الكلام على عموم السورة

العقيدة القتالية للمجاهدين في سورة الأنفال

ما هي الأسماء الواردة فيها ؟

تسمى بالأنفال، وقد عرفت بهذا الاسم من عهد أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم، فباسم الأنفال عرفت بين المسلمين وبه كتبت تسميتها في المصحف حين كتبت أسماء السور في زمن الحجاج، وتسمى بسورة بدر لاتفاق رجال الأثر كلهم على أنها نزلت في غزوة بدر.

مكان نزولها؟

قال ابن إسحاق أنزلت في أمر بدر سورة الأنفال بأسرها، وكانت غزوة بدر في رمضان من العام الثاني للهجرة بعد عام ونصف من يوم الهجرة، وذلك بعد تحويل القبلة بشهرين، وكان ابتداء نزولها قبل الانصراف من بدر، فإن الآية الأولى منها نزلت والمسلمون في بدر قبل قسمة مغانمها، كما دل عليه حديث سعد بن أبي وقاص، والظاهر أنها استمر نزولها إلى ما بعد الانصراف من بدر.

كم عدد آياتها ؟

وعدد آيها، في عد أهل المدينة. وأهل مكة وأهل البصرة: ست وسبعون، وفي عد أهل الشام سبع وسبعون، وفي عد أهل الكوفة خمس وسبعون.

هل ثبت شيء في فضلها ؟

لم يرد فيها شيء بخصوصه.

ما هو مقصد السورة وما هي القرائن التي دلت على ذلك، وما مناسبة الاسم للمقصد؟

واضح أن السورة تتحدث بكليتها حول غزوة بدر ولم تناقش حادثة أو موضوعا آخر، وابتداء نزول السورة كان بعد انتهاء الغزوة وتحديدا عندما اختلف المسلمون في الغنائم التي غنموها بعد أن أتم الله لهم النصر، سميت هذه السورة بالأنفال حيث ورد هذا الاسم في بداية السورة، وهذه هي السورة الوحيدة التي ورد فيها هذا اللفظ، والأنفال باختصار هي الغنائم.

الذي حصل في الغزوة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم انتدبهم للخروج يريدون عير أبي سفيان، وخرجت قريش تريد حماية القافلة، فجنح أبو سفيان نحو البحر ففات المسلمين، وعرف المشركون بذلك فأرادوا أن يقيموا في بدر – وهي عين ماء في طريق المدينة – أياما، مفاخرة ورياء، وبلغ ذلك النبي صلى الله عليه وسلم فاستشار أصحابه فاعترض فريق على ذلك إذ لم يكونوا مستعدين لملاقاة الجيش، وإنما خرج من كان حاضرا بظهره لملاقاة القافلة، ( وإن فريقا من المؤمنين لكارهون يجادلونك في الحق بعدما تبين )، ثم إنهم اجتمعوا على طاعة الله ورسوله، كما جاء في روايات السيرة وكما جاء في صحيح مسلم عَنْ أَنَسٍ، أَنَّ رَسُولَ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ شَاوَرَ حِينَ بَلَغَهُ إِقْبَالُ أَبِي سُفْيَانَ، قَالَ: فَتَكَلَّمَ أَبُو بَكْرٍ، فَأَعْرَضَ عَنْهُ، ثُمَّ تَكَلَّمَ عُمَرُ، فَأَعْرَضَ عَنْهُ، فَقَامَ سَعْدُ بْنُ عُبَادَةَ، فَقَالَ: إِيَّانَا تُرِيدُ يَا رَسُولَ اللهِ؟ وَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ، لَوْ أَمَرْتَنَا أَنْ نُخِيضَهَا الْبَحْرَ لَأَخَضْنَاهَا، وَلَوْ أَمَرْتَنَا أَنْ نَضْرِبَ أَكْبَادَهَا إِلَى بَرْكِ الْغِمَادِ لَفَعَلْنَا،

وكما في الحديث الذي رواه البخاري، حديث ابن مَسْعُودٍ، يَقُولُ: شَهِدْتُ مِنَ المِقْدَادِ بْنِ الأَسْوَدِ مَشْهَدًا، لَأَنْ أَكُونَ صَاحِبَهُ أَحَبُّ إِلَيَّ مِمَّا عُدِلَ بِهِ، أَتَى النَّبِيَّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَهُوَ يَدْعُو عَلَى المُشْرِكِينَ، فَقَالَ: لاَ نَقُولُ كَمَا قَالَ قَوْمُ مُوسَى: اذْهَبْ أَنْتَ وَرَبُّكَ فَقَاتِلاَ، وَلَكِنَّا نُقَاتِلُ عَنْ يَمِينِكَ، وَعَنْ شِمَالِكَ، وَبَيْنَ يَدَيْكَ وَخَلْفَكَ «فَرَأَيْتُ النَّبِيَّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَشْرَقَ وَجْهُهُ وَسَرَّهُ»، فاجتمع المهاجرون والأنصار على طاعة الله ورسوله مدفوعين بالألفة التي كانت بين قلوبهم والتي ألقيت في القلوب بسبب ذلك، فلما اجتمعوا وائتلفت قلوبهم وسمعوا وأطاعوا أنزل الله عليهم نصره المبين.

هذا الاجتماع على الطاعة أعقبه النصر يوم بدر، وبعد أن أقر الله أعينهم بالنصر المبين، جاءت حادثة الغنائم التي “اختلفوا” فيها، فكانت هذه الحادثة هي السبب المباشر لنزول السورة، وابتدأت السورة بالحديث عن هذه الحادثة حادثة ( الاختلاف والتنازع ) في موضوع تقسيم الغنائم، والظاهر أن هذا الأمر تكرر وفشا، حتى قال عبادة بن الصامت حين سئل عن الأنفال كما في سيرة ابن اسحق: فينا معشر أصحاب بدر نزلت حين اختلفنا في النفل يوم بدر فانتزعه الله من أيدينا حين ساءت فيه أخلاقنا فرده على رسوله فقسمه بيننا على بواء يقول على السواء)، وفي صحيح مسلم عن   سعد بن أبي وقاص رضي الله عنه أَصَابَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ غَنِيمَةً عَظِيمَةً، فَإِذَا فِيهَا سَيْفٌ فَأَخَذْتُهُ، فَأَتَيْتُ بِهِ الرَّسُولَ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَقُلْتُ: نَفِّلْنِي هَذَا السَّيْفَ، فَأَنَا مَنْ قَدْ عَلِمْتَ حَالَهُ، فَقَالَ: «رُدُّهُ مِنْ حَيْثُ أَخَذْتَهُ» فَانْطَلَقْتُ، حَتَّى إِذَا أَرَدْتُ أَنْ أُلْقِيَهُ فِي الْقَبَضِ لَامَتْنِي نَفْسِي، فَرَجَعْتُ إِلَيْهِ، فَقُلْتُ: أَعْطِنِيهِ، قَالَ فَشَدَّ لِي صَوْتَهُ «رُدُّهُ مِنْ حَيْثُ أَخَذْتَهُ» قَالَ فَأَنْزَلَ اللهُ عَزَّ وَجَلَّ: {يَسْأَلُونَكَ عَنِ الْأَنْفَالِ}.

فابتدأت السورة بالحديث عن الأنفال، فجعلتها لله ورسوله وكأنها تقول للمسلمين:

تذكروا كيف حفظناكم ورعيناكم حين أخذتم بأسباب النصر، وإياكم أن تتخلفوا عنها فتزول عنكم هذه النعم وهذه العناية.

ثم مضت السورة تقص على المسلمين مشاهد قبل الغزوة وأثناءها وبعدها، وتذكرهم بحفظ الله ورعايته لهم، مع إشارات إلى الأسباب التي استوجبت هذه العناية والتأييد الرباني، وقصت عليهم صورا من أحوال المهزومين وتطرقت إلى الأسباب التي أوجبت مثل هذه الهزيمة التي لحقت بقريش وفلذات أكبادها، وناقشت عدة قضايا وأصلت وفصلت في تنوع بديع ومعانٍ متداخلة متناسبة لا يستطيع الإتيان بها إلا رب قادر متعال.

وليس أفتك بجسد الأمة وأجلب للخزي والعار من التنازع، وهو يفعل في الأمة ما لا يفعله فيها عدو شاكي السلاح.

اختبار التمكين..

من سنن الله عز وجل في خلقه أنه قد يبتلي عباده ببعض التمكين ليرى ما يصنعون بعد أن من عليهم بالقوة والظهور، وهذه سنة جارية في الأمم كما قال موسى لقومه (عَسَى رَبُّكُمْ أَنْ يُهْلِكَ عَدُوَّكُمْ وَيَسْتَخْلِفَكُمْ فِي الأَرْضِ فَيَنْظُرَ كَيْفَ تَعْمَلُونَ )، وقد حذر الله عز وجل من النكوص بعد التمكين كما في قوله  (فَهَلْ عَسَيْتُمْ إِن تَوَلَّيْتُمْ أَن تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ وَتُقَطِّعُوا أَرْحَامَكُمْ )، ووصف الذين ينصرون الله حقا بقوله (الَّذِينَ إِن مَّكَّنَّاهُمْ فِي الْأَرْضِ أَقَامُوا الصَّلَاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ وَأَمَرُوا بِالْمَعْرُوفِ وَنَهَوْا عَنِ الْمُنكَرِ  وَلِلَّهِ عَاقِبَةُ الْأُمُورِ )، وأنزل شرط الاستخلاف (وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُمْ فِي الْأَرْضِ كَمَا اسْتَخْلَفَ الَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ وَلَيُمَكِّنَنَّ لَهُمْ دِينَهُمُ الَّذِي ارْتَضَىٰ لَهُمْ وَلَيُبَدِّلَنَّهُم مِّن بَعْدِ خَوْفِهِمْ أَمْنًا ۚ يَعْبُدُونَنِي لَا يُشْرِكُونَ بِي شَيْئًا  وَمَن كَفَرَ بَعْدَ ذَٰلِكَ فَأُولَٰئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ   ).

