المسؤولية الأسرية
( المسؤولية الأسرية )
يَٰٓأَيُّهَا ٱلَّذِينَ ءَامَنُواْ قُوٓاْ أَنفُسَكُمۡ وَأَهۡلِيكُمۡ نَارا وَقُودُهَا ٱلنَّاسُ وَٱلۡحِجَارَةُ عَلَيۡهَا مَلَٰٓئِكَةٌ غِلَاظ شِدَاد لَّا يَعۡصُونَ ٱللَّهَ مَآ أَمَرَهُمۡ وَيَفۡعَلُونَ مَا يُؤۡمَرُونَ ﴿٦﴾ يَٰٓأَيُّهَا ٱلَّذِينَ كَفَرُواْ لَا تَعۡتَذِرُواْ ٱلۡيَوۡمَۖ إِنَّمَا تُجۡزَوۡنَ مَا كُنتُمۡ تَعۡمَلُونَ ﴿٧﴾ يَٰٓأَيُّهَا ٱلَّذِينَ ءَامَنُواْ تُوبُوٓاْ إِلَى ٱللَّهِ تَوۡبَة نَّصُوحًا عَسَىٰ رَبُّكُمۡ أَن يُكَفِّرَ عَنكُمۡ سَيِّـَٔاتِكُمۡ وَيُدۡخِلَكُمۡ جَنَّٰت تَجۡرِي مِن تَحۡتِهَا ٱلۡأَنۡهَٰرُ يَوۡمَ لَا يُخۡزِي ٱللَّهُ ٱلنَّبِيَّ وَٱلَّذِينَ ءَامَنُواْ مَعَهُۥۖ نُورُهُمۡ يَسۡعَىٰ بَيۡنَ أَيۡدِيهِمۡ وَبِأَيۡمَٰنِهِمۡ يَقُولُونَ رَبَّنَآ أَتۡمِمۡ لَنَا نُورَنَا وَٱغۡفِرۡ لَنَآۖ إِنَّكَ عَلَىٰ كُلِّ شَيۡء قَدِير ﴿٨﴾ يَٰٓأَيُّهَا ٱلنَّبِيُّ جَٰهِدِ ٱلۡكُفَّارَ وَٱلۡمُنَٰفِقِينَ وَٱغۡلُظۡ عَلَيۡهِمۡۚ وَمَأۡوَىٰهُمۡ جَهَنَّمُۖ وَبِئۡسَ ٱلۡمَصِيرُ ﴿٩﴾
ما هو موضوع هذا المقطع، وما مناسبته لما قبله، وما مناسبته لمقصد السورة؟
جاء هذا المقطع ليرسخ في الأذهان حقيقة أن عاقبة التقصير في حق النفس والبيت هي التعذيب بالنار.
وهنا تحول النداء من نداء النبي صلى الله عليه وسلم إلى نداء المؤمنين، ورغم هذا التحول فإن السياق لازال مستمرا في تربية الأسرة المسلمة، والنداء وإن كان في أول السورة يوجه الخطاب للنبي صلى الله عليه وسلم خاصة وفي حادثة خاصة به صلى الله عليه وسلم، إلا أن التعامل مع هذه الحادثة على أساس أنها خاصة ببيت النبي صلى الله عليه وسلم ولا علاقة لها ببقية بيوت المسلمين، قصر نظر خطير، فإن الله إنما جعل من هذه الحادثة قرآنا يتلى إلى يوم القيامة لأجل رسم مستوى معين للعلاقات في الأسرة المسلمة مهتدية بمستوى العلاقات في بيت النبوة، وهذا واضح تماما في قوله تعالى في سورة الأحزاب في قوله تعالى (لقد كان لكم في رسول الله أسوة حسنة)، بل إن هذا التحول في النداء من نداء شخص النبي صلى الله عليه وسلم إلى نداء عموم المؤمنين لمؤشر واضح لمن تدبره إلى أن ما سبق إنما هو خطاب للمؤمنين عامة، بعرض حادثة خاصة، جرت في أعظم بيت من بيوت الأمة.
