الكلام على الثلاثية الأولى: ثلاثية النصرة
1- ما وجه تقديم الضّحى على السجوّ في القسم؟
ذكروا فيها أمرين:
الأوّل: أنّ النّبيّ _صلّى الله عليه وسلّم_ لم يسبق منه كفر ولا عبادة أصنام.
الثّاني: أنّ هذا التّرتيب ناسب ترتيب النّزول والانقطاع بالنسبة للوحي، فالوحي كان مستمرّاً ثم سكن، فناسب ذلك الإقسام بوقت الحركة ثمّ السّكون.
2- ما وجه تقديم التّوديع على القلى ؟
قدّم التّوديع لأنّه أقلّ من القلى، فالتّوديع هو المفارقة ولا يستلزم كرهاً، بعكس القلى الذي يتضمن مفارقة مع كره وبغض، فنفي الأدنى يستلزم من باب أولى نفي الأعلى.
3- ما وجه ذكر وقت الضّحى مع وقت السّجو؟
الرّابط بينهما هو البركة، فالضّحى أكثر أوقات النّهار بركة، وكذلك آخر الليل وقت سكونه وسجوّه ، وكذلك فإنّ الضّحى هو أكثر أوقات النّهار حركة وسعياً، ووقت سجوّ الّليل هو أكثر أوقاته هدوءاً وسكينة.
4- لماذا ذكر الّليل ثمّ خصّ وقتاً معيناً هو السجوّ؟
ذكْرُ شيءٍ معينٍ ثمّ تخصيص شيء منه، القصد منه هو تعميم الحكم على كامل الشّيء مع الترّكيز على جزء خاص منه، وهذه هي الطّريقة التي عبّر بها القرآن، حيث ذكر الّليل كلّه ثمّ خصّ جزءاً منه بالذّكر لزيادة المعنى في هذا الجزء المراد.
5- ما وجه استخدام (ما) في النفي؟
النّفي بما أقوى وأكثر سعة وامتداداّ لما في هذا الحرف من مد بالألف.
6- ما وجه حذف كاف المخاطبة مع القلى في حين ذكرت مع التّوديع؟
التّوديع لا يستلزم كرهاّ بل يدلّ على مجرّد المفارقة، وقد يكون بين متحابّين كما قال الشّاعر:
ودّعْ هريرة إنّ الرّكب مرتحل وهل تطيق وداعاً أيّها الرّجل
فترك ذكر أداة الخطاب مع القلى زيادة في التّكريم، حيث لم يربط الخطاب بلفظ سيّء ينبئ عن الكراهية وهذا غاية التّكريم للنّبيّ _صلّى الله عليه وسلّم_.
وهذا من الأمور الّتي يجب الانتباه لمثلها، فلا نربط بين ألفاظ سيّئة وبين ضمير المخاطب الكاف فلا يقال: أنا لم أشتمك مثلاً وإنمّا يقال: أنا لم أشتم، وهذا أفضل في الصّيانة والتّكريم.
ليس هذا فحسب بل ترك الله ذكرَ كلمة الرّب مع القلى وذكرها مع التّوديع، زيادة في التّكريم ونفي البعد وإشارة لطيفة إلى محبته جلّ وعلا لنبيّه _صلّى الله عليه وسلّم_.
والخلاصة أنّه ذكر اسم الرّب مضافاً لضمير الخطاب، وذكر الضّمير مضافاً للفعل في موضع المحبة والتّكريم، وأعرض عنهما في موضع الكراهية والبغض.
7- ما وجه استخدام (ربّك) بدلاً من لفظ الجلالة؟
لفظ الرّبّ هنا أنسب للمعنى، حيث إنّه يدلّ على معانٍ ثلاثة وهي: السّيّد والمصلح والمربّي، وكلّها تناسب موضوع السّورة وما جاء فيها من يُتمٍ وضلال ٍوعَيْلةٍ، وكثيراً ما ارتبطت هذه المعاني في القرآن بكلمة الرّبّ: ” ربُّنا الذي أعطى كل شيء خلقه ثمّ هدى ” ” الحمد لله ربّ العالمين” ” يهديهم ربهّم بإيمانهم ” وغيره كثير.
بخلاف لفظ الجلالة الّذي يدلّ على الألوهيّة والعبادة.
8- هل المقصود بالآخرة ما تبقّى من عمُر النّبيّ صلّى الله عليه وسلّم، أم المقصود يوم الجزاء؟
في الحقيقة إنّ الإتيان بهذه العبارات مختصرة بهذا الشّكل يفتح لها مجالاً واسعاً من المعاني المحتملة، وهذا من أبواب الإعجاز في القرآن وعليه فلا مانع أن يدلّ الّلفظ على كلا الأمرين،
وهنا تظهر بشكل واضح قضيّة الدّلالة على معان كثيرة بألفاظ وجيزة.
