْنا مَعَهُمُ الْكِتابَ) أَيِ الْكُتُبَ، أَيْ أَوْحَيْنَا إِلَيْهِمْ خَبَرَ مَا كَانَ قَبْلَهُمْ (وَالْمِيزانَ) قَالَ ابْنُ زَيْدٍ: هُوَ مَا يُوزَنُ بِهِ وَيُتَعَامَلُ (لِيَقُومَ النَّاسُ بِالْقِسْطِ) أَيْ بِالْعَدْلِ فِي مُعَامَلَاتِهِمْ. وَقَوْلُهُ: (بِالْقِسْطِ) يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ أَرَادَ الْمِيزَانَ الْمَعْرُوفَ. وَقَالَ قَوْمٌ: أَرَادَ بِهِ الْعَدْلَ. قَالَ الْقُشَيْرِيُّ: وَإِذَا حَمَلْنَاهُ عَلَى الْمِيزَانِ الْمَعْرُوفِ، فَالْمَعْنَى أَنْزَلْنَا الْكِتَابَ وَوَضَعْنَا الْمِيزَانَ فَهُوَ مِنْ بَابِ:
عَلَفْتُهَا تِبْنًا وَمَاءً بَارِدًا
وَيَدُلُّ عَلَى هَذَا قَوْلُهُ تَعَالَى: ﴿وَالسَّماءَ رَفَعَها وَوَضَعَ الْمِيزانَ﴾ ثُمَّ قَالَ: (وَأَقِيمُوا الْوَزْنَ بِالْقِسْطِ) وَقَدْ مَضَى الْقَوْلُ فِيهِ(١).
البغوي:
وْلُهُ عَزَّ وَجَلَّ ﴿لَقَدْ أَرْسَلْنَا رُسُلَنَا بِالْبَيِّنَاتِ﴾ بِالْآيَاتِ وَالْحُجَجِ ﴿وَأَنْزَلْنَا مَعَهُمُ الْكِتَابَ وَالْمِيزَانَ﴾ يَعْنِي: الْعَدْلَ. وَقَالَ مُقَاتِلُ بْنُ سُلَيْمَانَ: هُوَ مَا يُوزَنُ بِهِ أَيْ: وَوَضَعْنَا الْمِيزَانَ كَمَا قَالَ: "وَالسَّمَاءَ رَفَعَهَا وَوَضَعَ الْمِيزَانَ" [الرحمن: ٧] ﴿لِيَقُومَ النَّاسُ بِالْقِسْطِ﴾ لِيَتَعَامَلُوا بَيْنَهُمْ بِالْعَدْلِ.
ابن الجوزي:
﴿لَقَدْ أرْسَلْنا رُسُلَنا بِالبَيِّناتِ﴾ أيْ: بِالآياتِ والحُجَجِ ﴿وَأنْزَلْنا مَعَهُمُ الكِتابَ﴾ بِبَيانِ الشَّرائِعِ، والأحْكامِ. وفي "المِيزانِ" قَوْلانِ.
أحَدُهُما: أنَّهُ العَدْلُ، قالَهُ ابْنُ عَبّاسٍ، وقَتادَةُ.
والثّانِي: أنَّهُ الَّذِي يُوزَنُ بِهِ، قالَهُ ابْنُ زَيْدٍ ومُقاتِلٌ. فَعَلى القَوْلِ الأوَّلُ يَكُونُ المَعْنى: وأمَرْنا بِالعَدْلِ. وعَلى الثّانِي: ووَضَعْنا المِيزانَ، أيْ: أمَرْنا بِهِ ﴿لِيَقُومَ النّاسُ بِالقِسْطِ﴾ أيْ: لِكَيْ يَقُومُوا بِالعَدْلِ.
قَوْلُهُ تَعالى: ﴿وَأنْزَلْنا الحَدِيدَ﴾ فِيهِ قَوْلانِ.