فنداء الله للمؤمنين ههنا خارج من رحم نداءه لنبيه صلى الله عليه وسلم في أول السورة
وفيه بيان أن عناية الله بطائفة المؤمنين كعناية الله بالأنبياء والمرسلين
كما قال النبي صلى الله عليه وسلم (إن الله أمر المؤمنين بما أمر به المرسلين)، فهذا دليل واضح عليه.
فاحذر أخي الكريم من الفصل بين صدر السورة وبين هذا الفصل منها، فقد أتي من هذا الباب خلق كثير فتمزقت معاني السورة في نفوسهم وضاعت، وقد سبق وذكرت في سورة الأحزاب خمسة أوجه كلها يثبت أن الخطاب فيها جاء لعموم المسلمين وإن كان خاصا بالنبي صلى الله عليه وسلم وزوجاته إلا ما دل عليه الدليل.
فالواجب على القارئ المتدبر ألا يكتفي بظواهر الكلام بل يغوص في معانيه ويربط بعضه ببعض ويصل بعضه ببعض، حتى ينتفع بكلام الله جل وعلا.
ولا يصح أن يقال: إن مطلع السورة تربية لبيت النبوة وأن السياق هنا: تربية لعموم بيوت المسلمين، وهذه جناية عظيمة على السياق وحركة المعنى وطريقة فهم السورة، فإن السورة كلها من أولها إلى آخرها في تربية بيوت المسلمين وإنما جاء ذكر بيت النبي صلى الله عليه وسلم لإحياء وتثبت الأسوة الحسنة.
وهذا الخطاب فيه رسالتان:
الأولى: رسالة واضحة لرجال المسلمين: أن استمروا في تأديب أهل بيتكم بالآداب الشرعية، هذا التأديب وصفه الله عز وجل هنا بأنه وقاية لهم من النار، فهي تقول للمؤمنين: انطلقوا في تأديب أهليكم من منطلق وقايتهم من النار، لا من منطلق السيطرة، ولا الذكورية، ولا نيل حظ الأنفس من الوجاهة وهذا يقودنا إلى الرسالة ..
الثانية:لنساء المسلمات: تأمرهن بالسمع والطاعة، وتنهاهن عن المناكفات والمشاحنات وإفساد البيوت وإشغال الرجال عن المهمة الكبرى في القيام بأمر الله وتبليغ الوحي للعالمين، وإلا فسيكون مصيرهن هذه النار التي جاء الحديث عنها لاحقا.
وقد أحسن الطاهر بن عاشور أيما إحسان حين قال: (كانت موعظة نساء النبي صلى الله عليه وسلم مناسبة لتنبيه المؤمنين لعدم الغفلة عن موعظة أنفسهم وموعظة أهليهم، وألا يصدهم استبقاء الود بينهم عن إسداء النصح لهم وإن كان في ذلك بعض الأذى).
ما هي المعاني التربوية في هذا المقطع؟
هذا المقطع مليء بالمعاني التربوية لمن تأملها:
منها: الدعوة إلى التوبة وفتح باب الأمل: وهذا ظاهر في قوله تعالى ( توبوا إلى الله توبة نصوحا)
ومنها: العطاء الكثير على العمل القليل: فجعل جزاء التوبة النصوح وهي عمل بسيط قليل من العبد، جعل جزاءها تكفير الذنوب وجنات تجري من تحتها الأنهار.
ومنها: التكريم على ملأ من الناس: وأي كرامة يوم لا يخزي الله النبي والذين آمنوا معه نورهم يسعى بين أيديهم وبأيمانهم.
ومنها: الجهاد والغلظة في القول: وهذا دواء المعاندين والمحادين لعلهم يهتدون ويرجعون.
من المخاطب في قوله يا أيها الذين آمنوا قوا.. الآية؟
الظاهر أن الخطاب للرجال هنا، فكما أن الكلام ابتدأ بخطاب النبي باعتباره المسؤول عن تقويم أسرته، جاء الخطاب هنا عطفا عليها مخاطبا الرجال باعتبارهم المسؤولين عن تربية وتقويم أسرهم.
