دليل ونتيجة وتعقيب
( دليل ونتيجة وتعقيب )
بسم الله الرحمن الرحيم
الم (1) غُلِبَتِ الرُّومُ (2) فِي أَدْنَى الْأَرْضِ وَهُمْ مِنْ بَعْدِ غَلَبِهِمْ سَيَغْلِبُونَ (3) فِي بِضْعِ سِنِينَ لِلَّهِ الْأَمْرُ مِنْ قَبْلُ وَمِنْ بَعْدُ وَيَوْمَئِذٍ يَفْرَحُ الْمُؤْمِنُونَ (4) بِنَصْرِ اللَّهِ يَنْصُرُ مَنْ يَشَاءُ وَهُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ (5) وَعْدَ اللَّهِ لَا يُخْلِفُ اللَّهُ وَعْدَهُ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ (6) يَعْلَمُونَ ظَاهِرًا مِنَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَهُمْ عَنِ الْآخِرَةِ هُمْ غَافِلُونَ (7) أَوَلَمْ يَتَفَكَّرُوا فِي أَنْفُسِهِمْ مَا خَلَقَ اللَّهُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا إِلَّا بِالْحَقِّ وَأَجَلٍ مُسَمًّى وَإِنَّ كَثِيرًا مِنَ النَّاسِ بِلِقَاءِ رَبِّهِمْ لَكَافِرُونَ (8) أَوَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَيَنْظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ كَانُوا أَشَدَّ مِنْهُمْ قُوَّةً وَأَثَارُوا الْأَرْضَ وَعَمَرُوهَا أَكْثَرَ مِمَّا عَمَرُوهَا وَجَاءَتْهُمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّنَاتِ فَمَا كَانَ اللَّهُ لِيَظْلِمَهُمْ وَلَكِنْ كَانُوا أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ (9) ثُمَّ كَانَ عَاقِبَةَ الَّذِينَ أَسَاءُوا السُّوأَى أَنْ كَذَّبُوا بِآيَاتِ اللَّهِ وَكَانُوا بِهَا يَسْتَهْزِئُونَ (10)
ما هو موضوع هذا المقطع؟ وما علاقته بمقصد السورة؟
هذا المقطع يعتبر مقدمة للسورة بهذه الفكرة، وقد سيقت هذه الحادثة، حادثة هزيمة الروم ثم انتصارهم كشاهد ودليل من الواقع على مقصد السورة وهي أن وعد الله حق وأن الأمر له من قبل ومن بعد، وأن النصر نصره وحده، وبضاعته وحده، لا يمكلها أحد سواه، وهو – إذا وعدكم به – قادر على إيقاعه في أي وقت ومهما كانت الظروف، وهذه السورة هي أول سورة ينزل فيها عبارة ( نصر الله )، وتأمل نزول مثل هذه العبارات في مكة أيام الاستضعاف والتنكيل بالمسلمين، وما يفعله مثل هذا في نفوسهم بعد أن طال عليهم الأمد وبقوا عشر سنوات في الدعوة العلنية خاصة أنها من آخر السور نزولا لم ينزل بعدها إلا سورة أو سورتين.
ما هي المعاني التي ينتهي إليها الابتداء بقوله ( غلبت الروم )؟
البداية بهذه الجملة يحمل رسالة لقريش مفادها: نحن نعلم بأن الروم غلبت، فلا تفرحوا بمثل هذا ولا تطاولوا به على رسولنا وأوليائنا، فإنا نعلم أنهم سيغلبون من غلبوهم بعد بضع سنين بحيث لا يعد الغلب في مثله غلبا.
فالمقصود من الكلام ( وهم من بعد غلبهم سيغلبون ) وجاء قوله قبلها ( غلبت الروم ) توطئة وتهيئة لها.
ما هي المعاني التي ينتهي إليها ذكر أدنى الأرض ههنا ؟
أصح ما قيل في كلمة أدنى: أنها أدنى أرض الروم إلى جزيرة العرب فإن كلمة ( الأرض ) معرفة يراد بها الأرض المعروفة عند العرب وهي جزيرتهم، وأما استخدام كلمة أدنى فقد ظهر فيها معنيان:
الأول: تحديد المكان بدقة لبيان إحاطة علم الله بالأحداث وتفاصيلها.
