جواب القسم
(جواب القسم)
إِنَّ الْإِنْسَانَ لِرَبِّهِ لَكَنُودٌ (6) وَإِنَّهُ عَلَى ذَلِكَ لَشَهِيدٌ (7) وَإِنَّهُ لِحُبِّ الْخَيْرِ لَشَدِيدٌ (8)
ما هي دلالة الحديث هنا بصيغة الغائب؟
الذي يظهر من هذه الصيغة في الخطاب بدلا من صيغة المخاطب المباشر الحاضر، أن فيها إعراضا عن المخاطب إشعارا من المتكلم بغضبه عليه – إن استسلم لكنده وجحوده – فلذلك خاطبه بصيغة الغائب.
ما هي المعاني التي ينتهي إليها تأكيد جمل جواب القسم بإن؟
نلاحظ أن الجمل الثلاث بدأت بحرف التوكيد إن، زيادة في التأكيد وأن مثل هذه الحقائق مما لا ينازع فيه أحد.
من هو المقصود بلفظة الإنسان هنا؟
قيل أن كل موضع يذكر فيه الإنسان في القرآن يراد به الكافر، أو يراد به الذم، وهذا غير صحيح ولو أنك استقرأت في القرآن استقراءا تاما لوجدت لفظة الإنسان مذكورة في غير موضع ذم، والذي يظهر أن الأمر أوسع من هذا، فهذا فيه تناول إلى صفة جبل عليها الإنسان في أصل خلقته، وهي حب ذاته وحب الخير لها، وهذا أمر في أصله صحيح سليم مفيد، لأنه بهذا يندفع إلى العمل والإنتاج لأجل ان يتملك هذا الخير الذي يحبه، فالله خلقه على مثل هذا وأنزل إليه كتابا يزكيه ويعلمه، كي لا يغلبه حب ذاته ويملك عليه نفسه، ويحيد به عن الحد الذي رسمه الله له عز وجل وأقره عليه، فمن أخذ بأمر الله في تجاوز طبعه، وسارع في البذل والجهاد في سبيل الله وآثر الخسارة القليلة العاجلة لأجل الربح الكثير الآجل مصدقا بوعد الله، نجا وفاز، ومن استسلم لهذه الصفات فأمسك وتقاعس وبخل واستغنى، غاص في وحل الخسران الأكبر في العاقبة يوم القيامة، ناهيك عن الخسران العاجل في عاقبة أمره في الدنيا.
ما مناسبة ذكر الرب في هذه الجملة؟ وما وجه تقديم شبه الجملة ( لربه )؟
جاء ذكر كلمة الرب هنا للإشارة إلى جهة الربوبية والحياطة والنعمة التي يمن الله بها على ذلك الإنسان الجاحد الكفور، فالرب هو السيد والمصلح والمربي، فكأن هذه اللفظة تقول:
جحدت وكندت نعمة الإله الذي رباك وأصلحك وأنعم عليك.
وفي هذا تبكيت له وإنكار عليه، وأما التقديم فللاهتمام والإبراز.
ما هي المعاني التي ينتهي إليها استخدام كلمة الكنود في وصف الإنسان هنا؟ وما هي مناسبته لمقصد السورة؟
الكاف والنون والدال أصل صحيح واحد يدل على القطع. يقال كند الحبل يكنده كندا. والكنود: الكفور للنعمة. وهو من الأول، لأنه يكند الشكر، أي يقطعه. ومن الباب: الأرض الكنود، وهي التي لا تنبت كما ذكر ابن فارس في المقاييس، والكنود فيه عدة معان:
الكفور بالنعمة: كما في لغة مضر وربيعة
البخيل السيء الملكة: كما في لغة كنانة
العاصي: كما في لغة كندة وحضرموت.
وقيل أنه من يذكر المصائب وينسى النعم، وهذه الأقوال كلها ترجع إل ىمعنى الكفران والجحود، وهو عكس ما اقتضاه وصف الخيل بالأوصاف التي وصفت بها، حيث وصفت بالمسارعة في طاعة صاحبها وإن كان فيه هلكتها، جزاء لنعمه التي أنعمها عليها، في مقابل جحود الإنسان وكفرانه لنعم الله التي لا تنقضي.
