المسؤولية الفردية

(​​ المسؤولية الفردية​​ )

(ضرب الأمثال)

 

ضَرَبَ​​ ٱللَّهُ​​ مَثَلا​​ لِّلَّذِينَ​​ كَفَرُواْ​​ ٱمۡرَأَتَ​​ نُوح​​ وَٱمۡرَأَتَ​​ لُوطۖ​​ كَانَتَا​​ تَحۡتَ​​ عَبۡدَيۡنِ​​ مِنۡ​​ عِبَادِنَا​​ صَٰلِحَيۡنِ​​ فَخَانَتَاهُمَا​​ فَلَمۡ​​ يُغۡنِيَا​​ عَنۡهُمَا​​ مِنَ​​ ٱللَّهِ​​ شَيۡـٔا​​ وَقِيلَ​​ ٱدۡخُلَا​​ ٱلنَّارَ​​ مَعَ​​ ٱلدَّٰخِلِينَ​​ ﴿١٠﴾ وَضَرَبَ​​ ٱللَّهُ​​ مَثَلٗا​​ لِّلَّذِينَ​​ ءَامَنُواْ​​ ٱمۡرَأَتَ​​ فِرۡعَوۡنَ إِذۡ قَالَتۡ رَبِّ​​ ٱبۡنِ​​ لِي عِندَكَ بَيۡتا​​ فِي​​ ٱلۡجَنَّةِ​​ وَنَجِّنِي مِن فِرۡعَوۡنَ وَعَمَلِهِۦ​​ وَنَجِّنِي مِنَ​​ ٱلۡقَوۡمِ​​ ٱلظَّٰلِمِينَ​​ ﴿١١﴾ وَمَرۡيَمَ​​ ٱبۡنَتَ​​ عِمۡرَٰنَ​​ ٱلَّتِيٓ​​ أَحۡصَنَتۡ فَرۡجَهَا فَنَفَخۡنَا فِيهِ مِن​​ رُّوحِنَا​​ وَصَدَّقَتۡ بِكَلِمَٰتِ رَبِّهَا وَكُتُبِهِۦ​​ وَكَانَتۡ مِنَ​​ ٱلۡقَٰنِتِينَ​​ ﴿١٢﴾

ما هو موضوع هذا المقطع، وما مناسبته لما قبله، وما مناسبته لمقصد السورة؟​​ 

وكأن هذا المقطع بأمثاله شرح لقوله جل وعلا آنفا (إنما تجزون ما كنتم تعملون) في سياق خطاب الكافرين يوم القيامة ونهيهم عن الاعتذار.

ونقول في هذا المثل ما قلنا في قوله جل وعلا (عسى ربه إن طلقكن) فالكلام وإن كان موجها لأزواج النبي صلى الله عليه وسلم مباشرة إلا أنه خطاب عام لجميع المسلمات، فليبق هذا الأمر حاضرا في أذهان النساء وهن يقرأن السورة، ولا يقرأنها بانفصال وكأن الأمر لا يعنيهن وكأن الخطاب لغيرهن.

ويمكن القول أن هذا المقطع في إثبات (المسؤولية الفردية) للنساء، فلا ينفع المرأة أن تخرج عن حدود الطاعة وإن كان زوجها أو قومها من القانتين، ولا يجرمن المرأة فساد زوجها على أن تفسد فإن المسؤولية مسؤولية فردية.

وهذه هي الفكرة المرادة بالأمثال المذكورة، وكأنها مزيد بيان لقوله جل وعلا (إنما تجزون ما كنتم تعملون) فهذا المقطع ينطق قائلا للنساء:​​ 

 

عليكن أنفسكن، والزمن حدود الله، فلن ينفعكن صلاح أزواجكن، ولن يضركن فسادهم، وانظرن حال من قبلكن من النساء تعرفن الأمر الذي أقوله.

 

وهذا ما يربي المراقبة الذاتية والانشغال بالنفس بدل اصطناع المشاكل والمناكفات.

وتأمل كيف جاء في هذه السورة بأمثله لها علاقة برابطة النكاح، وليس برابطة الأبوة أو القومية كما جاء في سورة الأنعام وفي سورة الممتحنة في قصة ابراهيم مثلا، أو رابطة البنوة كما جاء في سورة هود في قصة نوح عليه السلام، وإنما جاء​​ برابطة النكاح لتنبيه الزوجات خاصة دون سواهم.

والأمثلة الثلاثة لثلاثة أصناف من النساء:​​ المَرْأةَ الكافِرَةَ الَّتِي لَها وصْلَةٌ بِالرَّجُلِ الصّالِحِ والمَرْأةَ الصّالِحَةَ الَّتِي لَها وصْلَةٌ بِالرَّجُلِ الكافِرِ، والمَرْأةَ العَزَبَ الَّتِي لا وصْلَةَ بَيْنَها وبَيْنَ أحَدٍ: فالأوْلى لا تَنْفَعُها وصْلَتُها وسَبَبُها، والثّانِيَةُ لا تَضُرُّها وصْلَتُها وسَبَبُها، والثّالِثَةُ لا يَضُرُّها عَدَمُ الوَصْلَةِ شَيْئًا.

