تسلية وتثبيت

تسلية وتثبيت

قُلْ يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّمَا أَنَا لَكُمْ نَذِيرٌ مُّبِينٌ(49) فَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَهُم مَّغْفِرَةٌ وَرِزْقٌ كَرِيمٌ(50) وَالَّذِينَ سَعَوْا فِي آيَاتِنَا مُعَاجِزِينَ أُولَٰئِكَ أَصْحَابُ الْجَحِيمِ(51) وَمَا أَرْسَلْنَا مِن قَبْلِكَ مِن رَّسُولٍ وَلَا نَبِيٍّ إِلَّا إِذَا تَمَنَّىٰ أَلْقَى الشَّيْطَانُ فِي أُمْنِيَّتِهِ فَيَنسَخُ اللَّهُ مَا يُلْقِي الشَّيْطَانُ ثُمَّ يُحْكِمُ اللَّهُ آيَاتِهِ ۗ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ(52) لِّيَجْعَلَ مَا يُلْقِي الشَّيْطَانُ فِتْنَةً لِّلَّذِينَ فِي قُلُوبِهِم مَّرَضٌ وَالْقَاسِيَةِ قُلُوبُهُمْ ۗ وَإِنَّ الظَّالِمِينَ لَفِي شِقَاقٍ بَعِيدٍ(53) وَلِيَعْلَمَ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ أَنَّهُ الْحَقُّ مِن رَّبِّكَ فَيُؤْمِنُوا بِهِ فَتُخْبِتَ لَهُ قُلُوبُهُمْ ۗ وَإِنَّ اللَّهَ لَهَادِ الَّذِينَ آمَنُوا إِلَىٰ صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ(54) وَلَا يَزَالُ الَّذِينَ كَفَرُوا فِي مِرْيَةٍ مِّنْهُ حَتَّىٰ تَأْتِيَهُمُ السَّاعَةُ بَغْتَةً أَوْ يَأْتِيَهُمْ عَذَابُ يَوْمٍ عَقِيمٍ(55) الْمُلْكُ يَوْمَئِذٍ لِّلَّهِ يَحْكُمُ بَيْنَهُمْ ۚ فَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ فِي جَنَّاتِ النَّعِيمِ(56) وَالَّذِينَ كَفَرُوا وَكَذَّبُوا بِآيَاتِنَا فَأُولَٰئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ مُّهِينٌ(57) وَالَّذِينَ هَاجَرُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ ثُمَّ قُتِلُوا أَوْ مَاتُوا لَيَرْزُقَنَّهُمُ اللَّهُ رِزْقًا حَسَنًا ۚ وَإِنَّ اللَّهَ لَهُوَ خَيْرُ الرَّازِقِينَ(58) لَيُدْخِلَنَّهُم مُّدْخَلًا يَرْضَوْنَهُ ۗ وَإِنَّ اللَّهَ لَعَلِيمٌ حَلِيمٌ(59) ۞ ذَٰلِكَ وَمَنْ عَاقَبَ بِمِثْلِ مَا عُوقِبَ بِهِ ثُمَّ بُغِيَ عَلَيْهِ لَيَنصُرَنَّهُ اللَّهُ ۗ إِنَّ اللَّهَ لَعَفُوٌّ غَفُورٌ(60) ذَٰلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ يُولِجُ اللَّيْلَ فِي النَّهَارِ وَيُولِجُ النَّهَارَ فِي اللَّيْلِ وَأَنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ بَصِيرٌ(61) ذَٰلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ هُوَ الْحَقُّ وَأَنَّ مَا يَدْعُونَ مِن دُونِهِ هُوَ الْبَاطِلُ وَأَنَّ اللَّهَ هُوَ الْعَلِيُّ الْكَبِيرُ(62) أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ أَنزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَتُصْبِحُ الْأَرْضُ مُخْضَرَّةً ۗ إِنَّ اللَّهَ لَطِيفٌ خَبِيرٌ(63) لَّهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ ۗ وَإِنَّ اللَّهَ لَهُوَ الْغَنِيُّ الْحَمِيدُ(64) أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ سَخَّرَ لَكُم مَّا فِي الْأَرْضِ وَالْفُلْكَ تَجْرِي فِي الْبَحْرِ بِأَمْرِهِ وَيُمْسِكُ السَّمَاءَ أَن تَقَعَ عَلَى الْأَرْضِ إِلَّا بِإِذْنِهِ ۗ إِنَّ اللَّهَ بِالنَّاسِ لَرَءُوفٌ رَّحِيمٌ(65) وَهُوَ الَّذِي أَحْيَاكُمْ ثُمَّ يُمِيتُكُمْ ثُمَّ يُحْيِيكُمْ ۗ إِنَّ الْإِنسَانَ لَكَفُورٌ(66)

