(عودة إلى التوحيد)

قُلْ إِنْ كَانَ لِلرَّحْمَنِ وَلَدٌ فَأَنَا أَوَّلُ الْعَابِدِينَ (81) سُبْحَانَ رَبِّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ رَبِّ الْعَرْشِ عَمَّا يَصِفُونَ (82) فَذَرْهُمْ يَخُوضُوا وَيَلْعَبُوا حَتَّى يُلَاقُوا يَوْمَهُمُ الَّذِي يُوعَدُونَ (83) وَهُوَ الَّذِي فِي السَّمَاءِ إِلَهٌ وَفِي الْأَرْضِ إِلَهٌ وَهُوَ الْحَكِيمُ الْعَلِيمُ (84) وَتَبَارَكَ الَّذِي لَهُ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا وَعِنْدَهُ عِلْمُ السَّاعَةِ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ (85) وَلَا يَمْلِكُ الَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ الشَّفَاعَةَ إِلَّا مَنْ شَهِدَ بِالْحَقِّ وَهُمْ يَعْلَمُونَ (86) وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَهُمْ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ فَأَنَّى يُؤْفَكُونَ (87) وَقِيلِهِ يَارَبِّ إِنَّ هَؤُلَاءِ قَوْمٌ لَا يُؤْمِنُونَ (88) فَاصْفَحْ عَنْهُمْ وَقُلْ سَلَامٌ فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ (89)

ما هو مقصد هذا المقطع وما هي مناسبته لمقصد السورة وما هي الرسالة التي يحملها؟

ولما ابتدأت السورة بالتوحيد، تلك الحقيقة الخالدة الواضحة البينة في مقابل زيوف الباطل، انتهت أيضا هنا بالحديث عن التوحيد، والآية التي ابتدأ بها المقطع ( قل إن كان للرحمن ولد ) تعود في معناها على قوله تعالى ( وجعلوا له من عباده جزءا )، وقد ذكرت الآيات في هذا المقطع جملا من المعاني المتعلقة بهذه الحقيقة الخالدة، فبكتتهم بعدم إمكان أن يكون لله ولد وذكرت ربوبيته للعالمين ومن هذه الربوبية نفت أن يكون له ما يدعون له من الجزء والولد.

ثم هددتهم بالساعة وأمرت النبي صلى الله عليه وسلم بأن يتركهم فيما هم فيه من الزيوف والظنون والخرص ليزدادوا إثما وخطايا حتى يكون وقوع العذاب عليهم مستحقا عليهم يوم يأتيهم، فإنه آتيهم وملاقيهم مهما طال خوضهم.

 ثم عادت فذكرت إلاهة أهل الأرض والسماء له، وفي هذا عودة وإشارة إلى ما كان منهم من ادعاءهم ألوهية الملائكة كونهم في السماء وما ردت عليهم الآيات به في المقطع الذي ذكر فيه عيسى عليه السلام، فأكدت الآيات أن الله معبود من أهل السماء كما هو معبود من أهل الأرض

ثم جاءت آية ذكرت ثلاثة معان: ذكرت ملكه لهما ولما بينهما، وأكدت على انحصار علم الساعة عنده جل وعلا، لتؤكد معنى الملكية والألوهية والعلم المحيط بكل شيء لأن المالك الحق هو الذي يعلم علم الساعة التي تنتهي عندها هذه المملوكات، وأتبعت ذلك بذكر المرجع إليه جل وعلا وهذا ترتيب منطقي بعد ذكر الساعة.

ثم نفت الآيات الشفاعة عن أي أحد من خلقه، لتقابل إثبات الملك له وحده، فهؤلاء الذين يدعون من دونه لا يملكون شيئا من الأرض أو السماء، ولا حتى يملكون أن يتقدموا بين يدي الملك ليطلبوا منه طلبا، وهذا يبين الفرق الهائل بين ملك الملك وبين ملك العبيد.

عادت فأكدت اعترافهم بالربوبية كما في أول السورة، وبينت أن سبب كفرهم ليس خفاء حقيقة الإيمان والتوحيد في نفوسهم، وإنما هو العناد والاستكبار والاستسلام لزيوف الباطل أيا كانت، وهذا التتابع في المعاني هدفه التأكيد على فكرة التوحيد وتثبيتها في نفوسهم بطرق شتى، ناهيك عن التنوع في الخطاب بين الغيبة ( فذرهم ) والخطاب ( وإليه ترجعون ) ثم الغيبة ( ولئن سألتهم ) وقوله ( وقيله ) وتأمل غياب الأشخاص وحضورها مرة بعد مرة وكل هذا من السخاء البياني الذي يستحق الوقوف والتأمل.