كل ما سبق من النصوص يدعم فكرة ( اختبار التمكين ) وهو اختبار الله عز وجل لعباده أن يطيعوه ويأتمروا بأمره، ولما لم يكن للمسلمين سابقة في التمكين، أتت الآيات مسرعة تذكرهم بطاعة الله عز وجل بعد أن من عليهم بالنصر، وتذكر المسلمين بأن يبقوا منتبهين مستعدين لإقامة أمر الله حال منه عليهم بالظهور والتمكين، تماما كما حصل مع أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم.

الدرس الأول: وضوح الراية ( بين المجاهد والمرتزق )

 لماذا الأنفال بالذات؟

لماذا استخدمت هذه اللفظة بدل لفظة الغنائم مثلا؟

والمتأمل في التعبير القرآني يجد أنه اختار كلمة الأنفال بدلا من الغنائم أو ما شابهها، وكلمة الأنفال في أصلها تدل على الزيادة في العطاء، وفي هذا إرشاد إلى أن ما يأتي مع النصر من غنيمة مادية أو تمكين، إنما هو زيادة عن الهدف الحقيقي للجهاد ألا وهو أن تكون كلمة الله هي العليا، وألا تكون فتنة، بمعنى: ألا يكون هناك طائفة متمكنة من رقاب الناس يضلونهم ويفتنوهم ويصدوهم عن الإسلام الحنيفي، فينبغي للمجاهد إذا خرج أن يكون نصب عينيه أنه إنما خرج لإزالة جميع أسباب الفتنة عن طريق الناس فيدخلوا في دين الله أفواجا بمحض إرادتهم مدفوعين بفطرة التوحيد التي أودعها الله فيهم يوم كانوا في عالم الذر، فإن من الله عليه بنصر أو غنيمة أو تمكين فإنما هو أمر لا ينبغي الالتفات له ولا الركون إليه، بل ينبغي أن تبقى البوصلة مضبوطة نحو تحرير الناس من الطاغوت وإزالة تأثيره عليهم ( حتى لا تكون فتنة ويكون الدين كله لله ).

فكأن اسم السورة يقول للمجاهدين: إياكم والالتفات إلى الدنيا ولعاعها واحرصوا على نياتكم أن تكون نحو إزالة آثار الطغيان ( كيلا تكون فتنة ويكون الدين لله ) وهذا هو الدرس الأول في السورة.

وليس بين الجهاد والارتزاق إلا سلامة النية.

لماذا أخر البيان أربعين آية؟

والمتأمل في سياق السورة يجد أن السؤال جاء في أولها، وألحق السؤال بالأمر بالتقوى وإصلاح ذات البين، أما الجواب عن تقسيم الغنائم فتأخر في السورة حتى الآية الأربعين، والذي يظهر أن تأخير نزول الحكم فيها إلى الآية الأربعين تربية أي تربية، وكأن السياق يقول للسائل أن تفاصيل الجواب ليست هي المهمة، وإنما المهم هو الطاعة والاجتماع وإصلاح ذات البين وتقوى الله عز وجل وامتثال أوامره.

الدرس الثاني: ( الاجتماع على طاعة الله ورسوله )

كانت الأنفال هي السبب المباشر في هذا التنازع، والمتأمل في هذه القضية جيدا و في الساحات التي لم يؤتي فيها الجهاد ثماره المباشرة من النصر والتمكين مع توافر أسباب القوة التي تؤدي إليه، وعلى الرغم من الاقتراب الشديد من هذا التمكين، يدرك أن الأنفال كانت هي الحاضر الأبرز في مشهد التنازع والعصيان في المشهد الجهادي، وأن التنازع والعصيان هو السبب الرئيسي لخسارة المكاسب التي حققها المسلمون، مع اتخاذهم لأكثر أسباب النصر الأخرى.

وليس هذا في القرآن فحسب بل قد أتت السنة بمثل هذا كما في الحديث الذي رواه البخاري حين قَدِمَ أَبُو عُبَيْدَةَ بِمَالٍ مِنَ البَحْرَيْنِ، فَسَمِعَتِ الأَنْصَارُ بِقُدُومِ أَبِي عُبَيْدَةَ، فَوَافَوْا صَلاَةَ الفَجْرِ مَعَ النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَلَمَّا انْصَرَفَ تَعَرَّضُوا لَهُ، فَتَبَسَّمَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حِينَ رَآهُمْ، ثُمَّ قَالَ: «أَظُنُّكُمْ سَمِعْتُمْ أَنَّ أَبَا عُبَيْدَةَ قَدِمَ بِشَيْءٍ» قَالُوا: أَجَلْ يَا رَسُولَ اللَّهِ، قَالَ: «فَأَبْشِرُوا وَأَمِّلُوا مَا يَسُرُّكُمْ، فَوَاللَّهِ مَا الفَقْرَ أَخْشَى عَلَيْكُمْ، وَلَكِنِّي أَخْشَى أَنْ تُبْسَطَ عَلَيْكُمُ الدُّنْيَا كَمَا بُسِطَتْ عَلَى مَنْ كَانَ قَبْلَكُمْ، فَتَنَافَسُوهَا كَمَا تَنَافَسُوهَا، وَتُهْلِكَكُمْ كَمَا أَهْلَكَتْهُمْ»

وقد احتل هذا الدرس أهم الأماكن وأكبر المساحات في السورة، وهو أهمها وأصعبها وأشقها على النفوس، لأن الجهاد يورث عزة وأنفة وحمية في النفوس فلا تقاد بعدها لغيرها إلا أن يكون طاعة لله ورسوله، وألفة يزرعها الله بينها ، ولهذا السبب أولت السورة العناية كلها بهذا السبب وجعلت منه محور الكلام فيها ، ومنه أيضا تظهر العناية الإلهية الربانية للمؤمنين بعد أن يبذلوا كل جهدهم في الأخذ بأسباب القوة.

الدرس الثالث : حل المشكلتين السابقتين.

كيف نضمن سلامة النية والطاعة والاجتماع والألفة؟

وأما علاج هذين المرضين الفتاكين – فساد النية والتنازع – فقد أتت به الآيات مباشرة في الآية الأولى ( وأطيعوا الله ورسوله إن كنتم مؤمنين ) ولا عجب أن يتكرر هذا اللفظ ثلاث مرات في هذه السورة ولم يرد هذا العدد من هذا اللفظ في سورة كما ورد هنا.

ضمان الطاعة يكون بتعزيز العقيدة الدافعة لهذه الطاعة، أي بتعزيز أسباب  ( التقوى ) ( فاتقوا الله )، ويكون أيضا بتعميق الشعور الإيماني، فلا عجب أيضا أن يتكرر لفظ ( المؤمنون – المؤمنين ) عشر مرات في هذه السورة، إذ أن الاجتماع على الطاعة علامة الإيمان وسبب مباشر له.

فضمان الطاعة يكون بتعميق الشعور بالإيمان وتحويله من عقيدة جامدة باردة إلى عقيدة فعالة دافعة وذلك بقراءة القرآن وتدبره ( وإذا تليت عليهم آياته زادتهم إيمانا ).

وهذه عادة القرآن يعرض الظواهر ويحللها ثم يعالج الدوافع السلوكية التي أدت إلى هذه الظواهر فتختفي من تلقاء نفسها، وانظر إلى كثرة الأوامر في هذه السورة ( أطيعوا – استجيبوا – لا تخونوا – واذكروا – واعلموا ) لتلفت نظر المسلم إلى أن النصر الحقيقي إنما يكون في طاعة الله عز وجل وامتثال أوامره.

الدرس الرابع:

عوامل النصر والهزيمة في غزوة بدر:

قال طائفة من أهل العلم أن مقصد السورة هو ( أسباب النصر ) وليس هذا ببعيد بل إن ذكر أسباب النصر – ونقول الهزيمة تكميلا لها – ظاهر في طيات السورة وهذا واضح في عدد من الأوامر والنواهي التي انبثقت من الاجتماع على الطاعة ويكون النصر أقرب بإذن الله، إلا أن الأسباب المذكورة هنا لها علاقة مباشرة بما حصل في بدر وهذا لا ينفي كون هناك أسباب أخرى في مواضع أخرى من كتاب الله، وباستعراض سريع لما جاء في طيات هذه السورة من أسباب النصر والهزيمة نرى:

1-     تقوى الله (فَاتَّقُوا اللَّهَ ) (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ تَتَّقُوا اللَّهَ يَجْعَلْ لَكُمْ فُرْقَانًا )

2-     إصلاح ذات البين (وَأَصْلِحُوا ذَاتَ بَيْنِكُمْ )

3-     طاعة الله ورسوله (وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ ) (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَلَا تَوَلَّوْا عَنْهُ وَأَنْتُمْ تَسْمَعُونَ) (وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ )  والثلاثة هذه دليل الإيمان الذي هو شرط النصر (إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ )

4-     الاستغاثة بالله والالتجاء إليه والانكسار بين يديه (إِذْ تَسْتَغِيثُونَ رَبَّكُمْ فَاسْتَجَابَ لَكُمْ ) كما في حديث عمر بن الخطاب الذي رواه مسلم قال: لَمَّا كَانَ يَوْمُ بَدْرٍ نَظَرَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِلَى الْمُشْرِكِينَ وَهُمْ أَلْفٌ، وَأَصْحَابُهُ ثَلَاثُ مِائَةٍ وَتِسْعَةَ عَشَرَ رَجُلًا، فَاسْتَقْبَلَ نَبِيُّ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الْقِبْلَةَ، ثُمَّ مَدَّ يَدَيْهِ، فَجَعَلَ يَهْتِفُ بِرَبِّهِ: «اللهُمَّ أَنْجِزْ لِي مَا وَعَدْتَنِي، اللهُمَّ آتِ مَا وَعَدْتَنِي، اللهُمَّ إِنْ تُهْلِكْ هَذِهِ الْعِصَابَةَ مِنْ أَهْلِ الْإِسْلَامِ لَا تُعْبَدْ فِي الْأَرْضِ»، فَمَا زَالَ يَهْتِفُ بِرَبِّهِ، مَادًّا يَدَيْهِ مُسْتَقْبِلَ الْقِبْلَةِ، حَتَّى سَقَطَ رِدَاؤُهُ عَنْ مَنْكِبَيْهِ، فَأَتَاهُ أَبُو بَكْرٍ فَأَخَذَ رِدَاءَهُ، فَأَلْقَاهُ عَلَى مَنْكِبَيْهِ، ثُمَّ الْتَزَمَهُ مِنْ وَرَائِهِ، وَقَالَ: يَا نَبِيَّ اللهِ، كَفَاكَ مُنَاشَدَتُكَ رَبَّكَ، فَإِنَّهُ سَيُنْجِزُ لَكَ مَا وَعَدَكَ، فَأَنْزَلَ اللهُ عَزَّ وَجَلَّ: {إِذْ تَسْتَغِيثُونَ رَبَّكُمْ فَاسْتَجَابَ لَكُمْ أَنِّي مُمِدُّكُمْ بِأَلْفٍ مِنَ الْمَلَائِكَةِ مُرْدِفِينَ} [الأنفال: 9] فَأَمَدَّهُ اللهُ بِالْمَلَائِكَةِ، فعلى الرغم من أن الله وعد نبيه بالنصر إلا أنه لم يترك الاستغاثة قط صلى الله عليه وسلم.

5-     الاستجابة لله ( يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اسْتَجِيبُوا لِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ إِذَا دَعَاكُمْ لِمَا يُحْيِيكُمْ )

6-     إخلاص النية لله (وَقَاتِلُوهُمْ حَتَّىٰ لَا تَكُونَ فِتْنَةٌ وَيَكُونَ الدِّينُ كُلُّهُ لِلَّهِ )

7-     الثبات (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا لَقِيتُمْ فِئَةً فَاثْبُتُوا )

8-     كثرة الذكر (وَاذْكُرُوا اللَّهَ كَثِيرًا لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ )

9-     الصبر (وَاصْبِرُوا إِنَّ اللَّهَ مَعَ الصَّابِرِينَ ) كما يظهر هذا الأمر جليا – أقصد أثر الصبر في النصر- في المقابلة بين أعداد المقاتلين المسلمين والكافرين في آية التخفيف، حيث ذكر الله إن يكن منكم عشرون صابرون، فوصفهم بالصبر، ثم مئة صابرة وأيضا وصفهم بالصبر.

10- التوكل على الله والثقة به ( إِذْ يَقُولُ الْمُنَافِقُونَ وَالَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ غَرَّ هَٰؤُلَاءِ دِينُهُمْ وَمَنْ يَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ فَإِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ )

11-استفراغ الجهد في الأخذ بأسباب القوة جميعا، لا قوة السلاح فحسب ولكن جميع أنواع القوة العسكرية والعلمية والإعلامية والمعلوماتية والتقنية والاجتماعية كما أمرت الآيات، وقد غفل عن هذا كثير وظنوا أن الله ينصرهم وإن لم يستفرغوا جهدهم في الأخذ بأسباب القوة، وجاء الأمر بعكس ما حسبوا ( وَأَعِدُّوا لَهُمْ مَا اسْتَطَعْتُمْ مِنْ قُوَّةٍ وَمِنْ رِبَاطِ الْخَيْلِ ) الألفة بين القلوب (وَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِهِمْ )

12- الولاء والبراء (أُولَٰئِكَ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ ) (وَالَّذِينَ كَفَرُوا بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ إِلَّا تَفْعَلُوهُ تَكُنْ فِتْنَةٌ فِي الْأَرْضِ وَفَسَادٌ كَبِيرٌ )

وإذا عكسنا اتجاه سيرنا ذهبنا في اتجاه أسباب الهزيمة التي ذكرتها السورة:

1-     مشاقة الله ورسوله ( ذَٰلِكَ بِأَنَّهُمْ شَاقُّوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ )

ومنها: بل وأهمها التنازع والتفرق حيث ينزع كل طرف بعيدا عن الاجتماع على طاعة الله (وَلَا تَنَازَعُوا فَتَفْشَلُوا وَتَذْهَبَ رِيحُكُمْ )

2-     التولي يوم الزحف وهو كبيرة من الكبائر (زَحْفًا فَلَا تُوَلُّوهُمُ الْأَدْبَارَ )

3-     الخيانة (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَخُونُوا اللَّهَ وَالرَّسُولَ وَتَخُونُوا أَمَانَاتِكُمْ وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ ) (﴾ وَإِنْ يُرِيدُوا خِيَانَتَكَ فَقَدْ خَانُوا اللَّهَ مِنْ قَبْلُ فَأَمْكَنَ مِنْهُمْ )

4-     تغيير ما بالأنفس (ذَٰلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ لَمْ يَكُ مُغَيِّرًا نِعْمَةً أَنْعَمَهَا عَلَىٰ قَوْمٍ حَتَّىٰ يُغَيِّرُوا مَا بِأَنْفُسِهِمْ )

5-     الخروج بطرا ورئاء الناس لا لأجل أن تكون كلمة الله هي العليا. (﴾ وَلَا تَكُونُوا كَالَّذِينَ خَرَجُوا مِنْ دِيَارِهِمْ بَطَرًا وَرِئَاءَ النَّاسِ )

6-     الصد عن سبيل الله (وَيَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ وَاللَّهُ بِمَا يَعْمَلُونَ مُحِيطٌ )

7-     تولي الكافرين أعداء الله ورسوله ((وَالَّذِينَ كَفَرُوا بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ إِلَّا تَفْعَلُوهُ تَكُنْ فِتْنَةٌ فِي الْأَرْضِ وَفَسَادٌ كَبِيرٌ )

الدرس الخامس: مظاهر العناية الربانية في السورة:

وبسبب أن المسلمين أخذوا بهذه الأسباب كلها، وأهمها الاجتماع على طاعة الله ورسوله، فصلت لهم الآية في مظاهر العناية التي يستحقها من يأخذ بهذه الأسباب فكان:

منها: ما كان قبل المعركة بزمن من حمايته صلى الله عليه وسلم إذ يمكر به الكافرون ليقتلوه أو يحبسوه أو يخرجوه، ثم إيواء المؤمنين وتأييدهم بنصره وما رزقهم به في المدينة بعد الهجرة.

ومنها: ما كان قبيل المعركة من وعده لنبيه صلى الله عليه وسلم بإحدى الطائفتين، وإنزال الطمأنينة في قلوبهم، وتغشيتهم النعاس، وإنزال الماء طهرة وربطا على القلوب وتثبيتا للأقدام، وتهيئة الأمور ليلتقي الجمعان على قدر، وتقليل المشركين في منام النبي صلى الله عليه وسلم مما ثبت قلوبهم، وإلقاء الألفة بين قلوب المؤمنين يومها، ولوا أنه ألقاها جل وعلا لما ألف بين قلوبهم شيء.

ومنها: ما كان في المعركة من استجابته لهم وإمداده لهم بالملائكة وإلقاء الرعب في قلوب الكافرين، وقتلهم، ثم نصرهم المبين يوم بدر بعد اجتماعهم وطاعتهم للنبي صلى الله عليه وسلم بالخروج لملاقاة ذات الشوكة.

ومنها: ما كان بعد المعركة، بل وأهمها وأعظمها وأشدها منة، إنزال الوحي يفصل بينهم في الخلافات ويبين لهم الحقوق وينبههم حال الخطأ و يجيبهم عن الأسئلة، في شأن الغنائم وفي شأن الأسرى، ويعيد تشكيل خريطة اهتماماتهم وأفكارهم وتوزيع مراكز الثقل في حساباتهم ( يسألونك .. قل )، ويوثق ما جرى في هذه الفترة المهمة أدق توثيق وأصدقه وأصوبه، ولولا أن الوحي جاء بهذا التوثيق المهم ليكون ذكرى وعبرة للأجيال، لضلت فيه أفهام أقوام واجتهاداتهم.

