وعد الله في الرزق

( وعد الله في الرزق )

وَإِذَا مَسَّ النَّاسَ ضُرٌّ دَعَوْا رَبَّهُمْ مُنِيبِينَ إِلَيْهِ ثُمَّ إِذَا أَذَاقَهُمْ مِنْهُ رَحْمَةً إِذَا فَرِيقٌ مِنْهُمْ بِرَبِّهِمْ يُشْرِكُونَ (33) لِيَكْفُرُوا بِمَا آتَيْنَاهُمْ فَتَمَتَّعُوا فَسَوْفَ تَعْلَمُونَ (34) أَمْ أَنْزَلْنَا عَلَيْهِمْ سُلْطَانًا فَهُوَ يَتَكَلَّمُ بِمَا كَانُوا بِهِ يُشْرِكُونَ (35) وَإِذَا أَذَقْنَا النَّاسَ رَحْمَةً فَرِحُوا بِهَا وَإِنْ تُصِبْهُمْ سَيِّئَةٌ بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ إِذَا هُمْ يَقْنَطُونَ (36) أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّ اللَّهَ يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشَاءُ وَيَقْدِرُ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ (37) فَآتِ ذَا الْقُرْبَى حَقَّهُ وَالْمِسْكِينَ وَابْنَ السَّبِيلِ ذَلِكَ خَيْرٌ لِلَّذِينَ يُرِيدُونَ وَجْهَ اللَّهِ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ (38) وَمَا آتَيْتُمْ مِنْ رِبًا لِيَرْبُوَ فِي أَمْوَالِ النَّاسِ فَلَا يَرْبُو عِنْدَ اللَّهِ وَمَا آتَيْتُمْ مِنْ زَكَاةٍ تُرِيدُونَ وَجْهَ اللَّهِ فَأُولَئِكَ هُمُ الْمُضْعِفُونَ (39) اللَّهُ الَّذِي خَلَقَكُمْ ثُمَّ رَزَقَكُمْ ثُمَّ يُمِيتُكُمْ ثُمَّ يُحْيِيكُمْ هَلْ مِنْ شُرَكَائِكُمْ مَنْ يَفْعَلُ مِنْ ذَلِكُمْ مِنْ شَيْءٍ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ (40) ظَهَرَ الْفَسَادُ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ بِمَا كَسَبَتْ أَيْدِي النَّاسِ لِيُذِيقَهُمْ بَعْضَ الَّذِي عَمِلُوا لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ (41) قُلْ سِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَانْظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الَّذِينَ مِنْ قَبْلُ كَانَ أَكْثَرُهُمْ مُشْرِكِينَ (42) فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ الْقَيِّمِ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَ يَوْمٌ لَا مَرَدَّ لَهُ مِنَ اللَّهِ يَوْمَئِذٍ يَصَّدَّعُونَ (43) مَنْ كَفَرَ فَعَلَيْهِ كُفْرُهُ وَمَنْ عَمِلَ صَالِحًا فَلِأَنْفُسِهِمْ يَمْهَدُونَ (44) لِيَجْزِيَ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ مِنْ فَضْلِهِ إِنَّهُ لَا يُحِبُّ الْكَافِرِينَ (45) وَمِنْ آيَاتِهِ أَنْ يُرْسِلَ الرِّيَاحَ مُبَشِّرَاتٍ وَلِيُذِيقَكُمْ مِنْ رَحْمَتِهِ وَلِتَجْرِيَ الْفُلْكُ بِأَمْرِهِ وَلِتَبْتَغُوا مِنْ فَضْلِهِ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ (46)

ما هو موضوع هذا المقطع؟ وما علاقته بمقصد السورة؟

يكاد هذا المقطع يكون كله في الرزق، والحديث عنه، وموقف الإنسان من رزق الله الذي يأتيه نقصا وزيادة.

والرزق يكاد يكون من المواضيع المهمة المتعلقة بوعد الله وحتمية تحقيقه، ولأجل ضعف يقين كثير من الناس بوعد الله في أمر الزرق خاصة، يبغي من يبغي إن بسط عليه الرزق ويكفر من كفر إذا قدر عليه رزقه، ويمنعون الناس فضول أموالهم، ويتقحمون في المحرمات سواء كان ربا أو غير ذلك، وكل هذا من مظاهر ضعف اليقين برزق الله فجاءت هذه الآيات لتعالج هذا الأمر خاصة.