9- ما وجه التّعقيب بذكر كون الآخرة خير من الأولى ؟
في الآية الأولى ذكر الرّدّ على دعاوى المشركين، أمّا هذه الآية ففيها دليل زيادة التّكريم، وسواء كانت الآخرة هي ما يستقبل من عمره أو هي الآخرة بعد الموت، فإنّ هذا لا ينسف دعوى الإبعاد فحسب بل يزيد من تكريم النّبيّ _صلّى الله عليه وسلّم_.
فنفي التّوديع يخشى معه أن يبقى في نفسه شيء، فأتبعها بهذه الآية تبشيراّ له بالزّيادة، وهو كون المستقبل أعظم من الماضي.
وهذه المسألة جاءت مع بعض الأنبياء قبل النّبيّ _صلّى الله عليه وسلّم_ في إشارة إلى أنهّم سيبلُغون ما أراد الله أن يبلغوا من التّمكين. فمثلاً قيل في حقّ عيسى عليه السّلام ” ويكلّم النّاس في المهد وكهلاً ومن الصّالحين ” وما من عجب هنا من ذكر كلامه كهلاً لكنّه يدلّ على كونه سيحيا وتمتدّ به الحياة ليكون كهلاً عليه الصّلاة والسّلام.
وكذلك جاء مثلها في حقّ موسى في قوله تعالى: “وجاعلوه من المرسلين” فأتاها بزيادة عن “إناّ رادّوه إليك” لتطمئنّ نفسها، ومن المعلوم وجود فرق زمنيّ بين ردّه إلى أمّه وكونه من المرسلين وهذا من عجائب الأمور.
كلّ هذا ليُعلم أنّ الأمر لله من قبل ومن بعد.
وفي الآية إشارة إلى كون المستقبل لهذا الدّين.
10- ما وجه اختلاف الصّياغة في هذه الآية عن الآية في سورة الطّلاق ؟
نلاحظ أوّلاً أنّ الجملة جاءت اسميّة، وفي هذا إشارة إلى استمرار ودوام وثبوت هذه المسألة من كون الآخرة خير له من الأولى.
نلاحظ أنّ الآية جاءت عامّة ومؤكّدة بلام القسم، وهي مؤكّدة أيضاً بصورة من صور التّأكيد العامّة وهو التّفضيل (خير) ثمّ بلام الاختصاص مع ضمير المخاطبة وفي هذا تأكيد زائد على المعنى المطروح في الآية الأخرى.
11- ما وجه ذكرى (الأولى) بدلا من الدّنيا؟
لفظ الدّنيا مشعر بالدّنوّ والانخفاض، فتركه الله تعالى كونه لا يتناسب مع البشارة والعطاء وذكر الأوليّة.
كما أنّ ذكر المقابلة بهذا يوسّع في المعنى ليشمل الدّنيا بشكل عام والجزء الماضي من حياته _صلّى الله عليه وسلّم_ فيحمل الّلفظ عندها معاني أوسع، ولو قال الدّنيا لما احتمل لفظ الآخرة سوى معنىً واحداً وهو القيامة.
12- ما وجه ذكر (سوف) في قوله تعالى “ولسوف يعطيك ربّك فترضى” واللام قبلها؟
ذكر (سوف) يشعر بأنّ العطاء سيستمرّ مدىً طويلاً، بخلاف (السّين) الّتي تدلّ على قصر المدّة، وجاء باللام لتدلّ على التّوكيد.
13- ما وجه الإتيان بالفعل هنا بصيغة المضارع؟
جاء بصيغة المضارع هنا للتّدليل على أنّ عطاء الله ليس عطاءً منقطعاً، ولكنّه عطاء متجدّد،كما تدلّ عليه صيغة المضارعة.
14- ما وجه ذكر كلمة الّربّ هنا؟
جاء بذكر الرّبّ، لأنّ الرّبّ كلمة تدلّ على الإحاطة والحماية والدّفاع، ومنه سمّي ربّ الأسرة ربّاً، لأنّه يقوم على شؤونها رعاية وحماية، فالمواطن التي يذكر فيها الرّبّ غالباً مواطن تقتضيها معاني هذه اللفظة التي تحوي ثلاثة معاني ( الرّبّ والسّيّد والمصلح) أمّا كلمة الله كما قال(أبو السّعود) في تفسيره، فتذكر في مواطن الجلالة ( وذكر لفظ الجلالة في هذا الموطن لتربية المهابة في النّفوس).