الدرس السادس: النصر بين التأييد الرباني والأسباب العملية:

المتأمل في هذه السورة أيضا يجد معنيين بارزين فيها، يتنقل السياق في الحديث بينهما:

الأول: أثر التأييد الرباني في النصر، ويظهر هذا جليا في آيات مثل قوله تعالى:

       كَمَا أَخْرَجَكَ رَبُّكَ

        وَإِذْ يَعِدُكُمُ اللَّهُ إِحْدَى الطَّائِفَتَيْنِ أَنَّهَا لَكُمْ

       أَنِّي مَعَكُمْ فَثَبِّتُوا الَّذِينَ آمَنُوا سَأُلْقِي فِي قُلُوبِ الَّذِينَ كَفَرُوا الرُّعْبَ

       فَلَمْ تَقْتُلُوهُمْ وَلَٰكِنَّ اللَّهَ قَتَلَهُمْ وَمَا رَمَيْتَ إِذْ رَمَيْتَ وَلَٰكِنَّ اللَّهَ رَمَىٰ

        ذَٰلِكُمْ وَأَنَّ اللَّهَ مُوهِنُ كَيْدِ الْكَافِرِينَ 

       وَلَنْ تُغْنِيَ عَنْكُمْ فِئَتُكُمْ شَيْئًا وَلَوْ كَثُرَتْ وَأَنَّ اللَّهَ مَعَ الْمُؤْمِنِينَ

       وَيَمْكُرُونَ وَيَمْكُرُ اللَّهُ وَاللَّهُ خَيْرُ الْمَاكِرِينَ

       وَيَجْعَلَ الْخَبِيثَ بَعْضَهُ عَلَىٰ بَعْضٍ فَيَرْكُمَهُ جَمِيعًا فَيَجْعَلَهُ فِي جَهَنَّمَ

        وَإِنْ تَوَلَّوْا فَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ مَوْلَاكُمْ نِعْمَ الْمَوْلَىٰ وَنِعْمَ النَّصِيرُ 

       وَلَٰكِنْ لِيَقْضِيَ اللَّهُ أَمْرًا كَانَ مَفْعُولًا

        إِذْ يُرِيكَهُمُ اللَّهُ فِي مَنَامِكَ قَلِيلًا وَلَوْ أَرَاكَهُمْ كَثِيرًا لَفَشِلْتُمْ وَلَتَنَازَعْتُمْ فِي الْأَمْرِ وَلَٰكِنَّ اللَّهَ سَلَّمَ

        وَإِذْ يُرِيكُمُوهُمْ إِذِ الْتَقَيْتُمْ فِي أَعْيُنِكُمْ قَلِيلًا وَيُقَلِّلُكُمْ فِي أَعْيُنِهِمْ لِيَقْضِيَ اللَّهُ أَمْرًا كَانَ مَفْعُولًا وَإِلَى اللَّهِ تُرْجَعُ الْأُمُورُ 

       وَمَنْ يَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ فَإِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ 

       فَأَهْلَكْنَاهُمْ بِذُنُوبِهِمْ

       وَلَا يَحْسَبَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا سَبَقُوا إِنَّهُمْ لَا يُعْجِزُونَ

       فَإِنَّ حَسْبَكَ اللَّهُ هُوَ الَّذِي أَيَّدَكَ بِنَصْرِهِ وَبِالْمُؤْمِنِينَ 

        يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ حَسْبُكَ اللَّهُ وَمَنِ اتَّبَعَكَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ 

       فَقَدْ خَانُوا اللَّهَ مِنْ قَبْلُ فَأَمْكَنَ مِنْهُمْ

الثاني: ضرورة اتخاذ الأسباب العملية

على الرغم من كل النصوص السابقة التي تؤكد على أن التدخل الإلهي هو مصدر النصر، جاءت نصوص مماثلة لما سبق تماما تؤكد على ضرورة الأخذ بالأسباب وإعداد العدة لاستحقاق هذا النصر وهذه العناية الربانية.

وهنا لنا وقفة خاصة مع إنزال الله عز وجل الملائكة لتقاتل مع المؤمنين، وكان يكفي لجبريل عليه السلام أن يقول بطرف جناحه هكذا فيذهب بالكافرين عن آخرهم، إلا أن الله أراد أن يعلم المؤمنين أنه لا بد من الأخذ بالأسباب الظاهرة واستكمالها استعدادا للنصر.

كما يظهر ذلك جليا في عبارات مثل قوله تعالى:

       فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَصْلِحُوا ذَاتَ بَيْنِكُمْ وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ

       يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا لَقِيتُمْ فِئَةً فَاثْبُتُوا وَاذْكُرُوا اللَّهَ كَثِيرًا لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ

       وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَلَا تَنَازَعُوا فَتَفْشَلُوا وَتَذْهَبَ رِيحُكُمْ وَاصْبِرُوا إِنَّ اللَّهَ مَعَ الصَّابِرِينَ

       وَإِمَّا تَخَافَنَّ مِنْ قَوْمٍ خِيَانَةً فَانْبِذْ إِلَيْهِمْ عَلَىٰ سَوَاءٍ إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ الْخَائِنِينَ

       وَأَعِدُّوا لَهُمْ مَا اسْتَطَعْتُمْ مِنْ قُوَّةٍ وَمِنْ رِبَاطِ الْخَيْلِ تُرْهِبُونَ بِهِ عَدُوَّ اللَّهِ وَعَدُوَّكُمْ

       يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ حَرِّضِ الْمُؤْمِنِينَ عَلَى الْقِتَالِ

وقد اجتمع قسما التأييد – الذي يكون بواسطة أسباب غير معلومة معتادة ومنها بأسباب معلومة معتادة – في قوله ( أيدك بنصره وبالمؤمنين ) فأيدك بنصره الأولى والمؤمنين الثانية.

الدرس السابع: أصول الولاء والبراء

وجاء المقطع الأخير في هذه السورة يرسم للمسلم حدود الولاء والبراء عنده، وقسم الناس ثلاثة أقسام:

1- المهاجرون والأنصار ولهم الولاية المطلقة

2- المؤمنون ممن لم يهاجر فأولئك لهم النصرة إلا على قوم بينهم وبين المؤمنين ميثاق

3- الكافرون وليس لهم إلا العداء والبراء منهم، وهذا في شأن المحاربين كما فصلت آيات أخرى.

مقصد السورة؟

المتأمل في هذه السورة يرى أنها السورة الوحيدة التي انفردت في الحديث عن غزوة، بينما نرى أن الغزوات الأخرى نزلت في سور عالجت مواضيع أخرى، فمثلا اشترك الحديث عن العقيدة مع الحديث عن غزوة أحد في سورة آل عمران مناصفة تقريبا، وكذلك الحديث عن أزواج النبي صلى الله عليه وسلم مع الحديث عن غزوة الأحزاب في سورة الأحزاب، وقس على ذلك، إلا أن سورة الأنفال كانت خالصة لذكر الحديث عن غزوة بدر.

من ناحية أخرى نرى أن هذه السورة نزلت في أول لقاء جهادي بين المسلمين وأعدائهم، وبدر كانت هي الحلقة الأولى في مشوار جهادي سيمتد لسنوات، ولأن القرآن إنما نزل ليبين للناس ويهديهم ويرشدهم ويعيد تشكيل منظومة الأفكار والقيم لديهم، يمكن القول أن هذه السورة – إذا أخذنا الفكرتين السابقتين بعين الاعتبار – جاءت لتشكيل منظومة الأفكار والقيم لدى المجاهدين في أول الطريق حتى يستمروا في المسير فيه في ضوء هذه السورة وفي ظلالها، فهي إذا تشكل ( العقيدة القتالية للمجاهدين )، ترسم لهم الطريق، وتلقي الضوء على المخاطر التي سيلاقونها فيه، وتعدهم بالتأييد والرعاية الربانية إن أخذوا بأسبابها، فيكون التمكين ولا بد حليفهم كما كان في بدر، مهما كان ضعفهم، وهكذا فإن هذه السورة جاءت لتقرر ( العقيدة القتالية للمجاهدين في سورة الأنفال ).

وليس هذا ببعيد عن اختيار أكثر أهل العلم لأسباب النصر كمقصد لهذه السورة، ولكنها رؤى تتكامل ولا تتنافى، وحتى اختيار البقاعي لمقصدها (تبرؤ العباد من الحول والقوة وحثهم على التسليم لأمر الله, واعتقاد أن الأمور ليست إلا بيده, وأن الإنسان ليس له فعل. ) إنما هو معلم من معالم السورة، وكلما كان المقصد أجمع لمعالم المعاني في السورة كلما كان أدق وأصوب، وليس هذا جزما لهذا المقصد للسورة ولكنه اجتهاد رأيناه أقرب.

فمن اللافت للنظر في هذه السورة نزولها لمعالجة اختلاف بين الناس وتوضيح أمور وتأصيل مفاهيم، فليس القرآن كلمات تتلى للبركة في رمضان وعلى أرواح الموتى ولكنه منهاج حياة ودستور ينظم للناس شؤونهم ويفصل بينهم ويبين لهم، (وَأَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الذِّكْرَ لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ إِلَيْهِمْ ) (وَمَا أَنْزَلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ إِلَّا لِتُبَيِّنَ لَهُمُ الَّذِي اخْتَلَفُوا فِيهِ وَهُدًى وَرَحْمَةً لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ ) (وَأَنِ احْكُمْ بَيْنَهُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ ) (اللَّهُ الَّذِي أَنْزَلَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ وَالْمِيزَانَ ) (لَقَدْ أَرْسَلْنَا رُسُلَنَا بِالْبَيِّنَاتِ وَأَنْزَلْنَا مَعَهُمُ الْكِتَابَ وَالْمِيزَانَ لِيَقُومَ النَّاسُ بِالْقِسْطِ ) فيوم اتخذه المسلمون هدى ورحمة وميزانا يقومون به بالقسط وحكما يحكم بينهم سادوا، ويوم أن قرؤوه للبركة في رمضان وفي المآتم صاروا في آخر الأمم.

 

وتأمل يا رعاك الله لو أن أهل الجهاد قادة ومقودين وضعوا هذه السورة جل أعينهم، وجعلوها ديدنهم، يتلونها آناء الليل والنهار، ويتدارسونها بينهم، ويحيون بها ليلهم، ويحيون ما فيها من الأوامر ويجتنبون ما فيها من النواهي، لتخلصوا من كثير من الأمراض التي تعكر صفو هذه الشعيرة العظيمة من شعائر الدين، ولو قلبت النظر في أحوال الجهاد والمجاهدين لرأيت أن التمكين لم يكن حليفهم إلا حيث أشرقت عليهم شمسها.

