موسى نبيًا مرسلًا
( موسى نبيا مرسلا )
فَلَمَّا قَضَى مُوسَى الْأَجَلَ وَسَارَ بِأَهْلِهِ آَنَسَ مِنْ جَانِبِ الطُّورِ نَارًا قَالَ لِأَهْلِهِ امْكُثُوا إِنِّي آَنَسْتُ نَارًا لَعَلِّي آَتِيكُمْ مِنْهَا بِخَبَرٍ أَوْ جَذْوَةٍ مِنَ النَّارِ لَعَلَّكُمْ تَصْطَلُونَ (29) فَلَمَّا أَتَاهَا نُودِيَ مِنْ شَاطِئِ الْوَادِ الْأَيْمَنِ فِي الْبُقْعَةِ الْمُبَارَكَةِ مِنَ الشَّجَرَةِ أَنْ يَا مُوسَى إِنِّي أَنَا اللَّهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ (30) وَأَنْ أَلْقِ عَصَاكَ فَلَمَّا رَآَهَا تَهْتَزُّ كَأَنَّهَا جَانٌّ وَلَّى مُدْبِرًا وَلَمْ يُعَقِّبْ يَا مُوسَى أَقْبِلْ وَلَا تَخَفْ إِنَّكَ مِنَ الْآَمِنِينَ (31) اسْلُكْ يَدَكَ فِي جَيْبِكَ تَخْرُجْ بَيْضَاءَ مِنْ غَيْرِ سُوءٍ وَاضْمُمْ إِلَيْكَ جَنَاحَكَ مِنَ الرَّهْبِ فَذَانِكَ بُرْهَانَانِ مِنْ رَبِّكَ إِلَى فِرْعَوْنَ وَمَلَئِهِ إِنَّهُمْ كَانُوا قَوْمًا فَاسِقِينَ (32) قَالَ رَبِّ إِنِّي قَتَلْتُ مِنْهُمْ نَفْسًا فَأَخَافُ أَنْ يَقْتُلُونِ (33) وَأَخِي هَارُونُ هُوَ أَفْصَحُ مِنِّي لِسَانًا فَأَرْسِلْهُ مَعِيَ رِدْءًا يُصَدِّقُنِي إِنِّي أَخَافُ أَنْ يُكَذِّبُونِ (34) قَالَ سَنَشُدُّ عَضُدَكَ بِأَخِيكَ وَنَجْعَلُ لَكُمَا سُلْطَانًا فَلَا يَصِلُونَ إِلَيْكُمَا بِآَيَاتِنَا أَنْتُمَا وَمَنِ اتَّبَعَكُمَا الْغَالِبُونَ (35) فَلَمَّا جَاءَهُمْ مُوسَى بِآَيَاتِنَا بَيِّنَاتٍ قَالُوا مَا هَذَا إِلَّا سِحْرٌ مُفْتَرًى وَمَا سَمِعْنَا بِهَذَا فِي آَبَائِنَا الْأَوَّلِينَ (36) وَقَالَ مُوسَى رَبِّي أَعْلَمُ بِمَنْ جَاءَ بِالْهُدَى مِنْ عِنْدِهِ وَمَنْ تَكُونُ لَهُ عَاقِبَةُ الدَّارِ إِنَّهُ لَا يُفْلِحُ الظَّالِمُونَ (37) وَقَالَ فِرْعَوْنُ يَا أَيُّهَا الْمَلَأُ مَا عَلِمْتُ لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرِي فَأَوْقِدْ لِي يَا هَامَانُ عَلَى الطِّينِ فَاجْعَلْ لِي صَرْحًا لَعَلِّي أَطَّلِعُ إِلَى إِلَهِ مُوسَى وَإِنِّي لَأَظُنُّهُ مِنَ الْكَاذِبِينَ (38) وَاسْتَكْبَرَ هُوَ وَجُنُودُهُ فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَظَنُّوا أَنَّهُمْ إِلَيْنَا لَا يُرْجَعُونَ (39) فَأَخَذْنَاهُ وَجُنُودَهُ فَنَبَذْنَاهُمْ فِي الْيَمِّ فَانْظُرْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الظَّالِمِينَ (40) وَجَعَلْنَاهُمْ أَئِمَّةً يَدْعُونَ إِلَى النَّارِ وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ لَا يُنْصَرُونَ (41) وَأَتْبَعْنَاهُمْ فِي هَذِهِ الدُّنْيَا لَعْنَةً وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ هُمْ مِنَ الْمَقْبُوحِينَ (42)
ما مناسبة المقطع لمقصد السورة، وما مناسبته لما قبله من الكلام؟
المقطع لا يعدون أي يكون استمرارا لما قبله من الحديث عن موسى وهنا ينتقل الكلام إلى المحطة الأخيرة في قصته، للتأكيد على أن العاقبة للمتقين، وأن العاقبة له إذ تلبس بالتقوى طول حياته مهما كانت حاله بين ضعف وقوة.