وهذه الآية تبين (المسؤولية الأسرية) في حق الرجال، وكأنها تقول لهم: أدبوهن وعلموهن وَعَن عَمْرو بن قيس الْملَائي قَالَ: " إِن الْمَرْأَة لتخاصم زَوجهَا يَوْم الْقِيَامَة عِنْد الله فَتَقول: إِنَّه كَانَ لَا يؤدبني، وَلَا يعلمني شَيْئا، كَانَ يأتيني بِخبْز السُّوق.
وهذا لا يمنع دخول بقية أفراد الأسرة – خاصة الزوجة – في الخطاب، ومما يؤكد هذا قراءة: أهلوكم بالعطف على الضمير في (قوا)، والتقدير: قوا أنفسكم وليق أهلوكم أنفسهم، أو: قوا أنتم وأهلوكم أنفسكم، وهاتان القراءتان تجعلنا الوقاية من النار مسؤولية كل فرد من أفراد الأسرة، أما قراءة أهليكم فتجعلها من وجابات رب الأسرة المؤمن، وسبحان من جمع المعاني الكثيرة في اللفظ اليسير.
وهكذا تبنى أسرة سلمية، يتمتع فيها كل أفرادها بخشية الله تعالى، ويشغلهم جميعا التفكير في كيفية النجاة من النار والفوز بالجنة، ويتعاونون على ذلك، فتنعم البيوت بالاستقرار، وتخلو من المناكفات والمكايدات، ويقوم كل واحد من أفرادها برسالته من غير إشغال ولا انشغال.
ما هي المعاني التي ينتهي إليها هذا التطويل في ذكر مخاوف النار؟
المحور الثاني للسورة كما ذكرنا في بيان مسؤولية النساء وتحذيرهن من هذا العبث في سكون الأسرة وهدوءها لأجل الهوى وحظ النفوس، ولأجل توضيح عقوبة هذا الأمر جاء التخويف هنا شديدا لعموم النساء، كما جاء التحذير شديدا لنساء النبي صلى الله عليه وسلم، والتهديد هنا بدخول النار وإن كان لا يصح في حق أزواج النبي صلى الله عليه وسلم فإنهن من أهل الجنة، إلا أنه تهديد لعموم النساء من مثل هذا التصرف الذي قد يؤدي بالمرأة إلى النار، لعصيان الزوج وتنكب مسؤولية المرأة في الحفاظ على الهدوء الأسري مهما كانت منزلتها، ومما يؤيد هذا ما سيأتي من المثال في آخر السورة.
وإنما جاء بعد ذكر أزواج النبي صلى الله عليه وسلم لمعنيين:
الأول: تقرير الأسوة بنساء النبي صلى الله عليه وسلم.
الثاني:
ما هي المعاني التي ينتهي إليها تنوين النار؟
التنوين انتهى إلى معان:
منها: الإلماح إلى أن حقيقة هذه النار مجهولة لا يعلم حقيقتها إلا رب العالمين، وهذا زيادة في التخويف.
ومنها: الإيحاء بأنها نار متنوعة.
ومنها: إفادة التعظيم والإفزاع.
ما هي المعاني التي ينتهي إليها قرن الناس بالحجارة كوقود للنار؟
قرن الناس بالحجارة كوقود للنار فيه إشارة إلى معان:
منها: أن سائر النيران إذا أريد إحراق الناس بها أو إحماء الحجارة أوقدت بوقود ثم طرح فيها ما يراد إحماؤه أو إحراقه، أما هذه فتوقد بنفس ما تحرق.
ومنها: أنها لشدة حرها تتقد في الحجر، والحجرة عادة مطفئ للنيران فإذا كانت تشتعل بما يطفئها ففيه دلالة على قوتها.
ومنها: مهانة هؤلاء حيث صاروا بمنزلة الحجارة يلقون في النار ولا أحد يبالي بهم بالة، وهذا فيه مزيد إهانة وتحقير لهم.
فاجتمع عليهم العذاب الجسدي والعذاب النفسي.
