بعض المفاهيم المتعلقة بالابتلاء
( تصحيح مفاهيم حول الابتلاء )
بسم الله الرحمن الرحيم
الم (1) أَحَسِبَ النَّاسُ أَنْ يُتْرَكُوا أَنْ يَقُولُوا آمَنَّا وَهُمْ لَا يُفْتَنُونَ (2) وَلَقَدْ فَتَنَّا الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ فَلَيَعْلَمَنَّ اللَّهُ الَّذِينَ صَدَقُوا وَلَيَعْلَمَنَّ الْكَاذِبِينَ (3) أَمْ حَسِبَ الَّذِينَ يَعْمَلُونَ السَّيِّئَاتِ أَنْ يَسْبِقُونَا سَاءَ مَا يَحْكُمُونَ (4) مَنْ كَانَ يَرْجُو لِقَاءَ اللَّهِ فَإِنَّ أَجَلَ اللَّهِ لَآتٍ وَهُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ (5) وَمَنْ جَاهَدَ فَإِنَّمَا يُجَاهِدُ لِنَفْسِهِ إِنَّ اللَّهَ لَغَنِيٌّ عَنِ الْعَالَمِينَ (6) وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَنُكَفِّرَنَّ عَنْهُمْ سَيِّئَاتِهِمْ وَلَنَجْزِيَنَّهُمْ أَحْسَنَ الَّذِي كَانُوا يَعْمَلُونَ (7)
ما هو موضوع هذا المقطع؟ وما علاقته بمقصد السورة؟
هذا المقطع هو بداية السورة، والبداية مهمة جدا لأنها تشكل المقدمة لما سيأتي لاحقا من معاني، والبداية كما نرى هنا جاءت قوية مهيبة ومباشرة في نفس الوقت، إلا أنها أتبعت بالتسلية مباشرة بعدها وذلك في قوله ( ولقد فتنا الذين من قبلهم )
للوهلة الأولى يتبادر للذهن أنه بعد ثلاثة عشر عاما من الابتلاء والصبر في مكة ستنزل الآيات لتهدئ من روع المسلمين في مكة، أو أن يكون الكلام فيها لطيفا رقيقا، إلا أن الآيات نزلت بأسلوب قوي من جهة ومباشرة من جهة أخرى، وكأنه صدمة عنيفة حركت مشاعر المسلمين في مكة وهزت شعورهم وأيقظتهم، حتى تؤسس لأفكار وتبني عقائد، ولتبين الأمر في المرحلة السابقة وتنطلق إلى المرحلة القادمة.
ولا شك أن المقصود الأعلى من الخلق العبادة، وأن المقصود الأعلى من العبادة المحبة، إلا أن المحبة تكون في القلب، والقلب له ترجمان هو اللسان، وللسان مصدقات هي الأعضاء، فإذا قال الإنسان آمنت باللسان فقد ادعى محبة الله في الجنان فلا بد له من شهود، فإذا بذل دمه وماله في سبيل الله فقد أتى بالشهود على صدق ما قال.
جاءت الآيات الأولى لتصحح ظنين خاطئين:
الأول: لأهل الإيمان
والثاني: لأهل الكفران.
الأول: وهو ظن المؤمنين بأن غاية الأمر أن يقولوا آمنا بألسنتهم، دون أن يمروا بابتلاءات تبرهن على صدق كلامهم الذي قالوه بألسنتهم ولتبين عمق الإيمان في قلوبهم
الثاني: وهو ظن الكافرين أنهم استطاعوا أن ينجوا من عذاب الله وأن الله لا يطولهم.
فجاءت الثلاث آيات الأول في إبطال هذين الظنين.
ثم تبعها آيتين:
الأولى في غاية التشويق: فإن من كان يرجو لقاء الله فسيأتيه موعد هذا اللقاء ولا شك، وطبعا هذا في بشرى لمن يرجو هذا اللقاء وهو من أهل الإيمان بالطبع، وأي محرك يدفعك للعمل مثل أملك في لقاء الله.
الثاني: في غاية التخويف: في حال غياب هذا المعنى، فإن بعض أهل الإيمان قد تأتيه فكرة: لماذا كل هذا العناء؟ وما هو الغرض من هذا كله؟ فيأتي الجواب هنا أن صبرك وثباتك على الابتلاءات التي سبق ذكرها للتو إنما هو لأجلك أنت، فإن الله لا يحتاج منك.
ثم ختم المقطع بآية واحدة في الحديث عمن نجح في هذه المهمة وفي اختبار الإيمان العظيم.
إذا جاءت هذه الآيات لترسم التصورات الصحيحة للطريق القادم، ولتشكل القاعدة التي يقوم عليها بناء السورة لاحقا بكل ما فيه، وهكذا تصنع الأئمة.
ويمكن تلخيص الأفكار التي يحتويها المقطع في النقاط التالية:
1- الابتلاء ملازم للإيمان.
2- الابتلاء سنة الله الماضية في السابقين جميعا.
3- سبب الابتلاء إنما هو تمييز الصادق من الكاذب.
