فجور الكفرة في سورة عبس
حقيقة المعرضين في سورة عبس
ما هي الأسماء الواردة فيها ؟
سميت هذه الصورة في المصاحف وكتب التفسير وكتب السنة «سورة عبس» .
وفي «أحكام ابن العربي» عنونها «سورة ابن أم مكتوم» . ولم أر هذا لغيره. وقال الخفاجي: تسمى «سورة الصاخة» . وقال العيني في «شرح صحيح البخاري» تسمى «سورة السفرة» ، وتسمى سورة «الأعمى» ، وكل ذلك تسمية بألفاظ وقعت فيها لم تقع في غيرها من السور أو بصاحب القصة التي كانت سبب نزولها.
ولم يذكرها صاحب «الإتقان» في السور التي لها أكثر من اسم وهو عبس.
مكان نزولها؟
مكية بالاتفاق
كم عدد آياتها ؟
وعدد آيها عند العادين من أهل المدينة وأهل مكة وأهل الكوفة اثنتان وأربعون، وعند أهل البصرة إحدى وأربعون وعند أهل الشام أربعون.
وهي أولى السور من أواسط المفصل.
هل ثبت شيء في فضلها ؟
لم يثبت في فضلها شيء
ما هو مقصد السورة وما هي القرائن التي دلت على ذلك، وما مناسبة الاسم للمقصد؟
ابتدأت السورة بالحديث عن حادثة ابن أم مكتوم التي جرت والتي نزل السورة بمناسبتها، وقد جعل أكثر الباحثين في السورة ظاهر هذه القصة هي محورها، وجعل البقاعي مقصد السورة قوله تعالى ( إنما أنت منذر من يخشاها )، ونقل عن ابن الزبير ما مفاده: لما قال سبحانه {إن في ذلك لعبرة لمن يخشى} [النازعات: 26] وقال بعد {إنما أنت منذر من يخشاها} [النازعات: 45] افتتحت هذه السورة الأخرى بمثال يكشف عن المقصود من حال أهل التذكر والخشية وجميل الاعتناء الرباني بهم وأنهم وإن كانوا في دنياهم ذوي خمول لا يؤبه لهم فهم عنده سبحانه في عداد من اختاره لعبادته وأهله لطاعته وإجابة رسوله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وأعلى منزلته لديه «رب أشعث أغبر لا يؤبه له لو أقسم على الله لأبره») ا.ه .
وهذا مذهب ليس ببعيد، إلا أن ما جعلنا – نحن فريق العمل في الموقع – نعيد النظر في المقصد، ابتعاد الكلام في باقي السورة والمقاطع عن هذا المعنى فنجد أن الكلام بعد هذا المقطع توزع على ثلاثة أمور:
الأول: علو قيمة الدعوة
الثاني: التعجيب من حال الكافرين وذمهم في ردهم لهذه الدعوة جحودا وعنادا
الثالث: الحديث عن يوم القيامة .
فلا بد إذا من إيجاد مناسبة قوية بين هذه المقاطع وبين المقصد تجيب عن جميع التساؤلات، وتجمع جميع أجزاء السورة في سياق واحد، والذي استقر عليه الرأي أن موضوع السورة هو ( بيان فجور الكفرة )، وأصل الفجور هو التفتح في الشيء ومنه سمي الفجر فجرا لانبعاث الضوء وسمي الفاجر فاجرا لانبعاثه في المعاصي، ولذلك سمي الكذب فجورا، ثم كثر هذا حتى سمي كل مائل عن الحق فاجرا، وكأن السورة تحمل رسالة للنبي صلى الله عليه وسلم وللدعاة من بعده:
أن هؤلاء الكفار المعرضين عن الدعوة، قد بلغوا حالة من الفجور في ردهم لهذه الدعوة ذات المكان الرفيعة، حدا لا يستحقون معه أي تقديم أو اهتمام، لأنهم كفروا فجورا وزورا ولم يكفروا لخفاء الحق عليهم، وكيف يخفى الحق عليهم، وهذه آيات الله المسطورة، الرفيعة المكانة تتلى عليهم، وهذه آيات الله المنظورة حاضرة في عناية الحق تجللهم منذ أن كانوا نطفا، إلى أن يصيروا في المقابر، ليس في الإيجاد وحده، بل في العناية والرعاية والكفاية طول حياتهم، فإذا كان الأمر كما ذكرنا لك فبشرهم بعذاب يوم ليس كمثله يوم.