ما مناسبة تنكير الملائكة؟
فيها من المعاني ما في تنكير النار من المعاني، من التعظيم والإبهام.
ما الفرق بين الغلظة والشدة؟ ولماذا جاءت بالصيغة الاسمية؟
الغلظة في الأجسام، والشدة في الخلق، فهم شديدو الخلق والخلق، وذلك لزيادة تفظيع حالهم، ولأنها صفات ذاتية جاءت بالاسم.
ففيه زيادة تيئيس من النجاة منهم فهم غلاظ في القلوب مع شدة في أجسامهم فلا يغلبون ولا يمكن لأحد أن ينجو منهم.
هل قوله جل وعلا (ويفعلون ما يؤمرون) إنما هو تكرار لقوله (لا يعصون الله ما أمرهم) ولماذا هذه التثنية؟ ولماذا جاءت بالصيغة الفعلية؟
قيل في توجيه قوله جل وعلا ويفعلون ما يؤمرون أقوال:
منها: أن قوله جل وعلا لا يعصون الله ما أمرهم فيما مضى ويفعلون ما يؤمرون في المستقبل وهو قول ضعيف.
ومنها: أن المعنى أنهم يسارعون فيما أمره الله بهم وهم قادرون على فعله ليس فيهم عجز عنه وهذا معنى جديد.
ومنها: أنه تأكيد بالمرادف وهذه عادة قرآنية من مثل قوله تعالى (أموات غير أحياء)
ومنها: أن الأولى لنفي المعاندة والاستكبار عنهم صلوات الله تعالى عليهم والثانية لنفي الكسل والتلكؤ عنهم، وبِعِبارَةٍ أُخْرى إنَّ الأُولى لِبَيانِ القَبُولِ باطِنًا فَإنَّ العِصْيانَ أصْلُهُ المَنعُ والإباءُ، وعِصْيانُ الأمْرِ صِفَةُ الباطِنِ بِالحَقِيقَةِ لِأنَّ الإتْيانَ بِالمَأْمُورِ إنَّما يُعَدُّ طاعَةً إذا كانَ بِقَصْدِ الِامْتِثالِ فَإذًا نَفْيُ العِصْيانِ عَنْهم دَلَّ عَلى قَبُولِهِمْ وعَدَمِ إبائِهِمْ باطِنًا، والثّانِيَةُ لِأداءِ المَأْمُورِ بِهِ مِن غَيْرِ تَثاقُلٍ وتَوانٍ عَلى ما يُشْعِرُ بِهِ الِاسْتِمْرارُ المُسْتَفادُ مِن ”يَفْعَلُونَ“ فَلا تَكْرارَ.
ومنها: أنه من باب الطرد والعكس وهو يكون في كلامين يقرر منطوق أحدهما مفهوم الآخر وبالعكس، مبالغة في أنهم لا تأخذهم رأفة في تنفيذ أوامر الله عز وجل والغضب له سبحانه.
والذي يظهر أن ما هو أهم من كل ما سبق: هو التعريض باللواتي يعصين أزواجهن من غير أمهات المؤمنين، فهؤلاء الملائكة على غلظ خلقهم وشدة خلقهم لا يعصون الله ما أمرهم ويفعلون ما يؤمرون فما بالك بنا نحن المخلوقات المتناهية في الضعف.
ولأنها صفات فعلية جاءت بالصيغة الفعلية.
من القائل: يا أيها الذين كفروا؟
الأقرب أنهم الزبانية السابق ذكرهم وذكر صفاتهم، ويحتمل أن الله يقول لهم ذلك.
ما هي المعاني التي ينتهي إليها قوله جل وعلا: ما كنتم تعملون؟
هذه الصيغة تفيد تكرار فعل العصيان منهم واعتيادهم عليه، فليس الأمر وقوع في هذا الأمر مرة واحدة ولكنه اعتياد عليه وتكرار له.
