من وحي آيات الحج
ورد لفظ (الحج) في القرآن الكريم اثنتي عشرة مرة، حيث ورد باللفظ المعرَّف (الحج) ثماني مرات، وبلفظ (بالحج) مرةً واحدة، وبلفظ (حجٌّ) مرةً واحدة، وبلفظ الفعل (حَجَّ) مرة واحدة، وبلفظ (الحاج) مرة واحدة، وذلك في أربع سور، هي: «البقرة»، و«آل عمران»، و«التوبة»، و«الحج».. ولهذه الآيات العظيمة دلالات موحية كثيرة، وفيها دروسٌ وعبرٌ عظيمةٌ، شأنها في ذلك شأن بقية آيات القرآن الكريم. وهذه وقفات مع بعض هذه الآيات التي وردت للحديث عن الحج:
– فرض الله حج البيت الحرام على المسلمين بقوله: {وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطَاعَ إلَيْهِ سَبِيلًا}
[آل عمران: 79]، حيث دلت على وجوب الحج على المستطيع، وأما قوله تعالى: {وَأَتِمُّوا الْـحَجَّ وَالْعُمْرَةَ لِلَّهِ} [البقرة: 196]، فهي تدل على وجوب إتمام الحج لمن دخل فيه، وليست دالةً على إيجاب الحج ابتداءً.
– جعل الله الإعراض عن الاستجابة لأمره بالحج كفراً به، واستكباراً على أمره، بدلالة قوله بعد إيجاب الحج وفرضه: {وَمَن كَفَرَ فَإنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ عَنِ الْعَالَمِينَ} [آل عمران:97]، مما يوجبُ على المؤمن الذي يعظم أمر الله المبادرةَ إلى أداء فريضة الحج، وعدم التعلل بالظروف والعوارض؛ فالوعيد بترك الحج على المستطيع شديد، وقد تيسرت سبل أداء هذه الفريضة اليوم على كثيرٍ من الناس بصورة تقطع العذر.
– من أعظم مقاصد الحج: إظهار توحيد الله، فإن الحج، وهو الركن الخامس من أركان الإسلام، مرتبطٌ بشكل ظاهرٍ بالركن الأول، وهو شهادة ألا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله، ويظهر ذلك في عدة آيات من آيات الحج، كقوله: {وَأَتِمُّوا الْـحَجَّ وَالْعُمْرَةَ لِلَّهِ} أي له وحده لا لغيره، وقوله: {وَلِكُلِّ أُمَّةٍ جَعَلْنَا مَنسَكًا لِّيَذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ عَلَى مَا رَزَقَهُم مِّنْ بَهِيمَةِ الأَنْعَامِ فَإلَهُكُمْ إلَهٌ وَاحِدٌ فَلَهُ أَسْلِمُوا وَبَشِّرِ الْـمُخْبِتِينَ} [الحج: 34]… وغيرها. بل إن قول الحاج عند إحرامه بالحج: لبيك اللهم لبيك. ثم تكراره لها في مواقف كثيرة بالحج؛ إعلانٌ واضح للتوحيد، وإشارةٌ إلى مقصد من أعظم مقاصد الحج. وعند التأمل نجد أن معظم المواضع التي ورد فيها ذكر الحج في كتاب الله – عز وجل- تتفق في كونها جاءت في سياق الحديث عن العقيدة، وإزالة المعاني الدخيلة التي جاءت بها الجاهلية الوثنية وقرنتها بالحج؛ وتعلن أن الحج خالصٌ للتوحيد، يعبر فيه عن التوحيد الخالص لله – عز وجل -.
– القرآن يدعو إلى تعظيم شعيرة الحج – كما جاء ذلك في سورة الحج -، والإتيان إليها من كل فج عميق، فبدأ بتكليف إبراهيم – عليه السلام – بالأذان بالحج، وبيّن أنه موسم لذكر الله ولشكره على نعمائه، ثم شرع يذكر بعض أحكام الحج، في سياق طويل، واللافت أنها كانت بين الحين والآخر تذكر الشرك وتندد به، وفي هذا مزيد توضيح لحقيقة الحج وأن أفعاله كلها لا تعود على الله بالنفع، بل على عباده، وفي هذا مزيد تنزيه لله، ومزيد توحيد له. ولعل مناسبة ذكر ذلك في أفعال الحج رفع توهم أن الطائف حين يطوف يطوف لحجر، وحين يستلم الركن يقبل حجراً، لا ينفع ولا يضر، بل إنه تعبير عن تعظيم شعائر الله، وإبراز التقوى له سبحانه وتعالى.