4- قدرة الله فوق كل من فتن المؤمنين والمؤمنات، لا يعجزونه.
5- الدافع الرئيسي للصبر على الابتلاء هو الجزاء الذي عند الله.
6- المستفيد الوحيد من الصبر على الابتلاء هو الصابر الثابت.
7- الله غني عن صبركم وجهادكم لا يزيد صبركم في ملكه شيئا ولا ينقص خوركم من ملكه شيئا.
8- من ثبت وصبر في ميادين الابتلاء حاز الجنان وبلغ الغاية.
ما هي المعاني التي ينتهي إليه ااستخدام فعل الحسبان؟
الفعل حسب هنا يشبه أن يكون ناجما عن عملية حسابية عقلية محضة، وهذا قد يفع فيه بعض الناس، يقولون: نحن أهل الحق والإيمان، ونحن أولياء الله، فطالما دخلنا في الإيمان فستكون حياتنا في رخاء وهناء، فيفاجأ الداخلون في دين الله والدعوة إليه بان الأمر على العكس من حسبانهم السابق، ويتطاول عليهم البلاء، وتتوالى عليهم الاختبارات، وهنا تأتي التساؤلات لماذا لا ينصرنا الله؟ ألسنا على الحق؟ أليس الله معنا؟
وهنا تأتي هذه الآيات لتصحح حسابات المؤمنين هذه، وتنين لهم أن الفتنة والابتلاء ملازم للإيمان، فبمجرد دخولكم في دين الله وإعلانكم لكلمة التوحيد فحياتكم الباقية كلها عبارة عن اختبار طويل عميق لمعرفة مدى تجذر هذه الكلمة في قلوبكم، ومدى الفرق في المودة بينها وبين ما سواها مما يصرف عنها.
من هو الفاعل لفعل ( يتركوا )؟
فيها قولان:
الأول: الله عز وجل، فيصبح المعنى أحسب الناس أن يتركهم الله وقد قالوا آمنا دون أن يختبرهم بأقدار كتسليط الكفار عليهم، وبتكاليف كالهجرة والجهاد، وقيل أن الآيات هنا خاصة بالهجرة كما سيأتي.
الثاني: الكافرون من أقوام المؤمنين، فيصبح المعنى أحسب الناس أن يتركهم أقوامهم وقد قالوا آمنا دون أن يحاول هؤلاء الأقوام أن يفتنوا المؤمنين عن دينهم، بل الأصل أن يفتنهم أقوامهم لأن كل من يأتي بالتغيير سيحارب ويقاوم،
ولا تعارض بين التفسيرين فكلاهما مراد، فإن هؤلاء الفاتنين إنما فعلوا ما فعلوا بتقدير الله وأمره القدري، وإن كان الأقرب والأظهر هو المعنى الأول خاصة أنه جاء بعدها مباشرة كلمة ( فتنا ) أي بما لنا من العظمة والسؤدد.
ما معنى الفتنة؟
الفاء والتاء والنون: أصل صحيح يدل على اختبار وابتلاء. كما يقول ابن فارس في المعجم، وأصل الفتنة هي حرق الذهب لتصفيته مما عداه فيخرج منه خبثه ويبقى الذهب صافيا، وهذا هو أصل استخدام هذا المعنى، وقيل أن معناها الخلل والفساد وربما أتى هذا المعنى من النار التي يعرض عليها الذهب أو مما يحصل له من جراءها فيضطرب حتى يصفو، وربما أخذ هذا المعنى مما ينتج عن الخلل والفساد وهو بيان حقيقة نفوس الناس التي جرى عليها الخلل والفساد، وقيل أنها: ما يعرض على قلبك من اللذة والألم، حتى يتضح طريقك ووجهتك هل ستبقى على ولاية الله أم ستتولى غيره.
ما مناسبة قوله تعالى ولقد فتنا الذين من قبلهم؟
هذا فيه تسلية وتطمين لهؤلاء المسلمين، فكأنه يقول: كما فعلت بكم فعلت بمن كان قبلكم، ولم أتركهم بمجرد قولهم آمنا، بل امتحنهم واختبرهم على كرامتهم ورفعة درجاتهم عنده.
ما معنى الكذب هنا هنا؟
الكذب هنا بمعنى عدم مطابقة الأقوال للأفعال، والمعنى أنه لما قالها أولا كان صادقا لكن عندما جاءت التبعات لم يتحملها فترك الإيمان
ما المقصود بقوله ليعلمن؟
علم يترتب عليه ثواب وعقاب.
ما المقصود بالسيئات هنا؟
يجب أن تفسر السيئات هنا بما يتناسب مع السياق، والذي يظهر أن معنى السيئات هنا هو ( فتنة المؤمنين عن دينهم )
ما معنى قوله أن يسبقونا؟
السبق هنا مستعمل مجازا في النجاة والإفلات، وكأن الله لن يدركهم، يقال سبقوه ولم يدركهم، فالذين يعملون السيئات وهم الذين يفتنون المؤمنين، وأمهلهم الله وأخرهم زمنا، قد يظنون أنهم قد أفلتوا من العقوبة وأن الله لن يقدر عليهم، فجاءت هذه الآيات لتبين حقيقة الأمر وأن الله لا يعجل لعجلة أحد، فإن من يستعجل في أخذ حقه إنما يخاف تغير الأمور أما الله فلأنه يملك كل شيء فلا يستعجل في القصاص.