ويا لرحمة القرآن حين ذكر الصنف الثالث فلم ينس من لم تنل حظها من الزواج، وجبر خاطرها وجعل لها أسوة حسنة بمريم عليها السلام.

قالَ يَحْيى بْنُ سَلامٍ: ضَرَبَ اللَّهُ المَثَلَ الأوَّلَ يُحَذِّرُ عائِشَةَ وحَفْصَةَ، ثُمَّ ضَرَبَ لَهُما المَثَلَ الثّانِيَ يُحَرِّضُهُما عَلى التَّمَسُّكِ بِالطّاعَةِ. وفي ضَرْبِ المَثَلِ لِلْمُؤْمِنِينَ بِمَرْيَمَ اعْتِبارٌ آخَرُ: وهو أنَّها لَمْ يَضُرَّها عِنْدَ اللَّهِ شَيْئًا، قَذْفُ أعْداءِ اللَّهِ اليَهُودِ لَها، ونِسْبَتُهم إيّاها وابْنَها إلى ما بَرَّأها اللَّهُ عَنْهُ، مَعَ كَوْنِها الصِّدِّيقَةَ الكُبْرى المُصْطَفاةَ عَلى نِساءِ العالَمِينَ، فَلا يَضُرُّ الرَّجُلَ الصّالِحَ قَدْحُ الفُجّارِ والفُسّاقِ فِيهِ.

واعتمد النظم الحكيم في عرض المثلين المضروبين على أسلوب المقابلة الذي يكثر استعماله في مثل هذا المقام، لما يمتاز به من قدرة على عرض الأشياء المتناقضة في صورة تجذب المتلقي إليها، وتدفعه نحو التفكير المفضي إلى التمييز بينها، ما يترتب عليه إقتناعه بامتثال الحق والعزوف عن الباطل، أو العزم على فعل الحسن الجميل، والبعد عن القبيح المشين.

ومن أهم النقاط في هذا المثل أنها ارتكزت على التقابل بين الكفر والإيمان، مع أن ما حدث في بيت النبوة كان مجرد تظاهرة ناتجة عن اجتهاد خاطئ وتدبير فيه نوع من السذاجة التي لا تصل إلى درجة الكفر الذي كان عليه امرأتا نوح ولوط، والغرض من ذلك تقبيح العمل الذي قامتا به، وتخويف من فعلتاه وسائر أمهات المؤمنين رضي الله عنهن جميعا​​ ​​ والمسلمات جميعا من ورائهن​​ ​​ من أن يكون مصيرهن مصير هاتين المرأتين، وإعلام بأن قرابتهن من رسول الله صلى الله عليه وسلم لن تغني عنهن في الآخرة شيئا إذا صدر منهن مثل هذه الأفعال مرة ثانية، وبذا يستقمن على طاعته، ويتنافسن في مظاهرته ومساندته للقيام بأمور دعوته فيلحقن بامرأة فرعون، ومريم ابنة عمران ويجمعن بين خيري الدنيا والآخرة.​​ 

ما مناسبة ضرب الأمثلة بأشخاص بأعيانهم؟

من الأسلوب القرآني المطرد سوق نماذج إنسانية تتمثل بها المبادئ والأفكار،​​ والأفكار المجردة تأتي باهتة في الغالب لا تثير الأحاسيس ولا تطلق المشاعر الكامنة، وقد يظن البعض أنها مجرد مبادئ نظرية قد لا تجد لها أثرا في واقع الحياة.​​ 

ولكن عندما يتمعنها في سيرة الأقدمين وقد تحققت في سيرة أشخاص، تكون العبرة أكبرة والعظة أشد والصورة أوضح.

ما هي المعاني التي ينتهي إليها قوله جل وعلا: فلم يغنيا عنهما من الله شيئا؟

هذا هو بيت القصيد في القصة والمغزى منها، فكما ذكرنا هذا المقطع يقول لكل امرأة أن صلاحك وفسادك راجع لك وحدك، فسادك يضرك وحدك حتى لو كنت تحت عبد صالح، وصلاحك نافعك وإن كنت تحت أشر عباد الله، أو إن لم تتزوجي أصلا،​​ 

ما هي المعاني التي ينتهي إليها قوله: وقيل ادخلا النار مع الداخلين؟

من الطبيعي أن امرأة نوح وامرأة لوط ستدخلان النار مع الداخلي لما خانتا زوجيهما عليهما الصلاة والسلام، وإنما أظهر هذا المعنى بهذا اللفظ لبيان إرادة إهانتهما، وعدم مبالاة الله بهما بالة،​​ وهذا أمضى في الإهانة.