فكأن ذكر ما جرى في هذه الحادثة كان توطئة وتهيئة لذكر هذه المعاني العظيمة التي أوردتها السورة في طياتها لاحقا، وكان الحديث عن الكفرة وعن فجورهم وعن سفول قيمتهم ودنو مرتبتهم في مقابل علو الدعوة ورفعة مقامها ومقام المقبلين عليها وإن هانوا في مقاييس الدنيا هو لب السورة ومحورها.
أضف إلى ذلك أمرا مهما وهو انفراد هذه السورة بذكر هذه الألفاظ إذ لم ترد هاتان الكلمتان في موضع آخر أو سورة أخرى، وإلى نحو هذا أشار البقاعي رحمه الله في آخر ما كتب في السورة قائلا (فقد عاد آخرها على أولها فيمن يستحق الإعراض عنه ومن يستحق الإقبال عليه – والله الهادي.) ا ه
وقد تكررت كلمة الجحود ومشتقاتها كثيرا في كلام محمد عزة دروزة رحمه الله وكأنه يرى هذا المعنى أبرز المعاني في السورة.
والنهي عن الإعراض عن الضعفاء والمغمورين تكرر غير مرة في القرآن، منها هذا الموضع ومنها قوله تعالى في سورة الكهف ( واصبر نفسك مع الذين يدعون ربهم بالغداة والعشي .. ) ومنها ما جاء في سورة الأنعام ( ولا تطرد الذين يدعون ربهم بالغداة والعشي يريدون وجهه ما عليك من حسابهم من شيء وما من حسابك عليهم من شيء فتطردهم فتكون من الظالمين وكذلك فتنا بعضهم ببعض ليقولوا أهؤلاء من الله عليهم من بيننا أليس الله بأعلم بالشاكرين )
وليس هذا قاصرا على النبي صلى الله عليه وسلم فحسب بل كان من زمن نوح عليه السلام سنة جاهلية ( أنؤمن لك واتبعك الأرذلون )
ما هي أهمية هذه الحادثة لكي يعلق الله عليها عقيدة ( فجور الكفرة وسفول قيمتهم )؟
بداية لا بد من التنويه إلى أن المتتبع المتبصر في كتاب الله عز وجل يظهر له جليا طريقة القرآن في اتخاذ الحادث المفرد والمناسبة المحدودة فرصة لتقرير الحقيقة المطلقة والمنهج المطرد.
ليس هذا فحسب بل وسنحاول أن نكشف عن جوانب من الآماد البعيدة التي تشير إليها بعض مقاطعها مما قد لا تدركه النظرة الأولى.
الحقيقة التي استهدف هذا التوجيه تقريرها هنا والآثار الواقعية التي ترتبت بالفعل على تقريرها في حياة الأمة المسلمة، هي الإسلام في صميمه. وهي الحقيقة التي أراد الإسلام- وكل رسالة سماوية قبله- غرسها في الأرض.
هذه الحقيقة ليست هي مجرد: كيف يعامل فرد من الناس؟ أو كيف يعامل صنف من الناس؟ كما هو المعنى القريب للحادث وللتعقيب. إنما هي أبعد من هذا جدا، وأعظم من هذا جدا. إنها: كيف يزن الناس كل أمور الحياة؟ ومن أين يستمدون القيم التي يزنون بها ويقدرون؟
والحقيقة التي استهدف هذا التوجيه إقرارها هي: أن يستمد الناس في الأرض قيمهم وموازينهم من اعتبارات سماوية إلهية بحتة، آتية لهم من السماء، غير مقيدة بملابسات أرضهم، ولا نابعة من تصوراتهم المقيدة بهذه الملابسات.
وهو أمر عظيم جدا، كما أنه أمر عسير جدا. عسير أن يعيش الناس في الأرض بقيم وموازين آتية من السماء. مطلقة من اعتبارات الأرض. متحررة من ضغط هذه الاعتبارات.
ندرك عظمة هذا الأمر وعسره حين ندرك وصعوبة التخلي عن الملابسات والضغوط الناشئة من الحياة الواقعية للناس، المنبثقة من أحوال معاشهم، وارتباطات حياتهم، وموروثات بيئتهم، ورواسب تاريخهم.