– أنزل الله في القرآن الكريم سورةً سميت سورة الحج، فبدأها بالحديث عن مشهد زلزلة يوم القيامة، وحشر الناس إلى ربهم، ثم بعد ذلك جاء الحديث عن مناسك الحج، وفي هذا إشارة – والله أعلم – إلى أنَّ الحج مشهدٌ مُصغَّرٌ يُقرِّبُ للمؤمن صورة مشهد يوم القيامة كل عامٍ حتى لا يغفل، حيث يحشر الله الأولين والآخرين في صعيد واحد، لا يتميز بعضهم على بعض، وكذلك الشأن في الحج؛ فهم يحجون في ثياب متشابههة وفي صعيد واحد في عرفات وفي مزدلفة وفي منى، ويستذكر الحاج مشهد الحشر في مواطن الزحام الشديد؛ كالطواف والسعي ورمي الجمرات، فإنه يحصل من التزاحم والتدافع ما يذكر بيوم الزحام الشديد في يوم القيامة، نسأل الله أن يلطف بنا فيه.
– الحج من العبادات الجماعية في الإسلام، فهو يؤدى بشكل جماعي كالصلاة والصيام، مع أن كل فردٍ منهم يناجي ربه بمفرده ويسأله حاجته. ومن مقاصده إثبات استواء الناس عند الله، وأنه لا فضل لعربي على عجمي، ولا لأبيض على أسود؛ إلا بتقوى الله، فهو يدعو للتواضع، ونبذ العنصرية التي رسختها الجاهلية القديمة والمعاصرة، والإسلام هو الذي حاربها، وأعلن في مناسبات متعددة أن الناس سواسية في ميزان الله، وهذا ظاهر في قوله: {ثُمَّ أَفِيضُوا مِنْ حَيْثُ أَفَاضَ النَّاسُ وَاسْتَغْفِرُوا اللَّهَ إنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ} [البقرة: 199]، حيث ثبت أن قريشاً كانوا يقفون في مزدلفة ولا يقفون مع بقية الناس في عرفات: زعماً منهم أنهم أهل البيت الحرام، ويتميزون عن بقية الناس بمزية خاصة، فقد صح في الحديث أن عائشة – رضي الله عنها – قالت: كانت قريش ومَن دَانَ دينها يقفون بالمزدلفة، وكانوا يُسمَّون الحُمْس، وكان سائر العرب يقفون بعرفات، فلما جا
ء الإسلام أمر الله نبيه صلى الله عليه وسلم أن يأتي عرفات، ثم يقف بها، ثم يفيض منها، فذلك قوله (من حيث أفاض الناس) أخرجه البخاري ومسلم. وفي صنيع قريش هذا مشابهة لصنيع اليهود من قبلُ عندما ادّعوا أنهم شعب الله المختار من دون الناس، وأنهم أحباؤه زوراً وكذباً، وإنما هو الكبر وتصعير الخد للناس، فالحاج مأمور بالتواضع في الحج في أخلاقه وفي لباسه وفي مأكله وفي مشربه، وذلك حتى يكون محط نظر الله ورحمته؛ لأن الله يمقت الكبر وأهله، فالكبر يخرج الحاج من دائرة رحمة الله، فعن أنس – رضي الله عنه – قال: حج رسول الله على رحل رث وقطيفة تساوي أربعة دراهم أو لا تساوي، ثم قال: (اللهم حجة لا رياء فيها ولا سمعة)[1].
– من فوائد آيات الحج أن القرآن الكريم لا يمكن فهمه دون الرجوع للسنة النبوية، فقوله (الحج أشهر معلومات) لم يحدد أشهر الحج، لكن فصلتها السنة وبيّنتها، وهي:شهر شوال، وذو القعدة، وذو الحجة. وأركان الحج وردت في آيات متفرقة، وهي: الوقوف بعرفة، وطواف الإفاضة والسعي، لكن كيفيتها وترتيبها وتفاصيلها أخذت من فعله عليه الصلاة والسلام، ولذلك أمر المسلمين بقوله: (خذوا عني مناسككم). وفي هذا أبلغ رد على المبغضين للسنة النبوية، والداعين للاكتفاء بما ورد في القرآن، ونبذ أحاديث النبي صلى الله عليه وسلم. والعجيب أن هؤلاء الضالين يسمون أنفسهم «القرآنيون».. فاحذرهم.