ما هي المعاني التي ينتهي إليها هذا المقطع؟
وفيه من المعاني:
1- إعداد الرجال للمرحلة القادمة: في مدين جرى تهيأة موسى لما اختاره الله له، وذلك أن مواجهة البلاء والقيام بأعباء الرسالة يحتاج إلى صلابة وتهيئة على التحمل والصبر، فالبلاء لا تدفعه التصرفات العجلة، وأمر بني إسرائيل وفرعون قبلهم يتطلب مواجهة بعلم وحكمة وصبر، وعلى الأمة استهلام العبر وإعداد افرادها للمرحلة الحاسمة فهي تحتاج رجالا قد تحلوا بالحكمة والعلم والصبر، لا بالجهل والطيش واستعجال قطف الثمرة قبل أوانها.
2- صناعة الرجال تحتاج زمنا: فإن الله لما أراد لموسى أن يواجه فرعون ويخلص بني إسرائيل منه، تطلب مدة طويلة من الإعداد والتهيئة ابتداء من نشأته في بيت فرعون يرفض الظلم ويأبى حياة المضطهدين من بني إسرائيل الذين ألف أكثرهم الذل، ثم في مدين عشر سنين متحملا الغربة، رعى فيها الغنم وصبر على العمل، وفي ذلك إعداد لمرحلة قادمة أرادها الله تعالى، وفي هذا تنبيه إلى مجازفة الذين يريدون قيادة الأمة وأعمارهم لاتزال غضة، وتجاربهم قليلة، عليهم أن يعلموا أن ذلك لم يكن لأنبياء الله تعالى، فعامتهم أرسلوا إلى الناس وهم في سن الأربعين، فهم مع وفرة عقولهم قد مروا بتجارب كثيرة صقلتهم للبعثة.
3- فقه التدرج: ما أحوجنا إلى فقه التدرج، مع التأمل فيما يحتاج إليه الفرد والجماعة للعطاء والكمال، فقد أعد الله موسى أربعين سنة منذ ولادته، والبعض يريد اختصار الإعداد في سنة أو بضعة أشهر.
4- إيثار الدين على الدنيا: فمع التريث في الإعداد والتدرج في العمل، على الداعية أن يكون مستعدا للتضحية والتخلي عن جميع امتيازات الدنيا من أجل عقيدته ومبدئه، ولتكن أسوته في ذلك أنبياء الله ورسله فقد ترك موسى حياة المترفين في قصر فرعون وخرج إلى مدين فارا متحملا حياة الغربة ورعي الغنم.
5- الرجل قوام على أهله يتعرض دونهم لما يخشى ولا يعرضهم له، يذهب ويبتغي لهم، فليس من شأن المراة السعي للكسب ولا مخالطة الرجال ولا أن تعرض للخطر فأبقاها في مكان آمن حتى يرجع.
6- إحسان الظن بالله: ذهب موسى تجاه ما حسبه نارا، يطلب شيئا منها لحاجتهم أو يلتمس من يدله على طريقه، فوجد أكمل الهدى وأعظم دلالة في الحياة، ونورا أضاء له ولأهله ولقومه من بعده، فأحسن الظن بالله تجد ما لا يخطر لك على بال.
7- في الآيات عظم منزلة موسى فقد اصطفاه الله تعالى وكلمه وأعطاه من الآيات المعجزة جملة جليلة.
8- لا حرج على الإنسان من الخوف الجبلي، كخوف موسى من انقلاب العصا حية.
9- في قول الله تعالى لموسى ( إنك من الآمنين ) بشارة له تدل على حفظه وحصول الأمن له.
10- وضوح الهدف ومعرفة المقصد: وذلك في بيان علة إرسال موسى إلى فرعون وقومه وهو كونهم خارجين عن طاعة الله ليردهم إليه، وهذا هو مقصد الرسل وأتباعهم.