كذلك ندرك عظمة هذا الأمر وعسره حين ندرك أن نفس محمد بن عبد الله- صلى الله عليه وسلم- قد احتاجت- كي تبلغه- إلى هذا التوجيه من ربه بل إلى هذا العتاب الشديد، الذي يبلغ حد التعجيب من تصرفه! وإنه ليكفي لتصوير عظمة أي أمر في هذا الوجود أن يقال فيه: إن نفس محمد بن عبد الله- صلى الله عليه وسلم- قد احتاجت- كي تبلغه- إلى تنبيه وتوجيه!
يجيء هذا الحادث لتقرير هذه القيمة في مناسبة واقعية محددة. وليقرر معها المبدأ الأساسي: وهو أن الميزان ميزان السماء، والقيمة قيمة السماء. وأن على الأمة المسلمة أن تدع كل ما تعارف عليه الناس، وكل ما ينبثق من علاقات الأرض من قيم وتصورات وموازين واعتبارات، لتستمد القيم من السماء وحدها وتزنها بميزان السماء وحده!
مما يلفت النظر أيضا في هذه الحادثة: الوقت والمكان اللذان أتت فيهما هذه التوجيهات الربانية، أين هذا؟ ومتى؟ في مكة، والدعوة مطاردة، والمسلمون قلة. والتصدي للكبراء لا ينبعث من مصلحة ذاتية والانشغال عن الأعمى الفقير لا ينبعث من اعتبار شخصي. إنما هي الدعوة أولا وأخيرا. ولكن الدعوة إنما هي هذا الميزان، وإنما هي هذه القيم، وقد جاءت لتقرر هذا الميزان وهذه القيم في حياة البشر. فهي لا تعز ولا تقوى ولا تنصر إلا بإقرار هذا الميزان وهذه القيم..
ومن الأمور التي تلفت النظر في هذه الحادثة وما تلاها من تعقيب إعلان الرسول صلى الله عليه وسلم أنه عوتب بهذا العتاب الشديد في خطأ أتاه، وكان يكفيه غير النبيء في هذه الحالة أن يعرف الخطأ ويتلافاه في المستقبل، ولكنها النبوة والرسالة والبلاغ.
ومن الأمور التي يجب الوقوف عندها في هذه الحادثة: أنه لا يقوى إلا رسول على أن يقذف بهذا الأمر هكذا في وجوه كبراء قريش في مثل تلك الظروف التي كانت فيها الدعوة، مع أمثال هؤلاء المستعزين بنسبهم وجاههم ومالهم وقوتهم، في بيئة لا مكان فيها لغير هذه الاعتبارات
(حادثة الأعمى)
عَبَسَ وَتَوَلَّى (1) أَنْ جَاءَهُ الْأَعْمَى (2) وَمَا يُدْرِيكَ لَعَلَّهُ يَزَّكَّى (3) أَوْ يَذَّكَّرُ فَتَنْفَعَهُ الذِّكْرَى (4) أَمَّا مَنِ اسْتَغْنَى (5) فَأَنْتَ لَهُ تَصَدَّى (6) وَمَا عَلَيْكَ أَلَّا يَزَّكَّى (7) وَأَمَّا مَنْ جَاءَكَ يَسْعَى (8) وَهُوَ يَخْشَى (9) فَأَنْتَ عَنْهُ تَلَهَّى (10)
ما مناسبة هذا المقطع وما هي مناسبته لمقصد السورة؟
هذا المقطع هو بداية السورة، ذكرت فيه قصة الأعمى والتي هي عماد السورة وشرارة البدء لإطلاق هذا الإعلان والتوجيه الرباني، وهي المشجب الذي علقت عليه كل معاني السورة ومقاطعها التالية، وعلاقته بالسورة والمقصد لا يخفى على ناظر.
ما مناسبة الحديث بصيغة الغائب في بداية السورة ثم الالتفات إلى صيغة المتكلم ؟
الحديث بصيغة الغائب في العتاب ألطف وأرحم وأكرم، وأبعد عن المواجهة بما يكره، ولما بان هذا العتاب وما صاحبه من إجلال لمقام النبي صلى الله عليه وسلم وكان طول الإعراض موجبا للانقباض، أقبل عليه بالحديث صلى الله عليه وسلم بقوله ( وما يدريك )، فرفع مقامه في الأولى ثم زاده رفعة في الثانية.