وهذه القضية في غاية الخطورة وتلتبس على كثير من الناس، وكأن الآية تقول لك: لا بأس أن يبدو من المرأة هفوة أو خطأ – كما حصل مع أمهات المؤمنين رضي الله عنهن جميعا – فتسارع إلى التوبة، والله غفور رحيم.
أما من كان هذا ديدنها وعادتها أن تكدر الأسرة وتشغل زوجها فهذه محل الوعيد الشديد.
ما مناسبة ذكر خطاب الذين كفروا ههنا؟
لا بد من فهم جملة (الذين كفروا) هنا في سياق السورة، إذ أن المتأمل في سياق السورة لا يجد لها علاقة بالكفر، وإنما هي في الحديث عن تربية الأسرة المسلمة، وكل من فيها مسلم، فما علاقة ما سبق بالكفر؟
الذي يظهر أن الخطاب هنا جاء لتفظيع وتقبيح هذا الفعل من قبل النساء المسلمات: أعني الانجرار إلى المناكفات والمكايدات وتكدير جو الأسرة الهادئ.
وقل مثل هذا في الحديث المتطاول عن الفجار والأبرار في سورة المطففين، مع أن المطففين قد يكونوا مسلمين، لكن لتبشيع فعلتهم هذه وتقبيحها في عيون القارئ المتدبر، جاء الحديث بعدها متطاولا عن الفجار والأبرار، وكأنها تقول لهؤلاء المطففين: لا يليق بكم وقد استقر التوحيد في قلوبكم أن تفعلوا ما تفعلون، فإن هذه فعلة الفجار الذين..، ثم تمضي الآيات في وصف جزاءهم، ثم تقابلهم بالحديث عن الأبرار وعاقبتهم.
وقل مثل هذا في قوله صلى الله عليه وسلم: من غشنا فليس منا، وفي قوله من باع السلاح علينا فليس منا، فإنه لا يقصد صلى الله عليه وسلم أنهم كفار، ولكن المقصود أنهم فعلوا فعلة لا تليق بالمؤمنين، فكأنهم تشبهوا بالكفار حين فعلوا ما فعلوا.
وذكر الرازي ذلك صراحة حين قال: (والفساق وإن كانت دركاتهم فوق دركات الكفار فإنهم مع الكفار في دار واحدة، فقيل للذين آمنوا: قوا أنفسكم باجتناب الفسق ومجاراة الذين أعدت لهم هذه النار، ولا يبعد أن يأمرهم بالتوقي من الارتداد).
وقريب من ذلك قول أبو السعود رحمه الله (وأمر المؤمنين باتقاء هذه النار المعدة للكافر كما نص عليه في سورة البقرة للمبالغة في التحذير)
ما مناسبة قوله جل وعلا بعدها: يا أيها الذين آمنوا توبوا.. الآية؟
هذه الآية بداية خارجة من رحم قوله تعالى سابقا: إن تتوبا إلى الله، ولأن بيت النبوة هو القدوة والأسوة أمر عموم المسلمين بالمبادرة إلى التوبة والإنابة، والدعوة هنا للنساء أولا وللرجال تبعا، لما ذكرنا.
تأتي هذه الآية وكأنها تكمل ما بدأته الآية التي سبقتها بآيتين، فبعد الأمر للرجال بوقاية أنفسهم وأهليهم، والتهديد بنار وعذاب في غاية الشدة، جاءت هذه الآية، لتبين الموقف في حال وقوع بعض الهنات أو الأخطاء، وتفتح باب التوبة عريضا أمام من وقع في مثل هذا.
وكأنها مع أختها الكبرى تقول: قوا أنفسكم وأهليكم نارا، فإن وقعتم فيما تكرهون، فبادروا بالتوبة.
وهذا النداء ليس النداء الأخير في السورة وحسب بل هو آخر نداء للمؤمنين بإيمانهم في القرآن كله، وتدبر هذه الوصية الأخيرة من الله عز وجل للمؤمنين كيف جاءت.
ما معنى نصوحا؟
النصوح هي الصافية لا شائبة فيها، فإن أصل النصح التصفية ونصح العسل إذا صفاه، فالتوبة النصوح على وزن فعول مبالغة اسم الفاعل أي صافية اشد الصفاء.