السمعاني:
﴿لقد أرسلنَا رسلنَا بِالْبَيِّنَاتِ وأنزلنا مَعَهم الْكتاب﴾ أَي: الْكتب.
وَقَوله: ﴿وَالْمِيزَان﴾ قَالَ قَتَادَة: الْعدْل. وَقَالَ الْكَلْبِيّ: الْمِيزَان الْمَعْرُوف الَّذِي توزن بِهِ الْأَشْيَاء. وَمَعْنَاهُ: وَضعنَا الْمِيزَان، وعَلى القَوْل الأول مَعْنَاهُ: أمرنَا بِالْعَدْلِ.
وَقَوله: ﴿ليقوم النَّاس بِالْقِسْطِ﴾ أَي: بِالْعَدْلِ فِي الْمِيزَان.
تفسير مكي:
﴿لَقَدْ أَرْسَلْنَا رُسُلَنَا بِٱلْبَيِّنَاتِ﴾ إلى قوله: ﴿وَٱللَّهُ غَفُورٌ رَّحِيمٌ﴾ الآيات.
أي لقد أرسلنا إلى أمم بالآيات المفصلات وأنزلنا معهم الكتاب بالأحكام والشرائع، والميزان بالعدل.
قال ابن زيداً (الميزان) ما يعمل به، ويتعاطون عليه في الدنيا من معائشهم في أخذهم وإعطائهم، فالكتاب فيه شرائع دينهم وأمر أخراهم، والميزان فيه تناصفهم في دنياهم.
﴿لِيَقُومَ ٱلنَّاسُ بِٱلْقِسْطِ﴾ أي: ليعمل الناس بينهم بالعدل.
محاسن التأويل:
﴿لَقَدْ أرْسَلْنا رُسُلَنا بِالبَيِّناتِ﴾ أيْ: بِالحُجَجِ والبَراهِينِ القاطِعَةِ عَلى صِحَّةِ ما يَدْعُونَ إلَيْهِ ﴿وأنْـزَلْنا مَعَهُمُ الكِتابَ﴾ أيِ: التّامَّ في الحُكْمِ والأحْكامِ ﴿والمِيزانَ﴾ أيِ: العَدْلَ، قالَهُ مُجاهِدٌ وقَتادَةٌ وغَيْرُهُما. قالَ ابْنُ كَثِيرٍ: وهو الحَقُّ الَّذِي تَشْهَدُ بِهِ العُقُولُ الصَّحِيحَةُ المُسْتَقِيمَةُ، المُخالَفَةُ لِلْآراءِ السَّقِيمَةِ ﴿لِيَقُومَ النّاسُ بِالقِسْطِ﴾ أيْ: بِالحَقِّ والعَدْلِ، وهو اتِّباعُ الرُّسُلِ فِيما أُمِرُوا بِهِ، وتَصْدِيقُهم فِيما أخْبَرُوا عَنْهُ، فَإنَّ الَّذِي جاءُوا بِهِ هو الحَقُّ الَّذِي لَيْسَ وراءَهُ حَقٌّ،
فتح البيان:
(لقد) لام قسم (أرسلنا رسلنا) أي الملائكة، قاله الزمخشري والمحلي، وفيه بعد، وجمهور المفسرين على حمل الرسل على البشر (بالبينات) أي بالمعجزات البينة، والشرائع الظاهرة (وأنزلنا معهم الكتاب) المراد الجنس، فيدخل فيه كتاب كل رسول (والميزان ليقوم الناس بالقسط) قال قتادة ومقاتل بن حيان: الميزان العدل، والمعنى أمرناكم بالعدل كما في قوله: (والسماء رفعها ووضع الميزان)، وقوله: (الله الذي أنزل الكتاب بالحق والميزان) وقال ابن زيد: هو ما يوزن به ويتعامل به، والمعنى ليتبعوا ما أمروا به من العدل فيتعاملوا فيما بينهم بالنصفة، والقسط العدل، وهو يدل على أن المراد بالميزان العدل، ومعنى إنزاله إنزال أسبابه وموجباته، وعلى القول بأن المراد به الآلة التي يوزن بها فيكون إنزاله بمعنى إرشاد الناس إليه، وإلهامهم الوزن به، ويكون الكلام من باب: (علفتها تبناً وماءاً بارداً).