ومن أغراض الغيبة أيضا التشويق فلو أن قائلا في مجلس تحدث عن رجل فقال : فعل كذا وكذا دون ذكر اسمه لتشوفت النفوس لمعرفته.
ما دلالة استخدام كلمة الأعمى؟
ذكرت كلمة الأعمى دون ذكر اسم الصحابي المجرد رضي الله عنه لعدة أسباب:
منها: أن الأعمى أجدر بالعناية من غيره لما ييسرع في قله من انكسار
ومنها: أن الأعمى إشارة إلى عدم شعوره بعبوس النبي صلى الله عليه وسلم وتوليه وعلى الرغم من هذا نزل في الحادثة قرآن يتلى فليس المقصود انتباه الأعمى ولكن المقصود تربية الدعاة في أنفسهم وقلوبهم.
ومنها: أن ليس من عادة القرآن ذكر الأسماء وإنما الأوصاف وهذا كثير جدا في القرآن
ومنها: الإشارة بالوصف لها دلالاتها لتبقى هذه الدلالات إلى يوم القيامة بالصفات لا بالأشخاص
ومنها: أن فيه إعذار له حيث لم يعلم بمن كان يحضر مجلس النبي صلى الله عليه وسلم
وفي الحادثة دروس منها:
أن العاهة لا تمنع أصحابها من بلوغ المعالي ومثل هذا كثير في تاريخ المسلمين وغيرهم
ومنها: الإشارة إلى أنه جاء يطلب الهدى مع أنه أعمى فالعمى عمى القلوب وليس عمى الأبصار
ومنها: رسالة إلى المسلم، ألا تحزن إن قطب في وجهك أحد، فربما كان بعد العبوس خير كثير فقد نزل به قرآن وزكاه الله عز وجل
ومنها: أن لا أحد فوق النقد والنصيحة فهذا رسول الله صلى الله عليه وسلم يوجهه ربه ويقوم مسيرته
ومنها: أن النصيحة ليست بالضرورة أن تكون سرية دائما، ولكن بحسب الأمر فإن كان المنكر علانية وجب التنبيه علانية وإن كان سرا فلا باس بالإسرار بها.
ومنها: أن الدين لا ينظر إلى القيم الاجتماعية والأتباع بل إلى التقوى والإقبال على الله وعلى الدعوة.
ومنها: التحذير من الاستغناء عن الدعوة، وهذا قد لا يحصل من قبل المعرضين فقط، بل قد يكون من طلاب العلم للدعاء والوعاظ خاصة المبتدئين وفرق بين أن يقوم لظرف أو يقوم وهو يحمل شعور الاستغناء في قلبه، والاستغناء عمل قلبي
ومنها: في قوله ( وما عليك ألا يزكى): ففيه بيان لحقيقة دور الدعاة فقد تدعو إنسان ولا يستجيب فلا عليك ولا تهتم لمثل هذا الأمر واستقم فقد أديت ما عليك.
ومنها: أن الأعمال القليلة قد تدخلك الجنة
ومنها: عدم إهمال من فيهم البركة تهتم بالجميع ولن تندم
ومنها: أن بعض تقديراتنا قد تكون خاطئة فلا بد من المراجعة دائما.
ألم يكن من الأفضل في حق النبي صلى الله عليه وسلم ألا تحدث مثل هذه الحادثة؟
الجواب على هذا من عدة وجوه:
أولا: أنه لم تحدث إلا مرة واحدة مما يدل على رفعة أخلاقه صلى الله عليه وسلم.
ثانيا: أن وقوع مثل هذه الحادثة فيه مصلحة للدعوة والدعاة، وتشريع ماض إلى يوم القيامة، وربما حدثت ليتم التشريع أصلا، ومن أين لنا مثل هذه النصائح والتوجيهات المباركة التي بقيت قرآنا يتلى في الأمة إلى يوم القيامة لو أنها لم تحدث ولو أن الوحي لم ينزل منوها بها، وقل مثل هذا في حوادث مثل غزوة أحد، ومثل حادثة تأبير النخل، ومثل ما حصل من الفتنة والاقتتال بين الصحابة، فمن أين سنحصل على مثل هذا النور وهذا التشريع الذي أضاء مسيرة الأمة إلى يوم القيامة.