ما هو موضوع هذا الفصل وما هي علاقته بمقصد السورة؟

هذا الفصل مستمر في تثبيت وتسلية النبي صلى الله عليه وسلم، ويكاد يكون مرتبطا ارتباطا عضويا بالفصل السابق، وفيه حلقات متصلة كلها في تثبيت النبي صلى الله عليه وسلم كما سيأتي.

ما مناسبة البدء بالآيات الثلاثة الأولى؟

بعد أن قصت علينا الآيات مصارع الأمم السابقة واستعجال الكافرين العذاب، استمر الحديث هنا آمرا النبي صلى الله عليه وسلم بأن يقول للمشركين أن مهمته هي النذارة، والنذارة فقط، وهو مستفاد من إنما الدالة على الحصر، وهذا الأمر المقصود به:

أولا: الرد على استعجالهم العذاب.

ثانيا: توضيح الأمر في قلبه صلى الله عليه وسلم حتى لا ينشغل بعداوتهم أو الحرص على هداهم.

والآيتين الأخريين في رد الأمر كله لله كما جاء في غير موضع من مواضع السورة.

ما مناسبة الآيات الثلاثة التي بعدها؟

هذا فيه عودة على تمثل حال الأنبياء من قبل، تماما كما حصل في الفصل السابق في الحديث عن إهلاك الأمم السابقة، وتشعر أن هذه القصة استمرار لقوله تعالى سابقا: (وإن يكذبوك فقد كذبت قبلهم ..)، إلا أن الآيات السابقة كانت في مصارع الأمم، وهنا جاءت في التخفيف عنه صلى الله عليه وسلم بسبب انجراف أكثر قومه مع الشيطان في دعوته إلى تكذيبه إياهم.

ومعنى الآيات: أن الله لم يرسل قبل النبي صلى الله عليه وسلم من رسول ولا نبي، فذكر الرسل والأنبياء للتنبيه على الشمول الكامل، إلا وقد طلب في نفسه – والأمنية طلب الشيء العسير حصوله – أن يسلم قومه جميعا، وهو يقص عليهم آيات الله بينات، حينها يأتي الشيطان ليلقي على أمته الشبهات التي تصرفهم عن الوحي، فيزيل الله ما يلقي الشيطان من هذه الشبه ، ثم يحكم آياته: أي يتبع هذه الإزالة بالآيات الثابتات، آية وراء آية حتى يظهر الأمر بينا لكل أحد يطلب الهدى، فينقسم الناس إلى فريقين:

الأول: الذين في قلوبهم مرض والقاسية قلوبهم: وهم الذين اتبعوا ما يلقي الشيطان من الشبهات والشكوك بانصرافهم عن التأمل في أدلة نسخ ما يلقيه الشيطان، وعن استماع ما أحكم الله به آياته، فيستمر كفرهم ويقوى.

ومعنى الآيات أن الرسل عندما يكلفون حمل الرسالة إلى الناس يكون أحب شيء إلى نفوسهم أن يجتمع الناس على الدعوة وأن يدركوا الخير الذي جاءوهم به من عند الله فيتبعوه، ولكن العقبات في طريق الدعوات كثيرة، والرسل بشر محدودو الأجل، وهم يحسون هذا ويعلمونه، فيتمنون لو يجذبون الناس إلى دعوتهم بأسرع طريق، يودون مثلا لو هادنوا الناس فيما يعز على الناس أن يتركوه من عادات وتقاليد وموروثات فيسكتوا عنه مؤقتا لعل الناس أن يفيئوا إلى الهدى، فإذا دخلوا فيه أمكن صرفهم عن تلك الموروثات العزيزة، ويودون لو جاروهم في شيء يسير من رغبات نفوسهم رجاء استدراجهم إلى العقيدة، على أمل أن تتم تربيتهم فيما بعد تربية صحيحة تطرد هذه المألوفات.