– في قول الله تعالى: {وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطَاعَ إلَيْهِ سَبِيلًا} [آل عمران: 97]، جاء الخطاب للناس كافة، أما باقي أركان الإسلام فقد توجه الخطاب فيها إلى المؤمنين، كقوله تعالى في سورة النساء: {إنَّ الصَّلاةَ كَانَتْ عَلَى الْـمُؤْمِنِينَ كِتَابًا مَّوْقُوتًا} [النساء: 103]، وقوله تعالى في سورة التوبة: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ} [البقرة: 183]؛ وهذا دليل على عالمية الحج، وأنه قديم جديد؛ قديم لأن أبا الأنبياء إبراهيم – عليه السلام – أول من أعلنه وصدع بأمر الله حين قال له: {وَأَذِّن فِي النَّاسِ بِالْـحَجِّ يَأْتُوكَ رِجَالًا وَعَلَى كُلِّ ضَامِرٍ يَأْتِينَ مِن كُلِّ فَجٍّ عَمِيقٍ} [الحج: 27]؛ وجديد لأن خاتم الأنبياء محمد صلى الله عليه وسلم ندب إليه وقاد قوافله ووضع مناسكه وبيّن ما رصد الله له من جوائز وربط به من منافع، وكان آخر عهده بالجماهير الحاشدة وهي تصغي إليه في حجة الوداع، يزودهم بآخر وصاياه، وأحفلها بالخير والبر.
– الحج كان مفروضاً قبل الإسلام، أي منذ عهد إبراهيم وولده إسماعيل – عليهما السلام -، وأقره الإسلام في الجملة، ونزل في إيجابه وتأكيد فرضيته قول الله – تبارك وتعالى -: {وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ}، ثم إن هذه الآية المصرحة بفرضية الحج وليس لدينا غيرها، هي إحدى آيات سورة آل عمران التي نزلت عقب غزوة أحد مباشرة، ومن المعروف أن غزوة أحد وقعت في السنة الرابعة من الهجرة، وعلى هذا يمكن القول إن الحج فرض قبل السنة التاسعة، ولم ينفذ إلا فيها؛ لما كان من عجز المسلمين عن ذلك؛ لأن مكة كانت في ذلك الوقت خاضعة لقريش، فلم يُسمح للمسلمين بأداء هذه العبادة، وقد أرادوا العمرة فصدوهم عن المسجد الحرام، فعَجْزُ المسلمين أسقط عنهم هذه الفريضة، كما أن العجز مسقط لفريضة الحج عن كل مسلم، ولما فتح الله – سبحانه وتعالى – على رسوله مكة سنة ثمان من الهجرة، لم يتوانَ الرسول صلى الله عليه وسلم، فأمر الناس بأداء فريضة الحج، وأمر أبا بكر بأن يحج بالناس، فحج بهم في السنة التاسعة المباشرة لعام الفتح. ولهذا نجد أنه لما فتح الله مكة، وجاءت الوفود مسلمين، وغلب الإسلامُ على بلاد العربِ، وتَمَكَّنَ الدينُ فأصبح مرهوباً بأسه؛ مُنع المشركون من الحج، فحج رسول الله صلى الله عليه وسلم في السنة العاشرة وليس معه غير المسلمين، فكان ذلك أجلى مظاهر كمال الدين.
– قوله تعالى في وصف أشهر الحج: {مَعْلُومَاتٌ}، أي: عند المخاطبين، فهن مشهورات بحيث لا تحتاج إلى تخصيص كما احتاج الصيام إلى تعيين شهره، وكما بيَّن تعالى أوقات الصلوات الخمس، وأما الحج فقد كان من ملة إبراهيم التي لم تزل مستمرة في ذريته معروفة بينهم، قال ابن عاشور: ووصف الأشهر بمعلومات حوالة على ما هو معلوم للعرب من قبل، فهي من الموروثة عندهم عن شريعة إبراهيم، وهي من مبدأ شوال إلى نهاية أيام المحرم، وبعضها بعض الأشهر الحرم؛ لأنهم حرموا قبل يوم الحج شهراً وأياماً، وحرموا بعده بقية ذي الحجة والحرام كله لتكون الأشهر الحرم مدة كافية لرجوع الحجيج إلى آفاقهم، وأما رجب فإنما حرمته مضر لأنه شهر العمرة[2].