العقيدة القتالية للمجاهدين في سورة الأنفال

ما هي الأسماء الواردة فيها ؟

تسمى بالأنفال، وقد عرفت بهذا الاسم من عهد أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم، فباسم الأنفال عرفت بين المسلمين وبه كتبت تسميتها في المصحف حين كتبت أسماء السور في زمن الحجاج، وتسمى بسورة بدر لاتفاق رجال الأثر كلهم على أنها نزلت في غزوة بدر.

مكان نزولها؟

قال ابن إسحاق أنزلت في أمر بدر سورة الأنفال بأسرها، وكانت غزوة بدر في رمضان من العام الثاني للهجرة بعد عام ونصف من يوم الهجرة، وذلك بعد تحويل القبلة بشهرين، وكان ابتداء نزولها قبل الانصراف من بدر، فإن الآية الأولى منها نزلت والمسلمون في بدر قبل قسمة مغانمها، كما دل عليه حديث سعد بن أبي وقاص، والظاهر أنها استمر نزولها إلى ما بعد الانصراف من بدر.

كم عدد آياتها ؟

وعدد آيها، في عد أهل المدينة. وأهل مكة وأهل البصرة: ست وسبعون، وفي عد أهل الشام سبع وسبعون، وفي عد أهل الكوفة خمس وسبعون.

هل ثبت شيء في فضلها ؟

لم يرد فيها شيء بخصوصه.

ما هو مقصد السورة وما هي القرائن التي دلت على ذلك، وما مناسبة الاسم للمقصد؟

واضح أن السورة تتحدث بكليتها حول غزوة بدر ولم تناقش حادثة أو موضوعا آخر، وابتداء نزول السورة كان بعد انتهاء الغزوة وتحديدا عندما اختلف المسلمون في الغنائم التي غنموها بعد أن أتم الله لهم النصر، سميت هذه السورة بالأنفال حيث ورد هذا الاسم في بداية السورة، وهذه هي السورة الوحيدة التي ورد فيها هذا اللفظ، والأنفال باختصار هي الغنائم.

الذي حصل في الغزوة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم انتدبهم للخروج يريدون عير أبي سفيان، وخرجت قريش تريد حماية القافلة، فجنح أبو سفيان نحو البحر ففات المسلمين، وعرف المشركون بذلك فأرادوا أن يقيموا في بدر – وهي عين ماء في طريق المدينة – أياما، مفاخرة ورياء، وبلغ ذلك النبي صلى الله عليه وسلم فاستشار أصحابه فاعترض فريق على ذلك إذ لم يكونوا مستعدين لملاقاة الجيش، وإنما خرج من كان حاضرا بظهره لملاقاة القافلة، ( وإن فريقا من المؤمنين لكارهون يجادلونك في الحق بعدما تبين )، ثم إنهم اجتمعوا على طاعة الله ورسوله، كما جاء في روايات السيرة وكما جاء في صحيح مسلم عَنْ أَنَسٍ، أَنَّ رَسُولَ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ شَاوَرَ حِينَ بَلَغَهُ إِقْبَالُ أَبِي سُفْيَانَ، قَالَ: فَتَكَلَّمَ أَبُو بَكْرٍ، فَأَعْرَضَ عَنْهُ، ثُمَّ تَكَلَّمَ عُمَرُ، فَأَعْرَضَ عَنْهُ، فَقَامَ سَعْدُ بْنُ عُبَادَةَ، فَقَالَ: إِيَّانَا تُرِيدُ يَا رَسُولَ اللهِ؟ وَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ، لَوْ أَمَرْتَنَا أَنْ نُخِيضَهَا الْبَحْرَ لَأَخَضْنَاهَا، وَلَوْ أَمَرْتَنَا أَنْ نَضْرِبَ أَكْبَادَهَا إِلَى بَرْكِ الْغِمَادِ لَفَعَلْنَا،

وكما في الحديث الذي رواه البخاري، حديث ابن مَسْعُودٍ، يَقُولُ: شَهِدْتُ مِنَ المِقْدَادِ بْنِ الأَسْوَدِ مَشْهَدًا، لَأَنْ أَكُونَ صَاحِبَهُ أَحَبُّ إِلَيَّ مِمَّا عُدِلَ بِهِ، أَتَى النَّبِيَّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَهُوَ يَدْعُو عَلَى المُشْرِكِينَ، فَقَالَ: لاَ نَقُولُ كَمَا قَالَ قَوْمُ مُوسَى: اذْهَبْ أَنْتَ وَرَبُّكَ فَقَاتِلاَ، وَلَكِنَّا نُقَاتِلُ عَنْ يَمِينِكَ، وَعَنْ شِمَالِكَ، وَبَيْنَ يَدَيْكَ وَخَلْفَكَ «فَرَأَيْتُ النَّبِيَّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَشْرَقَ وَجْهُهُ وَسَرَّهُ»، فاجتمع المهاجرون والأنصار على طاعة الله ورسوله مدفوعين بالألفة التي كانت بين قلوبهم والتي ألقيت في القلوب بسبب ذلك، فلما اجتمعوا وائتلفت قلوبهم وسمعوا وأطاعوا أنزل الله عليهم نصره المبين.

هذا الاجتماع على الطاعة أعقبه النصر يوم بدر، وبعد أن أقر الله أعينهم بالنصر المبين، جاءت حادثة الغنائم التي “اختلفوا” فيها، فكانت هذه الحادثة هي السبب المباشر لنزول السورة، وابتدأت السورة بالحديث عن هذه الحادثة حادثة ( الاختلاف والتنازع ) في موضوع تقسيم الغنائم، والظاهر أن هذا الأمر تكرر وفشا، حتى قال عبادة بن الصامت حين سئل عن الأنفال كما في سيرة ابن اسحق: فينا معشر أصحاب بدر نزلت حين اختلفنا في النفل يوم بدر فانتزعه الله من أيدينا حين ساءت فيه أخلاقنا فرده على رسوله فقسمه بيننا على بواء يقول على السواء)، وفي صحيح مسلم عن سعد بن أبي وقاص رضي الله عنه أَصَابَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ غَنِيمَةً عَظِيمَةً، فَإِذَا فِيهَا سَيْفٌ فَأَخَذْتُهُ، فَأَتَيْتُ بِهِ الرَّسُولَ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَقُلْتُ: نَفِّلْنِي هَذَا السَّيْفَ، فَأَنَا مَنْ قَدْ عَلِمْتَ حَالَهُ، فَقَالَ: «رُدُّهُ مِنْ حَيْثُ أَخَذْتَهُ» فَانْطَلَقْتُ، حَتَّى إِذَا أَرَدْتُ أَنْ أُلْقِيَهُ فِي الْقَبَضِ لَامَتْنِي نَفْسِي، فَرَجَعْتُ إِلَيْهِ، فَقُلْتُ: أَعْطِنِيهِ، قَالَ فَشَدَّ لِي صَوْتَهُ «رُدُّهُ مِنْ حَيْثُ أَخَذْتَهُ» قَالَ فَأَنْزَلَ اللهُ عَزَّ وَجَلَّ: {يَسْأَلُونَكَ عَنِ الْأَنْفَالِ}.

فابتدأت السورة بالحديث عن الأنفال، فجعلتها لله ورسوله وكأنها تقول للمسلمين:

تذكروا كيف حفظناكم ورعيناكم حين أخذتم بأسباب النصر، وإياكم أن تتخلفوا عنها فتزول عنكم هذه النعم وهذه العناية.

ثم مضت السورة تقص على المسلمين مشاهد قبل الغزوة وأثناءها وبعدها، وتذكرهم بحفظ الله ورعايته لهم، مع إشارات إلى الأسباب التي استوجبت هذه العناية والتأييد الرباني، وقصت عليهم صورا من أحوال المهزومين وتطرقت إلى الأسباب التي أوجبت مثل هذه الهزيمة التي لحقت بقريش وفلذات أكبادها، وناقشت عدة قضايا وأصلت وفصلت في تنوع بديع ومعانٍ متداخلة متناسبة لا يستطيع الإتيان بها إلا رب قادر متعال.

وليس أفتك بجسد الأمة وأجلب للخزي والعار من التنازع، وهو يفعل في الأمة ما لا يفعله فيها عدو شاكي السلاح.

اختبار التمكين..

من سنن الله عز وجل في خلقه أنه قد يبتلي عباده ببعض التمكين ليرى ما يصنعون بعد أن من عليهم بالقوة والظهور، وهذه سنة جارية في الأمم كما قال موسى لقومه (عَسَى رَبُّكُمْ أَنْ يُهْلِكَ عَدُوَّكُمْ وَيَسْتَخْلِفَكُمْ فِي الأَرْضِ فَيَنْظُرَ كَيْفَ تَعْمَلُونَ )، وقد حذر الله عز وجل من النكوص بعد التمكين كما في قوله  (فَهَلْ عَسَيْتُمْ إِن تَوَلَّيْتُمْ أَن تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ وَتُقَطِّعُوا أَرْحَامَكُمْ )، ووصف الذين ينصرون الله حقا بقوله (الَّذِينَ إِن مَّكَّنَّاهُمْ فِي الْأَرْضِ أَقَامُوا الصَّلَاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ وَأَمَرُوا بِالْمَعْرُوفِ وَنَهَوْا عَنِ الْمُنكَرِ  وَلِلَّهِ عَاقِبَةُ الْأُمُورِ )، وأنزل شرط الاستخلاف (وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُمْ فِي الْأَرْضِ كَمَا اسْتَخْلَفَ الَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ وَلَيُمَكِّنَنَّ لَهُمْ دِينَهُمُ الَّذِي ارْتَضَىٰ لَهُمْ وَلَيُبَدِّلَنَّهُم مِّن بَعْدِ خَوْفِهِمْ أَمْنًا ۚ يَعْبُدُونَنِي لَا يُشْرِكُونَ بِي شَيْئًا  وَمَن كَفَرَ بَعْدَ ذَٰلِكَ فَأُولَٰئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ   ).