11- القيام بتكاليف الرسالة: فمع وضوح المقصد وعلم موسى بتكاليفه وما يقتضيه قبل الرسالة قام بالصدع بالحق وأداء تكاليف الرسالة، وكثير من الدعاة والمصلحين يعتذر عن قول الحق وأداء الأمانة لأسباب موهومة لا ينبغي أن تعلو على تبليغها.
12- معالجة الإشكالات: قد تكون ثمة إشكالات، ومن هنا تنبع أهمية معالجة الإشكال والاستفسار عما قد يعترض الداعية أو يشكل عليه، فموسى قبل أمر ربه ولكنه شكا إليه ما يعترضه من قبات وطرح الحلول التي يراها فأيده الله وأزال ما في نفسه.
13- الواقعية: إذا أقدم المرء على مشروع فعليه أن ينتبه لقدراته وإمكاناته، وما قد يعترضه من عقبات، وليكن صريحا في طلب ما يتصوره من حلول ممكنة أو معينات قبل وقوعها، لأنه بعد وقوعها يصعب حلها، وربما صرفته عن مهمته، وكثير ما بدأت مشاريع دعوية وخيرية ثم أخفقت بسبب الفجوة بين الإمكانات والأهداف.
14- السنن: فرمي الآيات بأنها سحر والتعذر باتباع الآباء جواب تواطأ عليه المكذبون لرسل الله تعالى وآياته.
15- الدعوة بالتدرج: على الداعية أن يعالج ما درج عليه الناس بالحكمة والتدرج، حتى لا يستثير حمية الناس، فكثيرا ما تبدأ المناقشة لبيان الحق وتنتهي بخصومة شخصية بسبب الانسياق وراء الاستفزاز والطعن والسب.
16- تجنب الاستفزاز: لما ناقش موسى فرعون وملأه جاءهم بالآيات البينات ولم يسفههم أو يهاجمهم، بل لم ينفعل بطعنهم فيه ورميهم له بالسحر وإنما حاورهم بالحكمة والموعظة الحسنة.
17- النهي عن اتباع الظن: ففرعون أقام الظن مقابل ما رأى من الآيات البينات، واتباع الظنون في مقابلة الآيات عادة المبطلين عند عجزهم عن إجابة الحجة وعاقبتها وخيمة.
18- أئمة الشر: ليست كل إمامة محمودة، فمن كان إماما في الشر كانت عاقبته كعاقبة فرعون، في مقابل أئمة الهدى مثل بني إسرائيل الذين هداهم الله، وأئمة الباطل عليهم إثمهم وإثم من تبعهم، دعاة على أبواب جهنم من أجابهم قذفوه فيها.
19- من أعظم أسباب الهداية الرجوع إلى كتاب الله تعالى والنظر فيما يتعلق بالأمم الماضية وذلك يتفاوت ويتفاضل.
ما مناسبة الحديث عن قضية الصرح هنا؟
الصرح هو البناء العالي، وفرعون أراد بصنيعه هذا أن يبني بناء طويلا يرتقي به إلى أن يرى رب موسى جل وعلا، وقد أبعد النجعة من قال أن المراد بهذا هو صناعة العدسات والمناظير فإنا تكون بالإيقاد على الرمل لا على الطين، وأما الإيقاد على الطين فيكون لصناعة الآجر.
والمراد من ذكر هذه القضية هنا بيان فساد قياساتهم وسخافة معتقداتهم وضآلة حججهم، إذ اعتقدوا أن الله يمكن أن يتوصل له بصرح عال يبنونه، تعالى الله عما يقولون علوا كبيرا.
وهذا له تعلق مهم بمقصد السورة، فإن السورة تتحدث عن جعل العاقبة للمتقين بقدرة الله التي تملك كل شيء، فإن من يملك العاقبة لا يعجزه شيء البتة، وأما هؤلاء فقد اعتقدوا أن الله يمكن أن يوصل له بمثل هذا، فكأنهم لم يعرفوا قدر الله عز وجل، وأن من لم يعرف قدر الله عز وجل هو الذي قد يلبس عليه في قضية العاقبة فيظن أن تدبير العاقبة يكون لغير الله.
ما هي المعاني التي ينتهي إليها ترتيب الجملة في قوله ( فأوقد لي يا هامان على الطين )؟
أصل الكلام: يا هامان أوقد لي على الطين، أتى بـ (أوقد لي على الطين) وفي وسطها (يا هامان) هذا تحقير كثير لأن فرعون لم يُشبع جبروته.
جميع الحقوق متاحة للمسلمين دون اشتراط ذكر المصدر © 2023 7a9ad.com. All Rights Reserved