المقطع الثاني: اغترار الإنسان بخلقه وعلمه

كَلاَّ إِنَّ الإِنسَانَ لَيَطْغَى (6) أَنْ رَآهُ اسْتَغْنَى (7) إِنَّ إِلَى رَبِّكَ الرُّجْعَى (8)

1-  ما هو المعنى الذي تفيده كلا؟

كلا حرف ردع وجزر وإبطال، والجملة ههنا مستأنفة أي مبتدأة معنى جديدا مع انقطاع عما قبلها ليس لها علاقة به، والأصل في هذه اللفظة أن تقع بعد كلام لإبطاله والزجر عن مضمونه، ولما كانت لم يأت قبلها ما يستحق الإبطال كان الإبطال منصبا على ما بعدها من الكلام.

وقيل أن معناها: حقا، كما قالوا في معنى (كلا والقمر) (إي والقمر) ويكون المعنى: حقا إن أمر الإنسان لعجيب يتجاوز الحدود حالما يحس بنفسه قوة وغناء.

ويجوز الوقف عليها والابتداء بما بعدها مبالغة في الزجر.

2-  ما وجه التعبير عن طغيان الإنسان بالمضارع؟

الطغيان لغة هو مجاوزة الحد في الأشياء ومقاديرها وجاء به بالفعل المضارع ليشير إلى تجدد طغيان الإنسان وتكرره منه.

3-  ما هو المعنى الذي يفيده تعريف الإنسان؟

التعريف هنا للجنس والمعنى أن من طبع الإنسان أن يطغى إذا رأى من نفسه الاستغناء، وهي تدل على الاستغراق العرفي والمعنى: أن أغلب الناس على ذلك إلا من عصمه خلقه أو دينه، وليس هذا مختصا بالأفراد فقط بل يشمل الجماعات والشعوب.

4-  من هو الفاعل المفعول به في قوله رآه؟

الفاعل والمفعول به في الفعل عائد على الإنسان وأكثر ما يأتي هذا في باب ظن وأخواتها مثل ظننتني وحسبتني فرآى هنا هي القلبية وقد ألحقت بها رأى البصرية في بعض الأحيان.

5-  ما دلالة حذف مفعول الطغيان في هذه الآية؟

حذف مفعول الطغيان ليشمل جهتان:

الأولى: الخلق، والثانية: الخالق، وهذا كثير مشاهد في الدنيا.

فبمجرد أن يشعر الإنسان أنه غير محتاج للخلق، طغى وبغى عليهم، وبمجرد أن يشعر أنه غير محتاج إلى الله، أعرض عنه وكفر، والأول قبيح شديد والثاني أقبح وأشد، فقد يظن الإنسان لوهلة أنه مستغن عن الخلق، لكن العجب كل العجب أن يظن أنه مستغن عن خالقه.. !

فالاستغناء يؤدي بالإنسان إلى أن يحدث نفسه بأنه غير محتاج إلى غيره وأن غيره محتاج له فيرى نفسه أعظم من أهل الحاجة ولا يزال ذلك التوهم يزيد في نفسه حتى يصير عادة وطبيعة وجبلة له، ولا يوجد حينها ما يردعه من دين أو تفكير صحيح، فيطغى على الناس لشعوره بأنه لا يخاف بأسهم لأن له ما يدفعهم عنه، ويطغى على الخالق لنفس السبب.

2015 02 28 06h58 57

 

6-  كيف يكون منشأ الطغيان هو الاستغناء ونحن نرى كثيرا من غير المحتاجين منضبطين بضوابط الشرع؟

منشأ الطغيان لا من الاستغناء نفسه، فإننا نجد أناسا يستغنون فلا يطغون، كحال بعض أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم من أهل المال الذين لم يزدهم مالهم إلا قربا من الله كعثمان وعبد الرحمن بن عوف رضي الله عنهما، وكحال سليمان عليه السلام فإنه قال لما سمع النملة ( رب أوزعني أن أشكر نعمتك التي أنعمت علي وعلى والدي ) إلى آخر الآية ولما جاءه صاحب العلم بالعرش قال ( هذا من فضل ربي ليبلوني أأشكر أم أكفر ) فتواضع وشكر.

ولكن منشأ الطغيان من هذا الاعتقاد الواهم بأنه مستغن، فكلما عظم هذا الأمر في نفسه زاد طغيانه، ولا شك أن ما يبسطه الله لعباده من الرزق أدعى لمثل هذا وهو الأرض التي تترعرع فيها هذه الخصلة وتنمو، فقد ورد في الصحيح عنه صلى الله عليه وسلم ( اطلعت على النار فرأيت أكثر أهلها الأغنياء والنساء واطلعت على الجنة فرأيت أكثر أهلها الفقراء )، كما قال فرعون ( يا قوم أليس لي ملك مصر وهذه الأنهار تجري من تحتي) وكما قال قارون لما استغنى ( إنما أوتيته على علم عندي).