كل ما سبق من النصوص يدعم فكرة ( اختبار التمكين ) وهو اختبار الله عز وجل لعباده أن يطيعوه ويأتمروا بأمره، ولما لم يكن للمسلمين سابقة في التمكين، أتت الآيات مسرعة تذكرهم بطاعة الله عز وجل بعد أن من عليهم بالنصر، وتذكر المسلمين بأن يبقوا منتبهين مستعدين لإقامة أمر الله حال منه عليهم بالظهور والتمكين، تماما كما حصل مع أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم.

الدرس الأول: وضوح الراية ( بين المجاهد والمرتزق )

لماذا الأنفال بالذات؟

لماذا استخدمت هذه اللفظة بدل لفظة الغنائم مثلا؟

والمتأمل في التعبير القرآني يجد أنه اختار كلمة الأنفال بدلا من الغنائم أو ما شابهها، وكلمة الأنفال في أصلها تدل على الزيادة في العطاء، وفي هذا إرشاد إلى أن ما يأتي مع النصر من غنيمة مادية أو تمكين، إنما هو زيادة عن الهدف الحقيقي للجهاد ألا وهو أن تكون كلمة الله هي العليا، وألا تكون فتنة، بمعنى: ألا يكون هناك طائفة متمكنة من رقاب الناس يضلونهم ويفتنوهم ويصدوهم عن الإسلام الحنيفي، فينبغي للمجاهد إذا خرج أن يكون نصب عينيه أنه إنما خرج لإزالة جميع أسباب الفتنة عن طريق الناس فيدخلوا في دين الله أفواجا بمحض إرادتهم مدفوعين بفطرة التوحيد التي أودعها الله فيهم يوم كانوا في عالم الذر، فإن من الله عليه بنصر أو غنيمة أو تمكين فإنما هو أمر لا ينبغي الالتفات له ولا الركون إليه، بل ينبغي أن تبقى البوصلة مضبوطة نحو تحرير الناس من الطاغوت وإزالة تأثيره عليهم ( حتى لا تكون فتنة ويكون الدين كله لله ).

فكأن اسم السورة يقول للمجاهدين: إياكم والالتفات إلى الدنيا ولعاعها واحرصوا على نياتكم أن تكون نحو إزالة آثار الطغيان ( كيلا تكون فتنة ويكون الدين لله ) وهذا هو الدرس الأول في السورة.

وليس بين الجهاد والارتزاق إلا سلامة النية.

لماذا أخر البيان أربعين آية؟

والمتأمل في سياق السورة يجد أن السؤال جاء في أولها، وألحق السؤال بالأمر بالتقوى وإصلاح ذات البين، أما الجواب عن تقسيم الغنائم فتأخر في السورة حتى الآية الأربعين، والذي يظهر أن تأخير نزول الحكم فيها إلى الآية الأربعين تربية أي تربية، وكأن السياق يقول للسائل أن تفاصيل الجواب ليست هي المهمة، وإنما المهم هو الطاعة والاجتماع وإصلاح ذات البين وتقوى الله عز وجل وامتثال أوامره.

الدرس الثاني: ( الاجتماع على طاعة الله ورسوله )

كانت الأنفال هي السبب المباشر في هذا التنازع، والمتأمل في هذه القضية جيدا و في الساحات التي لم يؤتي فيها الجهاد ثماره المباشرة من النصر والتمكين مع توافر أسباب القوة التي تؤدي إليه، وعلى الرغم من الاقتراب الشديد من هذا التمكين، يدرك أن الأنفال كانت هي الحاضر الأبرز في مشهد التنازع والعصيان في المشهد الجهادي، وأن التنازع والعصيان هو السبب الرئيسي لخسارة المكاسب التي حققها المسلمون، مع اتخاذهم لأكثر أسباب النصر الأخرى.

وليس هذا في القرآن فحسب بل قد أتت السنة بمثل هذا كما في الحديث الذي رواه البخاري حين قَدِمَ أَبُو عُبَيْدَةَ بِمَالٍ مِنَ البَحْرَيْنِ، فَسَمِعَتِ الأَنْصَارُ بِقُدُومِ أَبِي عُبَيْدَةَ، فَوَافَوْا صَلاَةَ الفَجْرِ مَعَ النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَلَمَّا انْصَرَفَ تَعَرَّضُوا لَهُ، فَتَبَسَّمَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حِينَ رَآهُمْ، ثُمَّ قَالَ: «أَظُنُّكُمْ سَمِعْتُمْ أَنَّ أَبَا عُبَيْدَةَ قَدِمَ بِشَيْءٍ» قَالُوا: أَجَلْ يَا رَسُولَ اللَّهِ، قَالَ: «فَأَبْشِرُوا وَأَمِّلُوا مَا يَسُرُّكُمْ، فَوَاللَّهِ مَا الفَقْرَ أَخْشَى عَلَيْكُمْ، وَلَكِنِّي أَخْشَى أَنْ تُبْسَطَ عَلَيْكُمُ الدُّنْيَا كَمَا بُسِطَتْ عَلَى مَنْ كَانَ قَبْلَكُمْ، فَتَنَافَسُوهَا كَمَا تَنَافَسُوهَا، وَتُهْلِكَكُمْ كَمَا أَهْلَكَتْهُمْ»

وقد احتل هذا الدرس أهم الأماكن وأكبر المساحات في السورة، وهو أهمها وأصعبها وأشقها على النفوس، لأن الجهاد يورث عزة وأنفة وحمية في النفوس فلا تقاد بعدها لغيرها إلا أن يكون طاعة لله ورسوله، وألفة يزرعها الله بينها ، ولهذا السبب أولت السورة العناية كلها بهذا السبب وجعلت منه محور الكلام فيها ، ومنه أيضا تظهر العناية الإلهية الربانية للمؤمنين بعد أن يبذلوا كل جهدهم في الأخذ بأسباب القوة.

الدرس الثالث : حل المشكلتين السابقتين.

كيف نضمن سلامة النية والطاعة والاجتماع والألفة؟

وأما علاج هذين المرضين الفتاكين – فساد النية والتنازع – فقد أتت به الآيات مباشرة في الآية الأولى ( وأطيعوا الله ورسوله إن كنتم مؤمنين ) ولا عجب أن يتكرر هذا اللفظ ثلاث مرات في هذه السورة ولم يرد هذا العدد من هذا اللفظ في سورة كما ورد هنا.

ضمان الطاعة يكون بتعزيز العقيدة الدافعة لهذه الطاعة، أي بتعزيز أسباب  ( التقوى ) ( فاتقوا الله )، ويكون أيضا بتعميق الشعور الإيماني، فلا عجب أيضا أن يتكرر لفظ ( المؤمنون – المؤمنين ) عشر مرات في هذه السورة، إذ أن الاجتماع على الطاعة علامة الإيمان وسبب مباشر له.

فضمان الطاعة يكون بتعميق الشعور بالإيمان وتحويله من عقيدة جامدة باردة إلى عقيدة فعالة دافعة وذلك بقراءة القرآن وتدبره ( وإذا تليت عليهم آياته زادتهم إيمانا ).

وهذه عادة القرآن يعرض الظواهر ويحللها ثم يعالج الدوافع السلوكية التي أدت إلى هذه الظواهر فتختفي من تلقاء نفسها، وانظر إلى كثرة الأوامر في هذه السورة ( أطيعوا – استجيبوا – لا تخونوا – واذكروا – واعلموا ) لتلفت نظر المسلم إلى أن النصر الحقيقي إنما يكون في طاعة الله عز وجل وامتثال أوامره.

الدرس الرابع:

عوامل النصر والهزيمة في غزوة بدر:

قال طائفة من أهل العلم أن مقصد السورة هو ( أسباب النصر ) وليس هذا ببعيد بل إن ذكر أسباب النصر – ونقول الهزيمة تكميلا لها – ظاهر في طيات السورة وهذا واضح في عدد من الأوامر والنواهي التي انبثقت من الاجتماع على الطاعة ويكون النصر أقرب بإذن الله، إلا أن الأسباب المذكورة هنا لها علاقة مباشرة بما حصل في بدر وهذا لا ينفي كون هناك أسباب أخرى في مواضع أخرى من كتاب الله، وباستعراض سريع لما جاء في طيات هذه السورة من أسباب النصر والهزيمة نرى:

1-     تقوى الله (فَاتَّقُوا اللَّهَ ) (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ تَتَّقُوا اللَّهَ يَجْعَلْ لَكُمْ فُرْقَانًا )

2-     إصلاح ذات البين (وَأَصْلِحُوا ذَاتَ بَيْنِكُمْ )

3-     طاعة الله ورسوله (وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ ) (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَلَا تَوَلَّوْا عَنْهُ وَأَنْتُمْ تَسْمَعُونَ) (وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ ) والثلاثة هذه دليل الإيمان الذي هو شرط النصر (إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ )

4-     الاستغاثة بالله والالتجاء إليه والانكسار بين يديه (إِذْ تَسْتَغِيثُونَ رَبَّكُمْ فَاسْتَجَابَ لَكُمْ ) كما في حديث عمر بن الخطاب الذي رواه مسلم قال: لَمَّا كَانَ يَوْمُ بَدْرٍ نَظَرَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِلَى الْمُشْرِكِينَ وَهُمْ أَلْفٌ، وَأَصْحَابُهُ ثَلَاثُ مِائَةٍ وَتِسْعَةَ عَشَرَ رَجُلًا، فَاسْتَقْبَلَ نَبِيُّ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الْقِبْلَةَ، ثُمَّ مَدَّ يَدَيْهِ، فَجَعَلَ يَهْتِفُ بِرَبِّهِ: «اللهُمَّ أَنْجِزْ لِي مَا وَعَدْتَنِي، اللهُمَّ آتِ مَا وَعَدْتَنِي، اللهُمَّ إِنْ تُهْلِكْ هَذِهِ الْعِصَابَةَ مِنْ أَهْلِ الْإِسْلَامِ لَا تُعْبَدْ فِي الْأَرْضِ»، فَمَا زَالَ يَهْتِفُ بِرَبِّهِ، مَادًّا يَدَيْهِ مُسْتَقْبِلَ الْقِبْلَةِ، حَتَّى سَقَطَ رِدَاؤُهُ عَنْ مَنْكِبَيْهِ، فَأَتَاهُ أَبُو بَكْرٍ فَأَخَذَ رِدَاءَهُ، فَأَلْقَاهُ عَلَى مَنْكِبَيْهِ، ثُمَّ الْتَزَمَهُ مِنْ وَرَائِهِ، وَقَالَ: يَا نَبِيَّ اللهِ، كَفَاكَ مُنَاشَدَتُكَ رَبَّكَ، فَإِنَّهُ سَيُنْجِزُ لَكَ مَا وَعَدَكَ، فَأَنْزَلَ اللهُ عَزَّ وَجَلَّ: {إِذْ تَسْتَغِيثُونَ رَبَّكُمْ فَاسْتَجَابَ لَكُمْ أَنِّي مُمِدُّكُمْ بِأَلْفٍ مِنَ الْمَلَائِكَةِ مُرْدِفِينَ} [الأنفال: 9] فَأَمَدَّهُ اللهُ بِالْمَلَائِكَةِ، فعلى الرغم من أن الله وعد نبيه بالنصر إلا أنه لم يترك الاستغاثة قط صلى الله عليه وسلم.

5-     الاستجابة لله ( يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اسْتَجِيبُوا لِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ إِذَا دَعَاكُمْ لِمَا يُحْيِيكُمْ )

6-     إخلاص النية لله (وَقَاتِلُوهُمْ حَتَّىٰ لَا تَكُونَ فِتْنَةٌ وَيَكُونَ الدِّينُ كُلُّهُ لِلَّهِ )

7-     الثبات (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا لَقِيتُمْ فِئَةً فَاثْبُتُوا )

8-     كثرة الذكر (وَاذْكُرُوا اللَّهَ كَثِيرًا لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ )

9-     الصبر (وَاصْبِرُوا إِنَّ اللَّهَ مَعَ الصَّابِرِينَ ) كما يظهر هذا الأمر جليا – أقصد أثر الصبر في النصر- في المقابلة بين أعداد المقاتلين المسلمين والكافرين في آية التخفيف، حيث ذكر الله إن يكن منكم عشرون صابرون، فوصفهم بالصبر، ثم مئة صابرة وأيضا وصفهم بالصبر.

10- التوكل على الله والثقة به ( إِذْ يَقُولُ الْمُنَافِقُونَ وَالَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ غَرَّ هَٰؤُلَاءِ دِينُهُمْ وَمَنْ يَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ فَإِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ )

11-استفراغ الجهد في الأخذ بأسباب القوة جميعا، لا قوة السلاح فحسب ولكن جميع أنواع القوة العسكرية والعلمية والإعلامية والمعلوماتية والتقنية والاجتماعية كما أمرت الآيات، وقد غفل عن هذا كثير وظنوا أن الله ينصرهم وإن لم يستفرغوا جهدهم في الأخذ بأسباب القوة، وجاء الأمر بعكس ما حسبوا ( وَأَعِدُّوا لَهُمْ مَا اسْتَطَعْتُمْ مِنْ قُوَّةٍ وَمِنْ رِبَاطِ الْخَيْلِ ) الألفة بين القلوب (وَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِهِمْ )

12- الولاء والبراء (أُولَٰئِكَ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ ) (وَالَّذِينَ كَفَرُوا بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ إِلَّا تَفْعَلُوهُ تَكُنْ فِتْنَةٌ فِي الْأَرْضِ وَفَسَادٌ كَبِيرٌ )

وإذا عكسنا اتجاه سيرنا ذهبنا في اتجاه أسباب الهزيمة التي ذكرتها السورة:

1-     مشاقة الله ورسوله ( ذَٰلِكَ بِأَنَّهُمْ شَاقُّوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ )

ومنها: بل وأهمها التنازع والتفرق حيث ينزع كل طرف بعيدا عن الاجتماع على طاعة الله (وَلَا تَنَازَعُوا فَتَفْشَلُوا وَتَذْهَبَ رِيحُكُمْ )

2-     التولي يوم الزحف وهو كبيرة من الكبائر (زَحْفًا فَلَا تُوَلُّوهُمُ الْأَدْبَارَ )

3-     الخيانة (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَخُونُوا اللَّهَ وَالرَّسُولَ وَتَخُونُوا أَمَانَاتِكُمْ وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ ) (﴾ وَإِنْ يُرِيدُوا خِيَانَتَكَ فَقَدْ خَانُوا اللَّهَ مِنْ قَبْلُ فَأَمْكَنَ مِنْهُمْ )

4-     تغيير ما بالأنفس (ذَٰلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ لَمْ يَكُ مُغَيِّرًا نِعْمَةً أَنْعَمَهَا عَلَىٰ قَوْمٍ حَتَّىٰ يُغَيِّرُوا مَا بِأَنْفُسِهِمْ )

5-     الخروج بطرا ورئاء الناس لا لأجل أن تكون كلمة الله هي العليا. (﴾ وَلَا تَكُونُوا كَالَّذِينَ خَرَجُوا مِنْ دِيَارِهِمْ بَطَرًا وَرِئَاءَ النَّاسِ )

6-     الصد عن سبيل الله (وَيَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ وَاللَّهُ بِمَا يَعْمَلُونَ مُحِيطٌ )

7-     تولي الكافرين أعداء الله ورسوله ((وَالَّذِينَ كَفَرُوا بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ إِلَّا تَفْعَلُوهُ تَكُنْ فِتْنَةٌ فِي الْأَرْضِ وَفَسَادٌ كَبِيرٌ )

الدرس الخامس: مظاهر العناية الربانية في السورة:

وبسبب أن المسلمين أخذوا بهذه الأسباب كلها، وأهمها الاجتماع على طاعة الله ورسوله، فصلت لهم الآية في مظاهر العناية التي يستحقها من يأخذ بهذه الأسباب فكان:

منها: ما كان قبل المعركة بزمن من حمايته صلى الله عليه وسلم إذ يمكر به الكافرون ليقتلوه أو يحبسوه أو يخرجوه، ثم إيواء المؤمنين وتأييدهم بنصره وما رزقهم به في المدينة بعد الهجرة.

ومنها: ما كان قبيل المعركة من وعده لنبيه صلى الله عليه وسلم بإحدى الطائفتين، وإنزال الطمأنينة في قلوبهم، وتغشيتهم النعاس، وإنزال الماء طهرة وربطا على القلوب وتثبيتا للأقدام، وتهيئة الأمور ليلتقي الجمعان على قدر، وتقليل المشركين في منام النبي صلى الله عليه وسلم مما ثبت قلوبهم، وإلقاء الألفة بين قلوب المؤمنين يومها، ولوا أنه ألقاها جل وعلا لما ألف بين قلوبهم شيء.

ومنها: ما كان في المعركة من استجابته لهم وإمداده لهم بالملائكة وإلقاء الرعب في قلوب الكافرين، وقتلهم، ثم نصرهم المبين يوم بدر بعد اجتماعهم وطاعتهم للنبي صلى الله عليه وسلم بالخروج لملاقاة ذات الشوكة.

ومنها: ما كان بعد المعركة، بل وأهمها وأعظمها وأشدها منة، إنزال الوحي يفصل بينهم في الخلافات ويبين لهم الحقوق وينبههم حال الخطأ و يجيبهم عن الأسئلة، في شأن الغنائم وفي شأن الأسرى، ويعيد تشكيل خريطة اهتماماتهم وأفكارهم وتوزيع مراكز الثقل في حساباتهم ( يسألونك .. قل )، ويوثق ما جرى في هذه الفترة المهمة أدق توثيق وأصدقه وأصوبه، ولولا أن الوحي جاء بهذا التوثيق المهم ليكون ذكرى وعبرة للأجيال، لضلت فيه أفهام أقوام واجتهاداتهم.