ما مناسبة ذكر الربوبية هنا؟
في هذه السورة أمر بالتوبة إلى الله بلفظ الألوهية الدال على العظمة والسؤدد، ثم مناهم بالتكفير بذكر الربوبية (عسى ربكم أن يكفر) لإبراز معنى الرعاية والحياطة والحفظ
ما مناسبة ذكر عسى هنا؟
عسى هنا تفيد الرجاء، أما الأولى فتفيد التحقيق واليقين.
وعسى هذه تبقي الإنسان بين الرجاء والخوف، ولو كانت تفيد التحقيق لتواكل العباد، فحتى يبقى العبد بينهما أفاد هنا الرجاء.
ما هي المعاني التي ينتهي إليها ذكر هذه الصورة من يوم القيامة: من نفي الخزي وذكر سعي النور؟ وتخصيصه بالأمام واليمين؟
الخزي الإبعاد كما قال ابن فارس في معجمه، فَقَوْلُهُمْ: أَخْزَاهُ اللَّهُ، أَيْ أَبْعَدَهُ وَمَقَتَهُ. وَالِاسْمُ الْخِزْيُ. وَمِنْ هَذَا الْبَابِ قَوْلُهُمْ خَزِيَ الرَّجُلُ: اسْتَحْيَا مِنْ قُبْحِ فِعْلِهِ خَزَايَةً، فَهُوَ خَزْيَانُ ; وَذَلِكَ أَنَّهُ إِذَا فَعَلَ ذَلِكَ وَاسْتَحْيَا تَبَاعَدَ وَنَأَى. قَالَ جَرِيرٌ:
وَإِنَّ حِمًى لَمْ يَحْمِهِ غَيْرُ فَرْتَنَى ... وَغَيْرُ ابْنِ ذِي الْكِيرَيْنِ خَزْيَانُ ضَائِعُ
والذي يظهر أن الكلام هنا خارج من رحم قوله تعالى في أول السورة (والله مولاكم)، واستمرار في سياقه، فكما أن النساء يحاولن في إطار المناكفات التشهير بالأزواج ومراغمتهم مراغمة غير شرعية بالغيرة أحيانا، وبافتعال المشاكل أحيانا، وبالإذلال في القوانين الجاهلية التي جاء بها الغرب والأمم المتحدة لإخضاع الرجال وإذلالهم، جاءت الآية في تصوير حال هؤلاء القائمين على تقويم أسرهم يوم القيامة، وهم في غز وقرب.
لا بل زادهم الله شرفا وعزا حين حباهم بالنور الممتد الساعي – لا الماشي – بين أيديهم وبأيمانهم، والسعي في الأصل المشي السريع ويستعمل لجد في الأمر خيرا كان أو شرا، وفي التعبير به عن انتشار النور وامتداده إبراز لقوة ذلك النور وشدة ضوئه، وتصوير لحركته معهم ومرافقته لهم وقتما تحركوا وأينما اقاموا، تنويها بشأنهم وتعظيما لقدرهم، كما تنشر الأعلام بين يدي الأمير والقائد، وكما تساق الجياد بين يدي الخليفة، وفي التعبير بالمضارع دلالة على تجدد تلك الحركة واستمرارها من غير توقف أو انقطاع.
وسعي النور أمامهم ليكشف لهم الطريق ويتمتعوا بمشاهدته ولا يضطروا للالتفات ليروا به، وأما بأيمانهم فلأنها محل تلقي صحائف أعمالهم.
ما مناسبة ذكر دعائهم بعد ذلك؟
هذا فيه إشارة إلى شدة تعلقهم بالله وإقبالهم عليه ورجاءهم به وخوفهم منه، وهذا ما حدى بهم إلى هذه المرتبة العالية في الآخرة، ولذلك داموا عليه واستمروا عليه، خائفين وجلين ألا يسلبهم بعد العطاء، فإنه من أقسى أنواع العقاب، فإن فيه عقوبتين حسية ومعنوية، بجانب ما فيه من قطع الرجاء.