الثاني: أن في استخدام كلمة أدنى إشارة إلى قرب وعد النصر، نصر الروم على الفرس، ونصر المسلمين على المشركين.
وقيل فيها معاني أخرى: منها أنه لبيان شدة ضعفهم وأن عدوهم – الفرس – قد تغول في بلادهم حتى بلغ طريق الحجاز وأن بعد هذا الضعف العظيم ستكون لهم غلبة عظيمة أيضا.
ما هي مناسبة فرح المؤمنين هنا؟
قيل فيها ثلاثة مناسبات:
الأولى: أن الروم كانوا أهل كتاب وأما الفرس فكانوا وثنيين، فكان الروم أقرب للمسلمين وكان الفرس أقرب لكفار قريش، فلأجل هذا فرح الكفار بانتصار الفرس وقالوا للمسلمين: غدا ننتصر عليكم كما انتصر الفرس على الروم، وقد روي أنه لما انتصر الفرس على الروم افتخر كفار قريش على المسلمين وقالوا سنغلبكم كما غلبت الفرس الروم.
الثانية: فرحهم بتحقق وعد الله، وظهور صدق كتابهم وما جاء به، وروي أن ناسا دخلوا في الإسلام حينها.
الثالثة: وهي أعظمها، وهي بشارة السورة للمؤمنين بالنصر الذي بشرت به السورة، وهذا واضح في مواضع عديدة:
منها قوله تعالى في آخر السورة ( وكان حقا علينا نصر المؤمنين )وهذه تعتبر بشارة شبه صريحة بنصر المؤمنين على كفار قريش.
وكذلك إشارات غير مباشرة:
منها: قوله تعالى ( لله الأمر من قبل ومن بعد)
ومنها: وقوله ( ينصر من يشاء )
ومنها: الحديث عن عاقبة المكذبين وإهلاكهم
وقد تحقق هذا الوعد يوم صلح الحديبية على أصح الأقوال، ففرح المسلمون به.
وسوق الكلام بهذه العبارات التي تحمل المعاني الثلاثة من وجوه الإعجاز المهمة في القرآن.
ما هي المعاني التي ينتهي إليها قوله ( وهم من بعد غلبهم ) في هذا الموضع مع أنه قوله سيغلبون يغني عن ذكر الجملة السابقة؟
قد يخيل للقارئ المستعجل الغافل أن هناك ما يغني عن ذكر هذه الجملة، والحقيقة أن الغرض من ذكر هذه اللفظة في غاية الأهمية، لأنه يفيد إظهار القدرة وبيان أن ذلك بأمر الله، لأن من غلب بعد غلبه لا يكون إلا ضعيفا، فلو كان غلبتهم بسبب قوتهم وشوكتهم لكان الواجب أن يغلبوا قبل غلبهم، فإذا غلبوا بعدما غلبوا، دل ذلك على أن ما حصل إنما حصل بأمر الله لا بسبب قوتهم وشوكتهم، فذكرت هذه الجملة في هذه الموضع لتفيد هذا المعنى وتبينه وتؤكده، وليعلموا أن ما حصل حصل بأمر الله لا ببأسهم.
ما هي المعاني التي ينتهي إليها التذييل بالعزيز والرحيم؟
أما العزيز فظاهر: فإن الذي لا يخلف وعده، والذي يملك النصر عزيز ولا شك.
وأما الرحيم: فإنه حاشاه أن يترك المسلمين هكذا يضطهدون ويعذبون ولا ينصرهم، وقلنا أن في مقدمات السورة بشارة للمؤمنين أن الله ناصركم ومحقق وعدكم كما نصر الروم على فارس.
فخلاصة الكلام: أنه إن نصر أولياءه في الدنيا فذلك لأنه عزيز يقدر على نصرهم ورحيم بهم يسر لهم سبيل التمكين في الدنيا، وإن سلط أعداءهم عليهم في الدنيا فإن رحمته باقية لهم في الآخرة، وهناك تظهر حقيقة عزته يوم يتفرقون كما ستذكر السورة لاحقا.