وكثيرا ما تجد الناس يصبرون على الفقر، فإذا بسط الله عليهم الرزق لم يصبروا وجاوزوا الحدود قال تعالى ( ونبلوكم بالشر والخير فتنة وإلينا ترجعون ) وقال تعالى ( فإما الإنسان إذا ما ابتلاه ربه فأكرمه ونعمه ) ثم قال ( وأما إذا ما ابتلاه فقدر عليه رزقه .. ) فالابتلاء يكون ببسط الرزق كما يكون بقدره.

2015 02 28 06h58 50

 

7-  ما وجه التعبير عن غاية الرجعى بإلى دون سواها؟

إلى حرف جر يدل على انتهاء الغاية وكأن يقول: إن منتهى مصيرك أيها الإنسان إنما هو إلى الله

8-  ما وجه تكرار كلمة ربك؟

ذكر الرب هنا مع الكاف سبق الكلام عليه، وأما التكرار فهو للتأكيد والحضور، وفيه التفات أيضا من خطاب الغائب إلى الخطاب المباشر خطاب النبي صلى الله عليه وسلم.

9-  ما هو المقصود بالرجعى؟

الرجعى هنا لها محلان:

الأول: الآخرة، وذلك في يوم الحساب وهذه هي الرجعة الكبرى، وهي الأهم.

الثاني: الدنيا، فالإنسان عندما يصيبه شر أو ضر يلجأ ويعود إلى الله، حتى الكافر، ومن تتبع هذا المعنى في القرآن وجده في مواضع شتى ليس هذا مجال التوسع في ذكرها.

فالشاهد من الكلام أن الرجعى لا تقتصر على الآخرة فقط وإنما تكون في الدنيا

   2015 02 28 06h58 41

10-  ما وجه تقديم إلى ربك؟

أصل الكلام أن يقال: إن الرجعى إلى ربك، ولكن قدمت الجملة للاهتمام بها لأنها محور الكلام والمعنى.

11-  ما هداية هذا المقطع؟

وقد بينت هذه الآيات حقيقة نفسية عظيمة من الأخلاق وعلم النفس البشري ونبهت على الحذر منها وأعطت العلاج المناسب لهذا الطغيان وهو ( استحضار الرجوع إلى الله يوم الدين )، فالرجوع إلى الله ليحاسبه على فعله هو افتقار وحاجة إليه في الحقيقة فالاستغناء الذي يخطر ببال الإنسان هو استغناء متوهم، فإن الاستغناء عن الناس لا يعني الاستغناء عن الله ولا يحصل مثل هذا الأمر إلا بقدر ما يغيب عن باله رجوعه إلى الله للحساب والجزاء.

وليس هذا فحسب، بل انظر إلى حالك أيها الإنسان عندما تصاب بمصيبة، من مرض أو فقر أو حاجة، أول ما تفعله هو الرجوع إلى ربك سائلا إياه أن يكشف عنك ضرك، فهل هذه حال مستغن؟

فانتبه يا أخي الغالي أن يكون رجوعك من باب الضرورة، فيكون فعلك مشابها لفعل المشركين، فهذا الرجوع رجوع اضطرار لا اختيار، فلنسارع جميعا بالعودة إلى الله عاجلا غير آجل، حاملين معنا حاجتنا وافتقارنا إليه.

فمرجع الأمور كلها إنما هو إلى الله كما قال تعالى ( ألا إلى الله تصير الأمور )

هذا المقطع فيه معنى عظيم وهو معالجة قضية تجاوز الإنسان لحدوده وهو يتألف من ثلاثة آيات:

الأولى: التقرير: أي بيان حال الإنسان وأن الطغيان له عادة وهو يتكرر منه دائما

الثانية: السبب: وبين فيه سبب طغيان الإنسان وتجاوزه هو اعتقاده باستغنائه عن الرب تعالى وما حباه به من خلق وتعليم.

الثالثة: العلاج: وبين فيه علاج هذا السبب وهو اليقين بأن رجوع الإنسان إنما هو إلى الله وأنه مجازيه بما عمل، وأن هذه الدنيا مكان مؤقت لا يدوم، فإذا علم الإنسان هذا أن الله خلقه من علقة وأنه هو الذي علمه وأنه بعده هذا كله راجع إلى ربه وبقي هذا الأمر حاضرا في ذهنه وما يستلزمه من كونه محتاجا إلى الله لا مستغنيا عنه ارتدع عن طغيانه والتزم بالحدود.

وهذا فيه من الكمال مع الاختصار ما لا يخفى عن أولي الأبصار.

ومثل هذا الأمر مشاهد كثيرا في حياتنا، ترى الرجل في أول حياته يبدأ بداية عادية فيكون حسن الأخلاق، مؤديا للحقوق، متواضعا، ثم يفتح الله عليه مالا وجاها فينقلب رأسا على عقب فيأكل حقوق الناس، ويظلم ويبغي.

 

 

 

 

 

2015 02 28 06h58 32

 

 

 

 

 Map Shot 1

 

جميع الحقوق متاحة للمسلمين دون اشتراط ذكر المصدر © 2023 7a9ad.com. All Rights Reserved