ولو تأملت لرأيت هذا المعنى يرجع إلى قوله تعالى ( يعلمون ظاهرا من الحياة الدنيا )، وكيف أن الناس يقبلون على التكاثر من الأموال ما استطاعوا دون مراعاة للحلال والحرام في مكاسبهم، فينظرون إلى كمية المال الذي بين أيديهم بحسابات مادية بحتة، دون اعتبار للرازق نفسه ووعده بالبركة للحلال ووعده بالمحق للحرام خاصة الربا التي ذكرته الآية بشكل صريح.

ما هي المعاني التي ينتهي إليها ذمهم على الفرح بوصول الرحمة مع أنه مأمور به في مواضع أخرى ؟

أمر الله عز وجل بالفرح بفضل الله ورحمته في مواضع أخرى، وذلك في قوله تعلى ( قل بفضل الله ورحمته فبذلك فليفرحوا )، ثم إنه ذمهم هنا لأسباب:

الأول: أن المراد بقوله تعالى ( بفضل الله وبرحمته ) هو ما أنزل عليهم من الوحي والهدى بدليل قوله بعد ذلك ( هو خير مما يجمعون )، فجعل المقابل له أمرا ماديا دنيويا فعلم أن ما قبله أمر معنوي أخروي.

الثاني: أن فرحهم بالعطاء اقترن بسخطهم على المنع، والواجب أن يكون العبد فرحا راضيا في العطاء والمنع.

الثالث: أن تعلقهم كان بالنعمة نفسها لا بالمنعم، كمثل رجلان جاءتهما هدية ففرح الأول بالهدية كونها من هذا الشخص بعينه، وفرح الثاني بالهدية كونها كسبا ماديا أتاه بغض النظر ممن جاءته، فشتان بين الاثنين.

ما هي مناسبة إعادة الحديث عن ثنائية العطاء والمنع في قوله تعالى ( وإذا أذقنا الناس رحمة فرحوا بها ..) ؟

قد يظن القارئ المتعجل أن الحديث هنا قد أعيد، وأن الحديث عن هذه الثنائية هنا هي نفسها فيما سبقت، إلا أن القارئ المتدبر يلتقط مكامن الخلاف بين الحديثين:

أما الحديث الأول إنما هو عن حالة الإنسان الذي تصيبه ضراء، فإذا هو يتضرع إلى الله أن يكشفها عنه، ثم إذا كشفها الله عنه تولى وأعرض وولغ في الشرك.

وأما الحديث الثاني فهو عن الحالة المعاكسة تماما: ألا وهي حالة الإنسان الذي تصيبه السراء فيفرح ويرضى، فإذا زالت عنه السراء قنط وسخط وأعرض.

وكلا الحالتين تنعي على ابن آدم خفته في التعامل مع هذه الموضوع، فلا هو يشكر إن بسط له في الرزق ولا هو يصبر إن قدر عليه فيه، فهو سريع التقلب ينساق إلى الظلم سريعا سواء أعطي أو منع.

فهو حديث عن نوعين متعاكسين من الناس، أو عن ردتي فعل متعاكستين للناس، ولأجل ذلك أعيد الحديث هنا عن هذه الثنائية ولكن بالشكل المعاكس.

ما هي مناسبة قوله تعالى ( أولم يروا .. ) ؟

تكاد هذه الآية أن تكون هي الآية المحورية في هذا المقطع،ويكاد يكون ما قبلها توطئة لها، وأهمية هذه الآية تكمن في أنها تقدم الحل لما سبق من مسارعة الناس في الكفر إن أصابتهم السراء ومسارعتهم إلى القنوط إن أصابتهم ضراء، والحل في تعزيز اليقين بأن الله وحده هو الذي يملك الرزق وأنه يبسطه لمن يشاء متى يشاء، وأنه يقدره على من يشاء متى ما يشاء، فمتى ما تعزز اليقين بهذا الأمر توجهت القلوب إلى خالقها في السراء والضراء، ولم يعدو حالها الصبر في الضراء، والشكر في السراء، وهكذا لا يغادر القرآن قضية مطروحة إلى ويطرح حلها بعد أن يعرض جوانبها.

ما هي مناسبة التذييل بقوله تعالى: إن في ذلك لآيات لقوم يؤمنون؟

الإيمان هنا بمعنى التصديق، والتصديق متعلق بخبر، ومن يصدق في أخباره يصدق في وعده ولا شك، ومن أراد معرفة صدق الله في أخباره فلينظر في تصرفه في رزقه، يظهر له صدق الله عز وجل في خبره وفي وعده.