ويودون . ويودون ، من مثل هذه الأماني والرغبات البشرية المتعلقة بنشر الدعوة وانتصارها .. ذلك على حين يريد الله أن تمضي الدعوة على أصولها الكاملة ، وفق موازينها الدقيقة ، فمن شاء فليؤمن ومن شاء فليكفر. فالكسب الحقيفي للدعوة في التقدير الإلهي الكامل غير المشوب بضعف البشر وتقديرهم .. هو أن تمضي على تلك الأصول ووفق تلك الموازين ، ولو خسرت الأشخاص في أول الطريق، فالاستقامة الدقيقة الصارمة على أصول الدعوة ومقاييسها كفيل أن يثني هؤلاء الأشخاص أو من هم خير منهم إلى الدعوة في نهاية المطاف، وتبقى مثل الدعوة سليمة لا تخدش ، مستقيمة لا عوج فيها ولا انحناء ..

و يجد الشيطان في تلك الرغبات البشرية ، وفي بعض ما يترجم عنها من تصرفات أو كلمات ، فرصة للكيد للدعوة ، وتحويلها عن قواعدها ، والقاء الشبهات حولها في التفوس . . ولكن الله يحول دون كيد الشيطان، ويبين الحكم الفاصل فيما وقع من تصرفات أو كلمات ، ويكلف الرسل أن يكشفوا للناس عن الحكم الفاصل، وعما يكون قد وقع منهم من خطأ في اجتهاده للدعوة . كما حدث في بعض تصرفات الرسول – صلى الله عليه وسلم- وفي بعض الجاهاته ، مما بين الله فيه بيانا في القرآن . .

بذلك يبطل الله كيد الشيطان، ويحكم آياته فلا تبقى هناك شبهة في الوجه الصواب، فلذلك ذيلت الآيات بقوله والله عليم حكيم.

وأما الذين في قلوبهم مرض من نفاق أو انحارف أو زيع، والقاسية قلوبهم من الكفار المعاندين فيجدون في مثل هذا مادة للجدل والشقاق: وإن الطالمين لفي شقاق بعيد.

وأما الذين أوتوا العلم والمعرفة فتطمئن قلوبهم إلى بيان الله وحكمه الفاصل: وإن الله لهادي الذين آمنوا إلى صراط مستقيم.

ولهذه القضية ثلاثة أمثلة في حياة النبي صلى الله عليه وسلم:

المثال الأول: في قصة ابن أم مكتوم رضي الله عنه حين أتاه ليعلمه وكان مشغولا بصناديد قريش حتى كره النبي صلى الله عليه وسلم إلحاحه فعبس وأعرض عنه، فأنزل الله فيه قرآنا يعاتبه فيه عتابا شديدا، وبهذا رد الله الدعوة إلى موازينها الدقيقة وقيمها الصحيحة، وصحح تصرف رسول الله صلى الله عليه وسلم الذي دفعته إلهي وغبته في هداية صناديد قريش طمعا في إسلام من وراءهم وهم كثير، وبين للنبي صلى الله عليه وسلم: أن استقامة الدعوة على أصولها الدقيقة أهم من إسلام أولئك الصناديد ومن خلفهم، وأبطل كيد الشيطان من الدخول إلى العقيدة من هذه الثغرة وأحكم الله آياته واطمأنت لهذا البيان قلوب المؤمنين.

المثال الثاني: ما رواه مسلم من حديث سعد بن أبي وقاص رضي الله عنه قال: كنا مع النبي صلى الله عليه وسلم ستة نفر فقال المشركون له: اطرد هؤلاء لا يجترئون علينا، قال : وكنت أنا وابن مسعود ورجل من هذيل وبلال ورجلان نسيت اسمهما، فوقع في نفس رسول الله صلى الله عليه وسلم ما شاء أن يقع، فحدث نفسه فأنزل الله: ولا تطرد الذين يدعون ربهم بالغداة والعشي.