ويكفيك استحضار هذه المعاني حتى ترسم في ذهنك صورة لحال هذا الإنسان كما صوره ربه في هذه اللفظة.
ما هي المعاني التي ينتهي إليها ورود الآية التي بعدها ( وإنه على ذلك لشهيد )؟
الذي يظهر أن المراد بقوله تعالى ( وإنه على ذلك لشهيد ): أي أنه شاهد على ذلك إذا سئل وقرر بذلك، فلا يمكن لأحد أن ينكر نعم الله عليه مهما كان حاله، والمعنى من وراء هذه الجملة تفظيع كنود الإنسان وأنه ليس من باب الأمور التي تخفى بل النعم ظاهرة تترى، ولكن الجحود طبع في الإنسان على الرغم من ظهورها، وهذا جرم أكبر بكثير من جحود النعم لو كانت خفية، فإن الغفلة عما لا يخفى أفظع وأقبح من الغفلة عن ما يخفى.
وكثير ما تكون الشهادة بالحال أعظم من الشهادة بالقال.
ما هو تفسير كلمة الخير هنا؟ وما هو تفسير كلمة شديد؟
الظاهر أن المراد بالخير هنا ليس ما يقتصر على المال فحسب كما ذكر في بعض التفاسير، وليس كل مكان يذكر فيه الخير فهو المال – كما قال قتادة رحمه الله – بل من تتبع كلمة خير في القرآن يجد معناها أوسع من ذلك بكثير في أغلب المواضع، والذي يظهر أن المراد بالخير هنا أي خير: سواء كان عرضا أو نقدا أو سلامة أو عافية أو ذرية فالكلمة عامة وهي تشمل كل خير، وأما قوله تعالى وإنه لحب الخير لشديد فقيل فيها معان:
منها: وإنه لأجل حب المال وأن إنفاقه يثقل عليه: لبخيل ممسك فالشديد بمعنى شاد يديه على المال يمسكه ولا ينفقه.
ومنها: القوي وأنه لإيثار الدنيا وطلبها قوي مطيق، وهو للبذل في سبيل الله ضعيف متقاعس. تقول: هو شديد لهذا الأمر، وقوي له: إذا كان مطيقا له ضابطا
ومنها: أنه لحب الخيرات غير هش منبسط، ولكنه شديد منقبض
ومنها: أنه لحب الخير لمشدود، والشديد هنا على وزن فعيل بمعنى مفعول.
وكلها تدور حول نفس المعنى، والمعنى من وراء هذه الآية هنا: هو بيان الدافع والحامل للإنسان على جحد نعم الله تعالى، وهو ( حبه الشديد للخير ) وإيثاره لاقتناءه وتكثيره مدفوعا بحب ذاته والاستئثار لمصلحتها، وفي إظهار هذا المعنى نقطة مهمة جدا، وهي: لفت نظر المسلمين بأن هذا الجهاد سيكون له تبعات مادية على كل فرد منكم، وسيكون فيه نقص آني في الخير بكل أنواعه – أمنا ومالا وذرية وسلامة – ، فلا يدفعنكم حب الخير والاستئثار به إلى النكوص عن الجهاد والتباطؤ عنه كما قال عز وجل ( كتب عليكم القتال وهو كره لكم وعسى أن تكرهوا شيئا وهو خير لكم وعسى أن تحبوا شيئا وهو شر لكم )، فالجهاد مع ما فيه من شر ظاهر عاجل من خسارة مال وفقد أنفس وخوف وشدة، إلا أن عاقبته هي الخير الذي يريده الإنسان ويحرص عليه، ولا يعلم زمن في تاريخ الأمة رفعت فيه رايات الجهاد إلا أعز الله أهله وأغناهم وآمنهم، ولا يعرف زمان في تاريخ الأمة ترك أهله الجهاد فيه شحا بالخير إلا أعقبهم الله ذلك خوفا وفقرا.
جميع الحقوق متاحة للمسلمين دون اشتراط ذكر المصدر © 2023 7a9ad.com. All Rights Reserved