ما مناسبة ذكر التذكر بعد التزكية؟
ذكر التذكر بعد التزكية لعل هذا إشارة إلى ضرورة التزكية للانتفاع من التذكر
أو: دلالة على أن كلا الأمرين مهمين جديرين بالاهتمام كل لوحده
(رفعة مكانة القرآن وعلو قيمته)
كَلَّا إِنَّهَا تَذْكِرَةٌ (11) فَمَنْ شَاءَ ذَكَرَهُ (12) فِي صُحُفٍ مُكَرَّمَةٍ (13) مَرْفُوعَةٍ مُطَهَّرَةٍ (14) بِأَيْدِي سَفَرَةٍ (15) كِرَامٍ بَرَرَةٍ (16)
ما مناسبة هذا المقطع وما هي مناسبته لمقصد السورة؟
هذا المقطع يبين قيمة القرآن وقيمة هذه الرسالة فهي كريمة في كل اعتبار. كريمة في صحفها، المرفوعة المطهرة الموكل بها السفراء من الملأ الأعلى ينقلونها إلى المختارين في الأرض ليبلغوها. وهم كذلك كرام بررة.. فهي كريمة طاهرة في كل ما يتعلق بها، وما يمسها من قريب أو من بعيد. وهي عزيزة لا يتصدى بها للمعرضين الذين يظهرون الاستغناء عنها فهي فقط لمن يعرف كرامتها ويطلب التطهر بها، وهذه هي الرسالة التي يحملها هذا المقطع.
ما هو المقصود بالسفرة؟
السفرة جمع سفير، وهي تحتمل معنيين:
الأول: السفرة بمعنى الكتبة وسموا كذلك لأنهم يظهرون الكلام بالكتابة
الثاني: السفرة جمع سفير وهو الرسول إلى القوم.
وكلا المعنيين محتمل يصدق على الملائكة حملة القرآن، فهم يكتبون الوحي والقرآن والأقدار وهم يحملون هذا القرآن إلى النبي صلى الله عليه وسلم.
فسبحان من حمل المعاني الكثيرة في اللفظ القليل.
ما دلالة ذكر الأيدي والصحف هنا؟
الأيدي والصحف دلالة حفظ الله عز وجل لكتابه ومنهجه ودعوة نبيه، فالدعوة محفوظة في أعلى عليين فليست بحاجة أحد لا شريف ولا وضيع، بل الناس كلهم يحتاجونها.
ما معنى فمن شاء ذكره؟
العبارة تحمل معنيين:
الأول: فمن شاء الله أن يذكر ألهمه الله ذكر القرآن
الثاني: فمن شاء أن يتذكر أذكره الله
وكلامهما مقبول محتمل فلا مانع من حملها على الوجهين، وهذا يشبه قوله تعالى ( فمن شاء فليؤمن ومن شاء فليكفر .. ) إلى آخر الآية، وهذا أسلوب في التهديد والوعيد في غاية الشدة والرهبة.
ما دلالة قول الله عز وجل: فمن شاء ذكره؟
فمن شاء ذكره : أي ليس كل الناس يهتدون بالقرآن فمن لم يهتدي بالقرآن لن يهتدي بسواه، وهذه إشارة مهمة إلى دور القرآن في الهداية وأن قراءة القرآن للمسلمين وغير المسلمين من أعظم ما يبلغ به الداعية دعوته ورسالة ربه كما جاء في قول الله تعالى ( وإن أحد من المشركين استجارك فأجره حتى يسمع كلام الله ثم أبلغه مأمنه )، وعلى هذا كان هدي النبي صلى الله عليه وسلم فقد كان يتلو على من يأتيه آيات من القرآن ولكم اهتدى أناس بمثل هذا من المسلمين وغيرهم ممن يحسن العربية ومن لا يحسنها.