– قال تعالى: {فَلا رَفَثَ وَلا فُسُوقَ وَلا جِدَالَ فِي الْـحَجِّ} [البقرة: 197]، فقوله: {فَلا رَفَثَ وَلا فُسُوقَ وَلا جِدَالَ فِي الْـحَجِّ} أي: لا ترفثوا ولا تفسقوا ولا تجادلوا في الحج.وإيراد الأمر بصيغة الخبر أبلغ، فالله سبحانه بعد أن قال: {الْـحَجُّ أَشْهُرٌ مَّعْلُومَاتٌ} قال: {فَلا رَفَثَ وَلا فُسُوقَ وَلا جِدَالَ فِي الْـحَجِّ}، فيكون ذلك تمهيداً له، وتهويناً لمدة ترك الرفث والفسوق والجدال؛ لصعوبة ترك ذلك على الناس؛ ولذلك قللت المدة بجمع القلة. وقد نُفيَ الرفثُ والفسوقُ والجدالُ نَفيَ الجنسِ مبالغةً في النهي عنها وإبعادها عن الحاج، حتى جعلت كأنها قد نهي الحاج عنها فانتهي، فانتفت أجناسها. ولما نهى الله تعالى عن القول والفعل القبيح في الحج من الرفث والفسوق والجدال وما يتبع ذلك، أرشد سبحانه إلى ما يقابل ذلك من القول والفعل الجميل، فقال تعالى: {وَمَا تَفْعَلُوا مِنْ خَيْرٍ يَعْلَمْهُ اللَّهُ} [البقرة: 197]، وأخبر سبحانه أنه عليم بما يصدر منهم، ويجازيهم على ذلك، إن خيراً فخير، وإن شراً فشر.
– قوله تعالى: {وَلا جِدَالَ}، الجدال: مصدر جادله إذا خاصمه خصاماً شديداً، وهي المماراة والمنازعة والمخاصمة. وحُرمت هذه لكونها تثير الشر وتوقع العداوة، والمقصود من الحج الذل والانكسار لله والتقرب إليه بما أمكن من القربات، والتنزه عن مقارفة السيئات، فإنه بذلك يكون مبروراً، والمبرور ليس له جزاء إلا الجنة. وهذه الأشياء وإن كانت ممنوعة في كل مكان وزمان، فإنه يتغلظ المنع عنها في الحج. والجدال المنهي عنه هو الذي يخاف معه الخروج إلى السباب والتكذيب والتجهيل. واتفق العلماء على أن مدارسة العلم والمناظرة فيه ليست من الجدال المنهي عنه، واتفقوا على أن المجادلة في إنكار المنكر وإقامة حدود الدين ليست من المنهي عنه، فالمنهي عنه هو ما يجر إلى المغاضبة والمشاتمة، وينافي حرمة الحج، ولأجل ما في أحوال الجدال من التفصيل كانت الآية مجملة فيما يفسد الحج من أنواع الجدال، بل إن الجدال إن كان لإثبات الحق أو لإبطال الباطل فإنه يجب، ويستثنى من هذا العموم؛ لقوله تعالى: {وَجَادِلْهُم بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ} [النحل: 152].
– ما أشار إليه قوله تعالى: {وَمَا تَفْعَلُوا مِنْ خَيْرٍ يَعْلَمْهُ اللَّهُ} [البقرة: 197] من الحث على فعل الخير مطلقاً، جاء في سياق الحديث عن آداب الحج، وفي هذا إشارة إلى أن هذا الأمر من آداب الحج، فالحاج ينبغي أن ينشغل بفعل الخير لأنه الفعل الذي يتناسب مع ما هو فيه من أماكن مقدسة وساعات عبادة؛ ولأن فعل الخير مفتاح لتلك التجليات والمعاني العظيمة حتى تنفذ إلى قلبه. ونلحظ أن الحث على فعل الخير في الحج جاء بأسلوب الشرط، وذلك أبلغ في الحث؛ لأن الشرط يفيد الإلهاب والتهييج بما فيه من ربط الجزاء بالشرط، ولقد ربط الشرط هنا بجزاء عظيم؛ فلقد ربطه بعلم الله، فالمراد أنه سيكافئه عليه أوفى المكافأة، ونلحظ أيضاً أن الشرط جاء بـ (ما) التي تفيد العموم؛ ليشير بذلك إلى أن المطلوب كل أعمال الخير أو عموم أفعال الخير أو كل ما يصدق عليه أنه عمل صالح.