ما مناسبة التعقيب بقوله تعالى: فآت ذا القربى حقه؟

الفاء هنا هي الفاء الفصيحة وهي ترتب ما بعدها على ما قبلها من المعاني، فيكون معنى الكلام:

إذا علمت أن الأمر لله من قبل ومن بعد، وأن وعد الله لا يخلف، وأنه يبسط الرزق لمن يشاء ويقدر، فلا تمسك ولا تبخل، وأنفق، فإن ذلك خير للموقنين بوعد الله الذين لا يريدون إلا وجه الله.

فهو توجيه سامي في هذا المقام إلى التزام الإنفاق وعدم الخشية على الرزق أن ينقص من مثل هذا الإنفاق، فإن خزائن الله ملآنة يعطي منها من يشاء.

ما مناسبة الحديث عن الربا بعد ذلك في هذا المقطع ؟

الربا هو أكل لمال حرمه الله استعجالا لرزق العبد، فالعبد قد يعرض له مكسب من باب ربوي، فيقبل عليه يأخذه مخالفا أمر الله عز وجل بالامتناع عنه، لظنه بأن ذلك يزيد المال، وهو يزيده ظاهرا في مقاييس أهل الدنيا ولكنه في الحقيقة يمحقه ويذهبه، ووجود هذا الحديث هنا يشير إلى قضية مهمة وهي أن سبب إقدام العبد على مخالفة أمر الله في الربا إنما هو ضعف اليقين بوعد الله في قضايا الرزق، وغياب معنى ( أن الله يبسط الرزق لمن يشاء ويقدر ) عن القلب وخفوته فيه، بعكس الصدقة، فإنها كما قال النبي صلى الله عليه وسلم: الصدقة برهان، أي دليل على يقين العبد، فإن من ينفق يخرج جزءا من ماله وهو على يقين بوعد الله له وبصدقه أنه سيعوضه عما أخرج لكن لاحقا، سواء في الدنيا أم في الآخرة، وهذه له ارتباط بالتصديق بوعد الله في إخلاف النفقة.ذذ

ما هي المعاني التي ينتهي إليها تكرار ذكر الله في هذه الآيات اليسيرات ؟

الملاحظ في هذه الآيات تكرار لفظ الجلالة بشكل ظاهر:

أولم يروا أن الله يبسط الرزق

ذلك خير للذين يريدون وجه الله

فلا يربوا عن الله

تريدون وجه الله

وهذا فيه تنبيه شديد إلى الحفاظ على بوصلة القلوب حين الإنفاق، وابتغاء وجه الله دائما في هذا السياق، واستحضار عظمته وملكه، وتخليص القلوب من أي شيء غيره.

ما مناسبة قوله تعالى بعدها: الله الذي خلقكم ثم رزقكم ثم يميتكم ثم يحييكم.. إلى آخر الآية؟

بداية ننبه إلى أن مجيء هذه الأمور مجتمعة هنا في هذا الموضع دليل على ارتباطها ببعضها البعض ارتباطا وثيقا، كما أن مجيئها هنا مسلسلة بهذا الشكل ( خلق ثم رزق ثم إماتة ثم إحياء ) له دلالته وفحواه، وكأن الآيات تقول لنا:

الله خلقكم ولا يشك في ذلك أحد ولا يماري فيه أحد، ولا يتخلف عن هذه السلسلة أحد، فما بالكم تقرون بأنه هو الخالق وأنه يقدر الموت وأنه محيي الموتى ثم تنسون أنه الرزاق ؟ إقراركم بأنه هو الله الخالق يستلزم منكم أن تستحضروا أنه هو الذي يملك الرزق والموت والحياة، لا أحد غيره، ولا حتى شركاؤكم الذين تزعمونهم.

ما هو المراد بالفساد في هذه الآية؟ وما هي مناسبة الآية للحديث هنا؟

قيل فيها معان كثيرة، والذي يظهر أن المراد بالفساد كل ما يصح إطلاق اسم الفساد عليه سواء كان:

من أفعال بني آدم بعضهم ببعض من معاصيهم واقترافهم السيئات وتقاطعهم وتظالمهم وتقاتلهم.

أو راجعا إلى ما هو من جهة الله عز وجل بسبب ذنوبهم، كالقحط وكثرة الخوف، والموت ونقصان الزرائع والثمار، وكثرة الحرق والغرق ومحق البركات من كل شيء.