ما مناسبة التعبير عن نوح ولوط عليهما السلام بلفظ (عبدين صالحين)؟

الذي يظهر أن وصف نوح ولوط هنا بالعبدين الصالحين إنما جاء للتعامل مع هذا المثل لا باعتباره خاصا بالأنبياء وإنما باعتباره عاما لكل عبد صالح سواء كان نبيا أو لم يكن،​​ وكما عبر عن المعنى هنا بلفظ ظاهر، لزم هذا أن يوجد عكس المعنى في الطرف المقابل وإن لم يكن فيه لفظ ظاهر، فيكون اللفظ المقابل له: وضرب الله مثلا امرأة فرعون كانت تحت أفجر رجل فلم يضرها شيئا.​​ 

وبهذا تكون الموعظة سارية إلى نساء المسلمين في معاملتهن أزواجهن، فإن وصف النبوة قد انتهى بالنسبة للأمة الإسلامية وبقي هذا المعنى الذي هو رعاية الزوج والعناية به وحياطته.

 

ما هو معنى الخيانة هنا؟​​ وما هي المعاني التي ينتهي إليها استعمال لفظ الخيانة في هذا الموضع؟

الخيانة هنا بمعنى الكفر،​​ وليست بمعنى الزنا، فإنه لم تزن امرأة نبي قط كما قال ابن عباس رضي الله عنه، وهذا فيه تصحيح لمفهوم الخيانة، فإن الخيانة ليست بالمعنى الذي يشيع بين الناس​​ من ارتكاب الفاحشة، ولكنه بمعنى التعدي على الأساس الذي قامت عليه الأسرة وهو النجاة من النار والفوز بالجنة،​​ وهذا يصحح البناء الذي تقوم عليه الأسرة، ويحدد بوصلتها ووجهتها بالعبور بأهلها زوجين وأبناء للوصول إلى مرضاة الله.​​ 

ما هي المعاني التي ينتهي إليها ذكر سؤال آسية رحمها الله بيتا في الجنة؟

كأنها في هذا سألت الله عوضا عن بيتها الذي كان في الدنيا، والذي ارتبطت فيه​​ ​​ بقدر الله​​ ​​ بفرعون الطاغية، وابتليت به.

وقدمت العندية على البيت للتركيز عليها، فالمهم عندها رحمها الله كان أن تكون عند الله، وليس مهما شكل البيت أو حجمه، فهي كانت ترجو الله وتطلب القرب منه أيا كان.

ولاحظ الإشارات المتتابعة في لفت النظر إلى تعلق آسية رحمها الله ورضي الله عنها بالآخرة.​​ 

ما هي المعاني التي ينتهي إليها ذكر دعاء آسية رحمها الله؟

ذكر دعائها فيه معنيين:​​ 

الأول: الإشارة إلى فضلها هي بنفسها حيث تعلقت نفسها بالله وحده، ودعاؤها دليل ذلك.

الثاني: فيه تنبيه للمستضعفات من المؤمنات ممن ابتلين بمثل ما ابتليت به بالتوجه إلى الدعاء، فالدعاء:​​ 

فيه: إظهار العبودية لله وحده وتحقيق التوحيد والترؤ من الحول والقوة إلا بالله تعالى والافتقار إليه وحده، وهذا مما يحبه الرب جل وعلا وكفى بذكره ههنا دليلا على محبته.

وفيه: رفع للياس ونجاة من التشاؤم والاستسلام للمصائب.

وفيه: تثبيت للنفوس وانتصار على المصاعب، فحين تضيق النفوس وتحيط بها الكروب يكون طوق النجاة التضرع بين يدي الله والالتجاء إليه.

وفيه: العزة والاستغناء عن الناس فكلما قوي طمع العبد في الله ورحمته، زادت عبوديته له ويأسه مما سواه.

ما​​ مناسبة ذكر عمل فرعون بعد ذكر شخصه؟​​ وما مناسبة العطف بطلب النجاة من القوم الظالمين؟

هذا خارج من رحم المعنى العام الذي يدور عليه هذا الفصل، وخاصة قوله تعالى (إنما تجزون ما كنتم تعملون)، وفصل العمل والله أعلم يشير إلى العاقبة، فكأنها قالت: نجني من فرعون أي من عذابه الذي سيلحقه بي إن علم بإيماني، ونجني من عاقبة عمله في الآخرة.