– أمر اللهُ الحاج بالانشغال بالذكر في عدة مواطن، ففي سورة الحج يبيّن أن الغاية من إقبال الناس على الحج من كل فج عميق أمران، هما: شهود المنافع، وذكر الله في أيام معلومات، يقول سبحانه: {لِيَشْهَدُوا مَنَافِعَ لَهُمْ وَيَذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ فِي أَيَّامٍ مَّعْلُومَاتٍ} [الحج: 28]. وفي سورة البقرة حين الحديث عن آداب الحج تكرر طلب ذكر الله من الحاج في عدة مواطن، فعند الإفاضة من عرفات إلى المشعر الحرام يأمرهم بالذكر، فيقول: {فَإذَا أَفَضْتُمْ مِّنْ عَرَفَاتٍ فَاذْكُرُوا اللَّهَ عِندَ الْـمَشْعَرِ الْـحَرَامِ وَاذْكُرُوهُ كَمَا هَدَاكُمْ وَإن كُنتُم مِّن قَبْلِهِ لَـمِنَ الضَّالِّينَ} [البقرة: 198]. ونلحظ أنه سبحانه يلهب مشاعر المؤمنين بالإقبال على الذكر عند المشعر الحرام بصيغة الأمر، وبتذكيرهم أنه من قبيل شكرهم الله على هدايته لهم؛ حثاً لهم على الإقبال على ذكر الله تعالى، ثم يأمرهم بالاستغفار عند الإفاضة، فيقول: {ثُمَّ أَفِيضُوا مِنْ حَيْثُ أَفَاضَ النَّاسُ وَاسْتَغْفِرُوا اللَّهَ إنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ} [البقرة: 199]، وكذلك يأمرهم بالذكر عند انقضاء المناسك، فيقول: {فَإذَا قَضَيْتُم مَّنَاسِكَكُمْ فَاذْكُرُوا اللَّهَ كَذِكْرِكُمْ آبَاءَكُمْ أَوْ أَشَدَّ ذِكْرًا} [البقرة: 200]. ونلحظ هنا أنه أمرهم بذكر الله ذكراً أشد من ذكر آبائهم الذي كانوا يفعلونه عند انقضاء النسك، وهذا يعني أن الحاج مطالب بالإكثار من الذكر عند انقضاء المناسك، وإنما استنبطنا أنه مطالب بكثرة الذكر لأنه جرت عادة الناس بعد الفراغ من النسك أن تتحرك أشواقهم إلى أهليهم وآبائهم لقرب العودة وعدم وجود ما يشغلهم من النسك، وعندئذٍ تكثر ذكراهم لأهلهم، فالله يأمرهم أن يكون ذكرهم لله أكثر من ذكر الآباء والأهل الذي هو كثير في تلك الآونة. والغرض من طلب الذكر بعد انقضاء المناسك أن يحافظ العبد على نورانية الحج، وأن لا يضيعها بأحاديث تذهب ببهاء حجته. ثم نجده أيضاً يأمر بالذكر في أيام منى، فيقول: {وَاذْكُرُوا اللَّهَ فِي أَيَّامٍ مَّعْدُودَاتٍ فَمَن تَعَجَّلَ فِي يَوْمَيْنِ فَلا إثْمَ عَلَيْهِ} [البقرة: 203]. ونلحظ أنه قد تكرر طلب الذكر في آيات الحج، وهذا يعني تأكيد طلب الذكر من الحاج والدعاء؛ لأن تلك الأماكن المباركة مظنة لإجابة الدعاء فيها.
جميع الحقوق متاحة للمسلمين دون اشتراط ذكر المصدر © 2023 7a9ad.com. All Rights Reserved