ما مناسبة تقديم دعاء إدامة النور على طلب المغفرة؟
قدم عليه مع أن الثاني سبب للأول، وقدم لأنه مناسب لمقام الطمع والسعادة الذي هم فيه الآن، كما أن تأخيره وعدم الاكتفاء بطلب إتمام النور يأتي نفيا لما قد يظن أنه غرور ودعاء بما يرونه حقا لهم.
ما مناسبة تعدية التكفير بحرف الجر عن؟
هذا يفيد المجاوزة والبعد، مع كثرتها التي أوحى بها الجمع (سيئاتكم)، فتركيب الجملية يشير إلى أن هذه السيئات مع كثرتها ومع ما فيها من قبح وإساءة، ستتجاوز التائبين، وتتباعد عنهم تباعدا يظن معه أنها ليست لهم ولم تصدر عنهم.
ما هي المعاني التي ينتهي إليها إسناد فعل الإدخال إلى الرب جل وعلا؟
هذا يشير إلى أنه إدخال عظيم فيه من التشريف والتكريم والرحمة ما يليق بالمدخل جل وعلا.
ما مناسبة سؤال إتمام النور والمغفرة هنا؟
هذا فيه عودة إلى المعنى في أول الآية، فالآية أصلا نازلة في حال حدوث خلل أو تقصير، فسؤال إتمام النور والمغفرة جاء لمعالجة مثل هذا الموقف، تبشيرا للمؤمنين إذ قصروا أو أخطؤوا ومن لا يقصر ولا يبدو منه خلل.
ما مناسبة التذييل بقوله تعالى: إنك على كل شيء قدير؟
هذا للتأكيد على ثقتهم في رحمة ربهم وقدرته على تحقيق ما يبتهلون به في هذا الموقف المهيب، كما أنه يبرهن على مشاعر الفرح والسعادة التي تتملكهم.
ما مناسبة قوله تعالى بعد ذلك: يا أيها النبي جاهد الكفار والمنافقين؟
هذا هو آخر نداء في السورة الكريمة، والتي يمكن أن نعتبرها سورة النداءات لما فيها من نداءات، وكما ابتدأت النداءات بمخاطبة النبي صلى الله عليه وسلم انتهت بخطابه أيضا ههنا، فمنه بدأت وبه انتهت، ولا عجب فإنه هو القدوة المخاطب بإصلاح الأسرة والمجتمع، وبه يهتدي ويقتدي الأزواج، وبنسائه رضوان الله عليهن تقتدي النساء.
القارئ المتأني يشعر بأن انفصالا حصل ههنا بين السياق وبين هذه الآية، لأنه سيسأل: ما هي العلاقة بين مجاهدة الكفار والمنافقين وبين تربية الأسرة المسلمة، وإذا كان السياق هنا عن الأسرة وإصلاحها فما بال جهاد الكفار والمنافقين؟
كل هذه الأسئلة لا تطرح إلا في حال غياب مقصد سورة الأحزاب – الأخت الكبرى لهذه السورة – عن ذهنك، وغياب معانيها عنك، فإن السورة كلها تتحدث اجتماع الكافرين والمنافقين على إفساد المجتمع بإبعاده عن الشريعة وغرس المفاهيم الجاهلية فيه، ولو علمنا واستحضرنا هذا في أذهاننا ونحن نقرأ القرآن لسمعنا صوت هذه الآية تقول لنا:
يا أيها النبي، ويا أيها القدوات والفاعلين المؤثرين من بعده، جاهدوا الكفار والمنافقين الذين يسعون جهدهم في إفساد الأسرة المسلمة، وتخبيب النساء على أزواجهن، ليس الجهاد فحسب، بل جهاد وغلظة معهم، حتى لا تتركهم ليلتقطوا نفسهم أو يفكروا حتى مجرد تفكير في كيفية النيل من هذه اللبنة المهمة في المجتمع، وهذا المحضن التربوي الأول الذي يخرج رجال ونساء الغد، ومن ثم توعدهم الله بجهنم في الآخرة.
