الدعوة لا الداعية

( الدعوة لا الداعية )

أَفَنَجْعَلُ الْمُسْلِمِينَ كَالْمُجْرِمِينَ ﴿۳٥﴾ مَا لَكُمْ كَيْفَ تَحْكُمُونَ ﴿۳٦﴾ أَمْ لَكُمْ كِتَابٌ فِيهِ تَدْرُسُونَ ﴿۳٧﴾ إِنَّ لَكُمْ فِيهِ لَمَا تَخَيَّرُونَ ﴿۳۸﴾ أَمْ لَكُمْ أَيْمَانٌ عَلَيْنَا بَالِغَةٌ إِلَىٰ يَوْمِ الْقِيَامَةِ ۙ إِنَّ لَكُمْ لَمَا تَحْكُمُونَ ﴿۳۹﴾ سَلْهُمْ أَيُّهُمْ بِذَٰلِكَ زَعِيمٌ ﴿٤۰﴾ أَمْ لَهُمْ شُرَكَاءُ فَلْيَأْتُوا بِشُرَكَائِهِمْ إِنْ كَانُوا صَادِقِينَ ﴿٤۱﴾ يَوْمَ يُكْشَفُ عَنْ سَاقٍ وَيُدْعَوْنَ إِلَى السُّجُودِ فَلَا يَسْتَطِيعُونَ ﴿٤۲﴾ خَاشِعَةً أَبْصَارُهُمْ تَرْهَقُهُمْ ذِلَّةٌ ۖ وَقَدْ كَانُوا يُدْعَوْنَ إِلَى السُّجُودِ وَهُمْ سَالِمُونَ ﴿٤۳﴾ فَذَرْنِي وَمَنْ يُكَذِّبُ بِهَٰذَا الْحَدِيثِ ۖ سَنَسْتَدْرِجُهُمْ مِنْ حَيْثُ لَا يَعْلَمُونَ ﴿٤٤﴾ وَأُمْلِي لَهُمْ ۚ إِنَّ كَيْدِي مَتِينٌ ﴿٤٥﴾ أَمْ تَسْأَلُهُمْ أَجْرًا فَهُمْ مِنْ مَغْرَمٍ مُثْقَلُونَ ﴿٤٦﴾ أَمْ عِنْدَهُمُ الْغَيْبُ فَهُمْ يَكْتُبُونَ ﴿٤٧﴾

ما هو الموضوع الذي يدور حوله هذا المقطع؟ وما مناسبته لما قبله؟ وما مناسبته لمقصد السورة؟

ورد في أول السورة وصف المكذبين للنبي صلى الله عليه وسلم بالجنون، فجاء هذا المقطع مترعا بالمحاكمات المنطقة والأدلة العقلية التي لا يستطيعها كثير من العقلاء بله المجانين، وجاء الاستفهام الإنكاري هنا مشعرا أن القوم قد كذبوا بما سبق من إلزام المكذبين بالعذاب والمتقين بجنات النعيم، فجاء الاستفهام هنا منكرا عليهم ظنهم هذا، فكأن هذا المقطع يصيح بهم: أن إذا أردتم التكذيب فأتوا بما ينقض هذه الدعوة ويعارض أدلتها، واتركوا عنكم استهداف الأشخاص.

والذي دعاهم إلى هذا الظن: هو النعمة التي كانوا متلبسين بها في مقابل الضعف والفقر الذي كان عليه المسلمون، فظنوا أن الله سيؤتيهم في الآخرة مثل ما آتاهم في الدنيا من النعيم، فنفى الله هذا الظن وأنكره عليهم ووبخهم به، وبين لهم أن الموازين في الدنيا مختلفة عن الموازين في الآخرة، وأن النعيم في الآخرة لن يكن لأصحاب النعيم في الدنيا، وإنما للمسلمين الذين امتثلوا أمر الله ونهيه.

ما مناسبة الابتداء بالاستفهام الإنكاري؟

الابتداء في الاستفهام الإنكاري جاء لعرض فكرة لا يكاد يختلف عليها عاقلان، وهي عدم التسوية بين من أحسن ومن أساء، وفي هذا حث عليهم على التفكير والمحاكمة والنظر في ما هم عليه من الكفر، فأثار مكامن أفكارهم بهذا التساؤل دون أن يقرر عليهم شيئا لعلهم يحركون عقولهم.

ما مناسبة ذكر الإضرابات الثلاثة بعده؟

في الإضرابات الثلاثة التالية يقرر عليهم أنهم محتاجون إلى دليل على ما هم عليه من الكفر:

إما بكتاب منزل يوحى إليهم، فحينها يكون لهم فيه ما يشتهون من النعيم الأخروي.

أو بالتزام وتعهد من الرب جل وعلا لهم بأن تكون لهم العاقبة، فيكون لهم ما يحكمون به لأنفسهم من النعيم في الآخرة.

أو بشركاء يضمنون لهم هذا الجزاء إذ لا أقل من التقليد وهذا أيضا يعجزون عن مثله.

