النعمة الزائلة
( النعمة الزائلة )
إِنَّا بَلَوْنَاهُمْ كَمَا بَلَوْنَا أَصْحَابَ الْجَنَّةِ إِذْ أَقْسَمُوا لَيَصْرِمُنَّهَا مُصْبِحِينَ ﴿۱٧﴾ وَلَا يَسْتَثْنُونَ ﴿۱۸﴾ فَطَافَ عَلَيْهَا طَائِفٌ مِنْ رَبِّكَ وَهُمْ نَائِمُونَ ﴿۱۹﴾ فَأَصْبَحَتْ كَالصَّرِيمِ ﴿۲۰﴾ فَتَنَادَوْا مُصْبِحِينَ ﴿۲۱﴾ أَنِ اغْدُوا عَلَىٰ حَرْثِكُمْ إِنْ كُنْتُمْ صَارِمِينَ ﴿۲۲﴾ فَانْطَلَقُوا وَهُمْ يَتَخَافَتُونَ ﴿۲۳﴾ أَنْ لَا يَدْخُلَنَّهَا الْيَوْمَ عَلَيْكُمْ مِسْكِينٌ ﴿۲٤﴾ وَغَدَوْا عَلَىٰ حَرْدٍ قَادِرِينَ ﴿۲٥﴾ فَلَمَّا رَأَوْهَا قَالُوا إِنَّا لَضَالُّونَ ﴿۲٦﴾ بَلْ نَحْنُ مَحْرُومُونَ ﴿۲٧﴾ قَالَ أَوْسَطُهُمْ أَلَمْ أَقُلْ لَكُمْ لَوْلَا تُسَبِّحُونَ ﴿۲۸﴾ قَالُوا سُبْحَانَ رَبِّنَا إِنَّا كُنَّا ظَالِمِينَ ﴿۲۹﴾ فَأَقْبَلَ بَعْضُهُمْ عَلَىٰ بَعْضٍ يَتَلَاوَمُونَ ﴿۳۰﴾ قَالُوا يَا وَيْلَنَا إِنَّا كُنَّا طَاغِينَ ﴿۳۱﴾ عَسَىٰ رَبُّنَا أَنْ يُبْدِلَنَا خَيْرًا مِنْهَا إِنَّا إِلَىٰ رَبِّنَا رَاغِبُونَ ﴿۳۲﴾ كَذَٰلِكَ الْعَذَابُ ۖ وَلَعَذَابُ الْآخِرَةِ أَكْبَرُ ۚ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ ﴿۳۳﴾ إِنَّ لِلْمُتَّقِينَ عِنْدَ رَبِّهِمْ جَنَّاتِ النَّعِيمِ ﴿۳٤﴾
ما هو الموضوع الذي يدور حوله هذا المقطع؟ وما مناسبته لما قبله؟ وما مناسبته لمقصد السورة؟
هذا المقطع يضرب للكافرين مثلا من الأمم السابقة لأجل الاعتبار بالتاريخ، والاعتبار بالسابقين، الذين جرى لهم ما جرى لهؤلاء الكفار من الاغترار بما فتح الله لهم من النعم، فكانت عاقبتهم كما ذكرت القصة.
والغرض منها تحذير المكذبين من الاستمرار على حالهم بكفر النعمة لئلا يصيبهم ما أصاب أصحاب الجنة، وجاءت لتبين هزالة الكيد البشري العاجز أمام تدبير الله وكيده الذي لا يطاول.
والرابط هو قوله تعالى في بداية المقطع: ( إنا بلوناهم ) أي اختبرناهم ( كما بلونا أصحاب الجنة ) والاختبار هنا هو في إرخاء الحبل له بالنعمة ليظهر حاله، أيشكر أم يكفر؟
ووجه الشبه بين المكذبين في قريش وبين أصحاب الجنة هو الإعراض عن نعمة الله بالوحي والرسالة منشغلين بنعمة الله في المال والولد.
أين وقعت هذه القصة ومتى؟
ليس من الحكمة بمكان البحث عن موضع هذه القصة أو زمن وقوعها أو أسماء أصحابها، فإن القرآن لم يذكر شيئا من ذلك، وأراه من العبث البحث عن مثل هذا، وأراه انصرافا عن المهم الذي ذكره القرآن لنا لأجل غير المهم الذي أغفل ذكره.
والقرآن لم يقص علينا القصص لأجل التسلية ومعرفة التفاصيل وإنما لأجل الاعتبار والاتعاظ بما فيها، فذكر لنا فيها ما يهم وطوى ذكر ما ليس له تعلق بالأمر المراد، فليس المهم أين وقعت ولا مع من وقعت ولا ديانة من وقع معهم، وإنما هي سنن الله الجارية على الناس أجمعين، والإنسان هو الإنسان بكل دوافعه ونزعاته، والشيطان هو الشيطان بكل حيله ووسائله المتكررة على الإنسان، منذ آدم عليه السلام إلى أن يرث الله الأرض ومن عليها، فلأجل ذلك ذكر الله لنا قصص السابقين لأجل الاعتبار بأحوالهم.
ما هي المعاني التي تنتهي إليها حكاية القصة؟
في قوله تعالى: أصحاب الجنة:
أقسموا ليصرمنها مصبحين: أي أقسموا أن يجذوا ثمارها قبل أن يأتي المساكين إلى الجنة عادة ليأخذوا حظهم من الثمار، والقسم هنا لإلزام أنفسهم بهذا الأمر وفيه إشارة غلى أن بعضهم كان مترددا في موافقتهم على ما عزموا عليه وأنهم ألزموه بالقسم، وقد ذكر هذا لاحقا في قوله ( قال أوسطهم ألم أقل لكم لولا تسبحون )، ولما سار معهم في ما هم عليه وغلبوه به، ذكره الله معهم.