ما هي المعاني التي ينتهي إليها قول الله عز وجل: من قبل ومن بعد؟
ما حصل من تأخر نصر الروم قد يوهم أن هذا التأخير جاء بسبب عجز عن إيقاع الوعد، فجاءت هاتين اللفظتين لتبين أن هذا التأخير جاء بأمره، وأن الأمر له من قبل دولة الفرس على الروم ومن بعد دولة الروم على الفرس.
وتقديم حرف الجر مع لفظ الجلالة فيه دليل على الحصر والقصر، ويكون المعنى: أن الأمره من قبل ومن بعد كله لله، وليس لأحد سوى الله، فالأمره كله لله وهو بيد الله وحده، وسيأتي قريب من هذا المعنى على طول السورة.
ما مناسبة قول الله عز وجل هنا: وعد الله لا يخلف الله وعده؟
جاءت هذه الآية لتبين المراد مما سبق، لأن سائلا قد يسأل ما المراد من ذكر هذه القصة؟ وما هي العبرة منها؟ فجاءت هذه الآية لتؤكد المعنى الذي سيقت هذه القصة لأجله وهو بيان أن وعد الله حق لا يتخلف.
ما مناسبة قول الله جل وعلا بعدها: يعلمون ظاهرا من الحياة الدنيا؟
المتأمل في هذا السياق يشعر بأنه خطاب من الله عز وجل لكل من يقرأ، وإجابة على استشكالات وأسئلة تخطر على بال القارئ حين يقرأ، وكيف لا يعرف الله عز وجل مثل هذه الأسئلة وهو الذي خلق النفس البشرية ويعلم خفاياها وخباياها وما فيها، فبمجرد طرح فكرة ما يتبعها بأجوبة عما قد يخطر على بال القارئ المتدبر.
فبعد أن وصفهم الله عز وجل في الآية السابقة بأنهم لا يعلمون، لربما خطر على بال القارئ أن كيف لا يعلمون، وهم أصحاب رأي وبصيرة وحكمة وتقدم مدني وصناعة وطب ؟ فجاء الجواب بعدها ليبين أن علمهم لا يتجاوز ظواهر الحياة الدنيا، وأن مثل هذا لا يسمى علما، لأن العلم الحقيقي إنما هو العلم ببواطن الأمور ومسبباتها وحقيقتها، لا مجرد معرفة الظواهر والاتكاء عليها، وأنه لا فرق بين عدم العلم الذي هو الجهل،وبين وجود العلم الذي لا يتجاوز تحصيل الدنيا.
فالدنيا لها ظاهر وهو ما يعرفه الجهال من تأثير الأسباب بنفسها دون مسبب، ولها حقيقة وباطن وهي أنها مسيرة بأمر الله الذي سيجمع الخلق كله ليوم القيامة، فإن الذي يجمع الناس ليوم القيامة هو القادر على تسبيب الأسباب وتدبير الأمور.
وقد ذهب أكثر المفسرين إلى أن المراد بقوله تعالى: يعلمون ظاهرا من الحياة الدنيا، أنهم يعلمون ما يكون في الحياة الدنيا من الزخارف والتمتع بالملاذ حتى قيل: بلغ من حذق أحدهم بأمر دنياه أنه يقلب الدرهم على ظفره فيخبرك بوزنه وما يحسن يصلي، والذي نراه – والله أعلم وقد نصيب وقد نخطئ – أن هذا بعيد عن سياق الكلام، فإن الكلام ليس في الانشغال بالدنيا، وإنما هو في وعد الله الحق، وصدقه في إنجاز وعده، حتى وإن كانت كل الحسابات المادية المحضة تشير إلى غير ذلك، وهذا هو الفرق بين من ينظر إلى ظاهر الأمور بحسابات مادية جامدة، وبين من يأخذ بعين الاعتبار وعد الله وقدرته على إنجاز وعده الحق الذي لا يتخلف، فإن وعد بالنصر فالنصر آت لا شك ولا ريب كما أخبر جل وعلا.
وهنا لمسة بديعية وهي الجمع بين لا يعلمون ويعلمون.