المثال الثالث: قصة زينب بنت جحش مع أسامة بن زيد رضي الله عنهم، حين أراد الله سبحانه تزويج نبيه من زينب رضي الله عنها لإبطال عادة التبني، ولكن النبي صلى الله عليه وسلم أخفى في نفسه ما أخبره الله به، وكان كلما شكا إليه زيد تعذر الحياة مع زينب قال له أمسك عليك زوجا مراعيا في هذا كراهية القوم لزواجه منها حين يطلقه زيد، وظل يخفي ما قدر الله أظهاره حتى طلقها زيد، فأنزل الله في هذا قرآنا يكشف عما جال في خاطر النبي صلى الله عليه وسلم ويقرر القواعد التي أراد الله أن يقوم تشريعه في هذه المسألة عليها.

ولقد صدقت عائشة رضي الله عنها وهي تقول: لو كتم محمد صلى الله عليه وسلم شيئا مما أوحي من كتاب الله تعالى لكتم ( وتخفي في نفسك ما الله مبديه ) وهكذا أنفذ الله شريعته وأحكمها، وكشف ما خالج خاطره من كراهية القوم لزواجه من مطلقة دعيه، ولم يمكن الشيطان من أن يدخل من هذه الثغرة، وترك الذين في قلوبهم مرض والقاسية قلوبهم يتخذون من هذه الحادثة مادة للشقاق والجدال وما تزال.

وقد تدفع الحماسة اصحاب الدعوات بعد الرسل والرغبة الملحة في انتشار الدعوات وانتصارها، تدفعهم إلى استمالة بعض الأشخاص أو بعض العناصر بالإغضاء في أول الأمر عن شيء من مقتضيات الدعوة يحسبونه هم ليس أصيلا فيها، ومجاراتهم في بعض أمرهم كي لا ينفروا من الدعوة ويخاصموها.

وقد تدفعهم كذلك إلى اتخاذ وسائل وأساليب لا تستقيم مع موازين الدعوة الدقيقة، ولا مع منهج النبوة المستقيم، وذلك حرصا على سرعة انتصار الدعوة وانتشارها، واجتهادا في تحقيق مصلحة الدعوة ومصلحة الدعوة الحقيقية في استقامتها على المنهج دون انحراف قليل أو كثير، أما النتائج فهي غيب لا يعلمه إلا الله، فلا يجوز أن حسب حملة الدعوة حساب هذه النتائج، إنما يجب أن يمضوا على نهج الدعوة الواضح الصريح الدقيق وأن يدعوا نتائج هذه الاستقامة لله ولن تكون إلا خيرا في نهاية المطاف.

وها هو القرآن ينبههم إلى أن الشيطان يتربص بأمانيهم تلك لينفذ منها إلى صميم الدعوة وإذا كان الله قد عصم أنبياءه ورسله فلم يمكن الشيطان أن ينفذ من خلال رغباتهم الفطرية إلى دعوتهم، فغير المعصومين ف يحاجة إلى الحذر الشديد من هذه الناحية والتحرج البالغ خيفة أن يدخل عليهم الشيطان من ثغرة الرغبة في نصرة الدعوة والحرص على ما يسمونه مصلحة الدعوة، إن كلمة (مصلحة الدعوة) يجب أن ترتفع من قاموس أصحاب الدعوات لأنها مزلة ومدخل للشيطان يأتيهم منه حين يعز عليه أن يأتيهم معه منهج الدعوة الأصيل.

إن على أصحاب الدعة أن يستقيموا على نهجها ويتحروا هذا النهج دون التفات إلى ما يعقبه هذا التحري من نتائج قد يلوح لهم أن فيها خطرا على الدعوة وأصحابها، فالخطر الوحيد الذي يجب أن يتقوه هو خطر الانحراف عن النهج لسبب من الأسباب سواء كان هذا الانحراف كثيرا أو قليلا

والله أعرف منهم بالمصلحة وهم ليسوا مكلفين بها، إنما هم مكلفون بأمر واحد ألا ينحرفوا عن المنهج وألا يحيدوا عن الطريق.

واللام في قوله ليجعل: للترتب: أي يترتب على ما سبق أن يستمر كفرهم ويقوى.

الثاني: الذين أوتوا العلم: أي العلم بأن هذا الوحي هو الحق وكثيرا ما يعبر القرآن عن المؤمنين بأنهم من أوتي العلم، فتطمئن قلوبهم وتسكن وتتبع الحق، واللام في ليعلم: للتعليل.

وتدبر تعلق الهدى والضلال بالقلوب على ما نصت الآيات.