ولا يستثنون: أفادت معنيان:
الأول: لا يستثنون حظ المساكين من الثمار.
الثاني: لا يستثنون: أي لم يقولوا إلا أن يشاء الله، فالآية تنعي عليهم حالهم لشدة غرورهم ويقينهم بقدرتهم على إنفاذ ما عزموا عليه دون التفات لأمر الله وقدرته على منعم من المضي على ما عزموا عليه، فكان الله وقدرته خارج حساباتهم.
والظاهر أنهم لم يكونوا كفارا، وإنما شابهوا الكفار بقضية الانشغال بالنعمة الظاهرة عن النعمة الحقيقية،
فطاف عليها طائف من ربك وهم نائمون: وأصل الطواف المشي حول الشيء من كل جوانبه كطواف الكعبة، واستعير هنا للدلالة على مروره على بقع الجنة كلها، ولم يعين ما هو هذا الطائف فمعلوم أنه من قبيل ما يمر على الجنات فيهلكها، وذكر وقت طوافه ( وهم نائمون ) لبيان حالهم من الغفلة والضعف حين أريد بهم ما أريد من إفساد ما عزموا عليه، وذكر باعث هذه الطائف وهو الله عز وجل وذكره باسم الرب لبيان أن ما أصابهم كانت عاقبته رحمة بهم، لأنهم تابوا وقبل الله توبتهم وعوضهم عن جنتهم خيرا، فبعض السلب رحمة.
فأصبحت كالصريم: والصريم لها عدة معان:
منها: الليل فه من أسماء الليل والنهار لأن كل واحد منهما ينصرم عن الآخر.
ومنها: الرماد الأسود.
ومنها: اسم رملة معروفة باليمن لا تنبت شيئا.
ومنها: أنها على وزن فعيل بمعنى مفعول: أي صارت كأنها مصرومة لم يبق فيها ثمر.
واختيرت هذه الكلمة دون غيرها لصلاحية هذه المعاني جميعا أن تراد في هذه الآية.
وغدوا على حرد قادرين: الحرد له معان:
منها: المنع، أي منع المساكين من حقهم.
ومنها: القصد القوي، والسرعة فيه، فقد خرجوا قبل الوقت المعتاد قبل أن يأتيهم المساكين.
ومنها الغضب، من هؤلاء أن يأتوهم.
واختيرت هذه اللفظلة دون غيرها لما مر معنا.
والتعبير بقادرين على حرد دون غيرها من التراكيب ( وغدوا حاردين ) فيه تهكم بهم، لأن شأن فعل القدرة أن يذكر على الأفعال التي تشق على الناس عادة.
فلما رأوها قالوا إنا لضالون: قيل في ضالون معنيان:
الضلال المعنوي: أي إنا لضالون بتنكبنا طريق الشكر للنعمة.
الضلال المادي: أي إنا لتائهون عن جنتنا وأخطأنا الطريق فليست هذه جنتنا.
بل نحن محرومون:
على معنى الضلال الأول: يكون إضرابا للانتقال إلى ما هو أهم.
وعلى معنى الضلال الثاني: يكون استدراكا منهم لما تأكدوا أن هذه هي جنتهم فعلا وأنهم لم يخطئوا الطريق.
قال أوسطهم: أي خيرهم وأفضلهم وأقربهم إلى الحق.
ألم أقل لكم لولا تسبحون: ذكرهم هنا بما كان نهاهم عنه وأنه لم يوافقهم في ابتداء الأمر ولكنهم غلبوه فأصابه ما أصابهم، وتسبحون هنا بمعنى تنزهون الله عن ظنكم بعدم قدرته على حسابكم وسلبكم النعمة إذ بيتم عصيان أمره بمنع الزكاة.
قالوا سبحان ربنا إنا كنا ظالمين: فيه تنزيه لله تعالى أن يكون قد فعل ما فعل ظلما لهم وإنما كانوا مستحقين ذلك فأقروا واعترفوا باستحقاقهم سلب النعمة، وقلم إنا كنا ظالمين: إقرار بالذنب، والتأكيد بإن: لتحقيق الإقرار والاهتمام به.
فأقبل بعضهم على بعض يتلاومون: أي يلوم بعضهم بعضا تصوير يبلغ غاية الإيجاز في وصف صورتهم، فهذا يقول أنت خوفتنا الفقر وهذا يقول أنت رغبتني في جمع المال وهذا يقول أنت أشرت علينا بهذا الرأي.
عسى ربنا أن يبدلنا خيرا منها إنا إلى ربنا راغبون: فيه تهييج للمشركين أن يفعلوا مثل ما فعل هؤلاء لعل الله يتوب عليهم كما تاب على أصحاب الجنة.
ما مناسبة قوله تعالى بعدها: إن للمتقين .. الآية، وما هي دلالة تقديم المسند على المسند إليه؟
مناسبة ذكر حالهم: مقارنة حال المتقين بحال المكذبين، وبضدها تتميز الأشياء وهذه عادة القرآن في أكثر المواضع.
وقدم المسند على المسند إليه للاهتمام.
وأضيفت الجنات للنعيم، لأنها عرفت بها فيلازم أهلها النعيم لا يفارقهم، وهذا مناسب غاية المناسبة لمقصد السورة من بيان النعمة.
فأعظم النعيم نعيم الجنات الخالد
وبها ختم المقطع.
جميع الحقوق متاحة للمسلمين دون اشتراط ذكر المصدر © 2023 7a9ad.com. All Rights Reserved