ما هي المعاني التي ينتهي إليها استخدام ضمير الفصل هنا؟ وما هي المعاني التي ينتهي إليها استخدام الجملة الإسمية في وصفهم بالغفلة؟
قوله تعالى ( وهم عن الآخرة هم غافلون )، هم الأولى في موضع مبتدأ أما هم الثانية فهو ضمير فصل، وضمير الفصل يستخدم ليفيد الاختصاص بهم وكأنه يقول: أن الغفلة مختصة بهذه الطائفة من الناس الذين نظروا إلى ظواهر الحياة الدنيا دون اعتبار الآخرة.
وأما استخدام الجملة الاسمية فأفاد أمرين:
الأول: تمكنهم من الغفلة
الثاني: ثباتهم فيها.
ما هي المعاني التي ينتهي إليها ذكر الآخرة هنا؟
كان المتوقع من بداية الكلام ( يعلمون ظاهرا من الحياة الدنيا ) أن يكون الجواب ( وهم عن بواطن الأمور غافلون ) أو شيء من نحو ذلك، بحيث يكون الجواب في مقابل بداية الكلام، ويكون البواطن أو الحقائق في مقابل الحديث عن الظواهر، إلا أن العبارة هنا جاءت في الإشارة إلى الآخرة من غير سابق ذكر لها، لبيان أن الأساس في كل الأمر إنما هو الإيمان بالآخرة، وقضية وعد الله الحق بانتصار الروم – وانتصارهم فعلا بعدها – جاءت لتخدم هذا الغرض وهو إحياء شعور الإيمان بالآخرة، فإن الذي يعد ويصدق في قضية نصر الروم التي شاهدوها بأم أعينهم لن يعد ويخلف في أمر عظيم كأمر الآخرة وما سيكون فيها.
وهنا يدلنا القرآن بمثل هذا السياق: إلى أن الآخرة هي المحدد الأساسي لكل تصوراتكم وأفكاركم، فالعلم الحقيقي لا يكون إلا باعتبارها، بالمقصود هنا من ذكر الآخرة، التنبيه على مسببها والمتحكم فيها، فإن المتحكم فيها هو المتحكم في كل شيء، وطالما أن الأمور كلها سترجع إليه فهو
ما فائدة إعادة ( هم ) مرة أخرى في قوله تعالى ( وهم عن الآخرة هم غافلون )؟
تكرر الضمير هنا لإفادة أن الغفلة إنما هي منهم، وأن أسباب التذكر حاصلة موجودة في الأنفس والآفاق، وهذا مثل قول القائل: غفلت عن أمري، فيجيب: شغلني الشيء الفلاني، فيقول: ما شغلك ولكن أنت اشتغلت.
ما مناسبة قوله تعالى عقب ذلك: أولم يتفكروا في أنفسهم، أولم يسيروا في الأرض؟
يكمل السياق هنا فيما يشبه الحوار كما ذكرنا سابقا، وكأن الآيات تقول للقارئ المتدبر: إن لم يكفكم القرآن على ما فيه من صدق وحق، فهلا نظرتم في أنفسكم واعتبرتم بها على صدق ما أخبر الله عز وجل به، من الجمع والحساب، وكيف أن أحوالكم تتغير من الضعف إلى القوة ثم إلى الضعف والشيبة كما سيأتي في آخر السورة، ثم تموتون وترجعون إلى الله، فإن لم تعتبروا بأنفسكم واغتررتم بحياتكم الدنيا ووجودكم فيها، فهلا نظرتم إلى مهالك الأمم السابقة أمثالكم شمالا وجنوبا، والتي كانت أعظم منكم، وكيف كانت عاقبتهم أسوأ حال، ولم؟ بسبب تكذيبهم بهذه الآيات البينات، وزالوا مع انعدام أي مؤشرات بالحسابات المادية الصرفة على زوالهم، وعلى الرغم مما أشادوه من بنيان وحرث لا يمكن مقارنتهم بقريش وما شيدو، وسيأخذ الحديث عن الآيات حيزا واسعا في هذه السورة كما سنرى.
فإياكم أن تسلكوا طريقهم فتكون آخرتكم مثل آخرتهم.
جميع الحقوق متاحة للمسلمين دون اشتراط ذكر المصدر © 2023 7a9ad.com. All Rights Reserved