وأما مناسبتها للسياق، فهي تأتي مباشرة بعد الحديث عن الشرك والشركاء في مقطع يتحدث عن الرزق، وهذا المعنى طبعا لم يأت قبل الآية فقط، ولكنه أتى في مواضع عديدة في المقطع وفي السورة عموما، والعلاقة واضحة بين الشرك وبين ظهور الفساد في الأرزاق، بل إن الآية تشبه أن تكون نذيرا للناس من الفساد في أرزاقهم في كل شيء في البر والبحر في حال فشا فيهم الشرك والعياذ بالله.

ليس ذلك فحسب بل إن الآية تبين سبب ارتباط ظهور الفساد بالشرك، وأنه إنذار من الله عز وجل للناس حتى يرجعوا ويعودوا إلى ربهم وإلى توحيده.

ما مناسبة قوله تعالى ( قل سيروا في الأرض .. ) ؟

كأن الحديث هنا بعد الحديث عن الفساد، جاء بدرجة زائدة عن الفساد الذي تحدثت عنه الآية السابقة، وعقوبة أخطر ألا وهي الإهلاك العام فكأنها تتدرج بالمتلقي بعقوبة مثل هذا الشرك ابتداء من ظهور الفساد الذي يعم كل شيء، وانتهاء بالإهلاك العام.

ما هي المعاني التي ينتهي إليها قوله تعالى ( كان أكثرهم مشركين )؟

فيه إشارة إلى أن نزول العذاب لا يستلزم انخراط جميع أهل القرية في الكفر بل يكفي أن يعم الشرك ويقع الأكثر فيه فيحل عليهم العذاب ويستحقون الاستئصال.

ما مناسبة قوله تعالى عقب ذلك ( فأقم وجهك .. ) ؟

لفهم مناسبة هذه الآية هنا لا بد أن نرجع إلى الآية التي افتتحت بنفس الافتتاحية ونرى موقعها مما قبلها حتى نفهم الأمور:

الأولى: جاءت عقب قوله تعالى ( بل اتبع الذين ظلموا أهواءهم بغير علم .. ) الآية، جاءت بعدها لتقول للقارئ المتدبر: قد علمت مما سبق أن المشركين أشركوا بغير برهان ولا دليل وإنما هو الهوى، فإذا علم ذلك فأقم وجهك للدين حنيفا فطرة الله.

هذه: جاءت عقب قوله تعالى ( قل سيروا في الأرض فانظروا .. ) الآية، جاءت بعدها لتقول للقارئ: قد علمت ما جنى الشرك على أهله، إما فسادا في البر والبحر، أو هلاكا عاما يستأصل شأفتهم، فإذا تبين لك ذلك فأقم وجهك للدين القيم من قبل أن يأتي يوم لا مرد له من الله.

فالأولى جاءت عقب الحديث عن الشرك والثانية كذلك، فكأنها توجيهات عقب عرض كل قضية ومناقشة أبعادها.

ما وجه مقابلة العمل الصالح بالكفر بدل مقابلته بالإيمان؟

قال تعالى ( من كفر فعليه كفره ومن عمل صالحا فلأنفسهم يمهدون) ولم يقل مثلا ( من كفر فعليه كفره ومن آمن فلأنفسهم يمهدون ) فقابل الكفر بالأعمال الصالحة، وذلك لتثوير المؤمنين بأنهم أهل الأعمال الصالحة لئلا يتكلوا على الإيمان وحده فتفوتهم النجاة الكاملة، فذكر العمل الصالح ولم يذكر الإيمان لأنه متضمن فيه داخل فيه، وهذه من عادات القرآن أن يقرن العمل الصالح بالإيمان دائما.

كما أن هذه الآية جاءت مباشرة بعد الحديث عن الفساد الذي انتشر في البر والبحر، وأن ذلك إنما كان بسبب كسب الناس، أي أعمالهم فناسب هنا الحديث عن الأعمال لا عن الإيمان.

ما هو وجه الاحتباك في الآية ؟

الاحتباك أن يؤتى بكلامين يحذف من كل منهما شيء ويكون ينظمهما بحيث يدل ما أثبت في كل منهما على ما حذف من الآخر، فالتقدير هنا بعد ما ذكر من جزاء الذين آمنوا من فضله، أنه يجازي الكافرين بعدله، ولما ذكر أنه لا يحب الكافرين علم أنه يحب المؤمنين. فحوت الآية معان عديدة بألفاظ يسيرة.

Map Shot 11

 

 

 

Map Shot 1

جميع الحقوق متاحة للمسلمين دون اشتراط ذكر المصدر © 2023 7a9ad.com. All Rights Reserved