15- ما وجه استخدام الفعل (يعطيك) دون سواه؟
الفعل (أعطى) يستخدم في الأشياء الخاصّة به _صلّى الله عليه وسلّم_ بعكس فعل (آتى) لذلك قال المولى جل وعلا ” آتيناك سبعاً ” وهذا له وللأمّة من بعده وقال ” أعطيناك الكوثر” وهذا خاصّ به _صلّى الله عليه وسلّم_.
16- ما وجه كثرة ذكر ضمير المخاطبة الكاف؟
استعمال صيغة المخاطبة في مواطن النّعم والخير يدلّ على زيادة التّكريم، وقد قال (الزركشي) أنه بالتّتبّع وفي الغالب يكون ذكر المؤمنين بصيغة الخطاب المباشر ويكون خطاب الكفّار بضمير الغيبة وكأنّهم غير موجودين وغير ذوي قيمة.
17- ما وجه تكرار كلمة (ربّك) هنا مرّة أخرى؟
ذكرت الكلمة هنا مرّة أخرى للإشارة إلى حجم العطاء الذي سيكون، فالمعطي هو الله ولك أن تتخيّل عطاء الرّبّ، فكلّما كان المعطي أغنى وأقدر كلّما كان العطاء أكبر وأكثر، وكانت ثقتك به أعظم.
18- لمَ لم يذكر نوعاً معيّناً من العطاء؟
حذف مثل هذا أيضا ليشمل العطاء جميع أنواع العطايا، وهذا من شمول اللفظ القرآنيّ للمعاني الكثيرة بألفاظ وجيزة، كما ذكر متعلّق العطاء وهو الرّضا بشكل عامّ أيضاً ليكون أوسع وأشمل.
19- ما وجه ذكر الرّضى بعد العطاء؟
ذكر الرّضى دون غيره هنا في غاية الأهمّيّة وله دلالتان:
الأولى: أنّ الرّضى حالة تحصل عند الاقتناع تماماً بالعطاء، والغالب أنّ الإنسان في الدّنيا لا يرضى مهما أعطي، فمهما أعطي يرغب بالمزيد لذلك ذكر الرّضى بعد العطاء إشارة إلى عظم هذا العطاء حتّى تكتفي منه النّفس تماماً.
الثّانية: أنّ الرضى نعمة مستقلّة بنفسها، فكم من غنيّ يملك ما لو بقي ينفق منه حياته كله لما نفد، لكنّه لا يشعر بالرّضا، فذكرها الله هنا في إشارة لطيفة إلى أنّ نعمة الرّضى الّتي ستكون من ضمن العطايا الّتي سيعطيها الله للنّبيّ _صلّى الله عليه وسلّم_ وهي أساس كلّ عطاء.
20- ما وجه استخدام لفظ يعطيك بدلا من يؤتيك؟
هناك ثلاث فروق بين العطاء والإيتاء:
الأوّل: أنّ العطاء خاصّ بالأمور الماديّة، وهذا مناسب كما سبق لموضوع العيلة، وأمّا الإيتاء فيكون للأمور الماديّة والمعنويّة مثل الملْك والحكمة.
الثّاني: أنّ الإيتاء قد يتلوه نزع وأمّا العطاء فلا.
الثّالث: أنّ الإيتاء لايستوجب أن يتصرّف الشّخص بما أوتي، أمّا العطاء فلصاحبه التّصرّف كما يشاء بما أعطي،كما قال الله لسليمان _عليه السّلام_ “هذا عطاؤنا فامنن أو أمسك بغير حساب”.
21- ما وجه حذف المفعول في الأفعال (آوى) و(أغنى) و(هدى) ؟
الحذف هنا جاء للإطلاق والدّلالة على سعة الكرم، فذكر كلمة ( آوى ) دون ضمير تدلّ على أنّه آواك وآوى بك وآوى لك، وكذلك أغناك وأغنى بك وأغنى لك، وكذلك هداك وهدى لك وهدى بك. فلو أنّه قال أغناك لكان الغنى محصوراً بالنّبيّ _صلّى الله عليه وسلّم_ فقط، لكن عندما عمّم أفاد الإطلاق ودلّ على أنّه سبحانه أغنى رسوله وأغنى به وبتعليماته، فيما خصّ الإنفاق خلقاّ كثيراّ وأغنى له خلقاً كثيراً، وكذلك آواه وآوى به خلقاً كثيراً بسنّته في اليتامى والمحتاجين، وآوى لأجله الكثير من النّاس، لأنّ من النّاس من يؤوي اليتامى حبّاً بالنّبيّ _صلّى الله عليه وسلّم_ وطمعاً بصحبته وهكذا.
ومن الخطأ قول من قال أنّ الحذف جاء لمراعاة فواصل الآيات، ومراعاة الفواصل لا يكون على حساب المعنى أبداً.
جميع الحقوق متاحة للمسلمين دون اشتراط ذكر المصدر © 2023 7a9ad.com. All Rights Reserved