ما هي المعاني التي ينتهي إليها استخدام نا الدالة على الجماعة في قوله يسبقونا؟
نا الدالة على الجماعة هنا لاستحضار العظمة والقدرة، فكأن الآيات تقول: أم حسب الذين يعملون السيئات أن يسبقونا على الرغم ما لنا من العظمةوالكبرياء.
ما مناسبة قوله من كان يرجو لقاء الله ؟
الظاهر أن معنى هذه الآية: أن من كان يؤمن بالبعث ووعد الله به إيمانا يقينيا جازما، فإن عليه أن يؤمن باليوم الذي سينصر الله فيه المؤمنين سواء في الدنيا بالظهور عليهم أو في الآخرة بالاقتصاص منهم وإلقائهم في جهنم ملومين مدحورين، وهذا هو معنى أجل الله، أي وقت نصره لعباده المؤمنين إما في الدنيا أو في الآخرة، وفي مثل هذا المعنى تجد قوله تعالى ( فإما نرينك بعض الذي نعدهم أو نتوفينك ).
فكأن الآية تقول لك: يا من آمنت بالآخرة إيمان اليقين، اعلم أن وعد الله بنصره للمؤمنين آت – كما أن الآخرة آتية – لا ريب في ذلك ولا شك، وأما وقت المجيء فإن أمره لله وحده.
هي تحدد المعنى الأهم الذي يزرع اليقين بوعد الله بنصر دينه وإهلاك أعداءه سواء كان في الدنيا أو في الآخرة، وهذا المعنى هو ( رجاء لقاء الله ) أي الإيمان بيوم الدين.
مناسبة قوله ومن جاهد بعد ما سبقها من الآيات؟
الجهاد هنا ليس بقسيم لما سبق من الكلام، والواو هنا ليست للتقسيم، بل إن ( من جاهد ) هنا هو جزء ممن ( كان يرجو لقاء الله ) هنا.
وأما المراد بالجهاد هنا فليس هو الجهاد المعروف، وإنما الجهاد هنا ( عدم تغيير الولاء تحت ضغوطات الفتنة والابتلاء ) كما هو مقصد السورة، فإن من جاهد نفسه حتى لا تنزلق في مستنقع التنازلات فهو المراد ههنا.
والآية هنا في الحديث عمن استكثر العطاء، خاصة مع طول البلاء فربما حدثته نفسه: وماذا بعد؟ ما الفائدة من كل هذا؟ فتأتي الآية هنا تحمل الجواب: هذا لنفسك، ولنفسك أي أنك ستجد أجر عدم تغيير ولائك على الرغم من طول البلاء، وأن تثبت بوصلة الولاية ههنا إنما هي لأجل الأجر الذي ستناله يوم القيامة.
ومنهم من قال: لنفسه : أي لجميع المسلمين أي للأمة فمن ترك هذا ذهبت الأمة، وسترون أثر هذه المجاهدة على كل المسلمين، فمن ترك ثغره فسيرى الأثر على الأمة كلها.
ما المقصود بالصالحات؟
كما فسرنا السيئات بفتنة المؤمنين، وهو تفسير مناسب للسياق، نفسر الصالحات هنا بثبات بوصلة الولاية أي بالاتجاه المعاكس تماما للسيئات،وهذا التفسير مناسب للسياق وحمل للمعنى العام للكلمة على معنى خاص مراد هنا يناسبه سياق السورة.
مامناسبة قوله والذين آمنوا وعملوا الصالحات بعد ذلك؟
قوله هنا يشبه أن يكون بيانا وتوضيحا لما سبق ذكره من كون من يجاهد فإنما يجاهد لنفسه، فجاء الجواب هنا في توضيح ذلك، وأيضا جاء هذا في مقابل ما سبق من ذكر من عمل السيئات، على عادة القرآن في ذكر الترغيب والترهيب وذكر الحسنة مع السيئة.
ما المقصود بسيئاتهم؟
قيل ما كان قبل الجاهلية
وقيل أنه السيئات التي يقع فيها هؤلاء العاملون للدين مما لا يستطيع البشر الانفكاك عنه، وهذا ينسف التصور الكامل لمن يعمل بالدعوة بأنه شخص لا تظهر منه سقطات وهفوات، فالمطلوب من كل مسلم العمل بالدعوة مهما كان حاله.
وقد قص لنا التاريخ حالات كثيرة مثل هذه فهذا صحابي يسلم ويجاهد دون أن يسجد لله سجدة، ومثله سحرة فرعون كانوا سحرة صاروا أولياء الله وألقوا ساجدين لما رأوا الآيات.
جميع الحقوق متاحة للمسلمين دون اشتراط ذكر المصدر © 2023 7a9ad.com. All Rights Reserved