فتح القدير:
قَوْلُهُ ﴿لَقَدْ أرْسَلْنا رُسُلَنا بِالبَيِّناتِ﴾ أيْ بِالمُعْجِزاتِ البَيِّنَةِ والشَّرائِعِ الظّاهِرَةِ وأنْزَلْنا مَعَهُمُ الكِتابَ المُرادُ الجِنْسُ، فَيَدْخُلُ فِيهِ كِتابُ كُلِّ رَسُولٍ " والمِيزانَ " لِيَقُومَ النّاسُ بِالقِسْطِ قالَ قَتادَةُ، ومُقاتِلُ بْنُ حَيّانَ: المِيزانُ العَدْلُ، والمَعْنى: أمَرْناهم بِالعَدْلِ كَما في قَوْلِهِ: " والسَّماءَ رَفَعَها ووَضَعَ المِيزانَ " [الرحمن: ٧] وقَوْلِهِ:﴿اللَّهُ الَّذِي أنْزَلَ الكِتابَ بِالحَقِّ والمِيزانَ﴾ [الشورى: ١٧] وقالَ ابْنُ زَيْدٍ: هو ما يُوزَنُ بِهِ ويُتَعامَلُ بِهِ، ومَعْنى ﴿لِيَقُومَ النّاسُ بِالقِسْطِ﴾ لِيَتَّبِعُوا ما أُمِرُوا بِهِ مِنَ العَدْلِ فَيَتَعامَلُوا فِيما بَيْنَهم بِالنَّصَفَةِ، والقِسْطُ: العَدْلُ، وهو يَدُلُّ عَلى أنَّ المُرادَ بِالمِيزانِ العَدْلُ، ومَعْنى إنْزالِهِ: إنْزالُ أسْبابِهِ ومُوجِباتِهِ.
وعَلى القَوْلِ بِأنَّ المُرادَ بِهِ الآلَةُ الَّتِي يُوزَنُ بِها فَيَكُونُ إنْزالُهُ بِمَعْنى إرْشادِ النّاسِ إلَيْهِ وإلْهامِهِمُ الوَزْنَ بِهِ، ويَكُونُ الكَلامُ مِن بابِ:
عَلَفْتُها تِبْنًا وماءً بارِدًا
ابن جزي:
﴿وَأَنزَلْنَا مَعَهُمُ ٱلْكِتَابَ وَٱلْمِيزَانَ﴾ الكتاب هنا جنس الكتب والميزان العدل وقيل: الميزان الذي يوزن به، ورُوي أن جبريل نزل بالميزان ودفعه إلى نوح وقال له: مر قومك يزنوا به
الرازي:
ثُمَّ قالَ تَعالى: ﴿وأنْزَلْنا مَعَهُمُ الكِتابَ والمِيزانَ لِيَقُومَ النّاسُ بِالقِسْطِ وأنْزَلْنا الحَدِيدَ فِيهِ بَأْسٌ شَدِيدٌ ومَنافِعُ لِلنّاسِ﴾ .
واعْلَمْ أنَّ نَظِيرَ هَذِهِ الآيَةِ قَوْلُهُ: ﴿اللَّهُ الَّذِي أنْزَلَ الكِتابَ بِالحَقِّ والمِيزانَ﴾ [الشورى: ١٧] وقالَ: ﴿والسَّماءَ رَفَعَها ووَضَعَ المِيزانَ﴾ وهَهُنا مَسائِلُ:
المَسْألَةُ الأُولى: في وجْهِ المُناسَبَةِ بَيْنَ الكِتابِ والمِيزانِ والحَدِيدِ وُجُوهٌ:
أحَدُها: وهو الَّذِي أقُولُهُ: أنَّ مَدارَ التَّكْلِيفِ عَلى أمْرَيْنِ:
أحَدُهُما: فِعْلُ ما يَنْبَغِي فِعْلُهُ.