ما مناسبة الآيات التي بعدها؟

من جماليات القرآن: أنه كثيرا ما ينقلك من مشهد الصراع الدنيوي بين الحق والباطل، إلى مشهد أخروي متجاوزا حدود الزمان والمكان، وما ذلك إلا لتكتمل الصورة باستحضار مشاهد العواقب، ولتبقى الآخرة حاضرة في أذهان الجميع في كل المواقف.

ولا يزال السياق يتقلب في الحديث عن المكذبين، ولا يزال ينعي عليهم تكذيبهم على الرغم من كونه ( آيات بينات) منساقين وراء ما يلقيه الشيطان عليهم من شبه وتلبيسات، فتصورهم الآيات وهم مستمرون في مرائهم وجدالهم، ثم فجأة تأتيهم الساعة أو يأتيهم عذاب يوم عقيم، ووصف اليوم بالعقيم لأنه لا عقب له وقد كان هذا يوم بدر.

وكل ما سبق استمرار لما سبق: فالحديث عن الساعة استمرار للحديث عن عاقبة الخصمين، والحديث عن اليوم العقيم استمرار للحديث عن إهلاك الأمم والقرى المأخوذة.

وكل ما سبق في سياق نصرة الله لرسله وصيانته لدعوته وثوابه لمن يؤمن بها وعقابه لمن يكذبها.

ما مناسبة الحديث عن الذين هاجروا بعدها؟

يشبه أن يكون الكلام سابقا تهيئة وتوطئة للحديث عن المهاجرين، وقد انتقلت الآيات لبيان أجورهم انتقالا في غاية الحسن، وهذا لا يقدر عليه إلا الذي خلق هذا الكلام، فانظر كيف انتقل:

من الحديث عن الشبه إلى كونهم لا يزالون في مرية منه.

ووقت ذلك بمجيء الساعة ليظهر مصير هؤلاء ومصير هؤلاء.

ثم ليخلص إلى نوع معين من المؤمنين وهم المهاجرون.

والحديث عن المهاجرين وأجرهم ليس غريبا عن مواضيع السورة، فقد جاء الحديث عمن (يعبد الله على حرف فإن أصابه خير اطمأن به وإن أصابته فتنة انقلب على وجهه) في بداية السورة، ثم جاء الحديث عمن (يصدون عن سبيل الله والمسجد الحرام)، ثم جاء الحديث عن (الصابرين على ما أصابهم)، ثم عن الذين ( يقاتلون بأنهم ظلموا)، ثم عن ( الذين أخرجوا من ديارهم بغير حق إلا أن يقولوا ربنا الله)، وهكذا لا تزال الفكرة تغيب ثم تظهر في ثوب مختلف وطعم مختلف على طول السورة حتى تزيدها ثباتا ورسوخا.

وتأمل التوكيدات في الجملة والتذييل حتى لا يتطرق شك ولا ريب إلى ذهن القارئ والمهاجر الباذل: فجاء باللام في قوله: ليرزقنهم، وجاء بإن في التذيين واللام وضمير الفصل في قوله: لهو، ووصف نفسه جل وعلا بأنه خير الرازقين، أي ليس رازقا فحسب بل هو خير الرازقين.

وأطنب في الكلام فوعدهم بمدخل يرضونه، وأكد بأنه: عليم بما تجشموه من مشاق في شأن هجرتهم، وهو حليم بهم فيما لاقوه لأجله فيجازيهم به.

ما مناسبة الكلام بعدها ( ومن عاقب ..)؟

الهجرة تعني وجود اعتداء من الكافرين على المؤمنين إذ أخرجوهم من ديارهم، فهم أخرجوهم عقوبة لهم على إيمانهم، وهذا يقتضي ردا لهذا الاعتداء ومقابلته بالمثل، فهو تأكيد لما مر سابقا من وعد بالنصر (ولينصرن الله من ينصره) وفي قوله تعالى (الذين إن مكناهم في الأرض)، فإن ما سبق من وعد بالنصر( ولينصرن الله من ينصره) جاء معترضا في خلال الحديث عن المدافعة، أما هنا فعاد الكلام إلى الوعد بنصر الله كما وعدهم بأن يرزقهم وأن يدخلهم مدخلا يرضونه.