ثم أظهر الآيات التحسر عليهم واليأس من إيمانهم وانتهت السورة بهذه الوصية العظيمة تسلية وتطمينا للنبي صلى الله عليه وسلم وتهديدا لقومه، قائلة له: حسبك ما كان منك وقد بلغت وأديت ووفيت ، وقد بلغت في دعوتك مبلغا لا مزيد عليه فأعرض عنهم إعراضا مصحوبا بالسلام والمتاركة، لأن هذا حدود ما كلفت به، ودعهم لنا لأنك أعذرت وقد أعذرنا وأنذرنا بك ويأتي من وراء ذلك وهو حسابنا وعقابنا وسوف يعلمون ذلك.

ولا ينبغي أن يغيب عن ذهن المتدبر كيف جاء المقطع أي خاتمة السورة ونهايتها ملخصا لمقاصدها ومواضيعها، كما سبق أن أتى المطلع وهو مقدمة السورة

ما هي مناسبة البدء بكلمة ( قل ) في هذا المقطع؟ وما هي دلالته؟

ابتداء الجملة بالأمر بالقول يشير إلى أنها تحمل إلى الخلق من الخالق معنى متميزا لأن الرسول صلى الله عليه وسلم وإن كان مبلغا عن ربه، إلا أن الأمر في بعض هذه الآيات يشير إلى أن لهذه الآيات من الشأن ما ليس لغيرها، وأكثر ما يأتي في ذلك يدور حول معنى عز الألوهية.

ما مناسبة التسبيح في الآية التالية لقوله ( قل إن كان للرحمن ولد )؟

جاءت هذه الآية بعد هذه الفرضية الجدلية وكأنها تطهير للسان والقلب مما ذكر جدلا وفرضا من وجود ولد للرحمن تعالى عن ذلك علوا كبيرا.

ما مناسبة التذييل بقوله تعالى ( وهو الحكيم العليم ) دون غيرها من الصفات؟ وما مناسبة هذا الترتيب؟

الباحثون عن هذا الجواب يبحثون المسألة من وجهين:

الوجه الأول:  أن يبحث المتدبر عن تخصيص هذا المكان بهذه الصفات دون غيرها، باعتبار أن هذه الجملة لا يقوم غيرها في مقامها، وأن كل جملة مغروسة في مكانها لا يصلح لها مكان غيره ولا يصلح له جملة غيرها، وهذا وجه حسن ونافع في العثور على الإجابات في مواضع كثيرة.

الوجه الثاني: أن يبحث المتدبر عن الرسالة والدلالة والهداية التي تحملها وقوع هذه الجملة في هذا المكان، وهذا الوجه يجيب عن كثير من المواضع التي لا يجيب عنها الوجه الأول، وبيان ذلك كما سيأتي:

لنسأل أنفسنا السؤال التالي: هل يمكن أن تنوب كلمات أخرى مناسبة مكان هذه الكلمة ؟ الظاهر نعم، يمكن مثلا أن يكون بدلا عنها ( العزيز العليم ) وتكون مناسبة لقوله تعالى العزيز العليم في أول السورة مثلا، لكن لو نظرنا للأمر من الوجه الثاني وسألنا أنفسنا السؤال التالي: ما هي دلالة ذكر الحكيم العليم هنا؟ ما هي الرسالة التي تحملها ؟ لماذا اختارها المولى جل وعلا دون غيرها من الكلام لتكون في هذا الموضع؟ ما هي الرسالة التي يريد المولى جل وعلا إيصالها للمتدبر ؟ لو نظرت للأمر من هذا الوجه لوجدت إجابات جيدة، فالظاهر أن المراد من ذكر الحكمة هنا إيصال رسالة معينة وهي اتصافه بالحكمة مع العزة، فليست عزته وجبروته عن عسف وبطش ولكنها الحكمة والتدبير، فكملت صفة الحكمة هنا صفة العزة هناك، وبذلك نكون قد سألنا أنفسنا السؤال المناسب وأجبنا الإجابة المناسبة، واطمأن القلب وبان المعنى، وهذا اجتهاد قد نصيب فيه وقد نخطئ والله أعلم وأحكم.

وتأمل أيضا ذكر الحكمة قبل ذكر الساعة، وما ذلك إلا لتأكيد معنى الحياة، وأن الحياة دون رجوع وحساب عبث ولهو تعالى الله عن ذلك علوا كبيرا، وقد ورد مثل هذا في آيات كثيرة ( أفحسبتم أنما خلقناكم عبثا وأنكم إلينا لا ترجعون ).

وتقديم الحكيم على العليم في القرآن قليل جدا، والذي يكثر عبارة العزيز الحكيم أو عزيز حكيم أو عليم حكيم، ويظهر أن هذا الترتيب ليناسب ترتيب التذييل في قوله ( العزيز العليم ) في بداية السورة.

screenshot 98

Map Shot 1

Map Shot 2

 

Map Shot 3

جميع الحقوق متاحة للمسلمين دون اشتراط ذكر المصدر © 2023 7a9ad.com. All Rights Reserved