وفيها أيضا إثارة لأزواج النبي صلى الله عليه وسلم​​ ​​ والمسلمات من ورائهن- إلى أن يحمدن الله على نعمة الإيمان والصلاة التي من الله تعالى بها على أزواجهن، والتي يعود بالضرورة أثرها عليهن في القيام بتكاليفهن الشرعية ومعاملتهن المعاملة الطيبة، وأن ذلك في حد ذاته كفيل بحسن تبعلهن لأزواجهن، ومساندتهم ومظاهرتهم في جميع الأعمال، لا سيما ما كان منه متصلا بأعمال الدعوة إلى الله.

فلم تسأل سلامة نفسها في الدنيا فحسب بل كانت أنظارها معلقة بالآخرة.

وطلبت النجاة من القوم الظالمين، لبيان ما كانت فيه من استضعاف من جميع من كان حولها، كما أنها تبرز حالة الوحدة التي كانت تعاني منها، وأنها لا تجد من يعاونها على الخير، ويشد من أزرها في سبيله، وهي تضع المتظاهرات رضوان الله عليهن​​ ​​ ومن فعل مثل فعلن من نساء المسلمات​​ ​​ أمام صورة تلك المرأة الضعيفة التي كانت تبحث عمن يظاهرها على الخير، في بيئة مملوءة بالشر، بينما هن يتعاون على الشر في بيئة مملوءة بالخير.

ما مناسبة ضرب مريم عليها السلام مثلا للذين آمنوا؟

هذا هو النوع الثاني من المؤمنين، وهي مرأة عزب لم تتزوج، ضربها الله عز وجل لكل امرأة لم تتزوج، ويا لله ما أرحم هذا القرآن، ولا عجب فهو كتاب أرحم الراحمين، لم يترك القرآن هذه الظاهرة، ظاهرة المرأة التي لم يكتب لها​​ الزواج،​​ دون أن يمر عليها ويضرب لها أرفع الأمثلة مريم عليها السلام، ومثل هذه المرأة التي لم يكتب لها الزواج أثنت عليها السورة بثلاثة أمور:​​ 

الأول: إحصان الفرج.

الثاني: التصديق بكلمات ربها وكتبه،​​ 

الثالث: القنوت، وهو الطاعة والسكينة.

ولعل اختيار هذه الأعمال لأنها من أصعب الأعمال على النساء، وفوق ضعفهن الذي جبلن عليه، كما أن أولهم يحمل جانب التشريف بتمسكها بطهرها،​​ وفي البقية إشارة إلى نساء بيت النبوة خاصة ونساء المؤمنين عامة غلى ما يجب أن يتسلحن به في معركة الحياة إذا أردن الشرف الذي حازته ابنة عمران عليها السلام.

ما مناسبة ذكر انتماء مريم عليها السلام إلى القانتين دون (القانتات)؟

العبارة فيها معنيي:​​ 

فعل الكون: يشير إلى أنها أشربت بقنوتها وصار في تكوينها وغدت لا تنفك عنه بحال.

وذكر القانتين: إشارة غلى دخولها في موكب القانتين عبر الزمن دخول الجزء في الكل، بل صارت رأسا فيه، وجمع القانتون جمع ذكور:​​ 

إما: من باب التغليب

وإما: إشارة إلى أنها بلغت في مداومتها على العبادة وصبرها على التكاليف وجلدها في القيام بها مبلغ الرجال، على الرغم من كونها أنثى، مما يجعلها مثلا للرجال والنساء على السواء.

وبهذا الختام نرى كيف تدرج المعنى القرآني في هذه السورة، وكيف أخذ في الصعود حتى وصل إلى ذروته في كلمة (القانتين)، حيث بدأ بوعظ المرأة ودعوتها إلى الكف عن شغل زوجها عن مهامه وتكاليفه وكلفها بمشاركته في الاهتمام بالبيت ومن فيه، ثم ثنى بتنبيهها إلى الاهتمام بمساعدته ومظاهرته من أجل القيام بواجباته، وأخيرا دعاها إلى أن تنافسه في مجال العبادة والقنوت كما كانت مريم تنافس الرجال.

كل ذلك حتى يكون البيت واحة ينعم بها الجميع بالراحة والسكينة والهدوء، والانطلاق إلى إعلاء كلمة الله، وصومعة للعبادة والتبتل، لا ساحة للمناكفات والمكايدات الشاغلة عن الأهداف العظمى والغايات النبيلة.

وبذلك تتفق خاتمة السورة مع مطلعها في التركيز على المقصود، والحث على المتثاله بطرائق متنوعة وأساليب متعددة، وهكذا جميع الفواتح والخواتم واردة على أحسن الوجوه، لأن فواتحها تدور بين تحميدات ونداءات يقصد منها إيقاظ السامع، وخواتمها تدور بين أدعية ووصايا ونحوها مما يحسن الانتهاء به.

 

 

جميع الحقوق متاحة للمسلمين دون اشتراط ذكر المصدر © 2023 7a9ad.com. All Rights Reserved