الدرس السادس: النصر بين التأييد الرباني والأسباب العملية:

المتأمل في هذه السورة أيضا يجد معنيين بارزين فيها، يتنقل السياق في الحديث بينهما:

الأول: أثر التأييد الرباني في النصر، ويظهر هذا جليا في آيات مثل قوله تعالى:

       كَمَا أَخْرَجَكَ رَبُّكَ

        وَإِذْ يَعِدُكُمُ اللَّهُ إِحْدَى الطَّائِفَتَيْنِ أَنَّهَا لَكُمْ

       أَنِّي مَعَكُمْ فَثَبِّتُوا الَّذِينَ آمَنُوا سَأُلْقِي فِي قُلُوبِ الَّذِينَ كَفَرُوا الرُّعْبَ

       فَلَمْ تَقْتُلُوهُمْ وَلَٰكِنَّ اللَّهَ قَتَلَهُمْ وَمَا رَمَيْتَ إِذْ رَمَيْتَ وَلَٰكِنَّ اللَّهَ رَمَىٰ

        ذَٰلِكُمْ وَأَنَّ اللَّهَ مُوهِنُ كَيْدِ الْكَافِرِينَ 

       وَلَنْ تُغْنِيَ عَنْكُمْ فِئَتُكُمْ شَيْئًا وَلَوْ كَثُرَتْ وَأَنَّ اللَّهَ مَعَ الْمُؤْمِنِينَ

       وَيَمْكُرُونَ وَيَمْكُرُ اللَّهُ وَاللَّهُ خَيْرُ الْمَاكِرِينَ

       وَيَجْعَلَ الْخَبِيثَ بَعْضَهُ عَلَىٰ بَعْضٍ فَيَرْكُمَهُ جَمِيعًا فَيَجْعَلَهُ فِي جَهَنَّمَ

        وَإِنْ تَوَلَّوْا فَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ مَوْلَاكُمْ نِعْمَ الْمَوْلَىٰ وَنِعْمَ النَّصِيرُ 

       وَلَٰكِنْ لِيَقْضِيَ اللَّهُ أَمْرًا كَانَ مَفْعُولًا

        إِذْ يُرِيكَهُمُ اللَّهُ فِي مَنَامِكَ قَلِيلًا وَلَوْ أَرَاكَهُمْ كَثِيرًا لَفَشِلْتُمْ وَلَتَنَازَعْتُمْ فِي الْأَمْرِ وَلَٰكِنَّ اللَّهَ سَلَّمَ

        وَإِذْ يُرِيكُمُوهُمْ إِذِ الْتَقَيْتُمْ فِي أَعْيُنِكُمْ قَلِيلًا وَيُقَلِّلُكُمْ فِي أَعْيُنِهِمْ لِيَقْضِيَ اللَّهُ أَمْرًا كَانَ مَفْعُولًا وَإِلَى اللَّهِ تُرْجَعُ الْأُمُورُ 

       وَمَنْ يَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ فَإِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ 

       فَأَهْلَكْنَاهُمْ بِذُنُوبِهِمْ

       وَلَا يَحْسَبَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا سَبَقُوا إِنَّهُمْ لَا يُعْجِزُونَ

       فَإِنَّ حَسْبَكَ اللَّهُ هُوَ الَّذِي أَيَّدَكَ بِنَصْرِهِ وَبِالْمُؤْمِنِينَ 

        يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ حَسْبُكَ اللَّهُ وَمَنِ اتَّبَعَكَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ 

       فَقَدْ خَانُوا اللَّهَ مِنْ قَبْلُ فَأَمْكَنَ مِنْهُمْ

الثاني: ضرورة اتخاذ الأسباب العملية

على الرغم من كل النصوص السابقة التي تؤكد على أن التدخل الإلهي هو مصدر النصر، جاءت نصوص مماثلة لما سبق تماما تؤكد على ضرورة الأخذ بالأسباب وإعداد العدة لاستحقاق هذا النصر وهذه العناية الربانية.

وهنا لنا وقفة خاصة مع إنزال الله عز وجل الملائكة لتقاتل مع المؤمنين، وكان يكفي لجبريل عليه السلام أن يقول بطرف جناحه هكذا فيذهب بالكافرين عن آخرهم، إلا أن الله أراد أن يعلم المؤمنين أنه لا بد من الأخذ بالأسباب الظاهرة واستكمالها استعدادا للنصر.

كما يظهر ذلك جليا في عبارات مثل قوله تعالى:

       فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَصْلِحُوا ذَاتَ بَيْنِكُمْ وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ

       يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا لَقِيتُمْ فِئَةً فَاثْبُتُوا وَاذْكُرُوا اللَّهَ كَثِيرًا لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ

       وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَلَا تَنَازَعُوا فَتَفْشَلُوا وَتَذْهَبَ رِيحُكُمْ وَاصْبِرُوا إِنَّ اللَّهَ مَعَ الصَّابِرِينَ

       وَإِمَّا تَخَافَنَّ مِنْ قَوْمٍ خِيَانَةً فَانْبِذْ إِلَيْهِمْ عَلَىٰ سَوَاءٍ إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ الْخَائِنِينَ

       وَأَعِدُّوا لَهُمْ مَا اسْتَطَعْتُمْ مِنْ قُوَّةٍ وَمِنْ رِبَاطِ الْخَيْلِ تُرْهِبُونَ بِهِ عَدُوَّ اللَّهِ وَعَدُوَّكُمْ

       يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ حَرِّضِ الْمُؤْمِنِينَ عَلَى الْقِتَالِ

وقد اجتمع قسما التأييد – الذي يكون بواسطة أسباب غير معلومة معتادة ومنها بأسباب معلومة معتادة – في قوله ( أيدك بنصره وبالمؤمنين ) فأيدك بنصره الأولى والمؤمنين الثانية.

الدرس السابع: أصول الولاء والبراء

وجاء المقطع الأخير في هذه السورة يرسم للمسلم حدود الولاء والبراء عنده، وقسم الناس ثلاثة أقسام:

1- المهاجرون والأنصار ولهم الولاية المطلقة

2- المؤمنون ممن لم يهاجر فأولئك لهم النصرة إلا على قوم بينهم وبين المؤمنين ميثاق

3- الكافرون وليس لهم إلا العداء والبراء منهم، وهذا في شأن المحاربين كما فصلت آيات أخرى.

مقصد السورة؟

المتأمل في هذه السورة يرى أنها السورة الوحيدة التي انفردت في الحديث عن غزوة، بينما نرى أن الغزوات الأخرى نزلت في سور عالجت مواضيع أخرى، فمثلا اشترك الحديث عن العقيدة مع الحديث عن غزوة أحد في سورة آل عمران مناصفة تقريبا، وكذلك الحديث عن أزواج النبي صلى الله عليه وسلم مع الحديث عن غزوة الأحزاب في سورة الأحزاب، وقس على ذلك، إلا أن سورة الأنفال كانت خالصة لذكر الحديث عن غزوة بدر.

من ناحية أخرى نرى أن هذه السورة نزلت في أول لقاء جهادي بين المسلمين وأعدائهم، وبدر كانت هي الحلقة الأولى في مشوار جهادي سيمتد لسنوات، ولأن القرآن إنما نزل ليبين للناس ويهديهم ويرشدهم ويعيد تشكيل منظومة الأفكار والقيم لديهم، يمكن القول أن هذه السورة – إذا أخذنا الفكرتين السابقتين بعين الاعتبار – جاءت لتشكيل منظومة الأفكار والقيم لدى المجاهدين في أول الطريق حتى يستمروا في المسير فيه في ضوء هذه السورة وفي ظلالها، فهي إذا تشكل ( العقيدة القتالية للمجاهدين )، ترسم لهم الطريق، وتلقي الضوء على المخاطر التي سيلاقونها فيه، وتعدهم بالتأييد والرعاية الربانية إن أخذوا بأسبابها، فيكون التمكين ولا بد حليفهم كما كان في بدر، مهما كان ضعفهم، وهكذا فإن هذه السورة جاءت لتقرر ( العقيدة القتالية للمجاهدين في سورة الأنفال ).

وليس هذا ببعيد عن اختيار أكثر أهل العلم لأسباب النصر كمقصد لهذه السورة، ولكنها رؤى تتكامل ولا تتنافى، وحتى اختيار البقاعي لمقصدها (تبرؤ العباد من الحول والقوة وحثهم على التسليم لأمر الله, واعتقاد أن الأمور ليست إلا بيده, وأن الإنسان ليس له فعل. ) إنما هو معلم من معالم السورة، وكلما كان المقصد أجمع لمعالم المعاني في السورة كلما كان أدق وأصوب، وليس هذا جزما لهذا المقصد للسورة ولكنه اجتهاد رأيناه أقرب.

فمن اللافت للنظر في هذه السورة نزولها لمعالجة اختلاف بين الناس وتوضيح أمور وتأصيل مفاهيم، فليس القرآن كلمات تتلى للبركة في رمضان وعلى أرواح الموتى ولكنه منهاج حياة ودستور ينظم للناس شؤونهم ويفصل بينهم ويبين لهم، (وَأَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الذِّكْرَ لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ إِلَيْهِمْ ) (وَمَا أَنْزَلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ إِلَّا لِتُبَيِّنَ لَهُمُ الَّذِي اخْتَلَفُوا فِيهِ وَهُدًى وَرَحْمَةً لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ ) (وَأَنِ احْكُمْ بَيْنَهُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ ) (اللَّهُ الَّذِي أَنْزَلَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ وَالْمِيزَانَ ) (لَقَدْ أَرْسَلْنَا رُسُلَنَا بِالْبَيِّنَاتِ وَأَنْزَلْنَا مَعَهُمُ الْكِتَابَ وَالْمِيزَانَ لِيَقُومَ النَّاسُ بِالْقِسْطِ ) فيوم اتخذه المسلمون هدى ورحمة وميزانا يقومون به بالقسط وحكما يحكم بينهم سادوا، ويوم أن قرؤوه للبركة في رمضان وفي المآتم صاروا في آخر الأمم.

وتأمل يا رعاك الله لو أن أهل الجهاد قادة ومقودين وضعوا هذه السورة جل أعينهم، وجعلوها ديدنهم، يتلونها آناء الليل والنهار، ويتدارسونها بينهم، ويحيون بها ليلهم، ويحيون ما فيها من الأوامر ويجتنبون ما فيها من النواهي، لتخلصوا من كثير من الأمراض التي تعكر صفو هذه الشعيرة العظيمة من شعائر الدين، ولو قلبت النظر في أحوال الجهاد والمجاهدين لرأيت أن التمكين لم يكن حليفهم إلا حيث أشرقت عليهم شمسها.

 

Map Shot 7

 

Map Shot 8

 

 

 

Map Shot 9

جميع الحقوق متاحة للمسلمين دون اشتراط ذكر المصدر © 2023 7a9ad.com. All Rights Reserved