وهذه الآية على قصرها من أخطر الآيات في هذه السورة، لأنها تلفت نظر المجتمع المسلم إلى جهود جبارة من وراء الستار للكافرين والمنافقين في الداخل والخارج لأجل إفساد الأسرة المسلمة، مرة باسم حقوق الطفل ومرة باسم حقوق المرأة ومرة تحت مظلة الأمم المتحدة ومرة تحت مظلة حماية الأسرة، ولا تكاد ترى مجتمعا سرت إليه هذه القوانين الجاهلية بليل إلا وقد
ومما يؤكد على المعنى ورود نفس العبارة في سورة التوبة، والسياق هناك كان سياق مجاهدة فعلية، بمعنى تبكيت المنافقين وفضحهم وكشفهم وجهاد الكافرين والبراءة منهم، أما هنا فالسياق سياق آخر تماما، وهو سياق حماية المجتمع المسلم من عبث الكافرين والمنافقين ونشر عادات جاهلية تنحو به نحو الاضطراب.
فعلى الأمة المسلمة متمثلة بقدواتها وكبراءها وأهل الحل والعقد والتأثير فيها أن يولوا هذا الأمر غاية العناية والرعاية وأن يكونوا في غاية البصيرة لما يحاك لهم من شر وفساد من طرف الكافرين والمنافقين.
ووجه الخطاب للنبي مباشرة ههنا باعتباره الأسوة الحسنة وباعتباره المثل الأعلى لأن هذا مما ينتبه له عادة أصحاب الحل والعقد، وقد يغفل عنه عموم المسلمين، فالمسؤولية الأولى ملقاة على عاتقهم في حماية المجتمع والأسرة.
ففكرة الجهاد ههنا ليس المراد منها مطلق الجهاد، ومما يؤيد هذا ألا سبيل لمقاتلة المنافقين، وليس حتى كلاما عاما إذ لا مناسبة له بما قبله، ولكن لا بد من فهم الجهاد هنا في سياقه، كما أنه لا بد من فهم الجهاد المذكور في سورة العنكبوت في سياقه، والإيمان المذكور في سورة الحديد في سياقه، والإيمان المذكورة في سورة البقرة في سياقه، وهكذا.
وإذا لم تعتبر السياق في فهم الآية حصل عندك اللبس والانفصال في المعنى وسألت نفسك ما بال ذكر الجهاد ههنا؟
وهذا ما وقع فيه أكثر من قرأت لهم ممن تكلم في السورة.
ومن عجائب هذا القرآن أنه يلهب في القارئ المتدبر الفطنة والدراية والفراسة والانتباه، ولا يمكن للقارئ المتدبر أن يبقى مغفلا بعد تدبره لمعاني كتاب الله العزيز، ولا يبقى مغفلا إلا القارئ المار مرور الكرام على هذه المعاني، قصر همته على حسنة لكل حرف.
وقيل في مناسبة هذه الآية: أنها دعوة إلى مساعدة النبي صلى الله عليه وسلم – وورثته من بعده – في القيام بأعباء الدعوة إلى الله، وتذكير به للفت نظر النساء إلى مهمات وأعباء الرجال في حماية المجتمع المسلم من الداخل من المنافقين ومن الخارج من الكافرين، ومن ثم فلا ينبغي شغلهم أو صرفهم عن مثل هذا العمل العظيم بتدبير المؤامرات والمكائد التي تلقي بظلالها على الرجال الذين يجاهدون في سبيل الأمة من كيد المنافقين والكفار، فذكر جانبا من أعمال الرجال التي تستلزم مساعدتهم ومظاهرتهم لا التظاهر ضدهم، وهذا متسق مع أحد أهم أركان الإسلام وهي جعل المعركة بين الرجال والنساء من جهة وبين الشيطان من جهة أخرى، هذه المعركة التي حولتها النسويات والنسويين إلى معركة بين النساء والرجال،
جميع الحقوق متاحة للمسلمين دون اشتراط ذكر المصدر © 2023 7a9ad.com. All Rights Reserved