والثّانِي: تَرْكُ ما يَنْبَغِي تَرْكُهُ، والأوَّلُ هو المَقْصُودُ بِالذّاتِ؛ لِأنَّ المَقْصُودَ بِالذّاتِ لَوْ كانَ هو التَّرْكُ لَوَجَبَ أنْ لا يُخْلَقَ أحَدٌ؛ لَأنَّ التَّرْكَ كانَ حاصِلًا في الأزَلِ، وأمّا فِعْلُ ما يَنْبَغِي فِعْلُهُ، فَإمّا أنْ يَكُونَ مُتَعَلِّقًا بِالنَّفْيِ وهو المَعارِفُ، أوْ بِالبَدَنِ وهو أعْمالُ الجَوارِحِ، فالكِتابُ هو الَّذِي يُتَوَسَّلُ بِهِ إلى فِعْلِ ما يَنْبَغِي مِنَ الأفْعالِ النَّفْسانِيَّةِ لِأنْ يَتَمَيَّزَ الحَقُّ مِنَ الباطِلِ والحُجَّةُ مِنَ الشُّبْهَةِ، والمِيزانُ هو الَّذِي يُتَوَسَّلُ بِهِ إلى فِعْلِ ما يَنْبَغِي مِنَ الأفْعالِ البَدَنِيَّةِ، فَإنَّ مُعْظَمَ التَّكالِيفِ الشّاقَّةِ في الأعْمالِ هو ما يَرْجِعُ إلى مُعامَلَةِ الخَلْقِ، والمِيزانُ هو الَّذِي يَتَمَيَّزُ بِهِ العَدْلُ عَنِ الظُّلْمِ والزّائِدُ عَنِ النّاقِصِ، وأمّا الحَدِيدُ فَفِيهِ بَأْسٌ شَدِيدٌ، وهو زاجِرٌ لِلْخَلْقِ عَمّا لا يَنْبَغِي، والحاصِلُ أنَّ الكِتابَ إشارَةٌ إلى القُوَّةِ النَّظَرِيَّةِ، والمِيزانَ إلى القُوَّةِ العَمَلِيَّةِ، والحَدِيدَ إلى دَفْعِ ما لا يَنْبَغِي، ولَمّا كانَ أشْرَفُ الأقْسامِ رِعايَةَ المَصالِحِ الرُّوحانِيَّةِ، ثُمَّ رِعايَةَ المَصالِحِ الجُسْمانِيَّةِ، ثُمَّ الزَّجْرَ عَمّا لا يَنْبَغِي - رُوعِيَ هَذا التَّرْتِيبُ في هَذِهِ الآيَةِ.
أضواء البيان:
قَدْ قَدَّمْنا الكَلامَ عَلَيْهِ في سُورَةِ الشُورى، في الكَلامِ عَلى قَوْلِهِ: ﴿اللَّهُ الَّذِي أنْزَلَ الكِتابَ بِالحَقِّ والمِيزانَ﴾ الآيَةَ [الشورى: ١٧]، وقَدَّمْنا هُناكَ كَلامَ أهْلِ العِلْمِ في مَعْناهُ.
التحرير والتنوير:
والبَيِّناتُ: الحُجَجُ الدّالَّةُ عَلى أنَّ ما يَدْعُونَ إلَيْهِ هو مُرادُ اللَّهِ، والمُعْجِزاتُ داخِلَةٌ في البَيِّناتِ.
وتَعْرِيفُ ”الكِتابَ“ تَعْرِيفُ الجِنْسِ، أيْ: وأنْزَلْنا مَعَهم كُتُبًا، أيْ: مِثْلَ القُرْآنِ.