(كفر وجحود في مقابل الإيجاد والإنعام)
قُتِلَ الْإِنْسَانُ مَا أَكْفَرَهُ (17) مِنْ أَيِّ شَيْءٍ خَلَقَهُ (18) مِنْ نُطْفَةٍ خَلَقَهُ فَقَدَّرَهُ (19) ثُمَّ السَّبِيلَ يَسَّرَهُ (20) ثُمَّ أَمَاتَهُ فَأَقْبَرَهُ (21) ثُمَّ إِذَا شَاءَ أَنْشَرَهُ (22) كَلَّا لَمَّا يَقْضِ مَا أَمَرَهُ (23) فَلْيَنْظُرِ الْإِنْسَانُ إِلَى طَعَامِهِ (24) أَنَّا صَبَبْنَا الْمَاءَ صَبًّا (25) ثُمَّ شَقَقْنَا الْأَرْضَ شَقًّا (26) فَأَنْبَتْنَا فِيهَا حَبًّا (27) وَعِنَبًا وَقَضْبًا (28) وَزَيْتُونًا وَنَخْلًا (29) وَحَدَائِقَ غُلْبًا (30) وَفَاكِهَةً وَأَبًّا (31) مَتَاعًا لَكُمْ وَلِأَنْعَامِكُمْ (32)
ما مناسبة هذا المقطع وما هي مناسبته لمقصد السورة؟
في هذا المقطع استدلال بربوبية الله عز وجل على ألوهيته، وفيه إشارة إلى السبب الحقيقي وراء كفر الكافرين ألا وهو الجحود والفجور، لا الجهل، وهذا المقطع يبين حقيقة الإنسان وضعفه ونعمة الله عليه في الإيجاد ابتداء ثم إخراجه من رحم أمه من منفذ ضيق، ثم الإماتة والإقبار، ثم النهاية في النشور وإعادة الخلق، كل ما سبق من جهة، ومن جهة أخرى في الإنعام عليه بالطعام، في جميع مراحله ابتداء من إنزال المطر وحتى إنباته أنواعا وألوانا، ثم جعله قوام الأنعام التي فيها المتاع ونوع آخر من الطعام.
وموقع هذه الكلام هنا بعد الحديث عن علو مرتبة الرسالة والكتاب، يحمل رسالة عجيبة مفادها: كيف طاوعتك نفسك أيها الإنسان وقد رأيت ما رأيت من منزله هذه الدعوة، كيف طاوعتك نفسك أن تكفر بها وأن تجحدها وأنت ما أنت من ضعف وافتقار إلى الإيجاد ابتداء ثم إلى العناية والرعاية على طول فترة حياتك.
أما يصحو هذا المغرور؟! أما يفيق هذا المخدوع؟!
ما دلالة قوله تعالى ( قتل الإنسان ما أكفره )؟
هذه العبارة تحتمل أمرين :
الأول: أنه استفهام توبيخ أي: أي شيء حمله على الكفر ؟
الثاني: تعجب من شدة كفره: أي ما أشد كفر الإنسان؟
ولا توجد هذه المعاني الكثيرة إلا في مثل هذه الألفاظ الوجيزة.
ما مناسبة الترتيب في ذكر الطعام؟
ابتدأ بالحب لأنه أعظم المطعومات وأكفاها للإنسان، ثم ثنى بالعنب لما يتخذ من فاكهة وادخار والقضب لطعام الأنعام، ثم الزيتون والنخل كذلك، وذكر النخل دون التمر لأن النخل كله يستخدم لا يرمى منه شيء، ثم ذكر الحدائق العظيمة، واختتم بالفاكهة عامة بعد تخصيص وذكر الأب طعام الأنعام، وبينه في الآية الأخيرة، فكان في الآيات ذكر الطعام من النبات بشكل مباشر، ثم ما يعيش عليها من الأنعام وما يؤكل منها بشكل غير مباشر.
ما دلالة قوله تعالى ( كلا لما يقض ما أمره ) ؟
جاءت هذه الجملة متوسطة بين الحديث عن الخلق بداية ونهاية، وبين الحديث عن الرعاية، وكأنه واسطة العقد، ومثل هذا المكان المختار للتنبيه على أهمية هذه الجملة وجدارتها بالانتباه والاهتمام, وكأنها تحمل رسالة فحواها الجواب على أول جملة في المقطع ( قتل الإنسان ما أكفره ) فبينت أن سبب هذا الدعاء عليه، هو عدم قيامه بواجبه تجاه الله عز وجل، المنعم بابتداء الخلق وباستمرار العناية والرعاية.