مامناسبة التذييل هنا بأن الله عفو غفور؟

هذه الآية ليست للإغراء بالعفو عن الكافرين، فإن آيات الترغيب بالعفو إنما تنزل في حالات معاملة الأمة مع بعضها البعض، أما في حال الكافرين المعتدين فهذا موضعها، لذلك قيل فيها مناسبتين:

الأولى: أنها مستمرة في الحديث عن المهاجرين فهي تبع لقوله تعالى: وإن الله لعليم حليم.

الثانية: أنها في الإذن بالاقتصار على العقاب بالمماثلة لا بأمر زائد.

ما مناسبة الآيات بعدها؟

يمكن أن نسمي هذه الطائفة من الآيات بأنها:

آيات دلائل القدرة

فبعد وعد المهاجرين بالرزق الحسن والمدخل المرضي، والنصر لهم إذ بغي عليهم، جاءت مجموعة من الآيات تتحدث عن قدرة الله الذي وعدهم هذا الوعد، وكأن الله عز وجل يقول لنا: إن كنتم تشكون في وعدي بالرزق والنصر فهاكم الدلائل القاطعة على ذلك وهي:

الأول: إيلاج الليل في النهار والنهار في الليل: فإن من يغير الليل إلى نهار والنهار إلى ليل قادر على تغيير أحوالهم، من الفقر إلى الغنى ومن الضعف إلى القوة والنصر، وفيه تشبيه ضمني للكفر بالليل وللإيمان بالنهار، وناسب بعدها ذكر السمع والبصر لمشاكلة الليل والنهار.

والسياق هنا يلفت نظر الناس إلى تلك الظاهرة الكونية المكرورة التي يمر الناس عليها غافلين ليفتح بصائرهم ومشاعرهم على يد القدرة وهي تطوي النهار من جانب وتسدل الليل من جانب في دقة عجيبة لا تختل واطراد لا يتخلف، وكذلك نصر الله لمن يقع عليه البغي وهو يدفع عن نفسه العدوان، سنة مطردة كإيلاج الليل في النهار والنهار في الليل.

الثاني: أن الله هو الحق وأن ما يدعون من دونه الباطل، فهو القادر على نصر أوليائه وأما ما سواه مما يدعونهم فلا يملكون لأنفسهم نفعلا ولا ضرا، فهو العلي على كل ما تدعونه وهو الكبير أكبر من كل ما تدعون.

فكما أن الليل والنهار يتداخلان لا يتخلفان فذلك مرتبط بأن الله هو الحق المسيطر على هذا الكون وكله ما دونه باطل يختل ويتخلف ولا يطرد ولا يستقيم.

الثالث: إنزال الماء من السماء فتحيا به الأرض فهو وحده من يملك هذا، فإن من يملك هذا لا يعجر عن رزق ولا نصر، واللطيف هو الذي يصل إلى ما يريد بخفاء، وأما الخبير فهو العالم بما تؤول إليه الأمور.

الرابع: أنه مالك السموات والأرض وما فيهن، وهو الغني عن خلقه لا يحتاج لأحد، ومع ذلك فهو يعطي خلقه كلهم فيحمده من في السموات ومن في الأرض على أفعاله وصفاته.

الخامس: في بعض مظاهر رحمته ورأفته بالناس: من تسخير ما في الأرض وإجراء الفلك في البحر بأمره، وإمساك السماء أن تقع على الناس إلا بإذنه فله الحمد رب رؤوف يدفع الضر، رحيم يجلب النفع لخلقه جميعا.

السادس: أنه هو الذي يحيي ويميت ويبعث بعد الموت لا أحد يملك أن يحيي أو أن يميت، والحياة الأولى معجزة تتجدد في كل حياة تنشأ في كل لحظة، وسرها اللطيف لا يزال غيبا يحار العقل البشري في تصوره، والموت سر آخر يعجز العقل البشري عن تصور كنهه، وهو يتم في لحظة خاطفة والمسافة بين طبيعة الحياة والموت مسافة عريضة ضخمة، والعجيب بعد كل هذا أن يأتي الإنسان بكفره هكذا، فهو مبالغ بالكفر يأتي مجادلا في الله بعد كل ما سبق من آياته لا يتأمل ولا يتدبر هذه الدلائل والأسرار.

 

 

Map Shot 1

 

Map Shot 2

 

 

 

Map Shot 3

 

Map Shot 4

جميع الحقوق متاحة للمسلمين دون اشتراط ذكر المصدر © 2023 7a9ad.com. All Rights Reserved