فإن عدموا كل هذا لم يبق إلا الكبر سببا للتكذيب.

ما مناسبة قوله تعالى بعدها: يوم يكشف عن ساق؟

كأن هذه الآية متصلة بقوله تعالى في بداية السورة: فستبصر ويبصرون بأيكم المفتون، ولو وصلتها بقوله تعالى يوم يكشف عن ساق، لصار المعنى مستقيما، فكأنها تجيب عن التساؤل الذي ينقدح في ذهن القارئ عن اليوم الذي يبصرون فيه من هو الضال بسبب النعمة التي أنعم الله بها عليهم في الدنيا.

فلما ذكر الله عز وجل لهم ما يمكن أن يحتجوا به على كفرهم من وحي منزل أو ميثاق مسجل أو كفيل ضامن، انتقلت الآيات بهم انتقالا عجيبا مصورة لهم ما سيكون عليه حالهم يوم القيامة، وهذا فيه تعريض بأنهم لم يأتوا ولا بواحدة من هذه الدلائل المذكورة في المحاجة العقلية التي سبق الكلام عنها.

فلما لم يكن لهم دليل هددهم بمآلهم يوم القيامة مصورا حالهم في الدرك الأسفل من الذل، ردا على استكبارهم في الحياة الدنيا على الخالق وعلى الخلق، فصور حالهم عاجزين عن السجود كما روى البخاري عَنْ ‌أَبِي سَعِيدٍ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ قَالَ: سَمِعْتُ النَّبِيَّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ: «يَكْشِفُ رَبُّنَا عَنْ سَاقِهِ، فَيَسْجُدُ لَهُ كُلُّ مُؤْمِنٍ وَمُؤْمِنَةٍ، وَيَبْقَى مَنْ كَانَ يَسْجُدُ فِي الدُّنْيَا رِئَاءً وَسُمْعَةً، فَيَذْهَبُ لِيَسْجُدَ، فَيَعُودُ ظَهْرُهُ طَبَقًا وَاحِدًا» ورواه مسلم بلفظ أطول من هذا.

وأتبع هذه الصورة بوصف حالهم: خاشعة أبصارهم: أي نظرة الخاشع مطئطأ رأسه، والذلة تحل بهم.

وجملة وقد كانوا .. الآية، معترضة بين ما قبلها وما تفرع عنها بعدها، لتنتقل الآيات إلى المقطع التالي.

ما مناسبة توسط التهديد للمحاكمات العقلية المذكورة؟ وما هي المعاني التي ينتهي إليها؟

بعد أن عرض القرآن عليهم مجموعة من الحجج العقلية التي تبرر لصاحب الفعلة فعلته، انتقل إلى تهديدهم بأشد التهديد وفي ذلك إشارة إلى أنهم لن يأتوا ولا بدليل من الأدلة التي طالبهم بها القرآن في السياق السابق وفي السياق اللاحق أيضا، فلما لم يأتوا بشيء منها استحقوا هذا التهديد.

وفعل ذرني فيه تعهد من قائله بأن يكفي المخاطب مؤونة شيء دون طلب عون منه، فكأن المتكلم قد رأى المخاطب شرع في الانتصار لنفسه ورأى أنه لا يبلغ هذا المبلغ فيطلب منه أن يتفرغ لعلاج أمره، والمراد: دعني وإياه فسترى ما أصنع.

ما مناسبة قوله تعالى:سنستدرجهم .. الآيتين؟

الاستدراج استنزال الشيء من درجة إلى أخرى في مثل السلم، وهذه الجملة بيان لمضمون التهديد السابق فإن الاستدراج يعقبه الانتقام، والمعنى: سنأخذهم بأعمالهم فلا تستبطئ الانتقام فإنه محقق وقوعه ولكن يؤخر لحكمة تقتضي تأخيره.

واستدراجهم من حيث لا يعلمون: أي من أحوال وأسباب لا يتفطنون إلى أنها مفضية بهم إلى الهلاك – كأن ينعم عليهم بالمال والبنين – أجلب لقوة حسرتهم عند حلول العقاب بهم.

ما مناسبة ذكر الأجر والغيب هنا بعد التهديد؟

هذا فيه عودة بعد التهديد إلى سياق الحديث قبله عن المحاكمات العقلية وبحث الأسباب والدوافع وراء التكذيب ونفيها وإبطالها، وكأن التهديد جاء بين طيات المحاكمات العقلية ليعظهم ويحرك قلوبهم بعد أن حرك عقولهم، ولا يجتمع هذا وهذا إلا في القرآن فقد جمع بين العلم والتزكية في غير موضع.

 

 

 

Map Shot 1

 

Map Shot 2

 

Map Shot 3

 

Map Shot 4

 

Map Shot 5

جميع الحقوق متاحة للمسلمين دون اشتراط ذكر المصدر © 2023 7a9ad.com. All Rights Reserved