ما دلالة كلمة ( لما ) خاصة؟
هذه الكلمة تفيد عدم حدوث الفعل في الوقت الحاضر خاصة مع توقع حصوله مستقبلا، وفيها دلالتان:
الأولى: إبقاء باب التوبة والإيمان مفتوحان أمام هؤلاء الكفرة الفجرة
الثانية: بيان الطريق الموصل إلى هذا الإيمان، بشيئين : الأول : الاعتبار بالقرآن ( فمن شاء ذكره ) والثاني: الاعتبار بالآيات الكونية من خلق وعناية ( من أي شيء خلقه – فلينظر الإنسان إلى طعامه )
(الآن يصحو المغرور، ويفيق المخدوع)
فَإِذَا جَاءَتِ الصَّاخَّةُ (33) يَوْمَ يَفِرُّ الْمَرْءُ مِنْ أَخِيهِ (34) وَأُمِّهِ وَأَبِيهِ (35) وَصَاحِبَتِهِ وَبَنِيهِ (36) لِكُلِّ امْرِئٍ مِنْهُمْ يَوْمَئِذٍ شَأْنٌ يُغْنِيهِ (37) وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ مُسْفِرَةٌ (38) ضَاحِكَةٌ مُسْتَبْشِرَةٌ (39) وَوُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ عَلَيْهَا غَبَرَةٌ (40) تَرْهَقُهَا قَتَرَةٌ (41) أُولَئِكَ هُمُ الْكَفَرَةُ الْفَجَرَةُ (42)
ما مناسبة هذا المقطع وما هي مناسبته لمقصد السورة؟
يحكي هذا المقطع الوقت الذي يفيق فيه هذا المخدوع المغرور الذي قابل نعم الله السابغة – ابتداء بالوحي وانتهاء بالطعام – بكل الكفر والجحود، ويفاجأ هذا المغرور بصوت عال يطرق الأسماع ويقرعها، ولا يبقى له عزيز يتعلق به، حين يتفرق الناس بين ضاحك مستبشر برحمة الله ورضوانه، وبين من تعلوه الكدرة والغبرة.
ما دلالة ذكر الصاخة هنا دون غيرها من الألفاظ؟
الصاخة هنا تعبير عن شدة الصوت، وشدة الصوت مناسبة هنا للانتباه بعد ذكر التنعم، إذ أن الإنسان المتنعم لا ينبهه إلا الصوت الشديد، وقد جاء ها بعد ذكر النعم لبني آدم ولما سخره الله لهم من أنعام.
كما أن الصاخة هنا مناسبة لذكر الأعمى حيث أن الأعمى يسمع ولكنه لا يرى، فناسب ذكر الصوت مع الأعمى، وفي النازعات جاء ذكر الرؤية ( فأراه الآية الكبرى ) فناسب معها ذكر ما يرى من أحداث الساعة.
ما مناسبة ذكر المرء دون غيره كالإنسان مثلا؟
المرء هنا من المروءة، وصاحب المروءة غالبا لا يفر، فكأن الآيات تقول: أنه في مثل هذا اليوم الرهيب الذي يصم الآذان تجد حتى أصحاب المروءة يفرون من ألصق الناس بهم.
ما مناسبة الترتيب الأخ ثم الأم والأب ثم الصاحبة والبنين؟
هذا الترتيب جاء مع قضية نصرة بخلاف ما جاء في سورة النازعات فقضية افتداء، وفي النصرة غالبا يقدم الأخ، والأخ أيضا أقرب في النصرة، فغالبا الأخوة ينشؤون مع بعض ويعرفون أشياء عن بعض لا يعرفها لا الأب ولا الأم، ولو احتاج الإنسان شيئا فغالبا لا يتحرج من طلب شيء من أخيه بخلاف أمه أو أبيه أو أسرته، وهذا في العموم، ولهذا بكت الخنساء أخاها سنين طويلة وقالت: الزوج موجود والابن مولود والأخ مفقود.
ثم جاءت بقية المذكورات بحسب الأقرب في النصرة.
جميع الحقوق متاحة للمسلمين دون اشتراط ذكر المصدر © 2023 7a9ad.com. All Rights Reserved