وإنْزالُ الكِتابِ: تَبْلِيغٌ بِواسِطَةِ المَلَكِ مِنَ السَّماءِ، وإنْزالُ المِيزانِ: تَبْلِيغُ الأمْرِ بِالعَدْلِ بَيْنَ النّاسِ.
والمِيزانُ: مُسْتَعارٌ لِلْعَدْلِ بَيْنَ النّاسِ في إعْطاءِ حُقُوقِهِمْ لِأنَّ مِمّا يَقْتَضِيهُ المِيزانُ وُجُودَ طَرَفَيْنِ يُرادُ مَعْرِفَةُ تَكافُئِهِما، قالَ تَعالى ﴿وإذا حَكَمْتُمْ بَيْنَ النّاسِ أنْ تَحْكُمُوا بِالعَدْلِ﴾ [النساء: ٥٨] . وهَذا المِيزانُ تُبَيِّنُهُ كُتُبُ الرُّسُلِ، فَذِكْرُهُ بِخُصُوصِهِ لِلِاهْتِمامِ بِأمْرِهِ لِأنَّهُ وسِيلَةُ انْتِظامِ أُمُورِ البَشَرِ كَقَوْلِهِ تَعالى ﴿إنّا أنْزَلْنا إلَيْكَ الكِتابَ بِالحَقِّ لِتَحْكُمَ بَيْنَ النّاسِ بِما أراكَ اللَّهُ﴾ [النساء: ١٠٥] ولَيْسَ المُرادُ أنَّ اللَّهَ ألْهَمَهم وضْعَ آلاتِ الوَزْنِ لِأنَّ هَذا لَيْسَ مِنَ المُهِمِّ، وهو مِمّا يَشْمَلُهُ مَعْنى العَدْلِ فَلا حاجَةَ إلى التَّنْبِيهِ عَلَيْهِ بِخُصُوصِهِ.
ويَتَعَلَّقُ قَوْلُهُ ﴿لِيَقُومَ النّاسُ بِالقِسْطِ﴾ بِقَوْلِهِ ”وأنْزَلْنا مَعَهم“ .
والقِيامُ: مَجازٌ في صَلاحِ الأحْوالِ واسْتِقامَتِها لِأنَّهُ سَبَبٌ لِتَيْسِيرِ العَمَلِ وقَدْ تَقَدَّمَ ذَلِكَ عِنْدَ قَوْلِهِ تَعالى ”ويُقِيمُونَ الصَّلاةَ“ في أوائِلِ البَقَرَةِ.
والقِسْطُ: العَدْلُ في جَمِيعِ الأُمُورِ، فَهو أعَمُّ مِنَ المِيزانِ المَذْكُورِ لْاخْتِصاصِهِ بِالعَدْلِ بَيْنَ مُتَنازِعَيْنِ، وأمّا القِسْطُ فَهو إجْراءُ أُمُورِ النّاسِ عَلى ما يَقْتَضِيهُ الحَقُّ فَهو عَدْلٌ عامٌّ بِحَيْثُ يَقْدِرُ صاحِبُ الحَقِّ مُنازِعًا لِمَن قَدِ احْتَوى عَلى حَقِّهِ.
ولَفْظُ ”القِسْطِ“ مَأْخُوذٌ في العَرَبِيَّةِ مِن لَفْظِ قِسْطاسِ اسْمُ العَدْلِ بِلُغَةِ الرُّومِ، فَهو مِنَ المُعَرَّبِ ورُوِيَ ذَلِكَ عَنْ مُجاهِدٍ.
والباءُ لِلْمُلابَسَةِ، أيْ: يَكُونُ أمْرُ النّاسِ مُلابِسًا لِلْعَدْلِ ومُماشِيًا لِلْحَقِّ،
جميع الحقوق متاحة للمسلمين دون اشتراط ذكر المصدر © 2023 7a9ad.com. All Rights Reserved